الصناعة كأساس في الاقتصاد البديل
سلامة كيلة

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [3.40 MB]

مدخل

من خلال البحث في مسألة العدالة الاجتماعية توصلت إلى ضرورة تجاوز النمط الرأسمالي، بالضبط لأنه ليس من الممكن تحقيق ذلك “في بنيته” وضمن تكوينه. لقد بحثت في إمكانية تحقيق المطالب الأولية التي طرحتها الثورات، مطالب العمل والأجر والتعليم المجاني والصحة، في حدود استمرار الرأسمالية، وأكدت على استحالة ذلك.[1] وتناولت تكوين النمط الرأسمالي بانعكاسه على هذا الأمر محليا، وتوصلت إلى أن الرأسمالية تزيد من نهب الطراف، وأن وضعها الراهن يفرض الإيغال في ذلك، وبالتالي ليس من إمكانية لأن تحقِّق وضعا يسمح بتحقيق أي شكل من أشكال العدالة الاجتماعية.[2]

على أساس ذلك جرى طرح البديل الاقتصادي السياسي (الطبقي)، بالمعنى العام.[3] كان التركيز ينصبّ على أن البديل هو، أولا، طبقي، ويعني ذلك أن الذي يطرحه هو طبقة مناهضة للرأسمالية (ضد الرأسمالية) وتسعى لتجاوزها. وثانيا أن تلعب الدولة دورا محوريا في تحقيق البناء الاقتصادي، بالضبط لأن المشروع الذي يحقق العدالة والتطور ليس في وارد الرأسمالية، ولهذا لا تميل إلى الاستثمار في نمط اقتصادي لا يتوافق مع مصالحها، كما أشرت في ورقة سابقة.[4] ولا شك في أن هذا الدور للدولة لا بد من أن يصاغ على ضوء دراسة تجارب متعددة للدولة قادت إلى الفشل، أو حققت التطور الضروري لكنها أصيبت بالعجز. حيث سنجد بأن في حوزتنا تراثا كبيرا من الخبرة وكذلك من الأخطاء التي تفسّر سبب الفشل، أو العجز عن الانتقال إلى مرحلة أرقى.

في كل الأحوال ما سوف نتناوله هنا هو النمط الصناعي البديل، ما دمنا انطلقنا من أن الصناعة هي جوهر عملية التطور. حيث أن ضرورة التصنيع، التي هي حتمية، تفرض البحث عن الصيغة الممكنة في الواقع لبناء الصناعة بعد عقود طويلة من منع التصنيع، ومحاولات واجهت ظروفا فرضت انهيارها، وبالتالي ظل التصنيع هامشيا في التكوين الاقتصادي. وكانت مرحلة سيطرة اللبرلة، التي بدأت بالخصخصة وتحرير الاقتصاد، هي مرحلة تصفية الكثير من الصناعات التي نشأت في مرحلة سيطرة “النظم القومية”.

وحين كنا نتحدث عن بناء الصناعة فقد كنا نتناول الأمر في إطاره العام، أما حين نتحدث عن الصناعة البديلة نكون قد انتقلنا من المنظور العام إلى “الخطة العملية “، أي إلى “وصفات صالحة للتطبيق”،[5] وقد نستطيع وضع “وصفة سليمة”، لكنها ستكون بعيدة عن الواقع، بالضبط لأن هذا الواقع ليس قائما بعد، ويقوم فقط بعد استلام السلطة. بالتالي فإننا في هذه الحالة نتناول مستوى تقني “أدق” مما يمكن أن يُطرح الآن، لأن تحديد طبيعة الصناعة وأولويات بنائها يرتبطان باللحظة التي يصبح فيها من الممكن وضع خطة عملية بعد أن تكون السلطة قد أصبحت بيد الطبقة التي باتت هي معنية ببناء الصناعة كجزء من منظورها لمصالحها، ولمصلحة المجتمع ككل. فمثلا، حين وضع “خطة عملية” لا بد من تحديد هل أن الأولوية هي للصناعة الثقيلة أو للصناعة الخفيفة، أي هل أن الأولوية هي للصناعة التي تُنتج المصانع التي تُنتج السلع، أو للصناعة الأخيرة هذه؟ وما هي أولويات صناعة إنتاج السلع، هل هي لصناعة السيارات والقاطرات وما شبهها أو لصناعة السلع الضرورية للبشر؟ وهل هي الصناعات الضرورية للحاجة المباشرة، أو هي الصناعة التي تسمى “إحلال بدل الواردات”، أو لصناعة التصدير؟ الصناعة اللصيقة بالزراعة للاستفادة من الإنتاج الزراعي أو الصناعة الضرورية لإنتاج الأسلحة؟

ولا شك في أن تحديد الأولويات يعتمد كذلك على توفّر عناصر متعددة، منها المواد الأولية واليد العاملة والخبرات العلمية، والسوق، وأساسا القدرة على الحفاظ على التحكم بالسوق الداخلي وبالعلاقة مع السوق الرأسمالي.

كل هذه الأمور تطرح إشكاليات على ما يمكن أن أتناوله هنا، فالوضع ليس هو وضع “خطة عملية”، بالضبط لأن الأمر يتعلق بوجود “داتا” هي تحليل لمجمل الواقع، وهذه مسألة لا زالت بعيدة، وبالتالي ما يمكن البحث فيه هنا هو وضع بعض المؤشرات للتوجه الممكن في مجال البناء الصناعي. وهو ما يعني أن البحث سوف يبقى في إطار عمومي بشكل ما، ما دام لن يكون ممكنا هنا تناول “المستوى التقني”، مستوى “الخطة العملية” التي تحدِّد نوع الصناعة الضرورية في البدء، وأولوية أي صناعة نحتاجها في الواقع.

