ماذا نعني بالديمقراطية في الثورات التي شهدتها دول الربيع العربي؟ هل نعني أن الهدف من التحول الديمقراطي تغيير رأس النظام أم إحداث تغيير جذري في بنى مؤسسات الدولة والمجتمع وتفكيك الأنظمة الاستبدادبة القائمة؟ وهل التحول الديمقراطي مرتبط بتحول من الداخل أم من الخارج؟
فقد جاءت الثورات العربية لتكشف عن مكامن الخلل الأساسية والتي سادت في فترة ما قبل الثورات في الخطاب المهيمن وهي أن الديمقراطية لا يمكن فرضها إلا من الخارج، فملايين الناس التى خرجت للشوارع لتنتفض ضد الأنظمه الاستبدادية أثبتت خطأ هذه الفرضية، فقد تبين أن التغيير يمكن أن يأتي من الداخل وفي أحيان كثيرة يأتي هذا التغيير حاملا خطابا محملا للخارج مسئوليته في التعاون مع الأنظمة السابقة الاستبدادية.
فقد كشفت أيضا شعارات الثورة أن متغير جديد قد ظهر فى صنع السياسة وهو الشعب، بمقولة (الشعب يريد إسقاط النظام) كما أكدت الشعارات على كون الشعب كيان واحد متجانس -الأمر الذى سيتم التطرق له لاحقا فى موضوع الأقليات- أيضا “الشعب يريد” هو بمثابة توجيه هدف التغيير نحو إعادة صياغة جذرية للعلاقة بين الحكام والمحكومين. وهذا ما يفسّر الأهمية الاستثنائية التي توليها الانتفاضات لقيام مجالس تأسيسية وانتقالية، ولصياغة دساتير جديدة، وتغيير نمط العلاقة السائدة بين المؤسسات التشريعية والتنفيذية لصالح الأولى.([1])
إشكالية اختزال مفهوم الديمقراطية في نتيجة صناديق الاقتراع، حيث لا يمكن حصر العملية الديمقراطية في نتيجة اقتراع ولا يمكن الحديث عن شرعية بمجرد فوز مرشح ما في الانتخابات لمجرد أن نسبة الموافقين أعلى من المعارضين، فالديمقراطية هي مجموعة من القيم والإجراءات هدفها النهائي إحداث استقرار في المجتمع عن طريق الرضا الشعبي الناتج عن الخطوات المتخذة من جانب النظام، فالديمقراطية تفترض وجود نوع من التوافق الاجتماعي ممثلا في عقد اجتماعي جديد (الدستور التوافقي) الذي يحتوي على مجموعة من الحقوق والحريات للمواطنين، كما أنه لا يمكن اعتبار مطلب الكرامة الانسانية التي نادت به الثورات مجرد شعار بل لا بد من اتخاذ التدابير اللازمة لحماية هذا المفهوم. حيث أن مطلب الكرامة الانسانية لا يقتصر فقط على الجهاز الأمني، أي معاملة ما من جانب الشرطة، بل يمتد ليشمل صيانة عيشة كريمة للمواطنين عن طريق كفالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وتوفير فرص عمل دائمة للمواطنين، كما لا يمكن فقط تقديم اعتذارات للأخطاء التي ارتكبتها السلطة السياسية، بل لابد من وجود تدابير للحماية من تكرار نفس الأخطاء (لا بد من وجود قوانين تحمي هذه الحقوق الأساسية). كما لا يمكن فقط الاكتفاء بالنصوص الدستورية بل يجب العمل على تطبيقها وتوفير الآليات اللازمه لذلك.
يلاحظ أيضا في حدوث نوع من الارتداد على عمليه التحول الديمقراطى، فتونس شهدت عمليه اغتيال سياسي لشكري بلعيد المعارض اليساري البارز للنهضة، كما شهدت مصر محاوله لتقييد الحريات متمثلة في مشروعات قوانين النقابات والمجتمع المدني.([2])
يبقي تحديان كبيران أمام عملية التحول الديمقراطي في المنطقة العربية وهما العلاقات المدنية-العسكرية بما يقضي بغلبة المدني على العسكري وكذلك تحدي إعادة التوازن للسلطة التشريعية السياسية في مقابل السلطة التنفيذية.
