الجزائر ,السودان ,العراق ,لبنان
جورج فهمي
باحث مشارك في منتدى البدائل العربي تتركّز أبحاثه على القوى الدينية في مرحلة الانتقال الديمقراطي، والتفاعل بين الدين والدولة في مصر وتونس، والأقليات الدينية في مصر وسورية. وقد حصل فهمي على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من الجامعة الاوربية في فلورنسا عام 2013.
نشر هذا المقال أولاً باللغة الإنجليزية على موقع معهد تشاتام هاوس Chatham House: https://bit.ly/36UfqNU
استفادت الموجة الثانية من الانتفاضات العربية التي بدأت في السودان في ديسمبر من العام الماضي وامتدت إلى الجزائر ولبنان والعراق هذا العام، من تجارب الموجة الأولى من الربيع العربي بأخطائها وإنجازاتها. تعلم متظاهرو هذه الموجة الجديدة خمسة دروس اساسية من تجارب التحول السياسي في 2011.
الدرس الأول هو أن الإطاحة برأس النظام لا يعني أن النظام السياسي قد سقط. فبينما احتفل المتظاهرون المصريون في ميدان التحرير في 11 فبراير 2011 بقرار حسني مبارك التنحي عن السلطة، معتقدين أن استقالته كافية لفتح الطريق امام تحول ديمقراطي، استمر المتظاهرون في السودان والجزائر، في التظاهر بعد استقالة عبد العزيز بوتفليقة وإطاحة الجيش بعمر البشير. فهم المتظاهرون في كل من البلدين هذا الدرس الذي مفاده أن النظام السياسي لا يعني رأس الدولة فحسب، بل يقوم اولا على القواعد التي تحكم المجال السياسي. استنادا الى ذلك، يتطلب التغيير السياسي تغيير قواعد اللعبة السياسية، وليس فقط أسماء المسؤولين عن تطبيقها.
الدرس الثاني هو أن اللجوء إلى العنف هو أسرع طريقة للقضاء على أي فرصة في التغيير الديمقراطي. يقدم المتظاهرون الذين قرروا حمل السلاح فرصة ذهبية لأنظمتهم لكي تقوم بإعادة توصيف الانتفاضات السياسية باعتبارها حروب أهلية وليس ثورات للمطالبة بالحرية والكرامة، كما هو الحال في سوريا. حتى عندما تنجح الجماعات المسلحة في إسقاط النظام، فإن وجودها ذاته يعرض المرحلة الانتقالية للخطر، كما هو الحال في ليبيا. فعلى الرغم من استخدام القوى الأمنية للعنف والقمع في كل من العراق والسودان، لايزال المتظاهرون ملتزمين بنهجهم السلمي. في السودان، ردّ المتظاهرون على مذبحة القيادة العامة للقوات المسلحة في 3 يونيو من خلال تنظيم مظاهرة حاشدة في 30 يونيو، وهو ما اجبر المجلس العسكري على استئناف المحادثات مع القوى الثورية.
الدرس الثالث هو أنه بمجرد سقوط النظام القديم، يجب أن تكون عملية اتخاذ القرار خلال الفترة الانتقالية بشكل توافقي. تجربة تونس بعد 2011 هي مثال ايجابي على ذلك، حيث ضمت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، التي صاغت المسار المخطط للانتقال السياسي بعد 2011، ممثلين من مختلف الأطياف السياسية والمجتمع المدني. لن تتوقف المؤسسة العسكرية في كل من الجزائر والسودان عن لعب دور سياسي في أي وقت قريب، لكن هذا لا يعني ممارستها للسيطرة الكاملة على الفترة الانتقالية. يقدم للسودان مثال إيجابي في هذا الصدد ضمن تلك الموجة من الثورات العربية، إذا نجح في الوصول الى اتفاق لتقاسم السلطة، يتولى بموجبه مجلس سيادي مدني – عسكري مشترك الحكم خلال الفترة الانتقالية.
الدرس الرابع هو أن المسار السياسي يجب أن يبدأ اولا بالاتفاق على قواعد اللعبة السياسية قبل الشروع في تنظيم الانتخابات. في مصر بعد عام 2011، ساهمت الهرولة نحو الانتخابات في اذكاء الخلافات بين قوى المعارضة السياسية وكذلك زيادة الاستقطاب بشكل كبير داخل المجتمع. في هذه الموجة الثانية، اعتبر المتظاهرون الانتخابات بمثابة فخ يمكّن الأنظمة القديمة من إعادة إنتاج نفسها من خلال أسماء جديدة. في كل من الجزائر والسودان، رفض المتظاهرون محاولات الجيش إجراء الانتخابات مباشرة عقب الإطاحة ببوتفليقة والبشير. في السودان، أجل الاتفاق بين القوى الثورية والمجلس العسكري الانتخابات إلى ما بعد نهاية فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات. في الجزائر، يخرج المحتجون إلى الشوارع كل يوم جمعة للتظاهر ضد قرار السلطات إجراء انتخابات رئاسية في ديسمبر.
الدرس الخامس والأخير هو أن الدعوة إلى التغيير في المنطقة تتجاوز المطالبة بالديمقراطية الانتخابية وتمتد إلى المطالبة بإصلاحات اجتماعية اقتصادية عميقة. يظهر هذا الامر في كل من العراق ولبنان بوضوح: حيث يعرف كل من البلدين بالفعل انتخابات دورية تتصف بقدر كبير من الحرية والنزاهة، الا ان تلك الانتخابات عملت على تعزيز فساد النظام السياسي الطائفي في كل من البلدين. وفقًا للدورة الخامسة من البارومتر العربي 2018-2019، فان الوضع الاقتصادي والفساد هو التحدي الرئيسي للجزائريين (62.2٪) والسودانيين (67.8٪) واللبنانيين (57.9٪) والعراقيين (50.2٪)، بينما الديمقراطية تعتبر التحدي الرئيسي فقط ل 2.3 ٪، 3.9 ٪، 5 ٪ و1.4 ٪ على التوالي. أظهرت تجربة الربيع العربي الاولى أن الاليات الديمقراطية ليست سوى وسيلة لتحقيق غاية، وليست هدف في ذاتها.
على عكس الحال في 2011، عندما تمتعت ثورات الربيع العربي بدعم دولي واسع النطاق، فإن هذه الموجة الثانية تأتي في بيئة إقليمية ودولية غير مواتية في ظل وجود روسي وإيراني قوي في المنطقة ومناخ دولي غير مبال. ولكن ما يميز هذه الموجة هو قدرتها على التعلم من التجارب التي سبقتها، وتكييف استراتيجيتها طبقا للدروس المستفادة من تجارب الربيع العربي قبل ثمان سنوات.