نشوء الصناعة وتجارب توسع انتشارها

أشرت إلى أن الرأسمالية بدأت من اكتشاف الصناعة نهاية القرن الثامن عشر في إنجلترا، حيث جرى الانتقال من نمط زراعي مفكك إلى نمط تكون الصناعة هي محوره. هذا الانتقال هو الشكل “التقليدي” لنشوء النمط الرأسمالي، و”إننا نستخدم عبارة – تقليدي – بالمعنى الذي درس رأس المال فيه المسار التقليدي لتطور بلد رأسمالي اجتاز التجربة التاريخية للتراكم البدائي والثورة الصناعية”.[6] فإنجلترا هي هذا الشكل الكلاسيكي لنشوء الرأسمالية، لم يتكرر حتى في البلدان الرأسمالية الأخرى التي اتخذت مسارات أخرى، متأثرة بالتطور الذي حدث في إنجلترا. ففي فرنسا سقط النظام الإقطاعي بثورة كبيرة سنة 1789، وبعد إذ أخذت تستفيد من التطور الصناعي في إنجلترا ببطء، إلى أواسط القرن التاسع عشر حين كانت ديكتاتورية لويس بونابرت هي الإطار الذي فرض تسريع التطور الصناعي.[7] وفي ألمانيا، ورغم التغلغل البطيء للصناعة في بنية إقطاعية مفككة، كانت سيطرة بسمارك على الحكم هي المرحلة التي تطورت الصناعة فيها، لتتقدم ألمانيا متأخرة قليلا. كذا اليابان التي لعبت الدولة الإمبراطورية دور المؤسِّس للشركات الصناعية، ومن ثم تخصيصها، لتصبح اليابان دولة صناعية في آخر لحظة لانغلاق الدائرة بعد أن باتت الرأسمالية نمطا عالميا في ظل هيمنة الطابع الإمبريالي.[8] بالتالي في التجارب التالية للتطور الكلاسيكي لعبت الدولة دورا متزايدا في التطور الصناعي. وكانت العديد من العناصر التي تسمح بانتقال الصناعة من بلد إلى آخر، أولها الكلفة المتدنية للصناعة، وثانيها الحجم المتوسط للمشروعات[9]، وثالثها كانت الوسائل التقنية المستخدمة حينها بسيطة وقابلة للتمثل، وبالتالي قابلة للمحاكاة[10]، وهو ما كان يناسب يد عاملة غير مختصة، مكونة من الحرفيين التقليديين.[11]

كيف نشأت الصناعة في إنجلترا؟ كل المؤشرات كانت توضّح أن توسّع الحاجة للنسيج مع التزايد السكاني فرض الميل لمكننتها، فكانت القطاع المحرِّك للمراحل الأولى من التصنيع، ومن ثم نشأ “القطاع الحيوي الذي كان، وما يزال حتى اليوم، قطاع التعدين الحديث”.[12] ولقد اعتمد هذا التطور على مبادرين من أناس بسطاء، من حرفيين بالأساس. ولقد تحقق نهضة كبيرة حين جرى اكتشاف الآلة البخارية، وكما قال لينين فـ “إن الثورة الصناعية هي القطن والحديد زائد الآلة البخارية”.[13] وبالتالي إذا كانت الخطوة الأولى قد تمثلت في صنع ماكينات صناعة النسيج، لكنها “خرجت رويدا رويدا، بسبب تعقيدها المتزايد، من صناعة النسيج بالمعنى الحصري والضيِّق للكلمة… فقامت مشاغل مختصة لصنع تلك الماكينات”.[14] بهذا نشأت الصناعة التي تنتج المصانع، التي بدورها تنتج السلع. “أطلق ماركس اسم (الصناعة الحديثة) على النظام المنبثق عن الثورة الصناعية. والسمة الأساسية له هي استخدام المكائن في الإنتاج، حيث استعملت للمرة الأولى على نطاق واسع في صناعة النسيج في القرن الثامن عشر. ومن ثم انتشرت تدريجيا إلى الصناعات الأساسية الأخرى. وبلغ الذروة حين أخذت – المكائن تنشئ مكائنا”.[15]

إذن، كان الشكل الكلاسيكي لنشوء الصناعة هو تطور الحرف، عبر تحسين الآلات “البسيطة” التي كانت لدى الحرفيين. لهذا تطورت الحرف التي كانت تنتج مسائل بسيطة (الألبسة)، والتي توسعت الحاجة إليها مع زيادة عدد السكان في القرن الثامن عشر. لكن هذا التطور أدى إلى الحاجة إلى صناعة تقوم بدور إنتاج الأدوات التي تنتج السلع، وهو ما أوصل إلى نشوء الصناعة التي تنتج صناعة إنتاج السلع (التي تسمى الصناعة الأم). وهي النقلة التي أشار إليها ماركس. هذا التطور الذي يبدو، ربما، بديهيا اليوم، أو يبدو بدون معنى، هو جوهر التطور الصناعي. حيث تصبح الأمة قادرة على إنتاج المصانع التي تنتج السلع. ولهذا حين نبحث في البديل الصناعي لا بدّ من أن تكون هذه المسألة واضحة، وحاسمة. رغم أن صيرورة التطور لن تكون في شكله الكلاسيكي سابق الذكر، حيث تطورت الصناعة بشكل كبير، وأص1بحت تقنيات كل أشكالها متوفرة، بالتالي لم يعد يتعلق الأمر بالبدء بقطاع لإنتاج السلع، وصولا إلى بناء الصناعة الأم. بمعنى أن بنية الصناعة في مختلف أقسامها باتت واضحة. لكن يبقى وضع الصناعة الأم هو الجوهري، وهذا ما سوف أشير إليه حينما أتناول أشكال التجارب التي تعلقت ببناء الصناعة في القرن العشرين، والتي كانت تتجاهل، في جزء منها، مسألة الصناعة التي تنتج الصناعة الخاصة بإنتاج السلع. ففي هذه النقطة بالتحديد يظهر الفرق بين الارتباط بالمراكز الرأسمالية، والتبعية لها، وتحقيق الاستقلال عنها وبناء “اقتصاد متمحور على الذات”.[16] حيث يمكن بناء قدرات صناعية تحقق الاستقلال بشكل ما، عن السوق العالمي، وعن الهيمنة الرأسمالية، رغم وجود التشابك العالمي الذي لا يخفى على أحد، والذي سيبقى قائما بشكل أو بآخر. ولا شك في أن بناء صناعة أم هو ما يسمح بتحقيق الاستقلال، وعدم الخشية من التشابك ضمن الحدود التي تخدم التطور المحلي.

