أزمة الإعلام في العالم العربي مركبه وتعكس في جانب منها غياب المهنية والقواعد القانونية، ومن جانب آخر غياب الديمقراطية السياسية، إلا ربما حالة تونس التي بدأت عملية تحول ديمقراطي رغم الصعوبات، فبقيت مشاكل الجانب الأول (المهني) دون أن تختفي تماما مشاكل الجانب الثاني (السياسي).
وإذا أخذنا حالة مصر كنموذج فسنجد أن خريطة الصحافة والإعلام عرفت في البداية انقساما بين صحافة وإعلام مملوك للدولة وآخر مملوك للقطاع الخاص بعد تراجع الصحافة الحزبية، وأصبحت قضية القواعد المهنية المنظمة لعمل الإعلام والصحافة ضرورة وفق معايير تختلف عن الطريقة التي تم بها اختيار أعضاء المؤسسات المنوط بها تنظيم الإعلام في مصر.
وهي: المجلس الأعلى للإعلام، والهيئة الوطنية للصحافة رغم أنها تضم كثير من الشخصيات التي تتمتع بالسمعة الطيبة والكفاءة المهنية في تخصصاتها الصحفية.
ويمكن وضع معيارين مهمين لعمل المؤسسات المنظمة للإعلام والصحافة في مصر:
المعيار الأول: إرادة إصلاح المؤسسات الصحفية والإعلامية العامة
حين تخسر المؤسسة الصحفية الحكومية الأكبر في مصر وهي الأهرام ما قيمته 70 مليون جنية شهريا قيمة العجز بين الإيرادات والمصروفات تصبح هناك مشكلة متفاقمة نتيجة غياب الإرادة المهنية والسياسية في إجراء إصلاحات جراحية حقيقية لكل المؤسسات الحكومية.
واللافت أن تجربة النظم السياسية المصرية مع الإعلام الرسمي أو القومي كما يوصف، اعتادت أن تتجاوز عن سوء إدارة المؤسسات الحكومية لعقود طويلة رغم بعض محاولات الإصلاح الخجولة مؤخرا. لتتحكم فيها، بل هي على استعداد -رغم الظروف الاقتصادية الصعبة- أن تضخ المزيد من المساعدات المادية لتحافظ على تبعيتها للنظام السياسي، حتى لو أرادت من ناحية أخرى تخفيف العبء عليها والتصدي للتسيب، أو بالأحرى هي تحاول الحفاظ عليها من الانهيار… فتسمح بحجم الإصلاحات الذي يبقي هذه المؤسسات على قيد الحياة، دون أن تصل بها إلى أن تصبح مؤسسات عامة مرتبطة بالدولة المحايدة لا النظام السياسي المنحاز، وتقدم خدمة عامة للجمهور وغير موجهه.
ولعل من المهم البدء في إصلاح مؤسسات الصحافة المكتوبة، نظرا لعددها وتكرار نفس المحتوى للعديد من إصدارتها والحالة المتدهورة التي أصابت كثير منها.
أما إصلاح التليفزيون الذي يعمل فيه ما يقرب من 45 ألف شخص يحتاج إلى إجراءات أطول وأكثر تعقيدا وإلى إصلاح جراحي يجب أن يشمل الصحافة والتليفزيون العام بالتوازي لأنه قبل إنشاء قنوات جديدة تابعة للدولة في صورة قنوات خاصة ولكن تديرها أجهزة الدولة، كان لابد من البدء في إصلاحات متدرجه (لم تبدأ بعد)، على المستوى الإداري والمهني.
يجب على المجلس الأعلى للإعلام أن يمتلك تصور متكامل لإصلاح للتليفزيون الحكومي والصحافة الحكومية على السواء، عن طريق خطة عمل واضحة ومحددة بتواريخ ودراسات جدوى وبدائل للعمالة الزائدة وأفكار جديدة لتطوير المحتوي والخط التحريري خاصة في ظل منافسة شرسة للقنوات الخاصة بالنسبة للتليفزيون، والمواقع الإلكترونية بالنسبة للصحف الحكومية التي لازالت تعتمد على النسخة الورقية.
المعيار الثاني إدارة شفافة للصحافة والإعلام الخاص
كثر الحديث في الفترة الأخيرة في مصر عن المالك الحقيقي للعديد من القنوات الخاصة التي تم شرائها من قبل رجال أعمال أو تم تأسيسها بأموال خاصة وهي مرتبطة بالدولة (مثل قناة DMC)، وبالتالي أثير لغط كبير حول من هو المالك الحقيقي للعديد من القنوات الخاصة التي تم شرائها مؤخرا، وهل سيتم التعامل معها باعتبارها قنوات عامة مملوكة للدولة أو قنوات خاصة مملوكة لرجال الأعمال الذين اشتروها؟ في ظل غياب الشفافية، وعدم معرفه ميزانيتها الحقيقة وهل تحقق أرباح أم خسائر ومن يتحملها.