كما يرتبط مفهوم التحول الديمقراطي بوجود نظام اقتصادي جديد حيث كشفت الثورات العربية عن ضرورة توجيه الاقتصاديات العالمية إلى الاعتراف بأن تأمين فرص العمل كان غائبا عن برامجهم المتعلقة ببلدان الجنوب. كما كشفت عمق العلاقات بين السلطات الاستبدادية العربية، وبين مؤسسات التمويل الدولية، وشركاتها المتعدية الجنسيات، والسلطات السياسية التي تمثلها، ومن ثم يطرح مفهوم التحول الديمقراطي في هذه البلدان إشكالية وجود نظام اقتصادي بديل عن ما تم اتباعه في السابق، فهل يمكن الحديث عن تحول ديمقراطي حقيقي وما زالت الأنظمة الجديدة تتجاهل دور الشعب في رفض الانصياع لصندوق النقد الدولي؟ هل يمكن الحديث عن تحول ديمقراطي في ظل غياب أي حوار حقيقي للبدائل المطروحة لسد عجز الموازنة؟ هل يمكن الحديث عن التحول الديمقراطي في غياب فرص عمل حقيقية وإهدار لحقوق العمال؟ بل هناك حديث عنها باعتبار أنها مطالب فئوية تعرقل الإنتاج.([3])
يرتبط مفهوم التحول الديمقراطي بمفهوم المواطنة والتي تعد حقوق مثل المرأة والأقليات أحد ركائزه فإن أحد المشكلات الأساسية التي تطرحها هذه القضية هي أن مناقشة قضايا المرأة في المنطقة العربية تعاني من قدر كبير من الاختزال والتبسيط ممثل في إظهار قضايا المرأة باعتبار أنها قضية مستقلة عن السياق العام من القضايا الملحة كقضايا الفقر، فساد الدولة، القمع، والعسكرة.
حيث أن هناك مجموعة من الإشكاليات المرتبطة بالمرأة، فبالرغم من وجود المرأة في الصفوف الأولى للثورتين التونسية والمصرية، وبرغم تقديم الثورتين لعدد من الشهيدات، فما زال الحديث عن المشاركة السياسية للمرأة محل تساؤل، مثل إعادة طرح قضية وضع المرأة في النصف الأول من القوائم الانتخابية أم لا؟
وعلى الرغم من أن المرأه المصرية لها تاريخ طويل في عمليه النضال السياسي سبقت دولا أخرى إلا اننا نجد مثلا فى دولة مثل السعوديه قام الملك بتعيين 30 سيدة فى مجلس الشورى وما زال الحديث هنا فى مصر يدور حول تقييد حريتها.([4])
وعلى الرغم من محاولات كل التيارات لكسب صوت المرأة الانتخابي، إلا أن تيارات الإسلام السياسي تنظر للمرأه نظرة لا تتناسب مع مكانتها في المجتمع كما أنها تنظر لها وكأنها شيء نكرة (مثل ما حدث من جانب حزب النور في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في مصر من إحلال صور النساء المرشحات بصور ورد ورموز دون الرجال)([5]).
وتبرز في إطار مشكلة المساواة كذلك قضية الأقليات، فقد عانت هذه القضية من إنكار واضح تضمنه خطاب النظم الاستبدادية التي أزاحتها الثورات العربية، في حين أن هذه الأنظمة عملت على استغلال هذه القضية بشكل يدعم شرعيتها ويكفل لها الاستمرار -مع العلم أن مشكلة الأقليات لا يمكن عزوها فقط للأنظمة الشمولية التي قبعت لسنوات طويلة في سدة الحكم ولكن أيضا لاعتبارات متعلقة بالذاكرة التاريخية والنفسية لأبناء هذه الجماعات الأقلية- حيث عملت هذه النظم على تعميق هذه المشكلة من خلال تزكية الاختلافات والنزاعات الأهلية، مع سعي هذه النظم الشمولية لنسج علاقات مع جزء أو بعض من هذه الجماعات الأهلية، وكانت هذه الأنظمة تعمد إلى الجماعات الأهلية وثيقة الصلة بالنظام من أجل تشكيل الأجهزة الأساسية الحافظة للسلطة والحامية لها، كما أن وضع الأقليات في المنطقة العربية وخاصة في منطقة المشرق العربي يزيد من تعقده التداخل بين الجماعات الأهلية المتواجدة في عدد من الدول العربية، الأمر الذي يهدد دائما بإمكانية “أقلمة” أي مشكلة (تعاني منها أي من الجماعات داخل دولة معينة)([6]).
الاشكالية الثانية فيما يتعلق بقضية الأقليات: أنه يتم النظر لقضية الأقليات باعتبار أنها قضية مستقلة عن قضايا المجتمع كله المطالبة بالتغيير. وهناك عدد من التحديات المرتبطة بقضية الأقليات، فنجد أن التحدي الأول يظهر في تخوف الأقليات من أن تأتي العملية السياسية في أعقاب الثورات بمجموعات تتطابق مع التوزيع الديمغرافي للدولة (الأغلبية السنية)، والتي ستتنكر لما حازته هذه المجموعات الأقلياتية في العهود السابقة من بعض الحقوق، إلى جانب التخوف من مرحلة الانفلات الأمني، والسيولة العالية التي تحملها مرحلة ما بعد الثورات والتي قد تؤدي للتنكيل بهذه الأقليات خاصة في الدول التي حكمت فيها النظم الاستبدادية السابقة باسم مجموعتها (التي كانت تمثل الأقلية) خاصة في تجربة البحرين وسوريا.
