دور الحركات الاجتماعية والمجتمع المدني وتحديات تحقيق العدالة الاجتماعية
مينا سمير
Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [0.99 MB]

مقدمة:

يعد شعار العدالة الاجتماعية أحد أكثر الشعارات بروزا في انتفاضات الربيع العربي، حيث كانت العدالة قضية أساسية تعد جوهر الحراك سواء بشكل مباشر، أو من خلال شعارات أخرى مثل الكرامة والحرية، وهي شعارات مرتبطة بشكل أساسي بالعدالة الاجتماعية بشكل أو بآخر. لذلك لا يمكننا إغفال الوضع الاقتصادي المفتقد للعدالة الاجتماعية الذي أدى إلى تفجر هذه الثورات، فإذا نظرنا إلى تونس ومصر نجد تشابه شديد على هذا المستوى، فقد اتبع كل من البلدين سياسات فتح الأسواق والاندماج في الاقتصاد العالمي، ولطالما نالت السياسات الاقتصادية في تونس ومصر مديح المؤسسات الدولية، إلا أن النمو في تونس ومصر اقترن بما يسمى بالتطور المركب وغير المتكافئ. أي أن ثماره لا تتوزع بشكل عادل بين الفئات المختلفة في المجتمع، خاصة بين جموع المنتجين ولا في الأقاليم المختلفة.

وللعدالة الاجتماعية العديد من المؤشرات الكيفية والكمية، فهي أحد المقاييس القابلة للقياس، وإذا كان الهدف من تحقيق العدالة الاجتماعية هو خلق مجتمعات أكثر عدالة فهناك ثلاثة مؤشرات كيفية رئيسية لضمان تحقيق تلك الغاية، وتتمثل في تعزيز الاندماج المجتمعي والحد من الاستقطاب السلبي، وتحقيق المساواة في الحقوق والفرص، عن طريق تحفيز فرص الحراك الاجتماعي من خلال نظام مؤسسي يحقق المساواة في الحقوق والفرص الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. أما المؤشر الأخير فهو تحقيق الحماية للفئات الأولى بالرعاية، وذلك بضمان عدالة التوزيع وتقليص الفجوات الطبقية من خلال مساندة شرائح المجتمع المهمّشة وتحقيق الحماية للفئات الأولى بالرعاية.

أما المؤشرات الكمية، فيمكن تلخيصها في عدة مؤشرات حول حقوق الإنسان، نسبة البطالة، نسبة البطالة بين ذوي الاحتياجات الخاصة، مؤشر القيم الإيجابية المحورية، نسبة المسنين تحت خط الفقر، نسبة السكان بالمناطق العشوائية غير الأمنة، نسبة الأطفال بلا مأوى، مؤشر سهولة العمل المدني، المسئولية الاجتماعية للشركات، الفجوة الجغرافية في نسبة جودة التعليم والخدمات الصحية والحاصلين على عمل لائق ونسبة المؤمن عليهم صحيا واجتماعيا، عدد المستفيدين من القروض متناهية الصغر، ونسبة المشاركة السياسية والمدنية للشباب والمرأة.

ونظرا لكونها قضية جوهرية في الحراك والدوافع له، كان من الطبيعي أن تتبناها العديد من الحركات الاجتماعية التي انبثقت عنه، سواء كانت لها مطالب سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك، وبما أن القضية تستمد قوتها من قوة المدافعين لها فقد خفت نجم العدالة الاجتماعية مع خفوت نجم الحركات الاجتماعية والمجتمع المدني بشكل عام إثر سياسات النظم التي أعقب الربيع العربي وما تلاه من متغيرات، سواء كانت العدالة قضية جوهرية تبنتها تلك الحركات أو قضية فرعية في إطار سعيها نحو تحقيق الحريات الفردية، من منطلق تنظيري مفاده أن العدالة الاجتماعية فخ ووهم وأنها يجب أن تقودنا مثل أخرى كالحرية الفردية”.

وعليه، فإن تلك الورقة تستهدف تحليل العلاقة بين العدالة كمفهوم، وبين الأطراف والتي تتمثل في الحركات الاجتماعية والمجتمع المدني كأطراف وسيطة تتبنى العديد من القضايا ذات الصلة المباشرة أو غير المباشرة بالعدالة، وأثر كل من القضية والأطراف على بعضهما البعض صعودا وهبوطا.

أولا: تطور رؤية الحركات الاجتماعية والمجتمع المدني للعدالة الاجتماعية

تعد العدالة الاجتماعية من المفاهيم التي استحوذت على مساحة كبيرة من اهتمامات المفكرين والباحثين في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الأن، وبدأ التنظير لها كأحد الأسس اللازمة للاستقرار الإنساني بشكل عام والسياسي/ اجتماعي بشكل خاص، ولأن الحديث هنا عن “قيمة” لا تعد ملموسة، أصابها الاختلاف الشديد وتراوحت الرؤى حولها حيث يعتقد البعض أن السعي للعدالة الاجتماعية فخ ووهم وأنه يجب أن تقودنا مُثل أخرى كالحرية الفردية، كما ينظر لها البعض باعتبارها “جملة” ذات وقع جيد عند الحديث عن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وبشكل عام قد يكون الناس ملتزمين بالعدالة الاجتماعية في المجرد، لكنهم بالرغم من هذا يختلفون اختلافا مرا حول ما يمكن فعله بشأن مشكلة اجتماعية ملموسة كالبطالة[1]، تجعل هذه الحقيقة من تحديد وتعريف العدالة الاجتماعية كمفهوم مستقر أمرا معقدا لكن كثيرا من الباحثين والمفكرين لا يرونه مستحيلا بالرغم من ذلك. وفي السنوات الأخيرة صارت العدالة الاجتماعية أمرا يتعلق بالحقوق والمواطنة وليس بالعمل الخيري والتبرعات، أمرا يتعلق بالمجتمع ككل وليس فقط بالمحتاجين، وأيضا أمرا في صلب السياسات العامة.