والحقيقة أن معضلة الإعلام تعقدت بعد ظهور وافد جديد على الساحة الإعلامية فلم تعد فقط تتعلق بإعلام حكومي مملوك للدولة وإعلام خاص مملوك لرجال أعمل ومؤسسات خاصة بعد ظهور إعلام جديد “مجهول المصدر” ويقع في مساحة بين الخاص والعام، وهو يتطلب نمط أكثر شفافية ووضوحا في الإدارة وفي نمط الملكية يؤدي إلى وضع قواعد مهنية وسياسة على ضوء معرفة المالك الحقيقي لهذه الصحف والمؤسسات الإعلامية.
وقد تشكلت في مصر هيئتان لتنظيم الإعلام وفق نصوص الدستور المصري، الأول، هو المجلس الأعلى لتنظيم لإعلام، والثاني هو الهيئة الوطنية للصحافة، وهي خطوة إيجابية أن يكون هناك اعتراف نظري وعملي بان تجربة وزير الإعلام قد طويت وفتح الباب أمام وجود مؤسسات تنظيم الإعلام مثل الدول الديمقراطية والمتقدمة حتى لو كان الواقع لازال بعيدا عن الوصول إلى تلك التجارب، وهو ما يتطلب وجود مجموعة من الشروط في أعضاء هذه المؤسسات نجملها فيما يلي:
الحياد السياسي والوظيفي
تحتاج المؤسسات المنظمة لعمل الإعلام إلى عناصر محايدة من الناحية السياسية والوظيفية بمعني إنه لا يمكن أن يطلب من مذيع أو من رئيس تحرير أو رئيس مجلس إدارة صحيفة أو قناة تليفزيونية أن يكون عضوا في المجلس الأعلى للإعلام أو الهيئة الوطنية للصحافة، فهو من ناحية يعكس تضارب في المصالح، ويجعل فرص متابعة هذه المجالس لالتزام المؤسسات الإعلامية والصحفية بالمعايير والقواعد المهنية محدودة للغاية.
كما من الهم أيضا أن يتمتع المنتمين لهذه المؤسسات بالحياد السياسي بمعني أن يكونوا خارج “المحاصصة” الحزبية دون أن يمنع ذلك أن يكون لديهم توجهاتهم السياسية الخاصة ولكن اختيارهم لن يكون على أساس ترضيات حزبية وسياسية وعقائدية.
الكفاءة والخبرة المهنية
من المهم أيضا أن تضم هذه المؤسسات أكاديميين يجري تدريبهم على طبيعة عمل هذه المؤسسات ودورها في ضمان جودة المنتج المهني الذي تقدمه المؤسسات الصحفية والإعلامية وحياده والتزامه بالقواعد الدستورية والقانونية التي تنظم المجتمع ومؤسساته المختلفة بما فيها الإعلام، والتمسك بالحد الفاصل بين القواعد المهنية التي يجب الالتزام بها وبين التدخلات السياسية والأمنية التي يجب التخلص منها.
كما من المهم التأكيد على ضرورة عمل برامج متخصصة لأعضاء هذه المؤسسات مهما كانت مكانتهم العلمية والصحفية لان العمل الجديد الذي يقومون به داخل المؤسسات المنظمة لعمل الإعلام، لم تشهده مصر والبلاد العربية من قبل، كما من المهم الاستفادة من الخبرات العالمية في هذا المجال، ومتابعة المؤسسة المنظمة لعمل الإعلام في البلاد المتقدمة والتي عرفت مؤسسات منظمة لعمل الإعلام العام المرئي (Regulator) وليس الصحافة نظرا لغياب تجارب الصحف المملوكة للدولة من كل النظم الديمقراطية.
فمثلا هناك تجربة ديمقراطية عريقة مثل فرنسا عرفت في فترة ليست بعيده تشكيل هذه المؤسسة المنوط بها تنظيم عمل الإعلام (CSA) أي المجلس الأعلى للإعلام المرئي والذي أنشئ بقانون ليس ببعيد صدر في 17 يناير 1989.
كما من المهم أيضا ضم خبراء وأكاديميين بجانب صحفيين مارسوا المهنة (ولا زالوا) دون أن يجمعوا بين عملهم الصحفي وبين وجودهم في المؤسسات المنظمة للإعلام.
وستبقي رحلة الوصول لإعلام مهني واحترافي عبر مساعدة مؤسسات منظمة لعمل الإعلام مهمة مستمرة تطور مع الزمن ومع السياق الاجتماعي والسياسي الذي يعيش فيه الإعلام.
ولعل تعريف Habermas على ضرورة توافر أربعة شروط أو محددات رئيسة حتى تتمكن وسائل الاتصال من القيام بوظائفها الديمقراطية، وهي القدرة على تمثيل الاتجاهات المختلفة داخل المجتمع، وحماية المجتمع، وتوفير المعلومات للجمهور، وأخيرا المساهمة في تحقيق الوحدة الاجتماعية، وهو ما يؤكد في النهاية أن تحقيق هذه الأهداف والوصول إلى إعلام مهني هو رحلة مستمرة تطور مع الزمن ومع السياق الاجتماعي والسياسي الذي يعيش فيه الإعلام وأن دور المؤسسات المنظمة ما هو إلا عنصر مساعد لتحقيق هذه الأهداف.