علي الرغم من أن الحركات الاجتماعية هي وقود التغيير في الثورات العربية وأنها جزء أساسي من عملية التحول الديمقراطي، إلا أن هناك محاولات من جانب السلطة لتحجيم دورها وهذا ما اتضح حاليا في محاولة البرلمان السابق في مصر لإصدار قانون لتقييد حق التظاهر، ولكن أيضا بعد حل البرلمان، كانت هناك محاولات لتحجيم هذا الحق من جانب مجلس الشورى المصري والذي يناقش حاليا قانون التظاهر وكذلك قانون الجمعيات الأهلية[7]. فهل التحول الديمقراطي في البلدان العربية سيتبعه محاولات لتحجيم الحركات الاجتماعية أم أنه سيقود إلى مزيد من تقييد الحريات؟
وهنا تطرح مسألة التحول الديمقراطي والحركات الاجتماعية تساؤل حول كيفية تنظيم عمل المجتمع المدني، فهل يأتي التنظيم من السلطة أم الأفضل مشاركة حقيقية للمجتمع؟ كما أنه يطرح مسألة إشكالية ماهية التحولات التي قد يشهدها المجتمع المدني في أعقاب الثورات؟ فقد أثار وصول الإسلاميين للسلطة (جزء أصيل من الحركات الاجتماعية ضد الأنظمة السابقة) تساؤل حول انقضاض هذه الحركات في المستقبل على مبدأ التداول السلمي للسلطة، فما نراه الآن سواء في تونس أو مصر هو الاعتماد على النظام الأمني مثل النظام السابق.
وبالنظر للحركات الإسلامية نجد أن هذه الحركات إزاء القهر الذي عانت منه طوال العهود السابقة لطالما كانت هناك دعوات من جانب الكثيرين لاندماجها في المجتمع، إلا أن هذه الحركات بدورها عادت الآن لتمارس دورا إقصائيا تجاه الحركات الاجتماعية الأخرى، إلي جانب ما يُشاهد الآن من بروز تيارات التطرف، وظهور علامات عنف سياسي متمثلة في محاولات الاغتيال السياسي والذي شهدته تونس باغتيال شكري بلعيد.
لا يجب الترويج للديمقراطية باعتبار أنها عملية قاصرة على الإجراء الانتخابي، بل لابد أن يترافق ذلك مع عمليات إصلاح مؤسسية قوية وجادة لمؤسسات وهياكل الدولة، لتلافي استبداد الاغلبية وسعيها أيا كانت لتطويع مؤسسات الدولة للتطابق مع السلطة التنفيذية، أو للتطابق مع التكوين الديمغرافي للدولة وتراعي حقوق المواطنة ومتطلبات تنمية حقيقية، وذلك من خلال:
على الأطراف التي تتعامل مع نظم ما بعد الربيع عدم التعامل فقط مع الخطاب لكن مع الفعل والممارسة من جانب هذه النخب في الواقع، فلا يكفي للحكومات رفع شعارات الديمقراطية والتنمية ولكن بالنظر لما يحدث بالفعل على أرض الواقع، وألا يُنظر فقط للقوانين ولكن للفكر السائد والتطبيق العملي لهذه القوانين، وذلك من خلال:
إلا أن الجزء الأكبر من إنجاز عملية التحول الديمقراطي هو ذلك الجزء الملقي على عاتق الحكومات والنخب العربية في مرحلة ما بعد الثورات العربية، وهذه العملية مرتبطة إلى حد كبير بعملية إعادة بناء الدولة العربية على أسس الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان ليست فقط المدنية وإنما كذلك الاقتصادية والاجتماعية.
ـــــــــــــــــــــ
[1]() فواز طرابلسى، مداخلة ندوة القاهرة عن ثورات الكرامة العربية في الثورة بما هي نقد فكري، كتاب: ثورات الكرامه العربية رؤى لما بعد النيوليبرالية، منتدى البدائل العربي- هيوفوس، 2013
[2]() انظر http://is.gd/LpqQRn
[3]() وائل جمال، الربيع العربي ومفاهيم التنمية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، كتاب: ثورات الكرامه العربية رؤى لما بعد النيوليبرالية، منتدى البدائل العربي- هيوفوس، 2013
[4]() http://www.egyptianpeople.com/default_news.php?id=21837
[5]() http://www.elaph.com/Web/news/2011/11/694822.html
[6]() رستم محمود، الأقليات والربيع العربي، كتاب: ثورات الكرامه العربية رؤى لما بعد النيوليبرالية، منتدى البدائل العربي ـــ هيوفوس، 2013
[7] http://www.tahrirnews.com/news/view.aspx?id=e71cb1a4-be99-45bd-bac9-6c3fcbd5f704
[8]() مايكل ماير ريسيند، “تقرير الإجماع الدولي: العناصر الأساسية للديمقراطية”، المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية، أكتوبر 2011.
[9]() رباب المهدي، “العلاقات المدنية- العسكرية في مصر”، منتدى البدائل العربي للدراسات، 2011.
[10]() مايكل ماير ريسيند، “الإجماع الدولي: العناصر الأساسية للديمقراطية”، المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية، أكتوبر 2011.