فلسطين
هذه الأوراق نتاج سمينار داخلي وتصدر بصفة غير دورية
وتعبر فقط عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي منتدى البدائل العربي للدراسات أو أي مؤسسة شريكة
تمّ تقديم هذه المداخلة خلال الندوة السنوية الأولى لـ“منتدى البدائل العربي” حول التطورات في المنطقة العربية بعنوان “التطورات في تونس والسودان وقضية التطبيع“، والتي عُقدت في 2 شباط/ فبراير 2022.
قبل عدة أسابيع قدّمت المغنية الإسرائيلية المناهضة للاحتلال نوعم شوستر، أغنية بعنوان “دبي” تسخر فيها من عملية التطبيع. كان لافتًا بين كلمات الأغنية عبارة “تبقى إسرائيل من المي للمي، دبي دبي دبي”، فتذكّرنا الشعار الفلسطيني “من المي للمي”. أما الآن، أصبحت إسرائيل هي “من المي للمي”. فهل يمنح تطبيع الأنظمة الرجعية مع إسرائيل شرعيةً لها؟ نعم يمنح. ولكنها شرعية من نوع خاص عُرّف منذ القرن السابع عشر على أنه غير شرعي، وهو ذلك الذي يقوم على القوة ويُطلَق عليه “شريعة الغاب”.
إسرائيل في المنظومة العالمية
أبدأ نقاشي من السياق، فلا شك أنّ مكانة إسرائيل في منظومة العلاقات الدولية تشكّل عاملاً مركزيًّا لعمليات التطبيع. لقد باتت مكانة إسرائيل أكثر مركزية في منظومة العلاقات الدولية بشكل ملحوظ ومضطرد في الحقبة التي أُطلقت عليها أسماء عديدة: العولمة، النظام العالمي الأحادي القطب أو النيوليبرالية. لعبت إسرائيل دور شرطي الإمبريالية في المنطقة منذ تأسيسها بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية بعد أن لعبت الحركةُ الصهيونية دورَ رأس الحربة في المشروع الإمبريالي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ “وعد بلفور” والهجرة إلى فلسطين إلخ. وقد اتّخذ دورُ الشرطي مكانةً أكبر وأكثر مركزية في الحقبة النيوليبرالية لأسباب تتعلق بتغيّرات في طبيعة النظام الرأسمالي الذي بات أكثر ميلاً نحو الفاشية وغيّر بشكل كبير طبيعةَ ودور الدولة، وبشكل خاص دور الأجهزة الأمنية فيها، وربط بشكل وثيق بين المال والأمن بشكل جعل السياسة الوطنية أمرًا ثانويًّا مقارنةً بأمن السلطة الحامية لمصالح رأس المال المعولم بدلاً من أن تكون حامية لرأس المال الوطني كما عرفناها على مدى قرنين سابقين. وقد تطلّبت هذه التحولات إنشاء منظومات أمنية إقليمية لها مراكز إقليمية تتوسع بشكل مضطرد، ويمكن ملاحظة هذه الظاهرة في مختلف مناطق العالم بأشكال متنوعة. في الشرق الأوسط، أعتقد أنّ إسرائيل هي المركز الأمني الإقليمي لهذه المنظومة العالمية. في هذا السياق، تلعب إسرائيل دورًا محوريًّا في النظام الإقليمي في الشرق الأوسط وفي مكانة هذا النظام الإقليمي في النظام العالمي، وهذا هو السبب الرئيس وراء حاجة الإمبريالية في حلّتها النيوليبرالية إلى التطبيع الذي يشكّل تعبيرًا عن تعزيز وتوسيع دور إسرائيل في المنطقة، وإضفاء بعض الشرعية على هذا الدور، وفي إخضاع الأنظمة الأمنية التابعة لها بشكلٍ يجعل هذه الاعتبارات أوّلية بالنسبة لأي اعتبارات أخرى بما في ذلك اعتبارات احتياجات الأنظمة السياسية إلى شرعية وطنية أو شرعية عربية.
