منتدى البدائل العربي للدراسات
مصر
مقدمة:
على الرغم من أن استهداف الكنيسة البطرسية في القاهرة في 11 نوفمبر 2016، لم يكن العمل الإرهابي الأول الذي استهدف المسيحيين المصريين سواء من قبل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، أو التنظيمات الأخرى التي تعتنق أفكارا مشابهة[1]، إلا أن هذه العملية حملت العديد من الرسائل إلى الدولة المصرية، مفادها أن هناك تغيرا نوعيا في عمليات التنظيم وأهدافه.
ولعل الإصدار المرئي الذي صدر عن التنظيم في 19 فبراير الماضي، والذي تم تخصيصه للمسيحيين المصريين باعتبارهم فئة محاربة للإسلام على حد زعمه، قد أوضح معالم تلك التغيرات في تكتيكات التنظيم الإرهابي، حيث يتضح من المحتوى أن المسيحيين المصريين بمختلف طوائفهم وتنوعاتهم في كامل أراضي الدولة المصرية، سواء كانوا من الإكليروس أو العلمانيين، مؤيدين للنظام الحالي أو معارضين، هم جميعا أهدافا للتنظيم وأتباعه[2]، مما يضع الدولة المصرية أمام موقف من الصعوبة تحديد أبعاده وآليات التعامل معه.
وبصدور ذلك الإعلان أصبح هناك تفسيرا للتصعيد العملياتي ضد المسيحيين من قبل تنظيم ولاية سيناء المبايع لتنظيم داعش في نوفمبر 2014، والذي كان قبل هذا التاريخ يعرف باسم “أنصار بيت المقدس”، حيث ازدادت وتيرة عمليات الاغتيال ضد مسيحيين محافظة شمال سيناء، وتحديدا القاطنين في منطقة مثلث رفح، العريش والشيخ زويد، وهي المنطقة التي تعد النطاق النشط لعمليات التنظيم في سيناء، حيث تم اغتيال 3 من المسيحيين خلال الأيام القليلة التي أعقبت إعلان داعش، ليصبح عدد من قتلهم التنظيم في أقل من شهر 7 قتلى، مما تسبب في عملية نزوح كبيرة لمسيحيين شمال سيناء، حيث وصلت أعداد العائلات المسيحية التي غادرت المحافظة قرابة الـ150 عائلة، كانت وجهة الغالبية العظمى منهم مدينة الإسماعيلية، في مشهد أعاد إلى الأذهان نزوح المسيحيين والإيزيديين في العراق، بعدما استطاع التنظيم الإرهابي أن يسيطر على مدينة الموصل هناك.
على الرغم من أن التنظيم الإرهابي لا يستهدف فقط المسيحيين في سيناء، حيث أصدر التنظيم عددا من البيانات التي أعلن خلالها قيامه بعمليات اغتيال ضد عدد من أبناء سيناء ومشايخ للقبائل وبعض مشايخ وأتباع الطرق الصوفية، معللا ذلك بتعاونهم مع القوى الأمنية والجيش، إلا أن استهداف المسيحيين في سيناء الذي يعد استهدافا على الهوية مبنيا على اعتبارهم كتلة واحدة موالية للنظام، دون أي اعتبار للتنوعات الداخلية في المكون المسيحي نفسه، سواء سياسية أو طائفية، يشير إلى تبني التنظيم لاستراتيجية تتجاوز دوافع المولاة والتأييد للنظام، تهدف إلى تفريغ سيناء من قاطنيها المنتمين في الأصل إلى وادي النيل، باعتبارهم أحد مؤشرات الوجود للدولة المركزية، ويعزز ذلك النهج الذي اتبعه التنظيم في الأيام التالية لبدء نزوح المسيحيين تجاه المعلمات العاملات في مدارس العريش، وتصعيد العمليات ضد قوات الجيش والشرطة، بالإضافة إلى نزوح العديد من العائلات التي تنتمي إلى قبائل سيناء، ولكنها موالية للدولة.