أزمة التوسع الصناعي

أشرت إلى نشوء الصناعة وتوسعها في بلدان أوروبا الغربية والشمالية، وفي اليابان وأميركا خلال القرن التاسع عشر، وشرحت الأسباب التي سمحت بهذا التوسع. سأتحدث باختصار عن السبب الذي فرض وقف هذا التوسع، وحيث باتت مسألة انتقال الصناعة معركة بحدّ ذاتها. فقد فرض نشوء الصناعة على الرأسمالية المنتصرة البحث عن المواد الأولية الضرورية للصناعة، وعن الأسواق التي تستوعب الإنتاج الصناعي، لهذا شهد القرن التاسع عشر عملية استعمار العالم، بحيث جرى إخضاع الشعوب للنهب، وجرى التحكم في مسار “تطورها”، بما يبقيها منتجا للمواد الأولية، وسوقا لسلع قادمة من المراكز. لهذا كان نشوء صناعة فيها يفرض تقاسم المواد الأولية والأسواق، الأمر الذي فرض أن يكون بناء الصناعة مسألة محرَّمة.

وحين تشكّل النمط الرأسمالي كنمط عالمي بداية القرن العشرين، أصبح التحكم بمسار التطور في الأطراف أعلى. لهذا جرى “تجميد” التطور لعقود طويلة، هذه العقود أوجدت هوّة في التقانة، والتراكم الرأسمالي، واحتكار الأسواق، والخبرة.[17] وكان اختلال القوة يفرض عالما موحدا تحت السيطرة الإمبريالية، وبالتالي يكرّس منع نشوء الصناعة. بهذا نلمس أن هناك وضع جرى تشكيله خلال قرن يؤسس لاستمرار الاختلال بين المراكز والأطراف في ظل فرض تحرير الاقتصاد والسوق المفتوح، لا يسمح في الواقع لنشوء الصناعة، ولقد بحثت في ذلك في ورقة سابقة[18]، وتوصلت إلى ضرورة تجاوز الرأسمالية لكي يكون ممكنا بناء الصناعة.

لكن هذا القرن شهد تجارب عديدة حملت ميلا لبناء الصناعة، فشل العديد منها ونجح بعضها. فقد نشأ بعضها في تناقض مع الرأسمالية، وفي مسار يتجاوزها، ونشأ بعضها الآخر في إطار الرأسمالية وبتشجيع من الرأسمال الإمبريالي ذاته. هذا ما سوف أتناوله الآن.

الانتشار الصناعي في عصر الإمبريالية

خلال القرن التاسع عشر كانت حدود التوسع الصناعي قد توضحت، حيث أصبحت كل من إنجلترا، فرنسا، ألمانيا، أميركا واليابان، هي الدول الصناعية. وهي الدول التي تصارعت على تقاسم العالم. في المستوى الآخر، كان النمط الرأسمالي قد أصبح عالميا، وتبلور في شكل إمبريالي، ففرضت الرأسمالية سيطرتها على الأطراف في شكل استعمار أو تبعية، وفرضت تكوينها الاقتصادي بما يحقق مصالح هذه الرأسمالية. وبهذا فقد أوقفت سيطرة هذه الدول على العالم التوسع الصناعي، بالضبط لأن الرأسمالية وجدت أن من مصلحتها حصرها في المراكز هذه فقط، حيث أنها تريد المواد الأولية التي في الأطراف، وكذلك تريدها كأسواق لسلعها. لقد بات التفوق العسكري، و”رخص سلعها” [19]هما أداتها لتدمير الحرف ومنع نشوء صناعة، حتى وإن اقتضى ذلك خوض الحروب.

التجربة السوفيتية كانت أول محاولة لتجاوز ذلك من خلال بناء الصناعة. لكنها كانت بالضد من الرأسمالية، وفي سياق تحقيق الاشتراكية. ولقد توسع هذا الشكل من التطور خلال القرن العشرين في بلدان أخرى، وخصوصا في الصين. بمعنى ان هذه المحاولة تمت على الضد من الرأسمالية، وفي صراع معها، وكذلك بالقطع مع السوق الرأسمالي. وهي التجربة التي سنشير إليها في الأخير، وقبل ذلك يجب أن نتناول التجارب التي جرت في إطار الرأسمالية (أو على هامشها). حيث سيظهر واضحا ميل الرأسمالية لمنع التطور الصناعي خارج الحدود التي تبلورت فيها في القرن التاسع عشر، وكذلك يظهر أن كل هذه التجارب كانت خاضعة لـ “مصلحة سياسية”، أو “مصلحة اقتصادية”. وكانت في الأخير تجارب فاشلة.

سنشير هنا إلى ثلاث تجارب: الإحلال بدل الواردات، الصناعة من أجل التصدير، نقل الصناعة من المراكز إلى الأطراف.

الشكل الأول، الشكل القائم على “الإحلال بدل الواردات”. في الحالة هذه كان الأمر يتعلق بـ “أن تلبي الطلب الداخلي بإحلال تنمية الإنتاج المحلي محل المنتجات المستوردة”[20]، وهي استراتيجية نشأت في أميركا اللاتينية خلال ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، من قبل “المدرسة النظرية المسماة باللجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية، وخصوصا كتابات الأرجنتيني راؤول بريبيش.[21] وهي استراتيجية تقوم على الانفصال عن المركز الرأسمالي “بالاعتماد على جرعة جيدة من الحمائية وعلى تدخل منسق من الدولة”.[22] يشير كل من توما كوترو وميشيل إسّون إلى أن النجاحات المسجلة لهذا النموذج لم تمنع “من الاصطدام بضغوط أساسية لم يكن باستطاعته تنحيتها إلى الأبد”. ويكمل أن “العامل المعرقل الأول والذي يظهر بمنتهى الوضوح هو التبعية فيما يتعلق بالسلع التجهيزية” حيث أنه “بصفة عامة يجتاز التصنيع بإحلال الواردات بسرعة بالغة مرحلة الإحلال – السهل -، أي الإحلال الذي يتعلق بالصناعات التقليدية (الغذاء، الكساء)، ويمتد بهذا القدر أو ذاك من النجاح إلى الصناعات الوسيطة الرئيسية (الزجاج، الأسمنت، الصلب)، غير أنه يصطدم بعدم القدرة على توسيع العملية لتشمل صنع السلع الرأسمالية الأكثر تعقيدا”. لذا “يغدو التصنيع بالتالي –مبتورا-“، حيث أنه “لا يشمل مجموع قطاعات الصناعة. وهو يخفق، بوجه خاص، في الامتداد إلى السلع التصنيعية، التي تعتمد اقتصادات المحيط من أجلها بصورة متزايدة على المعدات المستوردة”.[23]

ويشرحا بمصطلحات ماركسية المسألة كالتالي:

