الفن والسياسة في المنطقة العربية:

محاولة في فهم العلاقة الجدلية

زينب سرور

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [0.97 MB]

مقدمة وخلفية:

لطالما كانت العلاقة بين الفن والسياسة محلّ بحث وتحليل من قبل العاملين في الفن بمختلف صوره ومتفرّعاته، وأيضًا من قبل الباحثين في العلوم الاجتماعية وأيضا الأنظمة الحاكمة والسياسيين. ويرجع هذا إلى العديد من التساؤلات حول التأثير الذي تخلّفه السياسة في الفنون، ومن الناحية الأخرى إلى كيفيّة تأثير الفنون في السياسة وما مستويات هذا التأثير.

المساحات الفنية كمساحات سياسية

ليس النّقاش حول مدى وجود علاقة ترابطيّة بين الفنّ والسياسة والمجتمع جديدًا. فالمذهب البرناسيParnassianism/ Parnassism على سبيل المثال، الذي ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان من دعاة الفصل بين الأدب والقضايا الاجتماعية والسياسية والامتناع عن استعماله لعلاج تلك القضايا، ثمّ تطوّر نحو مذهب الفنّ لأجل الفنّ، والذي يرى أنّ الأدب ينبغي أن يُنتج بعيدًا عن الاعتبارات الوطنيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وقد عارضت هذه الحركةُ: الذاتيةَ والاشتراكيةَ الفنية. على أنّ الحجة الحاسمة لإمكانية وجود فنّ مرتبط مباشرةً بالسياسة ليست ذات طبيعة نظريّة، بل متعلّقة بالممارسة العمليّة. فمن المعروف عبر القرون وفي العديد من البلدان، أن الكثير من أقوى الأعمال الفنية، في المجالات المختلفة من الفنون قد استلهمت الأحداث السياسية وتعرّضت بشكل مباشر لموضوعات سياسية،1 ولنا في الفنّ التشكيلي والأدب والموسيقى والرسم والنحت أمثلةٌ كثيرة.
تاريخيًّا، يرجع الذهابُ في العلاقة بين السياسة والمجتمع والفنون إلى أبعد من ذلك، وهو يندرج أيضًا ضمن إطار العلاقة بين الفنّ والدّين والمؤسّسات الدينيّة والعسكريّة والجيوش. يفيد هنا ضربُ مثالٍ عن الفرق العسكريّة الموسيقيّة، فأغلب الظن أنّ أقدم فرقة عسكريّة موسيقيّة يرجع إلى فترة نشوء السلطنة العثمانية، وقد أهداها السلطان السلجوقي علاء الدين كيقباد إلى مؤسّس السلطنة السلطان عثمان الأوّل، وقد أثّر هذا النوع من التّأليف الموسيقيّ، وهو بطبيعة الحال أحد أدوات توسّع السلطنة، على أنواع موسيقية غربيّة كبعض معزوفات لودفيج فان بيتهوفن على سبل المثال لا الحصر، “The Turkish March (Marcia alla turca)” مثلاً، وكذلك الأثر الذي تركته على الموسيقى في بلاد الشام.

في إطارٍ مشابه، أولت الدولة السوفياتيّة الوليدة اهتمامًا بالغًا للفنّ والموسيقى، والسينما تحديدًا، والتي قال في معرضها قائدُ الثورة البلشفيّة فلاديمير لينين من بين كلّ الفنون، الأكثر أهمّية لنا هو السينما2. وقد طغت ثلاثة تيّارات ثقافيّة متداخلة على السنوات الأولى من الثورة الروسيّة: الطليعيّة والمستقبليّة والبنيانيّة. ظهرت النزعة المستقبليّة الروسيّة بوحيٍ من سابقتها الإيطاليّة التي نشأت مع بداية القرن العشرين وتميّزت بشغفها بنتاجات العلوم والصناعة والحداثة. وقد مجّدت السرعة والتكنولوجيا وآمنت بالشباب وعبدت العنف وكرهت كلّ قديمٍ ودعت إلى القَطع مع الماضي ومع السلوك السويّ والذّوق السائد. إلّا أنّ المستقبليّة الروسيّة تفارقت كلّيًّا مع المستقبليّة الإيطاليّة بأنّها التزمت الشيوعيّة ندًّا بل نقيضًا للفاشيّة التي تبنّتها نَظيرتها الإيطاليّة،3 والبنيانيّون، على سبيل المثال، اهتمّوا على نحوٍ خاصّ بالرّبط بين الفنّ والإنتاج الصناعيّ. ورأوا أنّ الفنّ الجديد يجب أن يستوحى نبض الإنتاج الصناعي. وعملوا على إسهام الفنّ في الصناعةكما التزموا بالثورة وقد أسهموا في الحملة الدعائية البلشفيّة، فصمّموا ونفّذوا ملصقات ولَوحاتٍ دعائية ملوّنة“.4 ثمّ لاحقًا على سبيل المثال العلاقة التي جمعت جوزف ستالين بالمؤلّف الموسيقي ديمتري تشوستاكوفيتش، والتي شابها الكثير من الاضطراب.