تنوعت الجهود في محاولة إيجاد تعريف محدد للعدالة الاجتماعية، ومن بين أهم تلك الجهود ما قام به المفكر السياسي البريطاني “ديفيد ميلر”، والذي عرف العدالة الاجتماعية بحسب ما يراه الناس الذين تتعلق بهم، وذلك في كتابه “أسس العدالة الاجتماعية”، وفي هذا الإطار ينبني تعريف العدالة الاجتماعية على الطريقة التي تنظر بها إليه المجموعات الاجتماعية التي تناضل من أجله. ووفق هذا المدخل تصبح محددات العدالة في الحالة المصرية مثلا الحد الأدنى والأقصى للأجر، تعيين العمالة المؤقتة، استعادة الشركات الحكومية المباعة والتي شاب عملية بيعها شبهة فساد، الحق في الإدارة الذاتية لوسائل الإنتاج، توفير الخدمات الصحية الكفؤة الرخيصة للكل. الخ. في هذا التعريف تتعلق العدالة بتوزيع المزايا والأعباء داخل المجتمع والطريقة التي تخصص بها الموارد للناس عبر مؤسسات المجتمع[2]، مما ساهم في تحويل العدالة الاجتماعية من مفهوم يشهد حالة من الجدل حوله، إلى مطالب يمكن بلورتها في غطاء سياسي، اجتماعي واقتصادي، وهو ما أدى فيما بعد إلى تبنيها من قبل الحركات الاجتماعية والمجموعات التي انبثقت عن الحراك في دول الربيع العربي.

مع بداية النهاية للحرب الباردة بين قطبي القوة في العالم، الغرب وما يتبناه من قيم الرأسمالية، والشرق وما يتبناه من قيم الشيوعية، بدأت ملامح انتصار الكتلة الغربية، والتي صاحبها صعود للتوجهات الاقتصادية النيوليبرالية على مستوى العالم، والتي دائما ما تتهم بأنها تتجاهل الأبعاد الإنسانية في إدارة الاقتصاد، فشهدت نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات أعادة بلورة للحركات والقوى اليسارية، وذلك عبر المجتمع المدني ومنظماته، ففي تونس انصب اهتمام جزء من اليسار على الاعتناء بالجانب الفكري والجمعياتي وحقوق الإنسان دون تنظيمات حزبية. ولم يمنعه هذا من أخذ مواقف سياسية بعد تجربة السجن في السبعينيات أينما كانت توجد أغلب قيادات اليسار، حصلت مراجعة فكرية كبيرة فهم على أثرها ممثلو اليسار أنهم أخطأوا الطريقة. وانصب اهتمام جزء منهم من وقتها على الجانب أو العمل الثقافي ونشر ثقافة حقوق الإنسان والهدف كان توسيع هامش حرية التعبير في العمل الثقافي، كما خرج اليسار من السجن بمنظمة العفو الدولية، وبالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وبالعمل الثقافي الفكري[3].

وفي ظل حالة الوهن التي تعيشها الأحزاب في المنطقة، وعدم قدرتها على التأثير أو الفعل أو السعي نحو هدفها وهو السلطة، توجه النشطاء في العديد من دول المنطقة إلى تأسيس منظمات المجتمع المدني، كآلية للفعل في ظل تلك المعطيات، لما لتلك المنظمات من قدرة على التنظيم والفعل والمرونة والإنجاز تفتقدها الأحزاب السياسية، وتبنت العديد منها أجندات حقوقية، مثل مركز هشام مبارك لحقوق الإنسان، مؤسسة المرأة الجديدة للدفاع عن حقوق المرأة، ودار الخدمات النقابية والعمالية المهتمة بشئون العمال، وتأسس الاتحاد العام التونسي للشغل، أما في البحرين فقد ظهرت الجمعيات السياسية ذات الصبغة اليسارية (جمعية التجمع الوطني الديمقراطي، جمعية العمل الوطني الديمقراطي، جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي)، وفي سوريا ورغم قمع المجتمع المدني ظهرت منظمات تعمل على الحريات مثل حرية الصحافة (المركز السوري للإعلام وحرية التعبير) أو حركات مناهضة للعولمة (البديل).[4]

كانت العدالة الاجتماعية في جوهر الثورات التي نهضت في البلدان العربية، حيث جرى العمل خلال عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، ومع مطلع القرن الجديد على تشكيل “نمط اقتصادي” أوجد هوة واسعة في المجتمع بين من يمتلك الثروة وبين الطبقات الشعبية من جهة، لكنه أيضا قام على أساس ريعي بعد أن جرى تهميش الصناعة والزراعة كقوى منتجة، وبالتالي فرض توسيع عدد العاطلين عن العمل، وأوقع المجتمع في عجز كبير نتيجة الحاجة إلى الاستيراد من جهة أخرى[5]، مما ترتب عليه زيادة حدة المطالب الخاصة بالعدالة الاجتماعية، وتعاليها داخل المجتمعات مما جعل الكثير من الباحثين يتنبؤون بقرب الانفجار، والذي حدث متمثلا بالربيع العربي، خاصة وأن شرارة البدء له في تونس نتجت عن إحراق البائع المتجول “بوعزيزي” لنفسه اعتراضا على إجراءات البلدية ضده.