“إذا استعدنا المصطلحات الماركسية عن القسمين الإنتاجيين فإن القسم 2 الخاص بالسلع الاستهلاكية –ينزوي– داخل البلاد، غير أن القسم 1 الخاص بالسلع الإنتاجية يمر عبر السوق العالمية”.[24] وهنا تظهر مشكلة الاستيراد وعجز الميزان التجاري من طرف، و”قرار” المركز الرأسمالي من طرف آخر. الأول يفترض التصدير (وهنا نعود إلى التصنيع من أجل التصدير) أو إلى الاستدانة لتغطية العجز، وهو ما يوقع في كل الأحوال في حبائل المراكز الرأسمالية. ويوضح كل من كوترو وإسّون أن الأمر يعود إلى التركيز على مادة أولية من أجل التصدير، سواء كانت زراعية حيث تجري “تنمية الموارد الطبيعية”، مثل الزراعة، ليكون هناك قطاع زراعي تقليدي يتعلق بالغذاء وآخر يتعلق بالتصدير.[25] أو يقدم البترول هذه المادة.

بالتالي تبقى إشكالية القسم 1 المشار إليه جوهرية هنا. بمعنى أنه يمكن تطوير صناعة الإحلال فيما يتعلق بالسلع البسيطة الاستهلاكية، لكن تقف سياسة الإحلال عاجزة عن الوصول إلى القسم 1 المتعلق بالسلع الإنتاجية. القسم المتعلق بإنتاج وسيلة الإنتاج. هنا يخضع التطور في إطار النمط الرأسمالي لتحكم المراكز الرأسمالية. لهذا انهارت تجارب أميركا اللاتينية حينها، لكنها فتحت على “نمط جديد” يقوم على دور الشركات المتعددة الجنسية، حيث أن الفجوة التكنولوجية هذه تهيئ لنشاط هذه الشركات في سياق استثمارها العالمي، بالتالي “سينشأ عندئذ تقسيم للعمل بين رأسمال قومي يتركز على الصناعات الأكثر تقليدية، والشركات المتعددة الجنسية المتخصصة في القطاعات الأكثر حداثة، مثل السيارات والإلكترونيات”.[26] وهذا يفتح على شكل جديد نشأ بعدئذ سوف نتناوله في فقرة أخرى.

إن مأزق هذا الشكل من التصنيع يكمن في أنه يسمح بتطوير صناعة استهلاكية، دون أن يستطيع الانتقال إلى مرحلة أعلى تتمثل في بناء الصناعة التي تنتج الصناعة، والتي تتسم بمستوى تقني أعلى، وهو الأمر الذي يجعلها تدخل مأزقا لا حلَّ له، سواء لأنها تفرض فتح السوق المحلي لاستثمار الاحتكارات العالمية، وهذا ينتج صناعة لها مشكلات أخرى سنتطرق إليها لاحقا، أو لأنها تقع في مشكلة “ضيق السوق”، وبالتالي تندفع إلى البحث عن الصناعات التي يمكن أن تصدّر. هنا تظهر حالة الإنتاج الصناعي من أجل التصدير.

الشكل الثالث هو الصناعة من أجل التصدير، ولقد أشرت للتو إلى أن أزمة صناعة الإحلال بدل الواردات كانت تفرض الانتقال إلى سياسة التصنيع من أجل التصدير لتعديل العجز في الميزان التجاري أو تجاوز “ضيق السوق”. هنا سأشير إلى تجارب بدأت بدعم المراكز الرأسمالية لكنها كانت مضطرة كذلك إلى التوجه نحو سياسة التصنيع من أجل التصدير، وأخرى قامت على أساس هذه السياسة. الأولى تمثلت في التجارب التي انطلقت من “استراتيجية استثمارية تقوم على إحداث تغييرات هيكلية في بنية الاقتصاد والإنتاج”[27]، أي انطلقت من “الصناعة التصنيعية”.[28] يتعلق الأمر هنا خصوصا بدول جنوب شرق آسيا، التي أطلق عليه وصف “النمور الآسيوية”، وهي كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ، التي قامت تجربتها على دعم الرأسمالية، والأمريكية بالتحديد، في سياق السعي لوقف “المد الشيوعي” بعد انتصار الثورة الصينية سنة 1949، وانفجار الحرب الكورية 1951/1953، وكذلك انطلاق الثورة في الهند الصينية. حيث سمحت المراكز الرأسمالية لهذه البلدان بأن تطور صناعاتها، وأن تُدعم بالخبراء والتقنيين، وبالمعونات المالية من أجل أن تُنهض الصناعة وتطور الاقتصاد بما يمنع تحوّلها نحو الشيوعية. وكانت الدولة هي العنصر الأساس في كل هذه التجربة، التي بدأت في سياسة “إحلال بدل الواردات”، وهي السياسة التي تبدو في كل التجارب كأولوية بغض النظر عن المنظور الأبعد الذي يحكم التطور.

لكن “ضيق السوق” يفرض أن تلجأ إلى التصدير، وهو الأمر الذي يفرض عليها التركيز على الصناعات القابلة للتصدير. يشير د. إبراهيم العيسوي إلى أن الاتجاه نحو التصدير لم يكن اختيارا بالنسبة لهذه الدول، بل كان نتيجة استنفاد سياسة إنتاج بدائل الواردات، نتيجة ضيق السوق ونقص النقد الأجنبي.[29] وحيث كانت الأجور المنخفضة هي “نقطة الارتكاز” في تكوين الميزة النسبية للمنتجات الصناعية.[30] ويوضّح أن ظروف الرواج العالمي في الستينات وحتى أوائل السبعينات، وتطبيق التفضيلات الجمركية من جانب الدول الرأسمالية، كانت جوهرية في نجاح هذه السياسة. لكن، فرض النهوض الصناعي إلى نشاط عمالي كبير أفضى إلى زيادة في الأجور في هذه البلدان (والعيسوي يدرس حالة تايوان لكنه يعتبر أنها شبيهة بكوريا الجنوبية)، وهذا ما أفضى إلى “تخلص ميزة الأجور المنخفضة” مما جعل الميزة النسبية لصادراتها في تناقص في السوق العالمي. وبهذا تآكلت الميزة النسبية للصادرات نتيجة ارتفاع الأجور كما أشرنا، لكن أيضا نتيجة ظهور منافسين جدد (نمور جديدة كما يسميها د. محمود عبد الفضيل)، مستويات الأجور فيها منخفضة، وبعد ظهور “النزعة الحمائية” في أسواق التصدير.[31]