التطبيع: مسار تاريخي
على صعيد القضية الفلسطينية التي تشكّل عصب وعنوان الصراع العربي- الإسرائيلي، يمكن تحديد نقطة البداية لعملية تراجع قوّتها الرادعة في وجه التطبيع إلى حوالي سنة 1990، أي أثناء الانتفاضة الأولى التي شكّلت معلمًا غير مواتٍ للحقبة الناشئة- انتفاضة تزامنت مع انفلاش حقبة العولمة، فالنيوليبرالية في الواقع بدأت في منتصف السبعينيات ولكن بدأت تتّضح معالمها في نهاية الثمانينيات- وكان من الضروري للقوى التي تقود عملية عولمة الحقبة النيوليبرالية أن تعمل على تحويل المسار التحرري الناتج عن الانتفاضة إلى مسار تصالحي يضمن أن لا تؤدي هذه الانتفاضة إلى نتائج تنجم في العادة عن الفعل الثوري الناجح.
تمّ فعليًّا توظيف عدد من الوقائع الجيوسياسية على النطاقين الدولي والإقليمي لغرض اختزال نتائج الانتفاضة في ما يحقق مصالح فئة ضيقة من الفلسطينيين مع المشروع الإمبريالي في حلّته النيوليبرالية. وشكّل المسار المتحوّل للانتفاضة أحد النماذج التطبيقية للمنظومة العالمية الجديدة أسوةً بتطبيقات أخرى في العالم. وليس الهدف هنا الرجوع طويلاً إلى تاريخ القضية الفلسطينية خلال الثلاثين عامًا الماضية، ولكن سأصرف بعض الوقت عليه لأن قطار التطبيع قادته في الواقع “منظمةُ التحرير الفلسطينية” التي كانت أوّل من طبّع بعد مصر، بعد فترة طويلة من “كامب ديفيد”. لقد شكّلت اتفاقية “أوسلو” مفتاحًا لما حصل لاحقًا في هذا السياق. من بين الخطوات الانزلاقية في تلك المرحلة موافقة “منظمة التحرير” على مبادرة ودعم قرار في “الجمعية العامة للأمم المتحدة” يلغي قرارًا سابقًا بأنّ الصهيونية تساوي العنصرية. تلت ذلك خطوات أخرى، مثل قرار اتّخذته اللجنة التنفيذية لـ “منظمة التحرير”، من دون سبب ومن دون مبرر، يؤكد تبنّي اقتصاد السوق الحر، وكانت ما زالت في تونس عند اتخاذ القرار، إذ لم يكن هناك سلطة ولا دولة. وترافق ذلك مع الاعتراف بإسرائيل في إطار صفقة وليس على أساس المبادئ والحقوق، وكأنّ موقف “منظمة التحرير” السابق كان موقفًا تجاريًّا له ثمن. تبعت ذلك الموافقة على إعادة تعريف القضية الفلسطينية على أنها قابلة للتجزئة، تتلخّص في مجموعة القضايا التي تمّ إدراجها ضمن ما اتُّفق على إرجاء نقاشه وأُطلق عليه “قضايا الوضع النهائي”. والمشكلة هنا لا تكمن في تعداد هذه القضايا أو حتى في تأجيلها، بل في أمرين أساسيين: قضية الفلسطينيين الأساسية- تقرير المصير- سقطت من جدول الأعمال، وتمّ إرجاء كل ما يتعلق بالجوانب الشكلية لتقرير المصير، والذي يشكّل مجتمِعًا ما يُسمّى بالسيادة. هكذا، باتت القضية الفلسطينية رهينة لقائمة لا تنتهي من المطالبات وتحوّلت من قصة نجاح انتفاضة شعبية ألهمت جماهير العالم العربي وحازت على تعاطف وتضامن شعوب العالم، إلى قصة مشروع فاشل، مشروع استسلام، وتحوّل الاستعمارُ من وحش إلى مفاوض حاذق لم يتوقف عن إلقاء اللوم على الفلسطينيين وعلى قياداتهم مروّجًا أنّ جشعهم وفسادهم وجهلهم وقلّة تنظيمهم مسؤولة عن أوضاعهم، ويدّعي أنهم يريدون حرية أكثر ممّا يلائم سيّدَهم الإسرائيلي.
