هذه المقالة هي خلاصات لحوار بين فريق عمل مشروع مشترك بين غرين بيس مكتب الشرق الوسط
ومنتدى البدائل العربي للدراسات عنوانه “البيئة والعدالة الاجتماعية في المنطقة العربية“
قامت بصياغته زينب سرور الباحثة بمنتدى البدائل
أثر الصناعة على النمط العمراني والبيئي (قطاع البناء في لبنان نموذجا)
يحمل العديد من النماذج الصناعية آثارًا سلبية على النمطين العمراني والبيئي. يمكن تلمّس هذه النتائج في ساحل بلدة الهرم اللبنانية التي شهدت عام 1931 إنشاء أول معمل لصناعة الإسمنت في لبنان، وهو تابع لـ “شركة الترابة اللبنانية“. حينها، لم يكن هناك قانون للتنظيم المدني أو أنظمة لاستخدامات الأراضي، وكانت شركة الترابة مرتبطة بمصالح أوروبية وحلفاء محليين. بعد عشرين عامًا على قيام المعمل، أنشئ معملٌ آخر إلى جانب الأول في شكا، سُمّي “شركة الترابة الوطنية“. ومع الوقت، تزايدت المعامل في هذا الساحل الذي أصبح كمنطقة صناعية، على الرغم من أن الخطة الوطنية لترتيب الأراضي التي صدرت عام 2009 تقول إنه خليج طبيعي يُمنع فيه بناءُ هذا النوع من المعامل. ويرتبط هذان المعملان بمقالع تنقل الحجارة من مناطق مجاورة بكلفة قليلة، وهذه المناطق غير قانونية لأعمال قلع الحجارة. وعلى مر السنوات اشترت الشركات الكثيرَ من الأراضي في المنطقة لتقلع منها، لذا كانت تؤمّن التربة بأسعار قليلة. وتُظهر خريطة تصنيف الأراضي بحسب التصاميم التوجيهية في شكا والجوار الكوراني مدى إشكالية علاقة الصناعة مع السكن، وكيف أن الأراضي هناك مرقّعة، والأماكن التي تحوي معامل لا توجد فيها مناطق عازلة بالشكل المناسب. وفي هذه المنطقة هناك مليونان ونصف مليون متر مربع من المقالع على أراضٍ غير مخصصة لها، كمقلع كفرحزير الموجود في منطقة يُفترض أن تكون سكنيّة.
وقد تعرّض البحر في تلك المنطقة إلى التلوّث بسبب الأنشطة الصناعية لمعامل شركات الإسمنت، كما تم القضاء على الأعشاب البحرية والثروة السمكية هناك ما أدى إلى تدهور كل قطاع الأسماك. كما أثّرت الغازات السامة المنبعثة من الشركات على السكان الذين يعانون من أمراض تنفسية، كما تشهد المنطقة أمطارًا حمضية وتربة حمضية غير صالحة للزراعة، بالإضافة إلى الغبار الكثيف للشاحنات التي تتنقل بين المقلع والبحر، وكذلك تشويه الشاطئ من الهري إلى شكا، وقد تغيّر الكثير من معالم المنطقة بسبب سرقة الرمول وبناء المنتجعات الخاصة والحواجز البحرية. كذلك الأمر بالنسبة لمقلع منطقة بدبهون، الذي يشغل ربع مساحة المنطقة، والذي غيّر طبيعتها الجيولوجية. وفي سهل الكورة أيضًا يتبيّن الأثر العمراني والبيئي، إذ بدأت الشركات عملها هناك منذ العام 1967، قبل العمل في بدبهون، وصارت تستخرج من السهل مادة الأرجيل. ولهذا الغرض، اقتلعت حوالي مليون شجرة. وخلال 16 عامًا حفرت مساحات تتجاوز مليون متر مربع، وبعمق يتراوح بين 15 و20 مترًا، فصارت حفرًا غير قابلة للاستصلاح وغيّرت طبيعة المنطقة وارتفعت بسببها الرطوبة بشكل كبير، وانخفض كل مستوى السهل، هذا بالإضافة إلى أنّ الحفر تمتلئ خلال الشتاء بالمياه ما أدّى إلى انتشار مرض “عين الطاووس” الذي تأثر به أكثر من 400 ألف شجرة زيتون.