الدول الجديدة، وهي ماليزيا، تايلاند، وإندونيسيا، بدأت كذلك بسياسة الإحلال محل الواردات، لكن “ضيق السوق” فرض عليها التوجه إلى “نظام تجاري يقوم على التحيّز التصديري”.[32] لم يكن يبدو أن هذه النمور الجديدة قد أسست لقاعدة صناعية متينة كما فعلت كوريا الجنوبية أو تايوان، لهذا كانت معرضة لتقلبات الأسواق أكثر. خصوصا بعد زيادة “النزعة الحمائية”، ودخول الصين كمنافس “لا يُقهر” منذ تسعينات القرن العشرين[33]. ولهذا دخلت هذه الدول في مرحلة النشاط المالي، الذي بات سمة أساسية في اقتصاداتها تسعينات القرن العشرين، الأمر الذي قاد إلى الأزمة سنة 1997.

هنا نلاحظ بأن عنصرين لعبا دورا جوهريا في “نجاح” هذه التجارب لعدد من السنوات، أولها الأجور المنخفضة لليد العاملة، وثانيها التفضيلات الجمركية التي كانت المراكز الرأسمالية تقرها في العلاقة مع هذه الدول. ولقد ظهر أن الحراك العمالي كان يفضي إلى زيادة الأجور، وأن المراكز الرأسمالية شهدت مرحلة انكماش مما دفعها إلى إعلاء “النزعة الحمائية”، وكلا المسألتين فرضتا فشل الدول في استمرار عملية التصنيع فيها، وانهيار الصناعة في الدول الأضعف، مثل النمور الجدد. وهذا يوضح كيف أن “السوق العالمي” ظل هو المتحكم في عملية التطور الصناعي.

الشكل الرابع يتمثل في توظيف الرأسمال الإمبريالي في صناعات الأطراف، لمسنا هذا الميل في تجارب الإحلال بدل الواردات، وأيضا في التصنيع من أجل التصدير، حيث كان في الأولى يستغل “الفجوة التكنولوجية”[34]، وفي الثانية رخص اليد العاملة. ولقد ظهر الشكل الأول في أميركا اللاتينية، حيث عمدت الشركات الصناعية الأمريكية لفتح فروع لها هنا نظرا لحجم السوق، وكانت البرازيل هي البلد الذي ركّزت عليه خلال سبعينات القرن العشرين، لكن وقعت الشركات في مأزق، لأنها وقعت في “تنافس ذاتي”، أي أن ينافس إنتاجها هناك إنتاجها في المركز، كما حدث مع شركة فورد للسيارات، لهذا انسحبت بعد أن أغلقت مصانعها. لكن منذ ثمانينات القرن العشرين أصبح ميل الرأسمال للتوظيف في دول جنوب شرق آسيا، في الصناعة من أجل التصدير، “ولقد جاءت الدفعة الكبرى لهذا النموذج منذ منتصف الثمانينات، عندما بدأت مرحلة ما يسمى -الين القوي-، عندئذ بدأت الشركات اليابانية تبحث عن إعادة توطين أنشطتها الصناعية في بلدان أخرى في جنوب شرق آسيا، وذلك لكي تتغلب على مشاكل سعر الصرف المرتفع للين، وارتفاع مستويات الأجور النقدية نتيجة الندرة النسبية للأيدي العاملة اليابانية”.[35]

هذه المسألة التي ستكون في أساس نشوء الميل للتوظيف في الصناعة من قبل رأسمال المراكز في بعض بلدان الأطراف (خصوصا بلدان جنوب شرق آسيا). حيث فرض التنافس العالمي ميل الشركات الصناعية لتخفيض كلفة الإنتاج، لهذا أخذ يتجه إلى بلدان معينة تتسم بانخفاض الأجور. هذا ما ظهر في نشاط الرأسمال الياباني، لكن كذلك الرأسمال الأمريكي الذي أخذ يتجه إلى بلدان جنوب شرق آسيا، سواء لدمج الشركات الصناعية بعد أن تعرضت لأزمة تمويل بعد تراجع “الميزة التنافسية”، أو للتوظيف المباشر من خلال “نقل الصناعة”. في الحالة الأولى كانت كوريا الجنوبية هي البلد الذي تعرّض لـ”غزو” الرأسمال الأمريكي، حيث باتت العديد من الشركات الكورية الكبرى فروعا لشركات أمريكية (خصوصا شركات إنتاج السيارات). وفي الحالة الثانية كان نشاط الشركات الأمريكية محدودا وعابرا في دول “النمور الجدد”، لكنه كان ضخما في الصين. حيث مثلت الصين “حالة خاصة” ربما لأنها كانت تتميّز بميزتين: رخص الأيدي العاملة، وحجم كبير للسوق الصيني ذاته، حيث كان الإنتاج يتجه إلى السوق الصيني، إضافة إلى التصدير إلى السوق الأمريكية، وأسواق العالم.

وإذا كان يجري الترويج إلى “انفلات” التوسع الصناعي، وأن الرأسمالية لم تعد معنية بحصر الصناعة في المراكز انطلاقا من هذا الشكل من التوظيف، فإن التدقيق في وضع هذا الشكل من التوظيف الصناعي يوصل إلى عدد من النتائج، حيث أن هناك فارقا في “طبيعة” الصناعة، حيث يمكن أن تقوم على بناء مصانع كاملة بهدف إنتاج السلع، أو يمكن أن تكون “فروعا” تكمل ما يصنع في المراكز، وأقصد “صناعة التجميع”، أي أن الصناعة هنا تتمثل في تجميع “قطع” السلعة في بلد عالم ثالثي، هذه “القطع” المصنوعة في المراكز. وسوف نجد أن “الصناعة الحقيقية” متمركزة في بعض بلدان جنوب شرق آسيا، خصوصا كوريا، تايوان، وبالأساس في الصين. ثم أنها لا تصبح جزءا من بنية الاقتصاد المحلي بل تبقى “خارجية”، أي تبقى على هامش الاقتصاد، بعضها يستخدم عمالة كثيفة، وبعضها يستخدم عمالة محدودة، وغير ماهرة. طبعا مع الإشارة إلى خروج الفائض بشكل سلس دون أن يعاد تدويره في البلد المعني.

