العلاقة بين أزمات الهجرة واللاجئين والديمقراطية
إبراهيم عوض
السودان ,الصومال ,العراق ,اليمن ,سوريا ,فلسطين ,ليبيا

د. إبراهيم عوض: أستاذ الشؤون العالمية ومدير مركز دراسات الهجرة واللاجئين، كلية الشؤون العالمية والسياسة العامة، في الجامعة الأمريكية في القاهرة (AUC). لديه دكتوراه في العلوم السياسية من المعهد العالي للدراسات الدولية بجامعة جنيف بسويسرا. عمل في جامعة الدول العربية والأمم المتحدة ومنظمة العمل الدولية، حيث شغل مناصب سكرتير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، ومدير فرع منظمة العمل الدولية، والمكتب الإقليمي لشمال أفريقيا ومدير برنامج الهجرة الدولية التابع لمنظمة العمل الدولية.

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download

الهجرة واللجوء ظاهرتان ذاتا أهمية كبرى في المنطقة العربية. فالمنطقة العربية تحدث فيها الهجرة واللجوء في الداخل بين بلدان المنطقة ومنها ما يحصل إلى دول الخليج، والهجرة من خارج المنطقة إليها. ثم إن المنطقة تعتبر منشأ للهجرة فيوجد مهاجرون من المنطقة في دول غرب أوروبا وغيرها. فالهجرة واللجوء ظاهرتان تميزان المنطقة رغم أنهما موجودتان في بقية دول العالم. ومن المهم أن ندرك أن منطقتنا ليست فريدة في شيء، بل نحن في العالم مثلنا مثل غيرنا. ربما هناك بعض الخصائص التي نتميز بها إلا أنه ليس هناك ما نختلف فيه عن مناطق العالم الأخرى وهذه الدعاوى الخصوصية هي في الواقع دعاوى لإخراجنا من العالم وربما دعاوى من العالم لإخراجنا منه ولا ينبغي أن نأخذ بها. سنتناول العلاقة بين الهجرة واللجوء من جانب والديمقراطية من جانب آخر، في وقت الأزمات وفي غير وقت الأزمات. ولكن ما هي الأزمة؟ الأزمة هي حالة مؤقتة فيها ضغوط متعددة تستدعي اتخاذ قرارات. يعني هذا أنه لا يمكن أن نقول مثلًا إن هناك أزمة فلسطينية، بل توجد قضية فلسطينية. فالأزمة يمكن ان تستمر لشهرين أو سنة، ولكن لا يمكن ان تستمر إلى ما لا نهاية. فالأزمة مؤقتة، فمثلًا قيل إن هناك أزمة للاجئين عندما لجأ المواطنون السوريون إلى القارة الأوروبية، لكن الباحثين الأوروبيين أنفسهم لا يعتمدون كلمة أزمة لأنهم لا يظنون أنها كانت أزمة وأن الضغوط كان لا قبل للدول الأوروبية بها.  فينبغي ان نحتاط كثيرًا عند استخدام مصطلح الأزمة.

إن العلاقة بين الهجرة واللجوء والديمقراطية يمكن النظر إليها في اتجاهين، أولًا العلاقة بين الديمقراطية وانعدام الديمقراطية من جانب، والهجرة واللجوء من جانب آخر.  هذه هي المقاربة الأولى. أما الثانية فتتمثل في العلاقة بين الهجرة واللجوء من جانب كمتغيّر مستقر، وبين الديمقراطية من جانب ثانٍ. يعني أنه لا بد أن ننظر إلى العلاقة من جانبيها لأن التأثير متبادل في الواقع بين المتغيّرين. فمثلًا إذا أخذنا غياب الديمقراطية وأخذنا السلطوية كمتغير أساسي فسنجد أنه في منطقتنا أدت هذه السلطوية في الواقع إلى تدفقات هائلة ومتكررة لللاجئين، فمثلًا غزو العراق للكويت أدى إلى هجرة عائدة هائلة إلى الأردن ومصر واليمن. إذا نظرنا إلى السلطوية في ليبيا القذافي فسنجدها أدت إلى هجرة إعادة العمال المصريين والتونسيين قسرًا في نهاية السبعينيات مثلًا. فالسلطوية أدت مثلًا إلى النزوح الداخلي واللجوء إلى الدول المجاورة من سوريا إلى لبنان والأردن والعراق ومصر… سنجد بالتالي علاقة أساسية بين انعدام الديمقراطية واتخاذ القرار بشكل سلطوي. مثال آخر العراقيون الذين لجأوا إلى الأردن ولبنان ومصر. سنجد أن النظام السياسي الذي ينشأ هو المؤثر فقط، مثال ذلك ليس فقط غزو صدام حسين للكويت هو ما أدى إلى تدفقات للهجرة العائدة وإنما النظام السياسي الذي نشأ حتى بعد سقوط صدام حسين أدى أيضًا إلى نزوح داخلي.