تعد سيناء منطقة مؤهلة لتنامي نشاط تنظيم ولاية سيناء نظرا للمساحات الشاسعة من الأراضي الصحراوية ذات الطبيعة الجغرافية الوعرة، والتي تتيح للتنظيمات التي تتبنى استراتيجية حرب العصابات إمكانية المناورة وتنفيذ العمليات الخاطفة، كما أن التنوع داخل المجتمع السيناوي والذي يفتقر إلى الإدارة الناجحة لها مما خلق صراعات بين سكانه من قاطني مدينة العريش الذين تعود أصولهم في أغلبهم إلى الحامية العثمانية التي كانت مرابطة في المنطقة حتى عهد محمد علي واستوطنوها فيما بعد، وبين القبائل العربية ولعل أبرزهم الفواخرية والترابين، وبين سكان الوادي من العاملين أغلبهم في القطاع الحكومي ومن بينهم المسيحيين الأقباط، خاصة في ظل ضعف التنمية وتبنى الدولة للاستراتيجية الأمنية فقط في التعامل مع مشكلات سيناء وسكانها،[3] يعد تمهيدا قويا لتنامي الحاضنة الاجتماعية التي من الممكن أن يستغلها التنظيم في محاربة الدولة.
ظاهرة تنامي الفكر الجهادي في شمال سيناء وصولا إلى أنصار بيت المقدس:
على الرغم من التواجد القوي للتنظيمات الجهادية في وادي النيل في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ودخول تلك التنظيمات في حرب دموية مع الدولة، إلا أن سيناء كانت في معزل على تلك الصراعات، نظرا للعلاقة التاريخية والوطيدة بين شيوخ وعواقل سيناء وبين أجهزة الدولة وبوجه خاص المخابرات الحربية المصرية، وهي العلاقة التي نتجت عن سنوات من النضال المشترك ضد الاحتلال الإسرائيلي، مما قطع الطريق على تلك التنظيمات الجهادية من أن تجد لها حاضنة اجتماعية تنطلق منها في حربها ضد الدولة المصرية.
غير أن العام 2004 شهد ولأول مرة وجود تنظيمات جهادية في سيناء، حين استهدف تنظيم التوحيد والجهاد المنشآت السياحية المطلة على خليج العقبة في طابا ونويبع وشرم الشيخ، في 7 أكتوبر 2004، و23 يوليو 2005، و24 أبريل 2006، أي في ذكرى انتصارات أكتوبر وثورة يوليو وتحرير سيناء، وهي مناسبات يبدو من أن التنظيم أتخذ من العلاقات مع إسرائيل ذريعة لمحاربة النظام المصري، وفي المواجهات مع الشرطة المصرية، قتل مؤسس التنظيم خالد مساعد بالقرب من مدينة الشيخ زويد، وهو ما نتج عنه فرار عدد كبير من أعضاء التنظيم إلى غزة.[4]
بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2008، بدأت عناصر التنظيم في العودة مرة أخرى إلى سيناء، بمسمى تنظيم “أنصار بيت المقدس”، والذي استهدف خط أنابيب الغاز للمرة الأولى في 2010، وهي المرة التي تلتها 13 مرة أخرى عقب ثورة يناير 2011، وفق ما أعلن التنظيم في أول إصداراته المرئية التي أعلن فيها عن توجهاته العقائدية والتي بدت موالية لتنظيم القاعدة، كما أعلن أيضا عدم استهدافه للمدنيين أو العسكريين المصريين، وأن حربه مع إسرائيل في الأساس، وهو ما اتبعه بعدة عمليات استهدفت ميناء إبلات والعمق الإسرائيلي في صحراء النقب، نافيا أي علاقة له بمذبحة رفح الأولى أو الثانية التي راح ضحيتها جنودا مصريين.[5]