شهد العالم العربيّ كذلك علاقةً وثيقةً بين النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفنية، والأمثلة كثيرة، من تجربة سيد درويش والشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وعلاقتهما بالحركة الجماهيرية والطلابية والشعبية في مصر، والرحابنة في لبنان. أما المتأمّل في تاريخ المجتمع التونسي يلاحظ حتمًا مدى حضور السياسة في الموسيقى والذي يبدو جليًّا في مضامين بعض الأغاني التي ردّدها المجتمع كردّ فعلٍ على ممارسات الظلم والقهر والاغتصاب المادي والمعنوي التي مارستها عليه قوى سلطويّة دخيلة. فالذاكرة الشعبية التونسية تحمل الكثير من الأغاني التي مازال الكثير منها يردّد إلى يومنا هذا وإن كانت قد تأثرت نوعًا ما بفعل الزمن والتواتر الشفوي إلا أنّها مازالت تحمل أبعادًا وإشارات سياسية صريحة، وتكشف أحداثًا وممارسات مختلفة“.5

وقد استمرّ تطوير الفن المنخرط اجتماعيًّا بكثافة أكبر منذ أوائل التسعينيات. وهنا أضحى النشاط الإبداعي على وجه الخصوص في السنوات الأخيرة الموضوع المحبّب لعالم الفنّ جنبًا إلى جنب مع موضوعات الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة التي لا حصر لها. فأينما كنّا، في ميدان التحرير، السوكوتي، السینتاجما، تقسيم أو في ساحة الميدان، أمام قصر الكرملين، في اليابان بعد فوكوشیما، وسط الفنّ المعماري الأيقوني لبرازیلینا أو تحت المظلات في هونج كونج: الفنانون دومًا أول من يشارك“.6

دور الفنون في لحظات تاريخية محدّدة وما تكشفه عن المجتمع

عند دراسة فتراتٍ تاريخيّة محدّدة، تحتلّ الفنون أهميّةً كبيرةً إذ أنها تكشف الكثير عن المجتمعات وكيفية تطوّرها وتغيّرها. ويمكن القول إنّ الحروب والثورات، سواءً العسكريّة منها أو الصناعية، وكذلك الغزوات الاستعمارية، من أكثر اللحظات التاريخية التي تلعب فيها الفنون أدوارًا مختلفةً وبارزة، إذ تُرافقُ هذه الحقبات متغيّراتٌ سياسيّة واقتصادية واجتماعية وثقافية كثيرة، تصاحبها تغيّراتٌ في الموروثات والعادات والتقاليد تنتج في جزءٍ منها بفعل تمازج الشعوب وكذلك في سيطرة أيديولوجيات جديدة على مقاليد الحكم وغيرها، فتتمظهر من خلال المسرح والسينما والرسم والنحت والملصقات والموسيقى والأدب والشعر وشتّى أنواع الفنون.