فالنظام الطائفي الذي نشأ في العراق بعد 2003 بدأ يأتي أثره اعتبارًا من 2006 و2007 في تدفقات اللاجئين إلى مصر والأردن وسوريا. هذا النظام أدى إلى اقتتال وتفتيت الشعب العراقي إلى طوائف ثم إلى اقتتال هذه الطوائف ثم هرب هذه الطوائف من العنف ولجوئها إلى بلدان مجاورة.

فإذن هناك علاقة أساسية بين انعدام النظم الديمقراطية وظاهرتي الهجرة واللجوء. فحالة سوريا في الواقع هي حالة مقاومة للتحول الديمقراطي. ويعني ذلك أن ما حدث من نزوح ولجوء في منطقتنا في الـ10 سنوات الماضية، يعتبرها البعض نتيجة للثورات العربية وللتطلع والرغبة في نظام سياسي مخالف عن ذلك الذي اعتادت عليه بلداننا، وهو نظام في رأيهم عظيم جدًّا. ولكن في الواقع ما أدى إلى النزوح واللجوء ليس هذا وإنما مقاومة التغيير نحو النظام الديمقراطي. مقاومة تغيير النظام في سوريا هو ما أدى إلى النزوح. وعندنا مثال آخر حديث هو مثال السودان فهو يمر بعملية تحول ديمقراطي توقفت بفعل فاعل في أكتوبر 2021 ثم تنازع الطرفان اللذان أوقفا عملية التحول الديمقراطي ونشب بينهما نزاع مسلح، ولجأ مئات الآلاف إلى تشاد وجنوب السودان، وإثيوبيا، ومصر، وغيرها. فالعلاقة وثيقة ولا ينبغي أن نسلّم بالرواية التي تقول إن التطلع إلى مزيد من الديمقراطية هو الذي أدى إلى ما هو عليه الأمر، بل إن مقاومة التغيير نحو الديمقراطية هي التي أدت إلى اللجوء والهجرة.

قبل التطرق إلى تراجع الديمقراطية وأثرها على الهجرة واللجوء يجب أن ننظر إلى المقاربة الأخرى أي الهجرة واللجوء وأثرها في الديمقراطية أو في التحول الديمقراطي. هنا من المفيد جدًّا الإشارة إلى نظرية نشأت في 1990 في التسعينيات هي نظرية الأمننة sécurisation. هي نظرية نشأت في الواقع في الدنمارك وهي لا تخص الهجرة وحدها هي تخص أمننة مجالات عديدة للسياسات وهي مجالات تهدد الأمن.