وأمام التوسعات الميدانية التي حققها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، خاصة عام 2014 الذي شهد احتلال التنظيم لمناطق واسعة في سوريا والعراق، ونجاح التنظيم في بسط نوع من الإدارة المحلية للمناطق تلك، بالإضافة إلى تماسك التنظيم وفروعه إثر تبنيه نهج الخلافة، وحيازته للعديد من الثروات المالية والطبيعية التي في حيازة المناطق التي سيطر عليها، وامتلاكه لترسانة من الأسلحة المتطورة، خاصة تلك التي تم تهريبها من ليبيا بعد سقوط نظام القذافي وفشل الأطراف المتعددة في الداخل الليبي في السيطرة عليها، أدت كل تلك المعطيات إلى مبايعة العديد من الأفراد والجماعات المسلحة إلى التنظيم[6]، سواء التي تأسست حديثا أو تلك التي كانت مبايعة إلى تنظيم القاعدة، ومن بين تلك الجماعات تنظيم أنصار بيت المقدس، الذي أعلن بيعته لداعش وتغيير اسمه إلى ولاية سيناء في نوفمبر 2014.[7]
مسيحيو سيناء بعد 30 يونية 2013:
تعد أحداث 30 يونية 2013 وما أعقبها من عزل للرئيس الأسبق محمد مرسي وإزاحة جماعة الإخوان المسلمين عن سدة الحكم في مصر نقطة تحول جوهرية، لما ترتب عليها من انعكاسات على الأوضاع في سيناء سواء فيما يتعلق بالعلاقات البينية بين سكانها من ناحية، ومن ناحية أخرى التغيرات الكبرى في أيدلوجية تنظيم أنصار بيت المقدس.
فعلى الرغم من أن العلاقة بين المسيحيين في سيناء وبين جيرانهم من سكان العريش أو القبائل العربية كانت جيدة، خاصة مع القبائل، نظرا للعلاقة الوطيدة بين تلك القبائل وبين الكنيسة المصرية في شمال سيناء، في حين كانت تتسم العلاقة بين القبائل والعرايشية (سكان العريش) بالتوتر نظرا لاختلاف العادات والتقاليد بينهم، إلا أنه بعد 30 يونية حدثت عدة متغيرات أدت إلى وجود شيئا من التوتر بين الأطراف الثلاثة، فالعلاقة بين العرايشية والمسيحيين رسمت محدداتها القبضة الأمنية منذ عهد مبارك، حيث كان يتولى أمن الدولة مهمة التعامل مع القضايا التي يكون أحد أطرافها مسيحي والأخر من العرايشية، وهو النهج الذي كان يتبعه أمن الدولة في التعامل مع تلك الحالات في وادي النيل أيضا، فكانت العلاقة بين الطرفان محددة وفق معطيات القبضة الأمنية، وخوفا من عودة تلك الممارسات من قبل الحكومة المصرية بعد 30 يونية 2013، أصبحت العلاقة بين الطرفان في توتر مستمر، خاصة وأن لدى سكان العريش قناعة بأن المسيحيين طرفا رئيسيا في حراك 30 يونية وهم من سعوا بقوة لإسقاط نظام الإخوان المسلمين[8]، فيما يبدو وكأنه نجاحا للخطاب الذي تبناه الإخوان المسلمين بالدفع بالبعد الديني في إسقاط حكمهم ونفي البعد الشعبي في الحراك ضدهم.