كثيرة هي الأمثلة التاريخية التي يمكن ضربها هنا، فالملصقات السوفياتيّة، على سبيل المثال، التي ظهرت بعد انتصار الثورة البلشفية ووقوع حربٍ في روسيا القيصرية وما تلاها من مناوشاتٍ بين الجيش الأحمر من جهة، والمحافظين الديمقراطيّين واليساريّين المعتدلين والقوميّين الانفصاليّين والروس البيض من جهة أخرى، انعكست من خلالها أيديولوجيا البلاشفة وتوجّهاتهم والتحولات التي قامت واستمرّت بالتغيّر والتحول فترةً طويلة في البلاد. ويظهر في هذه الملصقات مثلاً التحوّلُ الذي ظهر في صورة المرأة السلافيّة إذ هشّم قائد الثورة فلاديمير إلييتش الصورةَ التقليديّةَ للمرأة السلافيّة في روسيا القيصريّة، التي كانت قد ظهرت بالفعل على عددٍ من الملصقات الموجّهة أثناء فترة الحرب العالميّة الأولى أو ما سبقها من إعلانات بصورة امرأة ارستقراطيّة ذات أناقة باريسيّة،7 ما يعكس جانبًا من جوانب التحولات الجذرية التي بدأت تنحاها المجتمعات.

ومن الأمثلة التي يمكن تقديمها هنا والمرتبطة بالحروب أيضًا، البروباغندا التي انتهجها المتحاربون خلال الحرب العالمية الثانية واستخدموا لغايتها كلَّ أنواع الفنون، من الملصقات إلى السينما والمسرح والرسم والأدب والشعر. وتكاد الأمثلة هنا لا تُعدّ ولا تُحصى، من الدعاية النازية إلى حرب الملصقات التي انتهجها كلٌّ من الجيش الألماني والبريطاني على سبيل المثال، خصوصًا في النّزاع على التفوّق العسكري وتصنيع الأسلحة، وتحديدًا الجوّية منها، وما صاحبهما من دعايةٍ هائلة رافقت المعارك، وحتّى سبقتها8. وكذلك الملصقات الأميركية الموجّهة ضدّ اليابان والتي صُوّر فيها اليابانيون على أنهم قبيحون أشبه بالجرذان، والدعاية السوفياتيّة وغيرها الكثير من الأمثلة.

عربيًّا أيضًا تكشف الفنون الكثير من التحوّلات والتغيّرات التي طرأت على المجتمع خلال فتراتٍ تاريخية معينة. فعلى سبيل المثال، مع بزوغ القرن العشرين، أضحت بيروت مركزًا ثقافيًّا ومدينة كوزموبوليتانية منفتحة أكثر فأكثر على الغرب وتكوّنت تدريجيًّا طبقة وسطى مدنيّة وعصرية مؤلّفة من مثقّفين ومتعلّمين، تجّار وموظّفين، تبلورت لاحقًا في عهد الانتداب الفرنسيّ وأصبحت ذات تأثير واضح في الحياة اليوميّة البيروتيّة. تكوّنت هذه الطّبقة من رجال ونساء متعلّمين يتشاركون مستوىً اقتصاديًّا وثقافيًّا مماثلاً ونمطَ حياة مرتبطًا بالتسلية والترفيه.. مع ظهور هذه الطبقة الجديدة وزيادة النفوذ الأوروبيّ، شهدت بيروت افتتاح حانات ومطاعم ومسارح ومقاهي غناء جديدة، استقدمت الفرق المصريّة والراقصات العربيّة والأجنبيّة.. وقد شكّل مجيء الفرنسيّين بعد الحرب العالميّة الأولى نقطة مفصّلية، إذ شهدت العشرينيّات والثلاثينيّات تغييرًا جذريًّا لأنماط التّسالي تزامَنَ مع كافّة التغييرات الاجتماعيّة والسياسيّة التي شهدتْها البلاد، وذلك نتيجة الاختلاط بالأجانب والسّعي إلى تقليدهم“.9

دور الفنون في إعادة إنتاج الطبقة والمكانة؛ وكيفية انعكاس التفاوت الاجتماعي الحالي على الفنون