وربما كان انهيار الاشتراكية في أوروبا الشرقية قد فتح المجال للرأسمال الألماني بالأساس، والأوروبي عموما، أن يسعى للسيطرة على الصناعات في هذه البلدان، أو إقامة مصانع فيها استفادة من “رخص اليد العاملة” (تدني الأجور).

إذن، الرأسمال الإمبريالي سعى منذ ثلاث عقود تقريبا لكي يستثمر في الصناعة في بعض مناطق العالم، مستفيدا من تدني الأجور بالتحديد، لكنه كان حينما ترتفع الأجور يبحث عن مناطق أخرى، بالضبط لأنه يريد الاستفادة من هذه “الميزة التنافسية” في سياق التنافس القاسي بين الاحتكارات في مجال السلع الصناعية (ومجمل القطاعات الأخرى). وفي الواقع نجد أن هذه الصناعات تُقام وترحل دون أن تترك أثرا مهما، سوى نهب الفائض، وترك بطالة واسعة، وميزان تجاري مختلّ بشكل مريع. إنها تترك اقتصادا مدمرا، وبلد مفقر، دون أن يستفيد لا في الخبرة ولا في التقنية.

في الفقرات السابقة حاولت شرح طبيعة “الأنماط الصناعية” التي نشأت في منظور رأسمالي، لكي أشير إلى أن كل هذه الحالات لم تكسر “منطق الرأسمال” القائم على التحكم في حدود انتشار الصناعة، وبالتالي استمرار فرض انقسام العالم إلى مراكز وأطراف، وإبقاء الأطراف دون تصنيع. وما يعزز ذلك أن الصناعة القائمة في المراكز الرأسمالية تعاني من الكساد نتيجة التنافس الشديد، و”ضيق السوق”، أو نتيجة إنتاج السلع التي تتجاوز حدود السوق. لهذا نجدها تتطاحن من أجل تدمير كل منها الآخر، أو فرض الاندماج بينها. وكما لاحظنا أن الميل لإقامة مصانع في بعض الأطراف (وفي الصين) هو من أجل تقليص كلفة الإنتاج لكي يكون ممكنا كسب المنافسة. ولا شك في أن أميركا كانت الأكثر أزمة في هذا المجال، حيث يشهد ميزانها التجاري اختلالا منذ سبعينات القرن العشرين، نتيجة قدرة أوروبا واليابان على المنافسة، لهذا وجدنا كيف أن صناعاتها الأساسية (السيارات والطائرات والسفن البحرية) عانت من الأزمة في ثمانينات القرن الماضي لهذا أخذت تنتقل إلى جنوب شرق آسيا، والى الصين بالتحديد.

الآن، يمكن أن نحدد مشكلات كل هذه الأشكال من “التطور الصناعي”، حيث سنلمس أنها ظلت محكومة، من جهة بتحكم المراكز الرأسمالية، ومن جهة أخرى بحدود السوق المحلي الذي كان لا يتسع لإنتاج صناعي، فالصناعة تحتاج إلى أسواق واسعة وليس إلى أسواق ضيقة، لأن نجاح المصنع يعتمد على قدرته على إنتاج الحد الذي يسمح بتحقيق الربح. لهذا وجدنا أن أزمة كوريا وتايوان في ستينات وسبعينات القرن الماضي تمثلت في أن إحلال الواردات بات يشكّل أزمة فرضت الانتقال إلى التصدير. رغم أن هذين البلدين حظيا بدعم رأسمالي لكي يتطورا رأسماليا كما شرحت، ولأن كوريا الجنوبية كذلك فقد استمرت في التطور رغم هيمنة الشركات الأمريكية على جزء من شركاتها الكبرى. وكوريا الجنوبية تعتبر حالة خاصة لأن تصنيعها كان بقرار أمريكي كي لا تقع تحت سيطرة الشيوعية (كما تايوان وهونغ كونغ).

لكن الانتقال إلى “الصناعة من أجل التصدير” أدخل في أزمة جديدة، خصوصا بعد أن باتت هي الشكل “الوحيد” للبناء الصناعي في بعض بلدان جنوب شرق آسيا، رغم أنها ظهرت وكأنها البديل في مسار تحقيق التطور والتنمية في بلدان الأطراف. حيث كانت محكومة من جهة من المراكز الرأسمالية من حيث التقنية والرأسمال، لكنها أيضا كانت محكومة بشكل آخر أكثر سوءا، بالضبط لأنها كانت تعتمد على وجود “أسواق تصدير”، وهي الأسواق التي تقوم دولها بإصدار قوانين تخص التفضيلات الجمركية لدول بعينها، والتي كانت تحظى بها الدول التي جرى الاستثمار فيها من أجل التصدير. لهذا حين عادت هذه الدول إلى “الحمائية” نتيجة ظروفها الاقتصادية، وقعت البلدان التي بنت استراتيجيتها على أساس الصناعة من أجل التصدير في أزمة كبيرة، فأخذت هذه الصناعات تنقل إلى بلدان أخرى، أو تنهار وتتلاشى. وهذا يوضّح بأن هذا الشكل من البناء الصناعي هو شكل ظرفي ومؤقت، يمكن أن تستفيد شركات رأسمالية عالمية منه، من خلال الاستفادة من “الميزة النسبية” لتصدير بعض السلع، لكن حين يصبح تصديرها غير ممكن لأن السوق لم يعد يحتاج أو لم يعد يستوعب إنتاجها، تغادر ويقع النموذج في مأزق، أو تنهار إذا كانت متشكلة من رأسمال محلي، أو مشترك.