أما القبائل، فعلى الرغم من العلاقة التاريخية بينهم وبين الكنيسة المصرية، إلا أن المسيحيين المصريين في سيناء وتحديد وجهة العلاقة معهم تخضع بشكل كبير لطبيعة ووجهة علاقة تلك القبائل بالدولة، وقد شهدت القبائل نفسها في الفترة الأخيرة انقسامات داخلية حادة فيما يتعلق بالعلاقة مع الدولة، وعلى الرغم من تمسك العديد من أبناء القبائل خاصة من المشايخ وكبار السن بالعلاقات الجيدة مع الدولة والجيش نظرا للتاريخ المشترك بينهم، إلا أنه يبدو أن الأجيال الأصغر سنا أو التي لم تعاصر الصراع المصري الإسرائيلي في سيناء، أقل حماسا لذلك التعاون[9]، حيث تتبنى وجهة نظر براجماتية تبدو متأثرة بغياب التنمية والتضييق والممارسات الأمنية التي تتبعها الدولة كاستراتيجية في التعامل مع ملفات شمال سيناء في ظل الحرب على الإرهاب أو حماية الحدود مع قطاع غزة وإسرائيل، فتشهد بعض القبائل أزمة تهدد أعرافها الراسخة تتمثل في خروج بعض الشباب عنها ولا تبدي التزاما بتوجيه شيوخ تلك القبائل، وهو ما انعكس أيضا على المسيحيين الأقباط، حيث لم تعد القبائل قادرة على توفير الحماية الكاملة لهم وفق ما هو محدد عرفيا، وهو ما ساعد على استهدافهم من قبل تنظيم ولاية سيناء.
ويتضح أثر تلك المتغيرات على طريقة استهداف المسيحيين في شمال سيناء بعد 2013، فعلى الرغم من وجود هجمات متفرقة من مطلع الألفية تستهدف الأقباط، مثل استهداف عدد من رجال الدين أو الكنائس، لعل أبرزها الهجوم على كنيسة مار جرجس في 29 يناير 2011، إلا أنها لا يمكن اعتبارها هجمات ممنهجة موضوعة وفق رؤية واستراتيجية إلا بعد 2013، ويتضح ذلك من تدرجها من جهة، ومن جهة أخرى وجودها في إطار أكبر وهو محاربة الدولة في سيناء.
ففي عام 2013، أعلن تنظيم أنصار بيت المقدس تغيرا في استراتيجيته باستهدافه للعسكريين المصريين وقيامه بعدة هجمات أبرزها تفجير مقر المخابرات الحربية في مدينة الإسماعيلية، ومديريتي أمن الدقهلية والقاهرة، ثم عملية الفرافرة قرب الحدود الليبية، معللا ذلك بالانتقام لممارسات الجيش ضد المسلمين في مسيرة الحرس الجمهوري، واعتصامي رابعة والنهضة، كما حذر التنظيم المواطنين من التواجد بقرب المقرات الأمنية، فيما يعد إشارة على تغير عقيدة التنظيم تجاه سقوط ضحايا من المدنيين.[10]
وفي سيناء، أصدر التنظيم قائمة تضم أسماء العائلات المسيحية بالعريش، مهددا إياهم إما بالرحيل أو القتل، وهو ما نتج عنه مغادرة عدد قليل من المسيحيين بالفعل من العريش، في ظل تواجد أكثر قوة من أي وقت مضى للتنظيم في شوارع المدينة، ووجود حاضنة مجتمعية تساعده على التوسع والتخفي، عززها الحل الأمني الذي تبنته الدولة مجددا بشكل أكثر قوة وعنفا، والذي لا يخلو من انتهاكات مادية ومعنوية بحق السكان[11].
ولاية سيناء يسعى إلى خلق أيديولوجية مناهضة للدولة:
في ظل غياب التنمية عن سيناء منذ عودتها الكاملة إلى مصر عام 1982، حيث لم يتم تنفيذ إلا 21% فقط من مخطط التنمية الذي طرحته الدولة عام [12]1994، بالإضافة إلى غياب الأبعاد الاجتماعية فيما يتعلق بملف المواطنة وتمكين المواطن السيناوي وغير ذلك، واعتماد الدولة فقط على الرصيد التاريخي للعلاقات المميزة بينها وبين القبائل السيناوية، خاصة العلاقة مع وزارة الدفاع المصرية، وهو ما يتضح من حفاوة استقبال سكان العريش لمدرعات الجيش المصري عقب الانسحاب الأمني للشرطة المصرية في 28 يناير 2011.