وعلى الرغم من أن منظمات المجتمع المدني في أغلبها لم تكن داعية إلى الاحتجاجات، التي ظهرت وتصاعدت نتيجة أبعاد سياسية، اقتصادية، اجتماعية وحقوقية، إلا أنها كانت تمثل المرجعية والدعم للحراك في الكثير من المناسبات، وكانت العدالة الاجتماعية أحد الدوافع الرئيسية في الحراك، فعلى سبيل المثال شهدت مصر منذ عام 2005 وحتى اندلاع الثورة في يناير 2011، مئات الإضرابات والاحتجاجات تنوعت بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فيما عرف باسم الاحتجاجات الفئوية، فعدد الاحتجاجات المسجلة عام 2005 حوالي 202؛ ارتفع عام 2006 ليصبح 266، أما عام 2007 فقد قفز هذا الرقم ليتجاوز 614 احتجاجا، وفقا للإحصاءات التي أجراها “مركز الأرض”. أما عن عام 2008، فقد سجل في شهر فبراير/شباط أعلى معدلاته، حوالي 62 احتجاجا في قطاعات مختلفة، وارتفع هذا الرقم على مدار العام إلى ما يقرب عن 609 احتجاجات بين فئات وقطاعات مختلفة من العمال، والتقديرات الحالية لعدد عام 2009 يتعدى الـ 650 احتجاجا، حول قضايا معينة، مثل نقص المياه أو الخبز أو حوادث الطرق السريعة، واتخذت أحيانا أشكالا عنيفة مثل قطع الطرق، إلا أنها ما لبثت أن تطورت إلى احتجاجات مطلبية وفئوية. واتسمت تلك الموجة الواسعة من الاحتجاجات بالطابع المطلبي، فقد تركزت المطالب على زيادة الرواتب والأجور، المطالبة بالتعيينات، أو بالتأمينات الاجتماعية، وأحيانا تحسين الخدمات العامة أو مناهضة الفساد الإداري والمالي؛ ولم تكن هناك مطالب ذات طابع “سياسي” بمعنى المطالبة بالديمقراطية مثلا أو إلغاء قانون الطوارئ.. الخ[6].

ثانيا: دور الحركات الاجتماعية والمجتمع المدني في اتجاه تجذير خطاب العدالة الاجتماعية

إذا عرفنا المجتمع المدني بأنه “دور وسيط بين الحكومات والشعوب” وهو الدور الذي يبرز في الظروف غير العادية، مثل حالة التغيرات الهيكلية الكبرى سواء على المستويات السياسية أو الاقتصادية أو غيرها، سيعد ذلك تفسيرا لقوة ومساحة الدور الذي تصدى له المجتمع المدني في السنوات القليلة التي سبقت الثورات، وما تلاها، والعدالة الاجتماعية كهدف لتلك التحركات وذلك الدور في قلب الحراك، وهو الهدف الذي صعده الشارع بشكل عفوي إلا أنه منطقي إذا ما حللنا دوافع الحراك، فلم تكن المطالب السياسية والحقوقية هي الوحيدة التي نادى بها المتظاهرون وتبنتها الحركات الاجتماعية، بل كانت أيضا المطالب الاقتصادية لها وجود قوي، بل ودافع أكبر للحراك، مثل البطالة والأجور والصحة والتعليم والتأمين الاجتماعي وغير ذلك من الدوافع التي تعبر في النهاية عن رغبة حقيقية لتحقيق العدالة الاجتماعية، فالحراك كان أحد دوافعه الكبرى تمسك الأنظمة الحاكمة بمصالح طبقية هي التي تفرض على السلطة الدفاع عن النمط الاقتصادي القائم ورفض تغييره، ومن ثم التسويف لكي لا تحقق مطالب الشعب.[7]

فالعدالة الاجتماعية ليست فقط شعارا ردده المتظاهرون في مصر والوطن العربي عند قيام الثورات بل هو أيضا جزء أساسي من مفهوم المجتمع المدني للديمقراطية قبل الثورات، لقد قامت الثورات ضد نظام اقتصادي قام بتهميش فئات واسعة من المجتمع. بالإضافة إلى نسبة السكان المصريين المصنفين تحت خط الفقر (أي يقل دخلهم عن دولارين في اليوم) والتي تم تقديرها بـ 40%‏، ازداد الأمر سوءا بسبب الإصلاحات الاقتصادية المنحازة لاقتصاد السوق والتي تم تطبيقها في الخمسة عشر عاما الماضية وتحديدا في حكومة أحمد نظيف التي استمرت من 2004 وحتى 2011 عند قيام الثورة. لهذا ليس غريبا أن يكون الفقر أحد أهم اهتمامات النشطاء لكن بالنسبة لمعظم هؤلاء النشطاء لا تقتصر المشكلات الاقتصادية والاجتماعية على الفقر بل هي سياسية في الأساس حيث تظل الحقوق السياسية مسلوبة طالما لا يتم توفير حد أدنى من الظروف المعيشية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. كما أن المطالب الاقتصادية والاجتماعية من شأنها التأثير على النظام الاقتصادي الذي يتبناه كل من النظام والحكومات الغربية مما يوضح الطبيعة السياسية لهذه المطالب حيث يتم التركيز على التزام الدولة بتوفير حد أدنى من الحياة الكريمة للمواطنين وإخلالها بواجباتها السياسية إذا لم تفعل ذلك. لقد اتفق أعضاء مؤسسات غير حكومية مختلفة على دور سياسات تحرير السوق وعلاقتها بالتجارة العالمية في إضعاف شبكات الأمان الاجتماعي والقضاء على الأنشطة النقابية. كما اتفقوا على استحالة فصل ما هو اقتصادي عما هو سياسي وبالتالي يرتبط الأول بتطور الثاني من خلال التحول الديمقراطي كما يشير أحد القادة العماليين: “حين خففت الولايات المتحدة من الضغوط التي مارستها على الدولة لتحقيق الديمقراطية حذا الاتحاد الأوروبي حذوها بدأ كلاهما الضغط في اتجاه الخصخصة دون الأخذ في الاعتبار أن بينما يندرج الغاز والماء والكهرباء تحت فئة الخدمات في الغرب هم حقوق إنسان هنا”[8].