لطالما احتلّ النّقاش حول الربط بين المنتجات الثقافية أو النمط الثقافي للمجتمع وبين مالكي وسائل الإنتاج حيّزًا كبيرًا، أي العلاقة المتبادلة بين الفنّ، بصفته جزءًا من النظم الثقافيّة والفكريّة وأعلى شكل مميّز للنشاط الجمالي في المجتمع والذي يتضمّن الأدب والرسم وفنون العمارة والفنون التطبيقية والسينما والمسرح والإعلام10، وبين الطبقة الاجتماعيّة. فمن أطروحات ميشال فوكو الذي رأى أنّ للخطاب، (النظم الفكريّة والأيديولوجيّة) أي البنية الفوقيّة المكوّنة للوعي الاجتماعي، وهو أبرز المفكّرين الذين تناولوا هذا المفهوم، سطوة على القاعدة الاقتصاديّة، إلى مدارس فكرية أخرى على رأسها الماركسيّة التي اعتبرت أنّ تشكّل الخطاب والوعي والثقافة، ومنها الفنون، هو نتيجة للقاعدة الاقتصادية وفيه تنعكس أيديولوجيا الطبقة السائدة. بمعنى أنّ الطريقة التي ينظّم بها المجتمع أدوات إنتاجه الاقتصاديّ سيكون لها تأثير حاسم على نمط الثقافة التي ينتجها المجتمع أو يجعل إنتاجها ممكنًا“. وليس النقاش محصورًا في الفضاء الفكري، فالفنون مساحة يعبّر من خلالها الأفراد عن أفكارهم واحتياجاتهم ورغباتهم واعتراضهم وأزماتهم، أي أنها نمط حياة، وبالتالي قد تضحي بحدّ ذاتها مساحةً للنضال، والنضال الطبقي على رأسه.

تأثير النماذج النيوليبرالية للمؤسسات والمنظمات على الفنون

إننا نعيش في عالمٍ يحرّكه السوق من الرابحين والخاسرينلقد شجّعتنا الأيديولوجيا المنتشرة على عدم رؤية الأفراد كمجتمع، على التفكير بالمنافسة على أنها أمر طبيعي والتأكيد على النمو مهما كان الثمن. ما الضرر الذي أحدثه هذا على الإبداع؟“.11 يتمظهر تأثير النماذج النيوليبرالية للمؤسسات والمنظمات في العديد من الأشكال من المهرجانات التي يبدو أنها تركّز على زيادة مبيعات التذاكر وأرقام السياحة أكثر من تركيزها على رفاهية الفنانين المشاركين فيها، إلى الادعاءات أنه سيكون هناك دائمًا رابحون وخاسرون في الفنون“.12 لقد أدّت النماذج النيوليبرالية إلى تشويه الوعي الجمالي الفني، وهو ما ينعكس تشويهًا بشكل عميق على وعي الإنسان لأهدافه في خصوصيتها الفردية وعموميّتها الاجتماعية التي تفترض أنه القوة الدافعة الأساسية لمجمل العملية الاجتماعية وبناها الفوقية التي تقع ضمنها الثقافةالفن. وهو ما يؤدي أخيرًا إلى صدّ تشكيل وعي فني ثقافي جذري، ويمنع وجود رواد فنيين ضمن مجتمعاتهم للنضال ضد إيديولوجيا الرأسمال الفاسد بعين الفن الواعية“.13

إمكان وصول مختلف الجماهير إلى الفنون

تحيل هذه الفكرة إلى جملة من العناوين: الثقافة الشعبية، والتي يتمّ تعريفها صراحةً أو ضمنًا مقابل الفئات المفاهيمية الأخرى: الثقافة الفولكلورية، الثقافة الجماهيرية، الثقافة السائدة، ثقافة الطبقة العاملة إلخ. ثم ثقافة النخبة أو الثقافة الرفيعة، وهي كل ما يندرج ضمن إطار المعرفة التي تمتلكها النّخب، سواءً كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية أو أدبية، وهي، أي ما يُصطلح عليه بـ الثقافة الرفيعة، تلك التي لا يقوى العوامُعلى فهمها أو استيعابها وهي التي تقع خارج نطاق اهتماماتهم، وبالتالي تصبح هذه الثقافة عاملاً من عوامل التمايز الطبقي ومعه الفكري.