يبدو أن تنظيم ولاية سيناء يستهدف تلك العلاقة الوطيدة في الأساس، فبدأ في ممارسة العنف والإعدامات الميدانية ضد من يثبت علاقته بالجيش من جهة، ومن جهة أخرى يتخذ مناطق كثيفة السكان في العريش والشيخ زويد كمنطلق لعملياته ضد الجيش، فيقوم الجيش بالرد على تلك الهجمات وتمشيطها بما يصاحب ذلك من تجاوزات وانتهاكات مادية ومعنوية بحق السكان[13]، مستغلا لصالحه الإصابات التي قد تقع بين المدنية خلال عمليات مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى ترهيب السكان عن طريق عمليات الإعدام الميدانية التي يمارسها في الميادين العامة[14]، وبذلك يحاول التنظيم طرح خطاب وطني وديني وحقوقي، في مواجهة الدولة المصرية.
هناك حقيقة لا يمكن التغاضي عنها في تحليل سلوك وتحركات تنظيم ولاية سيناء، وهي أن التنظيم في العراق وسوريا يتعرض في الآونة الأخيرة إلى سلسلة من الهزائم على القوات المسلحة لكلا الدولتين بدعم عسكري من التحالف الدولي وميليشيات أخرى موالية للنظام أو مناهضة للتنظيم، ولا شك أن التزامن في العمليات ضد وتصاعد حدتها وفداحة خسائر التنظيم، سوف تؤدي إلى ضرورة إيجاد التنظيم لموطئ قدم له بديلا عن المناطق التي تخرج من سيطرته في سوريا والعراق، وتعد مناطق مثل ليبيا، والتخوم الحدودية بين سوريا والأردن بالإضافة إلى سيناء، أكثر المناطق المرشحة لذلك الانتقال، وهو ما يعد تفسيرا لتزامن التصعيد في سيناء مع الهزائم في سوريا والعراق.
فيبدو أن استهداف المسيحيين في سيناء أحد خطوات التنظيم نحو سعيه نحو إيجاد تلك المساحة، عن طريق خلق أو على أقل تقدير تسويقه بأن هناك تمرد إسلامي مسلح في مواجهة الدولة، فتصبح الدولة حينذاك في مواجهة تمرد إسلامي انفصالي بدلا من شنها حرب على الإرهاب. المسيحيين بالإضافة إلى العاملين في القطاع الحكومي هم من سكان وادي النيل، أي انهم يمثلون أحد مظاهر التواصل بين سيناء والوادي، وأحد مؤشرات وجود الدولة وسيطرتها على تلك الرقعة من الدولة. ولعل دفعهم إلى النزوح من سيناء عن طريق إرهابهم، هو بداية لتفريغ سيناء من سكان وادي النيل، وهو ما يعززه بدء التنظيم في استهداف مكونات أخرى مثل المدرسات، حيث بدأ التنظيم في مطالبتهم بارتداء (النقاب) أو الرحيل[15]، كما نزحت 38 أسرة مسلمة تنتمي إلى قبائل شمال سيناء من العريش إلى الإسماعيلية خوفا من بطش التنظيم بهم لرفضهم التعاون معه.[16]
الخاتمة والتوصيات:
تعد سيطرة الدولة على أطرافها أحد مؤشرات قوة الدولة، إلا أن السيطرة الأمنية لم تعد وحدها كافية في ظل تحديات عالم اليوم، فتحقيق العدالة الاجتماعية وتفعيل المواطنة والتنمية الاقتصادية أيضا تعد من مؤشرات سيطرة الدولة، وبالنظر إلى المحافظات الحدودية للدولة المصرية، فإنها تفتقد إلى تلك المعايير بنسب متفاوتة، مع تعزيز للبعد الأمني، فدائما ما يمثل العسكريون السلطة المركزية في المناصب التنفيذية لتلك المحافظات، في غياب واضح للدور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للدولة، وقصور أي دور فيما عدا الأمني على تقديم الخدمات بين الحين والأخر.