عند قيام ثورات الربيع العربي وخاصة في مصر، صورت وسائل الإعلام المحلية والغربية المطالب الاقتصادية للمتظاهرين على أنها أكثر أهمية من المطالب السياسية. لكن يتضح من تصريحات النشطاء والبيانات التي أصدرتها منظمات المجتمع المدني على اختلاف انحيازها السياسي أن الاثنان لا يمكن فصلهما. من هذا المنطلق يصبح دعم الحكومات الغربية للديمقراطية في العالم العربي هو في الواقع ضار بالديمقراطية. على سبيل المثال يصاحب دعم القطاع الخاص إجراءات من شأنها الإضرار بالضمان الاجتماعي وبالحركات النقابية ويتضح هذا في انتشار العمالة الأجنبية في الزراعة وتعدد نوبات العمل في المصانع والتشريعات المقيدة للأنشطة النقابية. يرى النشطاء أن التحول الديمقراطي في العالم العربي ليس الهدف الأساسي للحكومات الغربية حيث أنها تولي الاهتمام الأكبر لمصالحها التجارية والاقتصادية حتى أن التقرير الذي أصدرته المفوضية المصرية للحقوق والحريات والذي هاجم بشدة هذه الإجراءات قد تم سحبه تحت ضغط من الحكومة المصرية.

لقد أدى هذا المزيج من سياسات الحكومة المصرية وسياسات الحكومات الغربية لتعبئة العمال وتأكيد النشطاء على أهمية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لكن لم يؤدي أي من هذا لضغط فعال للتحول الديمقراطي. يعود هذا بدرجة كبيرة لاستغلال فئات معينة لتصاعد الاحتجاجات العمالية لتغيير موازين القوى داخل الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم مما أدى تعطيل التحول الديمقراطي. كما ساهم في عدم حدوث تحول جذري تركيز الاحتجاجات العمالية على مطالب غير سياسية تدور في أساسها حول ظروف العمل وشروط التعيين وتظل الحركات العمالية غير مسيسة بشكل كبير حتى الآن[9].

بعد قيام الثورة وإسقاط نظام مبارك تم تهميش المطالب الاجتماعية والاقتصادية من خلال الضغط على النشطاء المعارضين سواء من قبل المجلس العسكري أو الإخوان المسلمون بل تم استهداف منظمات المجتمع المدني وإثارة الغضب الشعبي ضدها عدة مرات. على سبيل المثال في ديسمبر 2011 شنت حملة شرسة ضد هذه المنظمات وتم اتهامها بالحصول على تمويل أجنبي على الرغم من عدم وجود ما يجرم التمويل الأجنبي في القوانين المصرية سواء للجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني أو لمؤسسات الدولة وهيئاتها. وفي يوليو 2013 تم تعيين القائد النقابي والعمالي المعروف كمال أبو عيطة وزيرا للقوى العاملة ودعمت الحكومة، التي تم تشكيلها تحت حماية عسكرية، في ذلك الوقت تشريعا للحد الأدنى للأجور. لكن لم تكن بنود هذا التشريع قوية بما يكفي ولم تبذل أي من الحكومات -سواء مدنية أو عسكرية، إسلامية أو غير إسلامية- الجهد المطلوب لإلغاء القوانين المقيدة للأنشطة النقابية ومنظمات المجتمع المدني أو لرفع القيود عن حق التنظيم والتظاهر. يتضح مما سبق ومن التصريحات الصادرة من مختلف النشطاء أنه لا سبيل لفصل الحقوق الاجتماعية والسياسية عن الحقوق السياسية والديمقراطية وأن الحكومات الغربية تدعم الخصخصة مما يؤثر سلبا بطبيعة الحال على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. كما أن الحكومات المصرية المتعاقبة بعد الثورة تدعم نفس الاتجاه وبالتالي تشترك مع الحكومات الغربية في إعاقة التحول الديمقراطي[10].

ثالثا: الأزمات التي تعيق الحركات الاجتماعية والمجتمع المدني وأثرها على قضية العدالة الاجتماعية

على الرغم من أن التنظيمات السياسية في العالم الثالث مثل الأحزاب من المفترض أن تكون منافسا على السلطة، إلا أنها في الواقع تعاني من الوهن لأسباب داخلية تتعلق بالتنظيم والديمقراطية الداخلية والانتماء الحزبي وغير ذلك، بالإضافة إلى العوامل الخارجية التي تتمثل في استغلال الأنظمة لمؤسسات الدولة لإجهاض أي محاولة حقيقية لخلق منافس سياسي ينازعها سلطانها، فيتم تفريغها من قدراتها. وهنا تكمن أهمية المجتمع المدني ومنظماته، حيث أنه أكثر ديناميكية وقدرة على التأثير، فهو غير منافس على السلطة، كما أنه أكثر تحديدا في تناول القضايا التي يتبناها ويتعامل معها، مما يجعل منه عامل مكتمل الأركان لريبة وتوجس الأنظمة السلطوية تحديدا، التي تخشى التنظيم أو الحراك الشعبي الخارج عن رؤيتها وسيطرتها المباشرة.

وبالنظر إلى طبيعة الأنظمة الحاكمة ومستويات السلطة في مصر، فإنها لم تنتج عن تفاعلات بين الهياكل المجتمعية تبلور عنها نظام سياسي معبر عنها، لذا فإن السلطة في مصر مثلها مثل العديد من دول العالم الثالث ناتجة عن مجموعة من المتغيرات التي فرضت نتيجة عوامل إما خارجية مثل التغيرات الدولية ونيل الاستقلال، أو داخلية مثل الثورات والانقلابات العسكرية، لذا فإن الأنظمة الحاكمة الناتجة عن تلك المعطيات عادة ما يتميز خطابها بالشعبوية والكاريزمية في محاولة منها لاستدعاء العاطفة وإعلاء النزعات الوطنية كي لا يخرج التنظيم المجتمعي عليها.

