الأزمات العالمية المتداخلة..

الأسباب وإمكانيات الحلول

عبد الصمد سعدون



Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [481.19 KB]

إن إشكالية الأزمة العالمية تدخل في محاور عدّة. المحور الأول هو مكامن الأزمة وأسبابها. أما المحور الثاني فهو انتشار تلك الأزمة والعوامل الدافعة لها، ثم يدخل محور جوهريّ ثالث وهو التشرذم السياسي في العالم وأثره في استفحال تلك الأزمات. أما المحور الرابع فيتعلّق بتراجع القدرات الاقتصادية، مثل التراجع في معدلات النمو الاقتصادي وغيرها من المعدلات.

«الجائحة لم تمُت»

في ما يتعلق بمكامن الأزمة وأسبابها، إنّ العالم يمرّ اليوم بتحديات عدة. يتمثل التحدي الأول باحتمالات عودة جائحة كورونا، فكما هو معروف، تعاني الصين اليوم من ظهور بعض الإصابات والتي بلغت قبل مدةٍ قصيرةٍ أكثر من ثلاثة آلاف إصابة، وهذا مؤشر خطير جدًّا. كما أنّ الأعراض التي تصيب الناس أشدّ من أعراض كورونا، وقد عرّج الكثير من المراكز الصحية العالمية على هذه المسألة محذرةً من طبيعة الاختلاف بين الفيروس السابق والحالي، ومشددةً على ضرورة التحصّن بالكمامة ووسائل منع الاختلاط. وإذا ما استمرّت عودة الجائحة بشكلٍ أكبر، فسنرجع إلى المربّع الأول الذي شهدناه ما بين نهاية عام 2019 وعام 2021، عندما كانت الأزمة في أوجّها.

الحرب الروسية الأوكرانية: تحدٍّ عالمي

التحدي الآخر الذي يواجه العالم هو تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية. من المعروف أنّ العالم بدأ يشفى قليلاً من الجائحة وأن الحياة الاقتصادية قد عادت نسبيًّا إلى طبيعتها، لكن العالم وجد نفسه يصطدم بواقعة خطيرة تمثّلت بغزو روسيا لأوكرانيا، الأمر الذي شكّل في الحقيقة منعطفًا خطرًا. وقد تُهدد هذه الحرب مستقبل الأمن والسلْم العالميّين لما لها من أثر سياسي وأمني وأثر اقتصادي على كثير من دول العالم، خاصةً الفقيرة منها. وهنا نشير أيضًا إلى وضع أوروبا الذي ليس اليوم بأحسن حالاته، فأوروبا تعاني معاناةً مهولةً لناحية النقص في إمدادات الطاقة، خاصةً الغاز الطبيعي نظرًا إلى أنّ أوروبا تستورد من روسيا حوالي 40% من حاجتها من الغاز الطبيعي، وهذه النسبة تشكّل حاجةً فعليّة، خاصةً خلال البرد القارس الذي يخيّم على أوروبا الأمر الذي يؤثّر على المواطن الأوروبي على مستوى خدمات التدفئة ومشتقات البنزين وغيرها من الخدمات التي يعتمد عليها المواطن الأوروبي كجزءٍ من رفاهيته الاقتصادية. إن هذا المواطن يشعر اليوم بالتعب من سياسات حكوماته التي تتّبع السياسة الأميركية على غير هدى، وذلك عندما رافقت الخطابَ السياسي الأميركي في الوقوف ضد القرار الروسي بغزو أوكرانيا، بينما كانت الدول الأوروبية تملك خياراتٍ أخرى يمكنها إقناع روسيا بها للجلوس إلى مائدة التفاوض ووضع الحلول.