تراجع مشروع التحرر الوطني
أما الأطر التنظيمية لحركة الشعب الفلسطيني التحررية، على تنوّعها، فقد انزلقت جميعها إلى معادلات لا شأن لها بمشروع التحرر الوطني. فقبل انعقاد “المجلس الوطني الفلسطيني” في الجزائر عام 1988 وإعلان الدولة، كانت حركة “حماس” قد قررت بعد حركة “الجهاد الإسلامي” أن تعمل من خارج إطار “منظمة التحرير” ووفقًا لأولويات مختلفة اتّضح لاحقًا أنها ستشكل جزءًا من عملية إعادة ترتيب العلاقات الجيوسياسية التي لم يبرز فيها في ذلك الوقت المكوّن السياسي الديني- أو ما يسمّى في منطقتنا “الإسلام السياسي” ولكن له أشكال أخرى في أماكن أخرى من العالم- والذي شكّل بديلاً أمميًّا في مواجهة الاتجاه القومي ورأسماليًّا في مواجهة الاتجاه الاشتراكي، وهما اتجاهان رئيسيان كانا على قمّة الدفع باتجاه معاداة الصهيونية في العالم العربي وخارجه.
أدى تراجع المشروع الوطني إلى انغماس القوى الفلسطينية في صراعات داخلية تسلّحت بإلقاء اللوم عن الفشل على بعضها البعض. وتراجع الوضعُ الفلسطيني على الأصعدة كافة، في ما عدا نشوء وتطور وتقوية السلطة التي انفلتت من عقالها ولم تتوقف عن تقديم التنازلات في سبيل الحفاظ على نفسها وفقًا لشروط شركائها في صفقة السلام التي باتت بموجبها سلطة، وعزّزت علاقاتها مع الأنظمة الرجعية العربية ودخلت في حلف حقيقي وموضوعي معها ترعاه قوى إمبريالية عالمية، كما أصبحت تعتمد في بقائها على هذا الحلف. بالطبع كانت هناك علاقات سابقة لكن تخلّلها مدّ وجزر، وقد توثّقت العلاقات بشدة بعد “أوسلو” وأصبحت السلطة في وضع لا تستطيع معه تخريب أيّ من هذه العلاقات أو المجازفة في إضعافها هنا أو هناك.
يشار في هذا الصدد إلى أن هذه الأحلاف أخذت طابع التعاون الوثيق والعلني مع الأجهزة الأمنية للأنظمة الرجعية، أي أنّ السلطة الفلسطينية اصطفّت شكلاً وموضوعًا مع القوى المعادية للشعوب العربية والقامعة لها، ما جعل الدور المحلّي للأجهزة الأمنية الفلسطينية، التي باتت تقارن نفسها بأجهزة الأنظمة العربية ولا ترى غضاضةً في ذلك، يبدو طبيعيًا وكأنّه تحصيل حاصل. وقد وصل هذا التدهور حدّ التدمير الذاتي، مثال على ذلك الأحداث التي وقعت قبل فترة والتي حصلت خلالها مواجهة ليس فقط بين السلطة والجمهور الفلسطيني، إنما كاد أن يصل الأمر أيضًا إلى مواجهة بين “فتح” وباقي الشعب. بالطبع داخل “فتح” هناك قوى وطنية حقيقية فمُنع حصول تلك المواجهة، ولكننا كنا قاب قوسين أو أدنى من ذلك.