على أنّ من أبرز الأسئلة الأساسية التي تثيرها الفكرة الآنفة: ما الذي يُمكن اعتباره فنًّا؟ هل يمكن للجميع الوصول إلى مختلف أنواع الفنون؟ ثمّ هل يحقّللجميع الوصول إلى مختلف أنواع الفنون؟ أم أنّ هناك فنونًا تُعتبر حكرًا على طبقةٍ اجتماعيّةٍ دون الأخرى؟ فعلى سبيل المثال في تعريف الثقافة الشعبية أو الفنون الفولكلورية/ الجماهيرية/ أو تلك الخاصة بالطبقة العاملة التي لا تملك أدوات الإنتاج ومنها أدوات الإنتاج الفني، يقول أستاذ الدراسات الثقافية ومدير مركز بحوث الدراسات الإعلامية والثقافية في جامعة سندرلاند في المملكة المتّحدة جون ستوري في كتاب النظرية الثقافية والثقافة الشعبية“: هي الثقافة المتبقّية بعد أن قرّرنا ما هو ثقافة رفيعة. والثقافة الشعبية بهذا التعريف هي فئة متبقّية، موجودة لاستيعاب النصوص والممارسات التي أخفقت في تحقيق المعايير المطلوبة للتأهّل كثقافة رفيعة،14 التعريف الذي أثار جلبةً لجهة رفض هكذا تعريفات والتي تُفضي إلى ضرورة أن تكون الثقافة صعبةً كي تكون حقيقية، ما يعني إحكام سيطرة الفئات القادرة على فهم الثقافات الصعبة أو العليا على تلك الأقلّ قدرةً على تحقيق ذلك.

هل تلعب المساحات الثقافية دورًا في تعزيز ودمج الشباب في المجال العام 

تُعتبر شعوب المنطقة العربية شابة إجمالًا، حيث يشكّل الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و24 عامًا، نحو ربع إجمالي سكّان المنطقة“.15 وقد شهد العقد المنصرم تحوّلًا باتّجاه الاهتمام بالشباب في العالم العربيّ“.16 كما أنّ الشباب لعبوا دورًا حاسمًا وكبيرًا في التحركات العربية خلال السنوات الماضية. وعلى الرغم من دورهم المفصليّ في الأحداث والتغيرات والتحولات، ما زال الشباب لا يشغلون الحيّز الكافي في الحياة السياسية، وتحديدًا على مستوى المشاركة والتمثيل. فعلى سبيل المثال، على الرغم من أنّ الشباب التونسي لعب دورًا حاسمًا في ثورة 2011، إلا أنّ مشاركته في العملية الانتقالية لحالية (2017) لا تزال منخفضة: 6% فقط من الشباب صوّتوا في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، و3% فقط من الشباب والشابات ناشطون في الجمعيات و1% من الشباب هم أعضاء في حزب سياسي“.17 أما في لبنان، الذي شكّل الشباب فيه قوّةً كبيرة خلال الفترة الأخيرة تحديدًا، سواءً في انتفاضة 17 تشرين، أو في أعمال التطوّع والمساعدة بعيد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس، فإنّ المشاركة الشبابية السياسية المباشرة لهؤلاء لا تزال متواضعة. فإذا ما اعتبرنا أنّ الوجه الديموقراطيّ لتلك المشاركة يتمثّل في صندوق الاقتراع، فإنّ سنّ الاقتراع في البلاد ما زال 21 عامًا، على الرغم من المطالبات العديدة لخفضه إلى 18 عامًا.

وعلى الرّغم من أنّ بعض الدساتير العربية يعترف بأهمية الشباب وحقوقهم، كدستور المغرب لعام 2011 الذي ينصّ على إنشاء المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعيّاتي المكلّف بتوسيع نطاق مشاركة الشباب في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للدولة،18 والدستور التونسي الذي ينصّ الفصل الثامن منه على أنّ الشباب قوّة فاعلة في بناء الوطن،19 غير أنّ هذه الضماناتمع ما سبقها من عوامل ديموغرافية ليست وحدها كافية لإشراك الشباب في المجال العامّ والحيّز العام.