المشكلة في هذه الحرب أنّ هناك تقاطعًا كبيرًا بين سلوكَين اثنين يطيلان أمدَ الحرب: السلوك الأميركي الغربي من جهة، والسلوك الروسي من جهة ثانية. إنّ الولايات المتحدة وأوروبا تراهنان على إخضاع روسيا للشروط الدولية وللعقوبات الاقتصادية الشديدة التي ربما أثّرت على روسيا، لكن بشكل محدود، وذلك نظرًا إلى امتلاك روسيا خيارات لمواجهة تلك العقوبات. من تلك الخيارات على سبيل المثال، مواجهة العقوبات المتعلّقة بنظام «سويفت»- أي عزل روسيا مصرفيًّا عن الاستفادة من تمويل تجارتها الخارجية أو حتى الحصول على إيراداتها الطاقويةوذلك عبر بدء بحث روسيا عمّا يُعرَف بالعملة المشفّرة، وهي عبارة عن أرقام مشفّرة ليست أموالاً تدار عبر المصارف وإنما شكل أرقام يمكن أن تتخفّى ويمكن الحصول عليها بطريقةٍ ما تحاول روسيا عبرها معالجة مشاكلها الاقتصادية. والروس بارعون في هذا الجانب من التقنيات.

الجانب الآخر يتعلّق بتباطؤ معدلات النمو الاقتصادي والذي أتى نتيجةً للجائحة ثمّ الحرب الروسيةالأوكرانية. وقد سبّب هذا الأمر ما يُعرف بالتضخم الركودي من ارتفاع في أسعار السلع والخدمات ما أدّى إلى حدوث تضخم كبير جدًّا. والدولار الأميركي أيضًا يعاني من انخفاض في قيمته السوقية الأمر الذي انعكس سلبًا على العملات المرتبطة بالدولار خاصةً في الدول الفقيرة التي ترتبط عملتها بالدولار وهي تعاني من تحديات اقتصادية كثيرة مثل المديونية التي تسبّب اليوم جوهر المشكلة التي تعانيها تلك الدول الرازح بين الديون والفوائد المترتبة عليها. ولا ننسى بالطبع مسألة الركود الاقتصادي وآثارها الهائلة على تلك الدول.

أزمة الطاقة والبدائل:

أ ما أزمة الطاقة فهي محور الأزمات، وتُعتبر أشدّها. السيناريو الأول المتعلق بهذه الأزمة هو التساؤل عن وجود بديل للطاقة الروسية بعد الحرب التي أدت إلى نقص في الإمدادات. ويمكن الإجابة عن هذا التساؤل من خلال منظمّتَي «أوبك» و«أوبك ومن خلال الضغوط الممارَسة عليها من قِبل الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا بشكل غير مقبول قد يهدد سيادات تلك الدول خاصةً في ما يتعلق بمسألة قانون «نوبك»، وهي مسألة طرحتها الولايات المتحدة مراتٍ عدة في عام 2008 جراء أزمة الرهن العقاري مثلاً، وتطرحها مع كلّ أزمة، إذ تطرح هكذا مشاريع وتقترح بعض التوجهات التي تُعدّ غير مقبولة وتهدد الدول في منظمة «أوبك». وفي هذا الصدد هناك انتقادات كبيرة من قِبل السعودية وصندوق النقد الدولي، وهناك انتقادات كذلك من قَبل الكونغرس الأميركي، إذ اعتبر بعض المسؤولين أنّ هذا القانون يمكن أن يؤثر على العلاقات الدولية بين الولايات المتحدة وحلفائها النفطيين، خاصةً دول منطقة الخليج العربي وأعضاء دول «أوبك» عمومًا.

و هنا يأتي السؤال الآتي: أين يمكن أن تتوفر بدائل هذه الطاقة؟ وأقصد هنا الغاز الطبيعي بشكل خاصّ لأن معاناة أوروبا والعالم تكمن بشكل أساسي في الغاز الطبيعي وارتفاع مستويات الأسعار بشكل غير مسبوق. وهذا السيناريو يمكن أن يعالَج من خلال البدائل. من تلك البدائل هناك غاز الجزائر عبر البحر الأبيض المتوسط، إذ تشكل الجزائر 8% من تعويض حاجات أوروبا. بينما تشكّل قطر 3.6% على اعتبار أن الإنتاج القطري يعادل تقريبًا 133.5 مليار متر مكعّب ما يشكّل حوالي 3.6% من الإنتاج العالمي. بالإضافة إلى إيران، وهذا سيقودنا إلى أزمة أخرى ربما من منظور بعض الدول، منها إسرائيل ودول الخليج، لكنه في الوقت نفسه يمكن أن يشكل انفراجًا بالنسبة لإيران على اعتبار أن تخفيف العقوبات عليها يمكن أن يساهم في تعويض هذا النقص في إمدادات الغاز خاصةً أنّ إيران تشكّل نسبة 3.3% من الإنتاج العالمي ويمكن أن تساهم في تخفيف الضغوط على أوروبا المتعلقة بنقص إمدادات الطاقة.