فيما عدا الصين التي تسير في استراتيجية واضحة نحو التحوّل إلى دولة صناعية حديثة، ولقد حققت خطوات كبيرة في هذا المجال، وباتت القوة الاقتصادية الثانية، نجد أن كل محاولات بناء صناعة في ظل الرأسمالية، وبالأشكال التي أشرت إليها، كانت نتيجتها ليس الفشل فقط، بل كذلك نهب الدول التي مورست فيها. فقد كانت البرازيل “معجزة” في سبعينات القرن العشرين، حينما اعتمدت سياسة إحلال الواردات، ومن ثم خضعت لاستثمار الشركات الاحتكارية، لكن المعجزة انهارت قبل أن تدخل ثمانينات القرن. وكذلك كانت “النمور الآسيوية” معجزة لكن قديمها كان قد عاش الأزمة في ثمانينات القرن، حيث انفتح باب تغلغل الرأسمال الإمبريالي وسيطرته على عدد من أهم الشركات الكبرى الكورية، وأصيبت “النمور الجديدة” بأزمة كبيرة سنة 1997، لتعود خطوات كبيرة إلى الوراء. بالتالي لم تتحوّل هذه الدول إلى دول صناعية، رغم تفاوت وضع كل منها، وربما فيما عدا كوريا الجنوبية التي رغم تغلغل الرأسمال الأمريكي والاستحواذ على شركات كبرى فيها، نجد أن دول جنوب شرق آسيا الأخرى تعيش أزمات كبيرة، كما نجد أن بلدان أميركا اللاتينية مأزومة، وتعاني من أزمات اقتصادية كبيرة، حتى البرازيل التي حاول حزب العمال إنقاذها من الانهيار ظلت أضعف من أن تكون دولة صناعية، رغم وجود صناعات فيها.

بالتالي، فإن “نظرية” تحرر الصناعة من احتجاز الرأسمالية، أو تخلي الرأسمالية عن منع توسّع الصناعة عالميا، ليست سوى “خطاب أيديولوجي” لا معنى له. وإذا كان هناك العديد من المفكرين الماركسيين من يعتبر أن الصناعة باتت عالمية ولم تعد محصورة في المراكز فقط، فلا شك في “سوء فهم” ما جرى، ولا رؤية كيف توسّع الوجود الصناعي (الذي كان في معظمه في بلدان اشتراكية). لقد تعممت الأوهام حول كيف أن الرأسمالية لم تعد معنية بحصر الصناعة في بلدانها، وبالتالي انطلقت لبناء مصانعها في بلدان الأطراف (هكذا بالتعميم)، مستفيدة من رخص الأيدي العاملة. وبالتالي، على ضوء ذلك، باتت فكرة “حصر الصناعة” في البلدان الرأسمالية قد تلاشت، حيث تُقدَّم “المعطيات” حول “انتشار الصناعة” في الكثير من بلدان الأطراف. وهنا لا يجري التفريق بين البلدان التي حققت الاشتراكية فيها تطورا في البناء الصناعي، والبلدان التي نشط الرأسمال فيها بالأشكال التي أشرت إليها. وفي هذا السياق يُشار إلى الصين كمثال، أو حتى بعض بلدان آسيا التي شرحت أوضاعها قبلا. لكن الصين “حالة خاصة” لأنها “تسير نحو القمة”، فقد بدأت التصنيع قبل السماح للرأسمال الإمبريالي، وتعمل على الإفادة من الخبرة والتقنية، في سياق سعيها لأن تصبح مهيمنة.

من هذا المنظور، فإن كل ما جرى الحديث فيه حول “نهاية الأفكار القديمة” حول التصنيع ليس سوى خطاب إعلامي (بروباجندا)، أكثر من أنها أفكار حقيقية، لأن كل التجارب كانت تشير إلى أن الشركات الاحتكارية الرأسمالية كانت تستفيد من وضع في الأطراف في إطار التنافس فيما بينها حيث تقيم المصانع مستفيدة كما أشرنا من رخص الأيدي العاملة، ومن ثم تتركها للدمار بعد أن تكون قد نهبت فائض القيمة الذي جرى استخلاصه من استغلال فظيع للعمال.

من كل ذلك أعود إلى الفكرة الأساسية التي بدأن بها فيما يتعلق بالصناعة، حيث أنه بدون أن يكون هناك إرادة على أن يكون المجتمع قادرا على إنتاج الصناعة التي تنتج الصناعة التي تنتج السلع، يكون هناك مشكلة حقيقية في أي بناء صناعي. وبالتالي فإن أي فكرة لبناء صناعة يجب أن تبدأ من هذا الأساس. المسألة، طبعا، ليست ميكانيكية، وليست في أن نبدأ هذا الشكل أو ذاك، فالصين بدأت بأشكال مختلفة لكنها كانت تركز على أن تستطيع الوصول إلى لحظةٍ تكون فيها قادرة على إنتاج الصناعة لكي تستطيع الاستقلال عن هيمنة المراكز الرأسمالية القديمة. ولا شك في أن تجربة الاتحاد السوفيتي كانت مبنية بالأساس على هذا المنظور، حيث انطلقت من كيفية أن تصبح الدولة قادرة على بناء الصناعة التي تنتج الصناعة.

لا شك في أن تجارب الاتحاد السوفيتي والصين بشكل ما مختلفة عن كل التجارب التي أشرت إليها، بالضبط لأنها بدأت بـ “القطع” مع النمط الرأسمالي، وبتكوين اقتصاد “متمحور على ذات” يسمح بتحقيق “تراكم رأسمالي” كان أساس بناء الصناعة، وتحسين وضع الشعب. وفي سياق ذلك كان الهدف هو امتلاك الصناعة، أي تحقيق التطور العلمي الذي يسمح ببناء الصناعة الأم (كما تسمى في الماركسية)، وهي تُطوِّر الصناعات التي تنتج السلع الاستهلاكية.

خاتمة

بعد كل ذلك، ما هي الصناعة البديلة؟ هي الصناعة من الصناعة الأم إلى الصناعة الثقيلة إلى الصناعة التي تنتج السلع الاستهلاكية. لكن السؤال يتحدَّد في الأولويات التي يجب البدء بها من كل ذلك؟ هذا ما أشرت إلى أنه جانب تقني يتعلق بالوضع حال البدء في وضع استراتيجية عملية لبناء الصناعة. وفي المقابل استراتيجية جسر “الفجوة التكنولوجية” بالقدرات الذاتية، الأمر الذي يعيد إلى التعليم والتطور العلمي. لكن لا بد من لحظ وجود سوق واسع من أجل أن يكون ممكنا نشوء الصناعة وتطورها، حيث لسنا في عصر استعمار لكي تصبح القوة مدخل سيطرة واحتلال، ولسنا في وضع تنافسي عالمي يسمح بأن تنمو الصناعة وتتطور فيه. ولقد أظهرت تجارب التنمية القطرية في البلدان العربية (إضافة لمشكلات أخرى أشرت إليها) إشكالية “ضيق السوق”. إن بناء الصناعة التي تنتج الصناعة، والصناعات الثقيلة، وحتى الصناعة التي تنتج السلع، يفترض السوق الواسع. هذا ما يفرض وضع كلية الأمر في سياق عربي.