أما القوى الفلسطينية غير المنخرطة في السلطة، وفي مقدمتها “حماس”، فباتت تصرف جلّ جهدها في تنافس مع السلطة الفلسطينية على البقاء بدور “لاعب” في الحلبة الجيوسياسية الإقليمية، وباتت تصارع بعضها البعض بشأن أمور لا تمتّ إلى القضية الرئيسية بصلة؛ أي حرية الشعب الفلسطيني. كلّ هذا أدى إلى وضع باتت معه القضية الفلسطينية وكأنها ليست قضية تحرر، بل نظام عربي آخر شبيه بباقي الأنظمة. لم تفقد القضية تعاطف وتضامن الشارع العربي، لكنها لم تعد تشكّل نموذجًا تحرريًّا ملهمًا في حركة الجماهير العربية. لقد كانت القضية الفلسطينية ملهمة للعالم العربي لأنها تتبنى، بشكل شبه منفرد تقريبًا، التوجه الديموقراطي والتعددي، لكنها اليوم أصبحت أقل ديموقراطية بكثير من مشاهد جماهيرية عربية أخرى: كالحركات الجماهيرية، وابتداع أساليب نضال وأفكار جديدة وأدوات خلاقة في المقاومة والنضال. لقد قام أهل القضية أنفسهم بتسليعها، وبات حشد الطاقات الشعبية لمناصرتها الدائمة أصعب فنحن لا نشهد التراجع في مواجهة التطبيع وحسب، ولكن يمكن ملاحظة أن التضامن مثلاً الذي حصل مؤخرًا أثناء احتدام قضية حيّ الشيخ جرّاح في القدس في العواصم العربية لم يكن أكبر من ذاك الذي حصل في بعض العواصم الأوروبية. ولم يكن الخراب الذي أصاب المشروع التحرري الفلسطيني هو السبب الوحيد لتوفير بيئة عربية أقل حمايةً للقضية وحسمًا في مواجهة تطبيع الأنظمة الرجعية مع إسرائيل، بل هناك ظروف طرأت في كل الدول العربية.
إسرائيل: تدريب القوى الشُّرَطية خدمةً للنيوليبرالية
أنتقل إلى المستوى الدولي لأنّ وضع النظام العالمي يشكّل سياق التحولات الإقليمية. لقد تفاقمت أزمة النظام الرأسمالي في حلّته النيوليبرالية إلى حدّ بات معه هذا النظام على شفا الإفلاس، واضطرت الدول الرأسمالية الكبرى إلى إنقاذ قطاعها الخاص فعليًّا عن طريق تحويله مؤقتًا إلى قطاع عامّ- عندما قاموا مثلاً بشراء حصص كبيرة في البنوك في الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبية أخرى- إلى أن تقوم بدفع ديونه وسدّ عجزه على حساب شعوبها ومواردها الإمبريالية. أدى هذا الأمر إلى تفاقم الهوّة في الثروة وتحوّلت الديموقراطيات الغربية في واقع الأمر إلى أوليغاركيات نيوليبرالية، وباتت الأنظمة السياسية أكثر نزوعًا نحو الفاشية، وعاد الأمن ليقود السياسة كما في زمن الحرب، وعادت الإمبريالية إلى استخدام الأدوات السائدة قبل حقبة الاستعمار الجديد، أي عادت أدوات الاستعمار الكلاسيكي إلى الخدمة. وبالتالي، عادت الحاجة إلى أنظمة الطابور الخامس، الدمى التي يتمّ التحكم فيها وليس فقط إغراء نخبها وتعزيز مكاسبها الكومبرادوريّة. لقد أذنت الحقبة النيوليبرالية بانتهاء الهدنة الضعيفة للصراع الطبقي التي صيغت في الغرب بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبات ضروريًّا بعد ذلك تفعيل آليات النهب على كافة الأصعدة، جزءٌ منها بالانقضاض على الطبقة الوسطى في دول المركز والجزء الآخر في نهب ثروات العالم الثالث بشكل أكثر نجاعة عن طريق إحياء وترميم أدوات الهيمنة المباشرة؛ الاستعمار، والأمثلة على ذلك كثيرة أوضحها العراق وسوريا وليبيا واليمن حاليًّا، ولكنها أمثلة واسعة. ويحتاج تفعيل التقنيات الاستعمارية إلى تعزيز القوى الشُّرَطية في المناطق المستهدفة وفي تلك الدول التي تشكّل مراكزَ للعمليات الاستعمارية، سواءً للدعم اللوجستي أو لتشغيل أنظمتها طابورًا خامسًا أو لتكون مركز عبور، أي ترانزيت لقوى إقليمية أخرى. وقد تمّ ويتمّ العمل على ذلك فعلاً على المستويات العالمية والإقليمية والوطنية والمحلية.