وهنا تصطدم الأنظمة، في غياب المعارضة السياسية المقموعة عادة، بمنظمات المجتمع المدني، سواء التنموية أو الحقوقية، التي وإن كانت بعيدة عن العمل السياسي ولا تستهدف الوصول إلى السلطة، إلا أنها تشكل خطرا على التنظيم المجتمعي الذي تسعى الأنظمة السياسية للحفاظ عليه وفق معادلات تضمن لها مصالحها وبقاءها، فالصراع في شقه الأكبر يتمثل في السيطرة على التنظيم وحجم التأثير في المجتمع، فيتم إصدار القوانين التي تعمل على تضييق مساحات عملها، أو تلجأ إلى الأساليب الأمنية والمقيدة للحريات، في مقابل استراتيجيات تستخدمها المنظمات من أجل ضمان الحد الأدنى من مساحة الحركة والعمل لها، تستخدم الدولة في ذلك الصراع عدد من أدواتها التقليدية مثل سن القوانين التي تضيق مساحة الحركة مثل التمويل والتصريح والرقابة، في مقابل تكتيكات تبتكرها المنظمات والحركات في محاولة منها للحفاظ قد الإمكان على حد أدنى من المساحة يتيح لها الحركة.

فوجود التنظيمات الأهلية بشقيها التنموي والحقوقي، وأيضا صدامها مع النظم الحاكمة، بدأ منذ النصف الأول من القرن العشرين، وعلى الرغم من التغيير الذي حل بكل منهما، سواء المنظمات وأهدافها وطريقة عملها، وكذلك النظم وطبيعتها وتوجهاتها، إلا أن العلاقة بين الطرفين نادرا ما كانت تكاملية، وكثيرا ما كانت تصادمية، يؤدي ذلك الصدام إلى العديد من الإشكاليات التي تعيق عمل منظمات المجتمع المدني، بل يمكننا اعتبار ذلك الصدام أحد العوامل الرئيسية في تراجع قضية العدالة الاجتماعية، وعدم تصعيدها من مطالب المحتجين في الميادين إلى أجندة سياسية تتبناها النظم الجديدة.

فعلى الرغم من أنه أصبح من الممكن بفضل حالة الحراك، الشروع في بناء نظام اجتماعي جديد، يعيد للعدالة الاجتماعية اعتبارها، ويدعم مكاسبها ويطورها، ويوسع هامش الحريات الفردية والجماعية، ويعيد النظر، من منطلق الحرص على السيادة الشعبية الوطنية، في كافة الاتفاقيات الاستعمارية الجديدة، ونظام الديون وامتيازات الرأسمال الأجنبي التي تمس بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

لكن، على عكس التوقعات، لم يحقق الحراك أهدافه، فعلى المستوى الداخلي، لم ينتج نظاما معبرا عن الحراك أو منبثق عنه، وكذلك الشأن بالنسبة لشبكات المصالح المرتبطة به أما هي ذاتها قبل الحراك أو تم تبديلها بشبكات أخرى[11]. فمن الطبيعي أن تسعى البرجوازية المحلية إلى الحفاظ على جهاز الدولة، ومن خلاله حماية النظام القائم. فهي وإن أبدت تضامنها من إسقاط الأنظمة الديكتاتورية، وإضعاف شبكات المصالح الاقتصادية التي تم تكوينها، فحتى تلك الإجراءات كانت من قبيل الدفاع عن مصالحها وفق مقتضيات المرحلة، حيث أن التغيرات الهيكلية في الاقتصاد في دول الربيع العربي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي والتي ربطت المصالح الاقتصادية الكبرى لتلك البرجوازية ببقاء الأنظمة، ولعل سياسات الخصخصة وتخصيص المشروعات بالأمر المباشر والتسهيلات الائتمانية والإعفاءات الضريبية دليلا على ذلك، حتى وإن كانت تلك الإجراءات تضر بالعدالة الاجتماعية.