المشاريع الصناعية والآثار على أنماط الاستهلاك والإنتاج والنسيج العمراني والاقتصادي للمناطق التي تتم بها (لبنان).
وتؤثّر المشاريع الصناعية كذلك على أنماط الاستهلاك والإنتاج وكذلك النسيج العمراني والاقتصادي لمناطق تواجدها، فمشروع بدبهون أثّر على سكان المنطقة الذين تهجّر أغلبهم، وكذلك على البلدات المجاورة وأصحاب الأراضي الزراعية ومالكي الأراضي المتاخمة للمقلع وعمّال المقلع أيضًا. أما في سهل الكورة الزراعي، الشهير بشجر الزيتون وإنتاج زيت الزيتون، فبسبب اقتلاع تلك الأشجار وتغيير معالم المنطقة، تضرّر كلّ إنتاج زيت الزيتون فتأثّر المزارعون المعتمدون كليًّا أو جزئيًّا على زراعة الزيتون، وكذلك أصحاب الأراضي الزراعية في السهل وأصحاب معاصر الزيتون وأصحاب معامل صابون الزيتون وصناعات الزيت المختلفة والتعاونيات الزراعية في الكورة.
أنماط المدن الجديدة في مصر وقضية الاستثمار في العقارات.
بشكل عامّ، نشهد توجّهًا عالميًّا لفكرة “المدينة العالمية“. وصارت هناك سياسات تعرض الفكرة كتوجّه حتمي ذي منفعة عامة، في سرديةٍ تحاول قدر الإمكان إبراز الجانب الإيجابيّ والابتعاد عن أي عرضٍ للمخاطر.
إن منطقتنا العربية هي منطقة فقر مائي، كمصر وتونس وكذلك لبنان. هذا بالإضافة إلى وجود زيادة سكانية كبيرة تعتمد على استخدام الموارد. في مصر، التي تخطى عدد سكانها 98 مليونًا، تشهد تركّزًا سكانيًّا كبيرًا في القاهرة الكبرى، أي تركّز سكاني في مساحةٍ قليلة يتوازى مع معدل فقر مرتفع. خلال خمسين عامًا، تم بناء خمسين مدينة جديدة، وقد بُنيت هذه المدن من خلال أربعة أجيال تنتهي بالجيل الرابع، الجيل الحالي. ومع هذا الجيل بُني أكبر عدد من المدن الجديدة، وهذا يشمل مدن الظهير الصحراوي، ومعظمها مشاريع إسكان حكومي. حتى الآن تنتج مصر بشكلٍ متزايد يؤدّي إلى وجود فائض وذلك من خلال اتّجاه الدولة نحو توجيه الاستثمارات في هذه العقارات تحديدًا، فيما يخص الإسكان الحكومي. وهنا مدخل حقوقي يجب التركيز عليه، إذ من الضروري وجود عدالة في توجيه الاستثمارات للأكثر احتياجًا.
أجيال المدن الجديدة وآثارها العمرانية والبيئية وكيف تعمق من اللامساواة (مصر).
بين عامَي 2006 و2017 شهدت القاهرة ازديادًا سكانيا بإجمالي 4.9 مليون ساكن، بلغ منهم نصيبُ المدن الجديدة الكبرى 696 ألف ساكن، أي 14% فقط من زيادة التعداد، وذلك على الرغم من المساحة الكبيرة لهذه المدن. تستهدف المدن الجديدة بشكل أساسي أصحاب الدخل فوق المتوسط، وهو ليس نموذجًا ناجحًا للبناء عليه لأنه لم يلعب دوره في إتاحة السكن لشرائح أكبر من المجتمع، خصوصًا ذات المداخيل الأقلّ، مع ما يحمله هذا من تعميقٍ لعدم المساواة وإتاحة خدماتٍ للمدن الجديدة وأصحاب المداخيل ما فوق المتوسطة على حساب الأقل دخلًا.
على المستوى البيئي، أشار “مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار في مجلس الوزراء” في عام 2012، أي قبل إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة ومشاريع الإسكان الكبرى، إلى أن نسبة مخلّفات البناء الصادرة عن القاهرة فقط قد بلغت 87% من أصل 41.7 مليون طن سنويًّا. يمكن تخيّل مدى ضخامة هذا الرقم بالمقارنة مع مخلّفات المنازل (13.5 مليون طن سنويًّا) والمخلّفات الزراعية (15,2 مليون طن سنويًّا). واليوم، بعد ثمانية أعوام على صدور التقرير وإنشاء العاصمة الجديدة وخلافها، يمكن بسهولة مضاعفة رقم مخلّفات البناء هذه. هذا بالإضافة إلى استهلاك المدن الجديدة كمية ضخمة وغير معقولة من المياه.