وهنا نجد أن نظمًا سياسية عديدة تكثر من الحديث عن مصطلح الأمن القومي لأن هناك تهديدًا للأمن القومي هنا وهناك. فتستخدم الهجرة واللجوء باعتبارهما يشتركان في تحديد الأمن القومي. فهنا الفكرة أنه يوجد فاعل، فلنقل بالتفصيل إن الأنظمة الحاكمة أو الحكومات تصوغ خطابًا وهذا الخطاب يتلقاه المتلقون، ثم يعيدون إنتاجه، ثم يقبلون بالسياسات التي تنتج منه. هي مسألة بناء المفاهيم. هي تكوين النظام الفكري حيث تجعل مسألة سياسية واقتصادية أو اقتصادية واجتماعية مسألة أمنية تهدد الأمن بدون أن تكون كذلك بالضرورة. بل إنها في أغلب الأحيان لا تهدد الأمن، ولكن يتم تشكيلها بهذا الشكل لتروّع الناس وتصبح مهددة لهم. ما هو السبب؟ إذا أنت أقنعت الناس بأن مسألة ما تهدد أمنهم فإنهم سيؤمنون لك في أن اتخاذ إجراءات استثنائية وصياغة سياسات يمكن أن تفتئت على الحريات وعلى إنشاء التنظيمات وسيتم القبول بها باعتبار أن أمنك مقدَّم على أية ممارسات ديمقراطية وعندها يحسبون من الطرف الذي يمكن الاستغناء عنه. هذا هو في الواقع جوهر نظرية الأمننة وهنا اللغة تلعب دورًا هامًّا جدًّا. اللغة والمصطلحات المستخدمة تلعب دورًا هامًّا. فمثلًا نجد إصرارًا على القول بلفظ “الهجرة غير الشرعية”. إن العالم أجمع وحتى الأوروبيين أنفسهم كفّوا عن استخدام مصطلح “الهجرة غير الشرعية” وأصبحوا يأخذون بمصطلح الهجرة غير النظامية. ويبقى هناك إصرار في بعض بلادنا على استخدام مصطلح “الهجرة غير الشرعية” لإعطاء فكرة الخروج عن القانون. لأنهم يريدون في الحقيقة التحكم تمامًا في الهجرة وأي خروج عن الطوع يكون خارجًا عن القانون فتجرَّم الهجرة لهذا السبب. فاللغة كما رأينا مسألة مهمة. أضف إلى ذلك مسألة الغزو، فكل هذه المصطلحات تشكّل تفكيرك عن الهجرة، إن كررتها مرة بعد أخرى ونحن بشر نتأثر ولا يوجد من بيننا من لا يتأثر بالخطاب السائد. ولكن في موضوع الهجرة الموضوع أصبح واضحًا بشكل تام.

قيل إن هذه النظرية صدرت للبلدان التي ترسخت فيها الديمقراطية والليبرالية، ولكنها أيضًا تنطبق تمامًا على بلداننا، بل إن بلداننا سبّاقة في الأمننة بدون النظرية. ولكن أتت هذه النظرية والتي تنطبق تمامًا على الوضع فغيّرت بعض المسميات، فبدلًا من أن نقول ديمقراطية نقول السلطوية، وهي عكس الديمقراطية. بالعودة إلى الخطاب وماهيته التي تتكرر، طبعًا كما قلنا نستخدم بعض المصطلحات ثم يقال إن الهجرة ظاهرة سلبية. شيء غريب أن يصدر هذا في بلدان هي نفسها لديها ملايين المهاجرين في الخارج ممن يسهمون في اقتصادات هذه البلدان. ومع ذلك فهذه البلدان تنعت الهجرة بأنها سلبية. طبعًا مرة أخرى ليست المنطقة العربية وحدها في ذلك. فالمكسيك مثلًا تمارس الشيء نفسه تقريبًا إذ لديها ملايين المهاجرين في الخارج وعندما يأتي مهاجرون من أمريكا الوسطى تعاملهم معاملة غير تلك التي تطالب بها البلدان الأخرى لمهاجريها. فإذن الهجرة ظاهرة سلبية؛ المهاجرون واللاجئون يحمّلون الدولة تكاليف لا قبل لها بها، وسنجد ذلك في أغلب بلداننا. لكن كل القوانين الدولية للاجئين واتفاقية 1951 تنص على أنك لا تستطيع أن تدفع أحدًا يريد حماية في إقليمك، لا تستطيع أن تقول له: لا تدخل. هذا أقصى ما يمكن أن تفعله بلداننا. ولكن الحماية في الواقع أيضًا هي أن تمكّن اللاجئين من أن يعملوا، أن توفر لهم التعليم والرعاية الصحية، هذا من الحماية أيضًا، فالحماية ليست فقط الإقامة والعيش. فبعض اللاجئين السوريين اضطروا أن يحاولوا عبور البحر المتوسط وعرّضوا أنفسهم للخطر نتيجة أنهم لا يمكّنون من العمل أو يتم الهجوم عليهم في، …  إلى آخره.