بعد إعلان انتصار الليبرالية في الحرب الباردة، لم يعد المعسكر المنتصر بنفس الحاجة إلى قائد، لذلك تمّ ترسيخ هذه الحاجة من جديد وابتدعت المنظومة النيوليبرالية نطاقًا من الأعداء مثل الإرهاب والإسلام والدول المارقة، واستخدمت هذه البنى، التي تمّ تجسيد بعضها فعلاً، لتعزيز المركزية الأميركية في النظام العالمي لتقود عمليات الانقضاض على حركات التحرر والنقابات والمكتسبات الاجتماعية التي جسّدتها دولةُ الرفاه وفي أنظمة الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي، وذلك باستخدام نماذج ما عُرف بـ”الحوكمة” و”الخصخصة”. أما على الصعيد الإقليمي، فكان من الضروري إنتاج أحلاف جديدة وحروب وصراعات ومخاوف تبرّر الحاجة إلى هذه الأحلاف وتعمل على تدمير كلّ ما يشكّل عثرة في طريق الاحتكارات وأنظمة هيمنة الإمبريالية. وضمن ذلك تمّ إنشاء بنى شُرَطية إقليمية تجمّع وتنسّق تحركات القوى التي تخدم سياسات النيوليبرالية الإمبريالية التي تشغّل الدمار والصدمة وسيلةً ناجعة لجني الأرباح. وتلعب إسرائيل دور المركّز والمدرب لهذه القوى الشرطية ومركز تخطيط للثورة المضادة مع التركيز على الشرق الأوسط، ولكن بدور عالمي في ما يتعلق بتقنيات الرقابة والتجسس والقمع- وصل إلى أذربيجان وجورجيا ودول إفريقيّة إلخ. وعلى الأصعدة الوطنية والمحلية، تمّ تعزيز طاقات الحلفاء المحليين المنضوين تحت راية المشروع النيوليبرالي عن طريق تقوية الأجهزة الأمنية وأمنَنة الأنظمة السياسية وزعزعة الاستقرار الداخلي، بحيث تصبح الأمننة مطلبا عاما.
فيمطلبًا عامًّا ويصبح هناك طلب جماهيري عليها. وفي ضوء هذه الصورة، يمكننا النظر إلى عمليات التطبيع والصراعات المحلية المدفوعة خارجيًّا وتلك التي اتخذت أبعادًا إقليمية، مثل العراق وسورية واليمن وليبيا، وتقسيم الدول كما في جنوب السودان ومحاولات في كردستان العراق وعدة مناطق في سورية)، والثورات المضادة التي تلت ثورات الكرامة العربية في سورية وليبيا ومصر والسودان مؤخرًا، كلها جزءًا من رزمة الهيمنة، ولا بدّ من الإشارة في هذا الصدد إلى أن إسرائيل لعبت دورًا في كل واحدة من هذه الحالات، وهذا أمر موثق.
الحاجة إلى “الصناعات القذرة“
بالعودة إلى السؤال عن مكانة إسرائيل في النظام العالمي وعن استعداد الأنظمة والقوى الرجعية لتعرية ذاتها في سبيل التحالف العلني مع إسرائيل، فلذلك أسباب عدة ومتداخلة:
أولًا، الدور التاريخي لإسرائيل شُرطيًّا للإمبريالية في المنطقة
ثانيًا، الطبيعة العسكرية الأمنية لإسرائيل
ثالثًا، الدخول المبكر لإسرائيل في المشروع النيوليبرالي
رابعًا، تقدم الصناعات الأمنية الإسرائيلية لكونها تميزت في احتياجاتها الأمنية لمواجهة عدوّ في الداخل- وهذا ينطبق أيضًا على جنوب إفريقيا في عهد الأبارتهايد – وليس على حدودها أو ما وراء البحار، فالسوق الأهم في إسرائيل اليوم، والذي جعل منها حالة خاصة في المنظومة العالمية، هو ما أسمّيه بـ”الصناعات القذرة”، أي صناعة الأدوات الأمنية الموجّهة ضد السكان المحليين. إن إسرائيل تطوّر هذه الصناعات منذ سبعة عقود، بينما العالم بدأ يحتاجها منذ عقدين فقط، وبالتالي إسرائيل متقدمة وهي، التي لا تحوي إلا على مطار رئيسي وبعض المطارات العسكرية المتفرقة، المدرّب الرئيسي لأمن المطارات في أنحاء العالم، ذلك لأنها الدولة الوحيدة التي تشتبه في مواطنيها وقد أنشأت تكنولوجيات لمراقبتهم، وبالتالي هي متميّزة وتملك هذه التكنولوجيا التي تسعى إليها الأنظمة كلما كانت أقل شرعية.