أثر المشروعات الكبرى على البيئة وجدواها الاقتصادية (مصر)
هناك حاجة شديدة اليوم إلى مناقشة جدوى هذه المشاريع بيئيًّا واقتصاديًّا. ما بين المدن الجديدة الأربع والعشرين من الجيل الرابع، تم التركيز على ست مدن، وكأنّ اقتصاد الحكومة تغيّر فجأة فلم نعد نسمع عن بعض المشاريع التي كان الغرض منها تنمويًّا على مستوى الزراعة وغيرها، وبدأ التوجيه نحو مشاريع المدن الكبرى الجديدة الست، وتحديدًا العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة. وتوحي التصميمات الأولية التي تستخدمها الدولة في التسويق لمشروع المدن الكبرى الجديدة بتجاهل البعد البيئي، واستخدام حجم كبير من الطاقة لتشغيل وتكييف تلك المباني. في العلمين الجديدة مثلًا لا تقتصر الحاجة على إجراء تقييم بيئي عام، بل هناك حاجة إلى دراسة التنوع البيولوجي الذي شهدته المنطقة والعلاقة بين فكرة البنية التحتية القريبة من البحر وغيرها من الأمور. وهناك تخوّف شديد من أنه قد يصل إلى الدلتا بعض الكوارث كبور الأراضي وصولًا إلى الغرق، وسواءً أُثبتت صحّة أو إمكانية حصول هذه الكوارث أم لا، هناك مخاطرة كبيرة في اتخاذ قرار إنشاء مدينة في هذا المكان.
شمولية مدخل العمران الذي طرحه ابن خلدون كمدخل للربط بين قضية العدالة الاجتماعية والبيئة.
يفسّر ابن خلدون أنّ اجتماع البشر على رقعة اجتماعية وتعاونهم هو الذي يخلق فائضًا في الاقتصاد وكسبًا يمكن أن يتطوّر إلى رفاهٍ وترف. وفي بعض الأحيان، يصبح هناك احتكارٌ يؤدّي إلى عدم تقاسم الثروة بشكلٍ عادلٍ بين البشر الساكنين في الرقعة نفسها. ولكن عندما تتعزّز المنطقة، تتعدّد الاختصاصات وتبرز المدينة، ويصبح هناك عمران بدوي وعمران حضري، والعمران البدوي يتطوّر إلى عمران حضري. إلا أنّ مصطلح “العمران” بحد ذاته يستعمله ابن خلدون لكلّ ما يعمّر الأرض وليس فقط المدن. بهذا المعنى، يكون مصطلح العمران واسعًا وشاملًا، الأمر الذي ينوّع الملكية وحق استعمال الأرض. وتكمن الفكرة المهمة في الاجتماع والتعاون من أجل خلق اقتصاد معيشي، لا اقتصادًا ربحيًّا أو احتكاريًّا أو اقتصادًا يخلق فائضًا كبيرًا من الكسب لكن لا يخلق أرزاقًا.
– المصارف والاستثمارات في العقارات واحتكار الأراضي وقطاع البناء في تونس. الرابط بين النمط/المنوال الاقتصادي والاستثمار في مواد البناء غير المستدامة بيئيًّا.