إن أنواع الحماية واسعة، ولكن نجد أن بلداننا في الواقع لا توفرها، بل هي تتلقى الحماية من المنظمات غير الحكومية. ولكن دائمًا هناك الحديث عن أن اللاجئين والمهاجرين يكلّفون الدولة. هناك أيضًا ما يقال عن أن اللاجئين والمهاجرين يسلبون المواطنين فرص العمل، بينما في الواقع تبيّن الدراسات أنه في البلدان التي صدرت عنها هذه الحجة وهي أولًا الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، فإن المهاجرين واللاجئين يعملون في أجزاء من سوق العمل مختلفة تمامًا عن تلك التي يعمل فيها المواطنون. يعني هذا ما يقال بأنها Liberal marketé segmentation تجزئة لسوق الشغل، وبالتالي فهم لا يهددون فرص العمل وليسوا سببًا في ارتفاع البطالة، بل إنهم لا يهددون حتى سلم الأجور.

بالطبع في بلداننا لا بد من إجراء مزيد من الدراسات، خاصة وأن القطاع غير المنظم فيها واسع جدًّا ويمكن أن يحدث ذلك في أدنى أجزاء سوق العمل. ولكن اللاجئ والمهاجر يتعرض للتمييز مرتين في سوق العمل. في السوق غير المنظم المواطن مميّز ضدّهم، ولكن المهاجر واللاجئ ليس فقط لا يتمتع بحقوق العمل وإنما يميّز ضده أيضًا لأنه ليس مواطنًا. فبدلًا من أن ندرك ما يتعرّض له المهاجر، أو المهاجرة، أو اللاجئ، أو اللاجئة فنحن نحملّهم مسؤولية عن سلبيات تشغيل الاقتصاد وسوق العمل.

هناك أيضًا الخطاب الذي يعتبر أن الهجرة واللجوء شيئان سيّئان للغاية بمعنى أن المهاجرين واللاجئين يرتكبون الجريمة وأنهم هم من أسباب الجريمة. لكن ليس هناك أية دراسات تبيّن ذلك. وحتى إن أجريت دراسات فلا يجب أن تقارن المهاجر واللاجئ بالمواطنين بشكل عام، بل يجب مقارنتهم بالمواطنين الذين يوجدون في نفس الحالة الاقتصادية والاجتماعية. يعني هذا أن المقارنة لا تجوز إلا على من هم في نفس مستوى التعليم وفي نفس حالة العمل إن كان لديهم عمل أو لا. إذا تمت المقارنة بين هؤلاء فسنجد أن معدلات الجريمة أقل كثيرًا لدى المهاجرين منها لدى المواطنين وهو ما حصل في دراسات في إيطاليا.

يتم اللجوء أيضًا إلى تقنية أخرى وهي تضخيم عدد اللاجئين والمهاجرين. أيضًا هذا ليس وقفًا على منطقتنا. ولكن دائمًا يوجد نوع من التضخيم، فمثلًا في بلدان الكاريبي كان رئيس الدولة حينذاك يدّعي أن هناك مليون مهاجر من هاييتي. فأجري مسح فتبيّن أنهم 250 ألفًا فقط. ولم تنشر نتائج هذا المسح. هذا التضخيم يتم بدون أي بحث استقصائي، ولكنه يساعد على تعزيز موقف الدول من اللاجئين كما يساعد على اتخاذ التدابير الاستثنائية إلى جانب قبول عدم التحوّل إلى الديمقراطية، أي قبول السلطوية.