خامسًا، وجودها في مركز الهجمة الإمبريالية على العالم العربي، وهو فلسطين، وذلك بسبب وجود الصهيونية في خدمة الإمبريالية تاريخيًّا.
أما الصفات المشتركة للدول التي بادرت إلى التطبيع، فموضوعه أعقد لأن الصفات التي تشترك فيها الأنظمة المطبعة موجودة أيضًا في الأنظمة التي لم تطبّع علنًا، ويعود ذلك إلى السمات الخاصة بكل نظام سياسي وطبيعة البنى الزبائنية والشروط الاقتصادية والاجتماعية للاستقرار السياسي داخل الأنظمة واستخدام هذه الأنظمة بدرجات متفاوتة للطابع الإثني والديني لمكوّناتها وغير ذلك من اعتبارات. بيد أنّ الأكيد هو أن الأنظمة التي تمارس التطبيع لا تعبّر عن الإرادة الحرة لشعوبها ولا ترى في نفسها موقع الخيار السيادي المستقلّ بغض النظر عن تبجّحها بذلك. دعونا نتذكّر؛ لقد افتتح نظام السادات مسار التطبيع العلني ضمن صفقة شملت ضرب أحد مواقع النفوذ الهامة للمعسكر الشرقي أثناء الحرب الباردة- انتقل إلى المعسكر الأميركي- وحصل بموجبها على دعم لجيشه، ثم قامت قيادة “منظمة التحرير” بعملية التطبيع مقابل الحفاظ على نفسها، وكان ثمن ذلك الانتقال إلى مسار تلعب فيه هذه القيادة دور جسر لإسرائيل مع العالم العربي الذي بقي حصينًا على التطبيع على المستوى الشعبي، وشاركها في ذلك الأردن الذي وجد في “اتفاقية وادي عربة” مخرجًا من أزمات عدة، على الأقل في الطريقة التي كان النظام يرى نفسه فيها. وترافق مسار “أوسلو” مع مقدمات وإرهاصات تطبيعية قامت بها عدة أنظمة عربية منها المغرب وقطر وعمان وتونس والإمارات العربية المتحدة. ويلاحظ أن كل الأنظمة التي قامت بالتطبيع في الحلقة المرافقة لعملية “أوسلو” و”اتفاقية وادي عربة” بالإضافة إلى نظام السادات، كلها أنظمة وراثية باستثناء نظامي حسني مبارك وزين العابدين بن علي اللذين كان قد أطلق عليهما قبل ذلك مصطلح “جملكيات”. تبعت ذلك الموجة الأخيرة من عمليات التطبيع، فالإمارات والبحرين نظامان محتاجان إلى تحصين أمني بسبب ضعف شرعيّتهما ومنخرطان في صراعات إقليمية وتحالفات أمنية تقع إسرائيل في مركزها، وانخرطت في قمع الحركات السياسية والحقوقية داخلها وفي حروب مباشرة وبالوكالة في سورية وليبيا واليمن والسودان، كما أن عددًا من الأنظمة العربية، وعلى رأسها أنظمة خليجية، شعرت بخطر داهم عندما تخلّت الولايات المتحدة عن حليفَيها بن علي ومبارك، وسعت بالتالي إلى تعزيز ضماناتها في الحصول على حماية الولايات المتحدة عن طريق شراء المزيد من الأسلحة واكتساب دفاع اللوبي الإسرائيلي عنها أمام الإدارة الأميركية. النظام المغربي