لتلك الغاية بشكلٍ أساسيّ، احتاج الشباب في العالم العربيّ إلى مساحاتٍ أوسع من تلك المفروضة عليهم، بنسبٍ متفاوتة، من قبل السلطات، فأتت المساحات الثقافية لتعبّر عن الحاجة إلى تعزيز الدّور والمشاركة والاندماج في الحياة العامّة والمجتمعيّة والتعبير عن الرأي. ليست تلك المساحات جديدة، ولكنّها، وبفعل عوامل مختلفة، داخليّة وخارجيّة، باتت متنوّعة ومتعدّدة ولها أثرٌ كبير لم تكن تعرفه سابقًا. ولمساحاتهم الثقافية أشكالٌ متنوّعة، فمن الموسيقى إلى المسرح والرّسم والجرافيتي والرواية الاجتماعية والسينما دخل الشباب حيّز المجال العامّ. من تلك الأمثلة مثلاً تجارب بعض الفرق الموسيقية كفرقة اسكندريلاالمصرية على سبيل المثال، التي لم تصبح فرقة مشهورة إلا منذ بدايات 2011، عندما حضرت في ميدان التحرير خلال الاعتصام الذي دام 18 يومًا قبل أن يضطرّ (الرئيس السابق) حسني مبارك إلى التخلّي عن منصبه.. وقد اختار حازم شاهين، ملحّن الفرقة وقائدها، كلمات أغلب أغانيها من أشعار فؤاد حدّاد وصلاح جاهين، أيقونتي شعر العامية في مصر، وساهم الطابع الحماسي للكثير من أغاني اسكندريلا في انتشارها جماهيريًّا، على الأخص خلال الفترة من 2011 إلى 2013″،20 وفرقة زقاق المسرحيةاللبنانية التي تأسّست عام 2006 على يد مجموعة من الشباب.. منهم عمر أبي عازار ومایا زبیب وجنید سري الدین وغيرهم، وتتبع أسلوبًا تشاركيًّا في إدارة الفرقة. اتجهت الفرقة منذ بدايتها إلى أشكال مسرحية مرتبطة بالمجتمع مثل المسرح العلاجي ومثل استخدام المسرح في تقديم الدعم النفسي/الاجتماعي لفئات مهمشة أو متضررة، كما عالجت في كثيرٍ من أعمالها موضوعات سياسية،21 وأيضًا مجموعة فني رغمًا عنّيالتي تأسّست كأحد تجليات تأثير الثورة التونسية في الممارسة الفنية، إذ تكوّنت المجموعة من شبابٍ من خارج المركز الثقافي، منهم سیف الدین الجلاصي وعاطف حمداني وحمدي الجویني، يصفون أنفسهم بأنهم أولاد شوارع، ويحرصون في كل أعمالهم على التناقض مع الأشكال التقليدية في إنتاج الفن. وتدخل معظم أعمال المجموعة في نطاق المسرح، ولكن الكثير من أعمالها تعتبر أنشطة سياسية واجتماعية أيضًا. من مبادئ عملهم استخدام الشارع كمسرح ومنصة للنقاش، وكذلك العمل في مناطق لامركزية. لدى المجموعة العديد من المبادرات الفنية/ الاجتماعية الهامة في تونس مثل نحن هناالذي أسّس مساحاتٍ فنية بديلة في المدارس الحكومية في المناطق النائية، ومثل في مواجهة داعشوهو سلسلة من الفعاليات الثقافية الساخرة تقدّم في المقاهي والشوارع“.22
انطلاقًا من النقاط الآنفة الذّكر، إضافةً إلى ما يُعدّ كذلك مادّةً واسعةً للنقاش لم تُعِن المساحة هنا على التطرّق إليه، تظهر أهمية فهم العلاقة الجدليّة بين الفنون والسياسة في المنطقة العربيّة تحديدًا، ومحاولة الوقوف على عمليات التفاعل والتأثير بين العالمينفي ظلّ التغيّرات الكبيرة على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة خلال الأعوام القليلة السابقة للربيع العربي وبعد اندلاع الربيع العربيعام 2010 في تونس وحتى يومنا هذا. وعلى الرغم من ذلك، ومن برهنة هذه الفترة لمحوريّة العلاقة المطروحة، فإنّ الدراسات التي تناولت العلاقة بين الفنون والسياسية خلال هذه الفترة تتّسم بالندرة، الأمر الذي يطرح تساؤلاً نختم به ورقتنا حول ضرورة إيلاء الدراسات والمشروعات أهميةً لهذه العلاقة ودراستها من أوجه مختلفة.