ربما يرى البعض أن الأوضاع في البلدان العربية تمثل مأزقا للسلطات الحاكمة فقط، إلا أن هذا المأزق في الحقيقة لا يقف عند هذه الحدود لكن قوى المعارضة والمجتمع المدني تقع في نفس المأزق فأغلبها مغيب عن الاحتجاجات الاجتماعية التي تتصاعد بالمنطقة في الآونة الأخيرة، ففي الوقت الذي نجد فيه المجتمع المدني منهكا في إشكالياته الداخلية ومعاركه مع السلطات الحاكمة من أجل استمراره وبقائه كما يحدث في مصر، نجد أن أغلب القوى السياسية وأحزاب المعارضة عزلت نفسها عن الاحتجاجات الاجتماعية عندما انحازت بعد الثورات إلى حصر الصراع مع السلطة في القضايا السياسية وطبيعة نظام الحكم، واسم الرئيس الجديد، وتجاهلت توجيه المعركة إلى قلب المنظومة الحاكمة وجوهرها الاجتماعي والاقتصادي، ولم تعر هذه النخب أهمية تذكر لخلق ظهير شعبي لشن حرب اجتماعية لتغيير تلك المنظومة، واكتفت بالسعي لإحداث تغيير سياسي في شكل الحكم فقط دون المساس بمضمونه الذي أنجب الفساد والاستغلال ومن ثم الإفقار والتهميش والتمييز وانعدام تكافؤ الفرص، وغرقت الأحزاب والقوى السياسية في دوامة انتقال السلطة والتغيير السياسي والدستور والانتخابات ليس فقط بعيدا عن المطالب الاجتماعية والاقتصادية المباشرة التي تمس الأوضاع المعيشية للمواطنين والكادحين، بل واجهوا مطالب تلك الطبقات بالرفض والتعالي ووصفوها في أحيان بأنها مطالب فئوية يجب أن تتوقف لحين الانتهاء من انتقال السلطة بل واتهموا كل حراك اجتماعي أو احتجاجي بأنه معطل لعجلة الإنتاج ومهدد لأركان الدولة، فقد وقعت أغلب القوى السياسية في تعاملها مع الحركات الاجتماعية بعد الثورة في فخ التنافس مع تلك الحركات ومطالبها، مما جعل تلك القوى تسعى لإزاحة تلك الحركات من المشهد بزعم أن توقيت مطالبها لا يتناسب مع اللحظة السياسية الراهنة،[12] وهو ما ترسخ في ذهن الحركات الاجتماعية والاحتجاجية بانتهازية الأحزاب والقوى السياسية وانعكس على العلاقة بينهما حتى الآن، وأضحى التوجس من دور الأحزاب وقوى المعارضة وانعدام الثقة في علاقاتها بالحركات الاجتماعية والاجتماعية واقعا ملموسا يلقي بالعبء على كافة تلك القوى بالبحث عن أطر جديدة للشراكة مع الحركات الاجتماعية ودعم جسور الثقة بينهما سعيا للتكامل وتقاسم الأدوار كبديل عن التنافس والتناحر.

تعد الحركات الاجتماعية والاجتماعية في صيغتها الجديدة، أبرز الحركات الحاضنة لقوى من المجتمع عادة ما تكون مهمشة ومقصاه من الحركية الاقتصادية والحياة السياسية؛ فهي إما أن تكون غير منتظمة في النقابات أو الأحزاب، وإما ترى هذه الأخيرة أنها لا تعبر عن مطالبها التي فرضتها المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، بالنظر إلى اتساع قاعدة هذه الفئات والمكونات داخل مجتمعات عربية، تتميز ببنية اقتصادية يغلب عليها طابع الاقتصاد العشوائي غير المهيكل إلى جانب بنية سياسية مغلقة، والأمر الذي دفع كثير من المحللين إلى الربط بين هذه السمات الاقتصادية.

والملاحظ أنه منذ بدايات العام 2015 تتشكل ملامح جديدة لحركات اجتماعية واحتجاجية قد ضجرت من الواقع الاقتصادي بالبلدان العربية فمع تصاعد الاحتجاجات الشبابية جنوب العراق والتي تطالب بمكافحة الفساد والقضاء على البطالة نجد بزوغ حملة “طلعت ريحتكم” وحملة “بدنا نحاسب” بلبنان سواء في أزمة النفايات والفساد والمحسوبية، وكذلك حملة “وينو البترول” بتونس وارتفاع معدلات الانتحار نتيجة الأزمات الاقتصادية والبطالة، وتهديد المحتجين بالانتحار الجماعي أو بيع الشهادات الدراسية أو الأعضاء البشرية “الكلى” للكشف عن مرارة معاناتهم، نجد احتجاجات أزمة لبن الأطفال بمصر وبطالة حملة الماجستير والدكتوراه، واحتجاجات الموظفين على قانون الخدمة المدنية، وسخط المواطنين من ارتفاع أسعار الكهرباء، وطرد الفلاحين من مناطق قاموا باستصلاحها في الصحراء وتجريف مزروعاتهم في الوقت الذي تتصالح فيه الدولة مع رجال الأعمال الذين استحوذوا على مساحات في الصحراء أكبر وأوسع من الفلاحين.[13]

وليس غريبا أن نجد خطاب السلطات الحاكمة في العراق ولبنان ومصر والأردن وتونس تجاه أي حراك احتجاجي أو اجتماعي خطابا وإن كان متفاوتا ويخضع للمعايير المتباينة وللمعادلات السياسية في كل دولة، إلا أنه ينطلق من الهجوم على الحراك ووصفه بالعمل التخريبي الذي يستجيب لأجندات خارجية لإحداث الفوضى بالبلاد وهدم أركان الدولة في محاولة لإرهاب المواطنين والحيلولة دون انضمامهم لهذا الحراك والسعي إلى محاصرته وإجهاضه استكمالا لاستراتيجية المقايضة التي انتهجتها الأنظمة منذ ثلاث سنوات “الأمن مقابل الصمت على الحقوق وعدم المطالبة بها”، إلا أن طاقة هذه المقايضة قد شارفت على الانتهاء حيث تم استنفادها طوال الأعوام الماضية ولم تعد مقنعة الآن للعديد من القطاعات الشعبية خاصة في ظل استجابة الأنظمة لشروط النيوليبرالية ومؤسساتها التمويلية وتبنيها لسياسات تقشفية حيث الانسحاب من الخدمات، وتخفيض الدعم، وتعويم سعر الصرف بما يستتبعه من انهيار القدرة الشرائية للعملات المحلية، وتسريح الموظفين بزعم إصلاح الجهاز الإداري للدول، وانفلات أسعار السلع والخدمات الأساسية، والتلويح باستعادة برامج الخصخصة، الأمر الذي دفع الحركات الاجتماعية لاستعادة نشاطها الاحتجاجي، فضلا عن مواجهة الاحتجاجات العمالية بالمحاكمات العسكرية على النحو الذي يتعرض له عمال شركة الترسانة البحرية بالإسكندرية عقابا لهم عن تلويحهم بالإضراب عن العمل رغم أنهم عمال مدنيين إلا أنه تم محاكمتهم أمام القضاء العسكري حيث قام الجيش بشراء الشركة واعتبر التهديد بالإضراب عدوان على منشأة عسكرية.[14]

 وكل ذلك يعكس استنفاد استراتيجية المقايضة لطاقتها وتصاعد الحراك الاحتجاجي والاجتماعي رفضا للسياسات الاقتصادية، وعدم اكتراثه بالترسانة القمعية، أو الخطابات السلطوية التقليدية، خاصة أنه المسار الوحيد المتبقي للشعوب لخلق معادلة توازن مع قوى السلطة سعيا في التأثير على القرار الاقتصادي والاجتماعي لصالحها أو مسارات المشاركة أو للتعبير عن المطالب في محاولة من الشعوب لخلق واقع ومعادلة قوى جديدين سعيا للعدالة الاجتماعية وتذويب الفروق الطبقية.