غارق في القمع والهيمنة ولديه مشكلة الصحراء الغربية وغيرها، وهو أيضًا بحاجة إلى الدعم الأميركي وعلاقاته الأمنية متميزة مع إسرائيل. أما في السودان فهناك ثلاثة أسباب مختلفة للنزوع نحو التطبيع برغم صعوبته ذلك أن التطبيع لن ينجح في استفتاء شعبي هناك لكنه أيضًا لا يشكل القضية الأولى بالنسبة إلى السودانيين. السبب الأول، أن الجانب العسكري في السلطة الراهنة في السودان هو استمرار لنفس التحالفات الأمنية والعسكرية الإقليمية في النظام القديم، إذ لم يتغير شيء في العلاقات مع اليمن والإمارات ودور السودان في اليمن. والسبب الثاني، في الجزء المدني هناك مجموعة من الليبراليين الذين ما زالوا يفكرون بعقلية التسعينيات، العقلية التي تمّ فيها التراجع عن مقاطعة إسرائيل عالميًّا وإلغاء الإعلان بالعنصرية وما إلى ذلك، أي النمط العام للتصورات في المؤسسات الحكومية وغير الحكومية الغربية. أما السبب الثالث، هو أن موقف البشير ضد التطبيع جعل الدفاع عن المقاطعة صعبًا لأنه يبدو كأنه تماثل مع البشير الذي يريد الجميعُ الابتعادَ عنه.
التطبيع العلني
أما ظروف الانتقال إلى المسار العلني فيمكن الجزم بأنها تتوافق مع ضعف استقرار الأنظمة ودرجة انغماسها في معسكر الرجعية والتطبيع وحاجتها إلى الحفاظ على سلطتها عن طريق العنف والقمع وتوفير شرعية لها من الخارج بسبب افتقارها إلى الشرعية الداخلية جعلتها معتمدة بدرجة مفرطة على المنظومة الأمنية النيوليبرالية. بالطبع، يترافق كل هذا مع استخدام لحظات ضعف معينة ناجمة عن ظروف أحيانًا تكون طارئة ولحظية، فالولايات المتحدة مثلاً تضع شرطًا لرفع السودان عن قائمة الإرهاب، في الواقع لا يوجد أي سبب كي يكون السودان على تلك القائمة، فالنظام تغيّر وكذلك السياسات وبناءً عليه يجب أن ترفع الولايات المتحدة السودان عنها، لكن هذا ابتزاز، فالولايات المتحدة ابتزّت السودان وحاولت ابتزاز فنزويلا وتستمرّ في محاولة ابتزاز كوبا ودول أخرى، تنجح في بعض الأحيان وتفشل في أخرى، لم تخضع إيران وفنزويلا مثلاً للابتزاز الأميركي، بينما خضع السودان لهذا الابتزاز.
ولكن، هل التطبيع شرطٌ بنيوي للأنظمة المنضوية تحت المنظومة الإمبريالية والنيوليبرالية؟ هناك درجات؛ إن العمل مع هذه الأنظمة هو تمامًا كالاقتراض من البنك الدولي، شيء يشبه المخدرات، من الصعب جدًّا الإقلاع عنها، تقترض أول مرة، أي تتنازل أول مرة، فتنشأ شروطٌ تُضعف شعبيتك وشرعيتك الداخلية، وبعد ضعف الشرعية الداخلية تصبح بحاجة إلى شرعية خارجية، وبالتالي تُفرض شروطٌ إضافية، وهلمّ جرّا.