[1]هذا ما جرى بحثه في ورقة سابقة. أنظر، مجموعة باحثين “العدالة الاجتماعية: المفهوم والسياسات بعد الثورات العربية (أوراق مؤتمر القاهرة 18 و19 مايو 2014)” إصدار منتدى البدائل العربي للدراسات ومؤسسة روزا لوكسمبورغ، حيث قدمت بحثا بعنوان، الحركات الاجتماعية ومفهوم العدالة الاجتماعية في الثورات في البلدان العربية، ص 29 – 38. والكتاب موجود على الرابط: https://www.afalebanon.org/index.php?option=com_k2&view=item&id=445

[2]وهذا ما جرى بحثه في ورقة سابقة، أنظر: مجموعة باحثين “العدالةالاجتماعيةبينالحراكالشعبيوالمسارات السياسيةفيالبلدانالعربية” إصدار منتدى البدائل العربي، ط1/ 2016، حيث قدمت ورقة بعنوان، الرأسمالية والعدالة الاجتماعية: النمط الاقتصادي الرأسمالي القائم ينفي العدالة الاجتماعية، ص 49 -67. والكتاب موجود على الرابط: https://www.afalebanon.org/index.php?option=com_k2&view=item&id=504

[3]في ورقة سابقة، وهي الثالثة في مشروع العدالة الاجتماعية في الثورات العربية، حاولت أن أقدّم تصورا حول البديل الاقتصادي بمعناه العام أنظر: مجموعة باحثين “الاقتصاد البديل المفهوم والقضايا في المنطقة العربية” إصدار منتدى البدائل العربي، حيث قدمت ورقة بعنوان،العدالةالاجتماعيةوالاقتصادالبديل، ص 13 – 39. والكتاب موجود على الرابط:https://www.afalebanon.org/index.php?option=com_k2&view=item&id=553

[4]أنظر، سلامة كيلة، الرأسمالية والعدالة الاجتماعية: النمط الاقتصادي الرأسمالي القائم ينفي العدالة الاجتماعية، سبق ذكره.

[5]د. فؤاد مرسي “التخلف والتنمية، دراسة في التطور الاقتصادي” دار المستقبل العربي/ القاهرة، ط 1/ 1982، ص 7. حيث يشير إلى أن الكتابات التي تناولت التنمية شغلت ذاتها في البحث في تفاصيل عملية التنمية الاقتصادية.

[6]مجموعة كتاب “الإمبريالية وقضايا التطور الاقتصادي في البلدان المتخلفة” دار ابن خلدون/ بيروت، ط 1/ 1980، ص 16.

[7]بول بايروك “مأزق العالم الثالث” دار الحقيقة/ بيروت، ط 1/ 1973، ص44 وص58. حيث يشير إلى أنه كان يتعيّن على فرنسا التي باشرت تطورها الاقتصادي متأخرة عن إنجلترا أن تأخذ بالحسبان المستوى التقني الذي بلغته.

[8]المصدر ذاته ص 67.

[9]المصدر ذاته، ص 58.

[10]المصدر ذاته، ص 67.

[11]المصدر ذاته، ص 68.

[12]المصدر ذاته، ص 33.

[13]المصدر ذاته، ص 49.

[14]المصدر ذاته، ص 53.

[15]مجموعة كتاب “الإمبريالية وقضايا التطور الاقتصادي في البلدان المتخلفة” سبق ذكره، ص 9.

[16]فكرة الاقتصاد المتمحور على الذات طرحت من قبل العديد من المفكرين الماركسيين، منهم د. محمد دويدار، ود. رمزي زكي، ود. سمير أمين، أنظر: د. رمزي زكي “الاعتماد على الذات، بين الأحلام النظرية وضراوة الواقع والشروط الموضوعية” دار الشباب للنشر والترجمة والتوزيع/الكويت، ط 1/ 1087

[17]سلامة كيلة “الاشتراكية أو البربرية” دار الكنوز الأدبية/ بيروت، ط 1/ 2001.

[18]يمكن العودة إلى، مجموعة باحثين “الاقتصاد البديل، المفهوم والقضايا في المنطقة العربية” سبق ذكره.

[19]يمكن العودة إلى، مجموعة باحثين “الاقتصاد البديل، المفهوم والقضايا في المنطقة العربية” سبق ذكره.

[20]د. أنور عبد الملك وآخرون “الجيش والحركة الوطنية، مصر، اليابان، الكونغو، فيتنام، باكستان” دار ابن خلدون/ بيروت، ط 1/ 1979.

[21]د. فؤاد مرسي “أزمة التنمية الاقتصادية العربية” دار الثورة للصحافة والنشر/ بغداد، ط 1/ 1979.

[22]توما كوترو وميشيل إسّون “مصير العالم الثالث، تحليل ونتائج وتوقعات” ترجمة خليل كلفت، دار العالم الثالث/ القاهرة، ط 11995، ص 138.

[23]المصدر ذاته، ص 140.

[24]المصدر ذاته، ص 140.

[25]المصدر ذاته، ص 140.

[26]المصدر ذاته، ص 142.

[27]د. محمود عبد الفضيل “العرب والتجربة الآسيوية” سلسلة أوراق عربية 26، مركز دارسات الوحدة العربية/ بيروت، ط 1/ 2012، ص 10.

[28]توما كوترو وميشيل إسّون “مصير العالم الثالث” سبق ذكره، ص 134.

[29]إبراهيم العيسوي “نموذج النمور الآسيوية والبحث عن طريق للتنمية في مصر” دار الثقافة الجديدة/ القاهرة، ط 1/ 1995، ص 120.

[30]المصدر ذاته، ص 115.

[31]المصدر ذاته، ص 119.

[32]المصدر ذاته، ص 121.

[33]د. محمود عبد الفضيل “العرب والتجربة الآسيوية” سبق ذكره، ص 10.

[34]أنظر تحليل ذلك في: د. محمود عبد الفضيل “العرب والتجربة الآسيوية، الدروس المستفادة” مركز دارسات الوحدة العربية/ بيروت، ط/ 2000، ص 91-122، وأيضا ص 169-182.

[35]توما كوترو وميشيل إسّون “مصير العالم الثالث” سبق ذكره، ص 142.

Start typing and press Enter to search