أثر تيارات الإسلام السياسي في تراجع قضية العدالة الاجتماعية:

تعد تيارات الإسلام السياسي أحد أكثر القوى الفكرية والسياسية المناهضة لأجراء تقدمي وتحرري. ودائما ما يتم اتهامهم بتطويع الخطاب الديني ليصبح أداة يستخدمونها للوصول إلى نسب تصويتية وشرائح مجتمعية تساعدهم على تحقيق أهدافهم، وفي مقدمتها الشرائح الأكثر فقرا. وعلى الرغم كذلك من عدائهم للثورة الاجتماعية، نظرا لما تحمله من معاني تقدمية وأفكار تحررية، إلا أنهم لم يترددوا في ركوب موجة الحرية التي أطلقتها الثورة، للوصول إلى السلطة في كل من تونس ومصر.

لم يمض وقت طويل، بعد اعتلائهم سدة الحكم، حتى سقطت ادعاءاتهم، ليظهروا معاداة لمطالب العدالة الاجتماعية التي نادت بها الثورة. كما برهن الإسلاميون أثناء مرورهم على محك السلطة، برغم قصر مدة بقائهم في الحكم، على كونهم ليسوا أقل خضوعا للقوى الأجنبية المهيمنة على مصر وتونس، وهو ما كان واضحا من خلال العديد من الاتفاقات التي أبرمتها حكومات الإخوان في مصر والنهضة في تونس، على غرار موافقتها على تشديد وتيرة الإصلاحات الهيكلية بما فيها تلك التي تعنى بميزانية الدولة، والتي عادت ما نسميها سياسة التقشف، ومواصلة تسديد ديون النظم السابقة ورفض البحث عن بدائل تمكن من تخفيف عبئها المالي على الدفوعات العامة وتوجيه الموارد المالية النادرة نحو تلبية الاحتياجات الاجتماعية الأكثر إلحاحا مع العمل على إعادة الاعتبار للسوق المحلية وتعزيز الاستهلاك المحلي، وكذلك تدعيم مصالح الرأسمال الأجنبي، وتوسيع دائرة نفوذه خاصة في تونس.

تجسمت هذه السياسة المعادية لمطالب الثورة، باعتبارها مواصلة للسياسة القديمة، بالخصوص في تزكية حكومة الإسلاميين لمخطط الاتحاد الأوروبي الاستعماري الجديد، والمتمثل في تعميق وتوسيع برنامج الشراكة، الذي انطلق سنة 1995 مع بن علي. كما تمت تزكية مخطط صندوق النقد الدولي المتمثل في تطبيق برنامج تعديل هيكلي أكثر قسوة من البرنامج الذي تم تطبيقه في عهد المخلوع.

بالتوازي مع هذا التوجه المؤيد لتشديد الهيمنة الرأسمالية الأجنبية على تونس، سعت حكومة الإسلاميين إلى تجريم الحركة الاجتماعية، وتخوين الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالعدالة الاجتماعية. كما ركزت نيرانها ضد المنظمة الشغيلة، مما دفع بالعديد من أنصارها، أو من القريبين منها، إلى الاعتداء على عدد من مقراتها الجهوية وتخريب وحرق البعض منها. وقد بلغت حملة الإسلاميين ضد النقابة العمالية ذروتها عندما هاجمت مجموعة، محسوبة على ما يسمى “لجان حماية الثورة” القريبة من النهضة، المقر المركزي للاتحاد العام التونسي للشغل والاعتداء بالعنف الشديد على النقابيين[15].

أثر القوى الخارجية:

أدى الربيع العربي إلى ما يمكن وصفه بالهزة العنيفة في كل دول المنطقة، حتى أن العديد منها تبنى سياسات اقتصادية قائمة على المنح والعطايا لشعوبها في محاولة لإجهاض أي حراك مماثل لما حدث في مصر وتونس لديها، بل ووصل الأمر إلى حد التدخل العسكري لإخماد الانتفاضات كما حدث في البحرين، وتدخل قوات درع الجزيرة لحماية النظام القائم بها.

تبنت العديد من الدول سياسات مناهضة للحراك الثوري، وذلك إثر المخاوف من تصدير الثورة، أو حدوث تأثر داخلي بما تم تحقيقه في مصر وتونس، وبالتالي تعاملت تلك الأنظمة مع الربيع العربي باعتباره تهديدا حقيقيا لبقائها، وبالتالي تبنت سياسات قائمة على دعم قوى رجعية ومناهضة للثورة وضخت الأموال وجيشت وسائل الإعلام من أجل تشويه القائمين عليها وعلى أجندتها.