يحتاج خطاب الأمننة كذلك إلى بيئة مساعدة. وأعتقد أن هناك نوعين من البيئة: البيئة الأولى، خطاب الأمننة الذي يمتد إلى عدة ميادين، فالتعليم أمننة والصحة أمننة وكذلك السكن… وبذلك أصبح خطابًا طبيعيًّا. والبيئة الثانية، هي الحالة الاقتصادية المترديّة وهي أيضًا تساعد على قبول خطاب الأمننة.

سأمر سريعًا على العلاقة بين الديمقراطية كمتغيّر وبين الهجرة واللجوء، فكل ما ذكرته سابقًا هو خطاب موجّه إلى الداخل. ولكن في بلداننا هناك خطاب موجّه إلى الخارج، ونجده خاصة في بلدان شمال إفريقيا الممتدة من مصر إلى المغرب، الساحل المقابل لأوروبا، فعندهم هوس بالهجرة واللجوء. وهم يستغلونها بتضخيم عدد المهاجرين اللاجئين. هذا التضخيم ليس اعتباطيًّا. بل هو وسيلة للقول بأنهم آتون إليكم. وعندنا يضخّم عدد اللاجئين في بلداننا بدون أي سند إحصائي فيقال عشرة ملايين. والهدف منه هو إيهام الآخرين بأن هؤلاء آتون إليكم. وبالتالي اسكتوا عن أية ممارسات سلطوية وعن تقاعسنا عن أي تحوّل ديمقراطي. وفي المقابل نحصل على تدعيم لبلداننا وأنظمتنا مادي وبالسلاح وإلى غير ذلك.

بالتالي هذا الخطاب هو في الواقع يقوّض ويشرعن كل ما هو استثنائي. وهو ليس موجهًا إلى اللاجئين والمهاجرين وإنما موجّه إلى المجتمع في الداخل. ويساعد بعد ذلك البلدان التي تشعر بهذا الهوس من موضوع الهجرة واللاجئين حتى لا يأتي إليهم المهاجرون واللاجئون.

إن القارة الأوروبية اتخذت موقفًا مناوئًا للهجرة بالرغم من أنها هي تاريخيًّا منطقة منشأ للهجرة. والتقدم في أوروبا حدث عندما هاجر الملايين إلى القارة الأمريكية ثم قلّ الضغط على سوق العمل فاستطاعت أن تنمو وتتقدّم. ثم إنها استقبلت مهاجرين من منطقتنا مثلًا ساهموا في إعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك فمكونات الخطاب في أوروبا في الداخل شبيهة بالتي ذكرتها وبالتالي لن أعود إليها. ولكن أود التركيز في أن هذا الخطاب في الواقع هو الأصل في الخطاب الموجود في منطقتنا. يعني نحن في الواقع نستورد السياسات في مجال الهجرة والاقتصاد…  نستورد السياسات ونطبّقها. وهذه هي قوّة ما يسمى بالقوة المنتجة التي تنتج الأفكار والمفاهيم. فأنت تصبح تعتقد أن سياسة الهجرة لا بد أن تكون كذلك. فإذا ذهبت إلى جنوب إفريقيا تجد أن لديها سياسة في الهجرة شبيهة بالسياسات الأوروبية. سياسة الهجرة أصبحت هي تلك السياسة التي تصاغ وهو شيء طبيعي نتيجة لهذه القوة في الواقع. وهذا يرجع أيضًا إلى أن هؤلاء المهاجرين يأتون إلينا من ثقافات مختلفة بمفاهيم ومبادئ مختلفة وستجد تركيزًا في مسألة الثقافة والدين وخلافه. فواحدة من سمات النيوليبرالية التي ظهرت في السبعينيات مع تاتشر وريغن هي أن تتخلّص من خطوط التباين les clivages الاقتصادية والاجتماعية وتحولها إلى تفاوتات ثقافية، ومن هنا ستجد كثيرًا من ناخبي الحزب الشيوعي الفرنسي أصبحوا ناخبين لماري لوبان، لأن التباينات الاقتصادية والاجتماعية اختفت وحل محلها تباينات أخرى والحركات الشعبوية هي أيضًا لها دعاوى اجتماعية في نفس الوقت. فستجد أن هذا هو ما يحدث ويقبله المتلقي في القارة الأوروبية. لذلك توجد مسؤولية هائلة في الواقع على السياسات النيوليبرالية في تسيّد خطوط التباين الثقافية والعرقية. وليس مصادفة أن هذه الحركات هي حركات قومية أيضًا إذ نجدها ممتدة من العرق والثقافة إلى القومية. فهذا هو الإطار الذي تحدث فيه سياسات الهجرة.