«تشرذم سياسيفأزمات»

يمكن ممّا سبق القول إنّ الأزمات المتتالية التي تنخر اليوم في العالم جاءت نتيجةً للتشرذم السياسي. إن الولايات المتحدة هي التي تقود هذا التشرذم بشكل ازدواجي. ونلاحظ أن هناك من الحلفاء الأميركيين أنفسهم قد يعانون من هذا التشرذم على اعتبار أن السياسة الأميركية ليست سياسةً ثابتةً، لا على مستوى الأهداف ولا الاستراتيجيات أحيانًا على الرغم من أن الأهداف دائمًا ما تكون ثابتة ولا تتغير بتغيّر الحزبين «الديموقراطي» أو «الجمهوري»، لكنّنا نجد الآن أن هذه الأهداف بدأت تتغيّر في جوهرها وطبيعتها وتأثيرها على العالم، الأمر الذي قد يكلّف الأخيرَ ضريبةً كبيرةً، فالصراع الحالي بين الغرب الأميركي وروسيا، والذي لا يُعرف مداه، قد يسبّب كارثةً عالميةً، في وقتٍ لا نرى أنّ هناك بصيص أملٍ حتى للحلول السلمية.

على العموم، تستمرّ الأزمات في هذا العالم، ولعلّ من أعظمها التقاطعات والاختلافات السياسية بين دول العالم التي أخذت الآن جانبًا آخرَ من البحث عن وسائل جديدة تقود العالم إلى قوى متعددة الأقطاب لتضع ثقلها في إدارة نظام عالمي جديد تتعدد به القوى وليس بالنسق السياسي والمنهجية السياسية التي تقودها اليوم الولايات المتحدة التي لطالما عوّدتنا أنها تنفرد بقراراتها وباستراتيحياتها من دون احترام المجتمع الدولي أحيانًا، ما يجعل العالم اليوم حذرًا جدًّا في كيفية بناء وترتيب وسيادة هذا النظام الدولي بما يحقق الأمن والسلْم العالميّين.


أزمة النظام الرأسمالي

ح تى ماركس طرح نظرياته لتصحيح مسار النظام الرأسمالي. وقد استفادت الرأسمالية من طروحات ماركس، حتى قيل حينها إن بقاء الرأسمالية هو بفضل ماركس. أما اليوم ففي النظام الرأسمالي خلل كبير. نعم، النظام الرأسمالي لا يستطيع أن ينتفض من مشكلة كبيرة جدًّا تصيب بُنيته الآن، لأنّ الأزمة الرأسمالية ليست عابرة، هي أزمة بنيوية هيكلية بدأت تنخر فيه، ولم يعد هناك نظام رأسمالي بالمعنى التقليدي الذي كنّا نتناوله في دراساتنا السابقة عنه. وقد لمّح سمير أمين عن هذا الموضوع في الكثير من الدراسات، ومذ كنتُ طالبًا كنت أتابع كتاباته خاصةً تلك المتعلقة بسياسات الولايات المتحدة وإمبرياليتها في العالم.

إن جميع الأزمات في النظام الرأسمالي تدوَّل عادةً إلى دول المحيط عندما تتضخم وتصبح عصيةً على القوى الرأسمالية. وهنا تكمن المشكلة، فعندما تدوَّل الأزمة إلى الدول الفقيرة الأقل نموًّا وغير القادرة على النهوض تنمويًّا، تكون هذه الأزمة في أوسع انتشارها، بينما تُخفَّف المشاكل التي تصيب القوى الرأسمالية لتنتقل إلى حضن الدول الفقيرة. وحينها، يُملى على الدول الفقيرة ما يمكن إملاؤه، وتصبح تحت رحمة الدول الرأسمالية الكبرى، وتقبع الأزمةُ حينها في حلقة مفرغة عصيّة على العلاج ومن دون أن تكون في الأفق أيّ حلول سياسية أو اقتصادية.

Start typing and press Enter to search