1 جون مولينو، عن السياسة والفنّ، الاشتراكي، 1/ 10/ 2006، https://revsoc.me/arts-and-literature/n-lsys-wlfn/

2 سليم البيك، السينما في الثورة: سيرغي آينشتاين وفنّ المونتاج، مجلة بدايات، 2018، https://www.bidayatmag.com/node/897

3 الثقافة الجديدة: دمقرطة الفنّ وابتكارٌ بلا حدود، مجلّة بدايات، 2018، https://www.bidayatmag.com/node/894

4 المرجع السابق

5 عائشة القلالي، الحياة الموسيقية في تونس قبيل الاستقلال، مجلة الموسيقى العربية، http://www.arabmusicmagazine.org/index.php/ar/2012-03-08-09-21-34/2015-05-02-09-38-53

6 فلوريان مالتساخر، ما الدور الذي يمكن أن يتبوّأه الفن في السياسة؟، Goethe- Institut Libanon، https://bit.ly/2FEJbJm

7 عماد الدين رائف، تحرّر المرأة في الملصق وفي الحياة، مجلة بدايات، 2018، https://www.bidayatmag.com/node/893

8 على سبيل المثال، الاحتدام الكبير بين الطائرتين الشهيرتين ماسرشميت بي أف 109 وماسرشميت 110 الألمانيّتين التابعتين للقوات الجوية الألمانيّة خلال الحرب العالميّة الثانية (لوفتفافه) Luftwaffe من جهة، وطائرة سبيتفايرالتابعة لسلاح الجوّ الملكي البريطاني والتي دُعمت صناعتُها شعبيًّا عبر دمع التبرّعات لها، داخل بريطانيا وخارجها. وقد استُخدمت ماسرشميت خلال الهجوم الألماني على بريطانيا. وقد استفاد الألمان من تجربة المعركة التي هُزموا فيها، وتفوّقت فيها سبتفاير على ندّها، في تحسين ماسرشميت تحضيرًا لمعركة بارباروسّا في وجه الاتحاد السوفياتي.

9 ديانا عباني، طرب بيروت زمن الانتداب بين مشرق ومغرب، مجلة بدايات، 2018، https://www.bidayatmag.com/node/916

10 سلاف صالح، الواقعيّة حاجة للفنّ والمجتمع، مجلّة قاسيون، 12/ 8/ 2019، https://kassioun.org/more-categories/art-and-culture/item/62613-2019-08-12-12-18-38

11 Richard Watts, Freeing the arts from the yoke of neoliberalism, ArtsHub, 18/ 7/ 2017, https://www.artshub.com.au/news-article/features/public-policy/richard-watts/freeing-the-arts-from-the-yoke-of-neoliberalism-254094

12 المرجع السابق.

13 سلاف صالح، مرجع سابق.

14 جون ستوري، النظرية الثقافية والثقافة الشعبية، ترجمة صالح خليل أبو أصبع وفاروق منصور، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، الطبعة الأولى 2014، ص: 22.

15قسم السكان التابع لإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في أمانة الأمم المتحدة. 2019. افاق سكان العالم:  https://population.un.org/wpp/Download/Standard/Population 

16 ميسون سكّريّة، خطاب العولمة وتربية الشبابفي العالم العربي، مجلّة بدايات، 2012، https://www.bidayatmag.com/node/256

17منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، مشاركة الشباب في الحياة العامّة في الأردن والمغرب وتونس، https://www.oecd.org/mena/governance/OECD%20Youth%20Participation%20Arabic%202018%20web%20v2.pdf

18 المرجع السابق

19 المرجع السابق

20 بسمة الحسيني، حال الفنون، جدلية، 15 فبراير/ شباط 2018، https://www.jadaliyya.com/Details/35206

21 المرجع السابق

22 المرجع السابق.

Start typing and press Enter to search