ماذا نفعل إذًا؟ أظن أنه ينبغي مقاومة الخطاب الذي يشكّل فهم الهجرة واللاجئين بما في ذلك المصطلحات التي نستخدمها في الهجرة واللاجئين. لأن هذا الخطاب هو الذي يضفي شرعية على التعامل مع المهاجرين ويضفي شرعية على أنموذج التعامل مع المهاجرين من بلداننا. يعني نتيجة ما نقوله عن المهاجرين واللاجئين نحن نعطي مبررًا للآخرين لأن يتعاملوا مع اللاجئين والمهاجرين من بلداننا بشكل ذاتي. ثم ينبغي أن تتم مقاومة الخطاب المستعمل والسياسات التي تشدد على التباينات العرقية والثقافية والدينية. هذه السياسات هي في غاية الخطورة في الواقع علينا نحن أولًا وعلى مجمل السكان في بلداننا. ومن هنا مقاومة السياسات النيوليبرالية لأن الديمقراطية هي في الواقع لا يمكن أن تنشأ في نظام اقتصادي واجتماعي فيه تباينات عرقية وثقافية ودينية. فخطوط التباين لا بد أن تبيّن بين الناس. فخطوط التباين الاقتصادية والاجتماعية يوجد معها دائمًا أمل في أن تنتقل انتقالًا وأن يوجد حراك اجتماعي. إذ يمكن أن كنت عاملًا مدقعًا بالسياسات المطلوبة والحكومة، يمكن أن ترتقي في السلم الاجتماعي. فالديمقراطية ليست فقط في أن أعبر عن مواقف من سياسات مجردة وإنما هي أيضًا في الارتقاء والشعور بالتحسن.

وليس المعني بذلك أن النظم الديمقراطية تكفل الانتقال من أدنى السلم الاجتماعي والاقتصادي إلى أعلاه. هذا ليس حقيقيًّا والنظم الديمقراطية الراسخة لم يحدث فيها هذا وإنما كان هناك حراك. فالمسألة في النظم الديمقراطية الراسخة أن هذا أيضًا يتراجع بفعل السياسات النيوليبرالية وما أدت إليه من تباينات ومن عدم مساواة. وبالتالي فإن التصدي لمسألة الهجرة واللجوء يكون أيضًا بالتصدي للسياسات التي ينتج منها تمييز التباينات الثقافية والعرقية والقومية.

هكذا تكون انطلاقة سياسات الهجرة واللجوء مع السياسات الاقتصادية والاجتماعية مع سياسات التحول الديمقراطي. سياسات النيوليبرالية والسياسات المناوئة للهجرة واللجوء بالمناسبة تصدر مثلًا في القارة الأوروبية عن تلك الحركات التي يوجد لها ثأر مع النظم الديمقراطية. يعني الحركات الشعبوية اليمينية القومية في أوروبا هي التي هزمت في الحرب العالمية الثانية وهي ترجع بشكل أو بآخر الآن. ففي الواقع فإن التلاقي بين مسألة الديمقراطية ومسألة التطلع إلى المساواة الاقتصادية والاجتماعية ومسألة التعامل مع المهاجرين واللاجئين، في الواقع إذا نظرت إلى هذه القاعة فستجد أن كثيرين منهم لهم أصول مهاجرة. لا أحد في الواقع يخلو من أصول مهاجرة.

Start typing and press Enter to search