ولكن، تبقى صورة الاتجاه العامّ أهم من التفاصيل المتعلقة بلحظات الانزلاق التي تتعلق بعوامل أو حوادث طارئة. تشمل صورة الاتجاه العام، بالإضافة إلى التطبيع، مجموعة من الظواهر والتحولات التي تعبّر عن استشراس الإمبريالية العالمية في مرحلة أزمتها العميقة وعلى رأسها، غير أزمتها الاقتصادية المتكررة، انتهاءُ النظام العالمي أحادي القطب وصراعات جديدة وتنافس داخل معسكر الإمبريالية العالمية تشمل صعود مشاريع إمبريالية منافسة متنوعة الحجم والإمكانيات. شملت هذه الظواهر أيضًا ابتداع “داعش” بدعم غربي، والتصالح مع الطالبان، والتدخل العسكري المباشر في سورية واحتلال أجزاء منها، والتدخل الفاضح في ليبيا والتحول نحو الفاشية في أنظمة حليفة، كالهند والبرازيل، وانضمام جزء مثلاً من الإخوان المسلمين إلى حكومة بينيت في إسرائيل ودعمها الوقح لمواقف وسياسات وقوانين تستهدف الجماهير العربية في داخل إسرائيل والشعب الفلسطيني عامةً وقضية العرب الفلسطينية.
بين معسكرَين
لتلخيص نقطتي الرئيسية، يمكن القول إننا نعيش في مرحلة ردكلة1 الصراعات وتجذّر الاصطفافات بين المعسكرين المتصارعين، إذ لم يعد المعسكر الإمبريالي الصهيوني الرجعي يخفي نواياه، وهو يعمل بتنسيقٍ عالٍ رغم التنافس الداخلي الشديد. أما المعسكر التحرري فهو لا يزال في حالة نهوض من سباته الذي شهدناه في العقود الثلاثة الأخيرة، ولا يزال يحتاج إلى تنقية نفسه من رواسب التحالفات مع جهات رجعية تخوض صراعات داخلية في المعسكر الآخر. لذلك، فالمعركة ليست معركة مقاومة تطبيع، بل معركة مقاومة التحولات الفاشية التي وصلت إليها الرأسمالية العالمية في حقبتها النيوليبرالية الأوليغاركية. أما التطبيع فهو محض ختم إضافي في هوية الأنظمة الرجعية، العربي منها وغير العربي، إن موقفها المعادي لقضية التحرر هو ما يدفعها إلى التطبيع وليس العكس.
أما أثر التطبيع على القضية الفلسطينية فله وجهان، من جهة يضرب التطبيع ظاهر القضية الفلسطينية من حيث علاقتها الدولية ونمط التصويت لصالحها في المحافل الدولية ويساعد إسرائيل في الحفاظ على صورة الذئب الذي يدّعي أنه نباتيّ ولا يشكل خطرًا على الناس وحيواناتهم الداجنة بل إنهم هم من يعتدي على موارده الغذائية الطبيعية ويمنعونه من أن يكون مسالمًا، وفوق ذلك يتنمّرون عليه- وهذه ربما النسخة الجديدة من قصة “ليلى والذئب” التاريخية- ويشكّل حجةً لدعاة الواقعية السياسية والملتحقين المتأخرين بتبنّي نظرية “99% من أوراق الحل بيد أميركا” للاستمرار في انزلاقهم الرجعي وتساوقهم مع الصهيونية، فإن انكشاف المواقف الحقيقية لهذه الأنظمة سيمكّن مناصري القضية التحررية من تحديد معالم جبهتهم والتوقف عن الافتراضات الخاطئة بأنّ كل فلسطيني وعربي ومسلم هو بالضرورة نصير للقضية التحررية، فأنصار القضية التحررية هم أصحاب القضايا التحررية في العالم، والوصول إليهم يتمّ عبر التضامن وليس عبر الاشتراك في الإثنية أو الديانة. لقد كشفت هرولة الأنظمة الرجعية نحو التطبيع مرة أخرى عن الجوهر الطبقي للقضية الفلسطينية وعن كونها قضية حق لا صفقة وعن أنّ المعركة التي يجب أن نخوضها هي معركة حول الحرية وليس حول السردية أو الرواية، لذلك يتحتم على الغيورين على الحرية أن يتجنّدوا في معسكر التحرر وأن ينخرطوا في النضال التحرري، فلم يبقَ هناك مكانٌ لأنصاف الحلول.
1 من “راديكالية” (radicalisation). الاتجاه نحو مواقف أكثر طرفيةً بشأن القضايا السياسية والاجتماعية.