الخلاصة:

يعد شعار العدالة الاجتماعية أحد أكثر الشعارات بروزا في انتفاضات الربيع العربي، حيث كانت العدالة قضية أساسية تعد جوهر الحراك سواء بشكل مباشر، أو من خلال شعارات أخرى مثل الكرامة والحرية، وهي شعارات مرتبطة بشكل أساسي بالعدالة الاجتماعية. لذلك لا يمكننا إغفال الوضع الاقتصادي المفتقد للعدالة الذي أدى إلى تفجر هذه الثورات، ونظرا لكونها قضية جوهرية في الحراك والدوافع له، كان من الطبيعي أن تتبناها العديد من الحركات الاجتماعية التي انبثقت عنه، سواء كانت لها مطالب سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك، وبما أن القضية تستمد قوتها من قوة المدافعين لها فقد خفت نجم العدالة الاجتماعية مع خفوت نجم الحركات الاجتماعية والمجتمع المدني بشكل عام إثر سياسات النظم التي أعقب الربيع العربي وما تلاه من متغيرات، سواء كانت العدالة قضية جوهرية تبنتها تلك الحركات أو قضية فرعية في إطار سعيها نحو تحقيق الحريات الفردية، من منطلق تنظيري مفاده أن العدالة الاجتماعية فخ ووهم وأنها يجب أن تقودنا مثل أخرى كالحرية الفردية”.

وفي ظل المتغيرات التي أعقبت الحراك، وظهور إرادة سياسية تتمحور حول تحقيق أكبر قدر ممكن من السيطرة على المجتمع المدني، وهي الإرادة التي في النهاية أدت إلى إصابة المجتمع المدني بالوهن، حيث أصبح منهكا في اشكالياته الداخلية ومعاركه مع السلطات الحاكمة من أجل استمراره وبقائه كما يحدث في مصر. في حين نجد أن أغلب القوى السياسية وأحزاب المعارضة عزلت نفسها عن الاحتجاجات الاجتماعية عندما انحازت بعد الثورات إلى حصر الصراع مع السلطة في القضايا السياسية وطبيعة نظام الحكم، واسم الرئيس الجديد وصلاحياته، وتجاهلت توجيه المعركة إلى قلب المنظومة الحاكمة وجوهرها الاجتماعي والاقتصادي، ولم تعر هذه النخب أهمية تذكر لخلق ظهير شعبي لشن حرب اجتماعية لتغيير تلك المنظومة، واكتفت بالسعي لإحداث تغيير سياسي في شكل الحكم فقط دون المساس بمضمونه، على الرغم من موروثات النظم السابقة، والتي تتمثل في تفشي الفساد والاستغلال ومن ثم الإفقار والتهميش والتمييز وانعدام تكافؤ الفرص، وغرقت الأحزاب والقوى السياسية في دوامة انتقال السلطة والتغيير السياسي والدستور والانتخابات ليس فقط بعيدا عن المطالب الاجتماعية والاقتصادية المباشرة التي تمس الأوضاع المعيشية للمواطنين والكادحين، بل واجهوا مطالب تلك الطبقات بشيء من التجاهل ووصفوها في أحيان بأنها مطالب فئوية يجب أن تتوقف لحين الانتهاء من انتقال السلطة بل واتهموا كل حراك اجتماعي أو احتجاجي بأنه معطل لعجلة الإنتاج ومهدد لأركان الدولة، فقد وقعت أغلب القوى السياسية في تعاملها مع الحركات الاجتماعية بعد الثورة في فخ التنافس مع تلك الحركات ومطالبها، مما جعل تلك القوى تسعى لإزاحة تلك الحركات من المشهد بزعم أن توقيت مطالبها لا يتناسب مع اللحظة السياسية الراهنة، وهو ما ترسخ في ذهن الحركات الاجتماعية والاحتجاجية بانتهازية الأحزاب والقوى السياسية وانعكس على العلاقة بينهما، وكذلك على قضية العدالة الاجتماعية وموقعها من اهتمامات النظم التي تلت الثورة.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[1] وائل جمال، بالمشاركة مع آخرين ضمن كتاب: العدالة الاجتماعية، مفاهيم وتطبيقات “دليل تدريبي”، نتاج ورشة تدريب، القاهرة، ديسمبر 2014، ص12.

[2] المرجع السابق، ص12، 13.

[3] محمد العجاتي وعمر سمير، اليسار والحركات الاجتماعية في المنطقة العربية، كتاب اليسار والثورات العربية، منتدى البدائل العربي للدراسات، القاهرة، ص137.

[4] المرجع السابق

[5] سلامة كيلة، الحركات الاجتماعية ومفهوم العدالة الاجتماعية في الثورات في البلدان العربية، كتاب العدالة الاجتماعية المفهوم والسياسات بعد الربيع العربي، منتدى البدائل العربي، القاهرة، 2014، https://goo.gl/MjEuyg

[6] محمد العجاتي وعمر سمير، اليسار والحركات الاجتماعية في المنطقة العربية، مرجع سابق.

[7] سلامة كيلة، الحركات الاجتماعية ومفهوم العدالة الاجتماعية في الثورات في البلدان العربية، مرجع سابق.

[8] جينارو جيرفازيو، أية ديمقراطية لأي مجتمع مدني، دور العدالة الاجتماعية في تناول النشطاء للديمقراطية في مصر، دراسة ضمن كتاب: الاقتصاد البديل في المنطقة العربية “المفهوم والقضايا”، موقع عدالة اجتماعية بالعربي، https://goo.gl/2rABgb

[9] المرجع السابق.

[10] المرجع السابق.

[11] فتحي الشامخي، التحديات التي تواجه القوى الداعمة للعدالة الاجتماعية في المنطقة العربية،

[12] خالد علي، دور الاحتجاجات في التأثير على الفوارق الاجتماعية في المنطقة العربية، دراسة ضمن كتاب الفجوات الاجتماعية والفوارق الطبقية في المنطقة العربية، موقع عدالة اجتماعية بالعربي، https://goo.gl/SUXFQs

[13] المرجع السابق.

[14] المرجع السابق.

[15] المرجع السابق.

Start typing and press Enter to search