نحن بحاجة اليوم إلى التفكير بطريقة مختلفة لتخطيط المدن والاقتصاد في الوقت نفسه. تونس العاصمة موجودة في أكثر المناطق الفلاحية الجيدة في البلاد، فالأراضي الفلاحية الموجودة فيها من أخصب الأراضي، كما أنها منطقة تشهد أمطارًا كثيرة. وعلى مدى السنوات الطويلة، شهدت العاصمة نزوحًا كبيرًا من المناطق الداخلية نحوها، الأمر الذي يفسره المنوالُ الاقتصادي التونسي الذي يقوم على تفقير الأرياف والاستثمار في السواحل، وقد شهدنا هذا النمط منذ فترة الاستعمار الفرنسي. ومنذ تلك الفترة، واصلنا المنوالَ الاقتصاديَّ نفسه الذي عمل على إفراغ الريف من السكان وخلقِ مدنٍ ساحليّة امتدّت على المناطق الفلاحية المجاورة والتهمت كمًّا كبيرًا من الموارد الترابية والمائية، فبالنظر إلى تطور العمران المبني في العاصمة، نلاحظ كيف توسّعت المدينة على حساب البيئة والقطاعات المنتجة الأخرى كالفلاحة والغابات وغيرها. ولم يكن هذا التمدّد العمراني بفعل تخطيطٍ قامت به الدولة، بل بفعل العمران غير المهيكل، أحياء شعبية تكبر مع كلّ أزمة اقتصادية، وهي موطن الاقتصاد غير المهيكل. ومع الوقت، تقلّص دور الدولة في مسألة السكن الاجتماعي والبنية التحتية وتأهيل المدن.
وأمام هذه الصورة، من الضروري تأكيد أهمية وجود توازن في المجال العمراني ليس فقط في المدينة، بل بين المدن والأرياف. فمن ناحية الاقتصاد أو العمران، نصف حلّ الإشكالية الموجودة في المدن نجده في الريف.
وفيما يخص مسألة العمران كمدخل للعلاقة بين الاقتصاد والبيئة. إن قطاع البناء قطاع اقتصادي يحتاج إلى موارد، والمورد الأساسي للبناء هو الأرض. وتخلق مسألة احتكار الأرض استغلالًا لأراضٍ غير مهيأة. والعلاقة بين المنوال الاقتصادي ومنوال البناء متماسكة، فمنوال البناء المستعمل في تونس هو الإسمنت والحديد والآجر/الطوب الأحمر، وهذه قطاعات استخراجية وصناعية ملوِّثة جدًّا. والمنوال الاقتصادي هو الذي يجعل المواطن التونسي شبه محتّم عليه أن يستعمل هذه المواد للبناء، ذلك أنّ الحرفيين الذين يستعملون بقية المواد الطبيعية كالحجر والطوب أصبحوا قلّة، لذا أصبح هناك مشكلة في البناء، وهذا يسبّب أيضًا مشكلة في المنوال الاقتصادي. على المستوى البيئي، يؤدي هذا إلى استعمال مكثف للإسمنت، وهو مادة غير قابلة لإعادة الإدارة، كما هو الحال مع الحجر والطوب مثلًا.
أما فيما يخص مسألة المصارف والاستثمار في البناء وتمويل هذا القطاع، فقد جعلت السياسات الليبرالة قطاعَ البناء يعتمد بشكل أساسي على الاسثتمار الأجنبي، ويعني الأخير مؤسسات مالية عالمية تستثمر في البنى التحتية، ما يجعلنا أمام مسألة الديون التي تفرض نفسها.
قضية الرأسمالية وأثرها على الاستدامة البيئية واللامساواة في المدينة (نموذج مدينة دبي وتبنيه في مدن عربية أخرى)
على المستوى البيئي، نموذج دبي فاشل جدًّا. ما حصل مطلع التسعينيات، أنّ قرارًا صدر لتحويل الإمارة القليلة الموارد إلى إمارة تملك دخلًا ثانيًا، استقطاب سياحي – سياسي مع مردود اقتصادي لا أكثر. إن ما حصل مع دبي أو غيرها من دول مجلس التعاون الخليجي هو تقديم بعض الدراسات التي تخصّ مردود البيئة أو دراسات المردود البيئي، ولم تكن هذه الدراسات يومًا صادقة بل كانت خاضعة لمنظور الشخص الذي يطرحها، ولا توجد أي دراسة لتقييم دورة الحياة البيئية. وكذلك الأمر في مصر، فالشركات المصرية لم تقدّم دراسات تقييم دورة حياة، بل قدمت دراسات مردود بيئي. وبما أن التركيز الأساسي هو على علاقة البيئة مع الاقتصاد، فهذه النماذج قد تكون على المستوى الاقتصادي ناجحة، لكنّها بيئيًّا تحمل آثارًا شديدة. ويبقى السؤال الأساسي: هل تمّ خلق فرص عمل جديدة مع تلك الشركات؟ هذا أمرٌ مستبعد، فأغلب الظن أن هذا يكون subcontract لا ولا يؤدّي إلى خلق وظائف جديدة لمصر أو لشركاتها الوطنية.