وقد شهدت الفترة الأخيرة تصعيدا حاد في الأحداث في سيناء خاصة ضد المسيحيين الأقباط المقيمين في مدينة العريش بمحافظة شمال سيناء، مما أدى إلى نزوح أعداد كبيرة تقترب من 150 من الأسر المسيحي، وذلك بعد مقتل 7 مسيحيين على يد تنظيم ولاية سيناء الإرهابي، منهم من تم قتلهم داخل منازلهم، ولم يكن نزوح المسيحيين الأقباط المشهد الوحيد لاستهداف تنظيم ولاية سيناء لهم، إلا أنه أحد أكثر المشاهد ترويعا منذ بدأ التنظيم استهدافه للمسيحيين في 2013 عقب إسقاط نظام الإخوان المسلمين وعزل محمد مرسي من منصب رئاسة الجمهورية، فبدأ استهداف المسيحيين بالتهديد بالرحيل أو القتل، وذلك وفق قائمة أرسلها التنظيم تضم أسماء العائلات المسيحية في 2013، مع تعزيز الدعاية القائمة على أن المسيحيين المصريون هم المحرك الرئيسي لحراك 30 يونية وعزل محمد مرسي.
وهي الدعاية التي وجدت طريقها بين عدد من سكان العريش، مما أكسب تهديد المسيحيين في شمال سيناء بعدا أخر خطيرا يتمثل في إيجاد القبول المجتمعي في محيطهم إذا ما تم استهدافهم، بالإضافة إلى وجود تغيرات جوهرية في الهياكل القبائلية نتجت عن النزاع الجيلي حول العلاقة مع الدولة ومؤسستها العسكرية، فين جيل يتمسك بالعلاقة التاريخية القائمة منذ الاحتلال الإسرائيلي، وجيل أخر لم يعاصر تلك الفترة إلا أنه يعاني التهميش وضعف التنمية، وجد التنظيم طريقه إلى بعض أبناء القبائل، وهو ما انعكس على العلاقة بين القبائل والمسيحيين المدعومة بالأعراف والتقاليد.
وفي ظل توجيه تنظيم ولاية سيناء سلاحه نحو القوات العسكرية المصرية في أعقاب عزل الإخوان، حين كان يسمى تنظيم أنصار بيت المقدس قبل أن يعلن البيعة لتنظيم داعش، ويغير أسمه إلى ولاية سيناء، نجح التنظيم في إقحام المجتمع السيناوي سواء سكان العريش أو القبائل في الصراع مع الجيش، مستخدما المؤثرات الدينية والاجتماعية والاقتصادية تارة، وتارة أخرى في جعل المناطق السكنية مناطق عمليات عسكرية يقوم الجيش باقتحامها وتمشيطها في إطار البحث عن عناصر التنظيم، مما يترتب عليه انتهاكا ماديا ومعنويا يؤثر في شعبية الجيش وعلاقته بالسكان، فيما بدا وكأن هناك استراتيجية يتبعها التنظيم تهدف إلى تقليب أهالي شمال سيناء على الجيش ثم تفريغ شمال سيناء من سكان الوادي ومن بينهم المسيحيين، من أجل تحويل الصراع من حرب على الإرهاب إلى تمرد إسلامي مسلح.
وإذا ما أرادت الدولة أن تجد حلولا جذرية للأزمة في سيناء، فعليها أن تراعي في تلك الحلول تحقيق التوازن بين الأبعاد الأمنية، والأبعاد الأخرى الاقتصادية والاجتماعية الثقافية والسياسية، ولعله آن أوان فتح قضايا هامة مثل العدالة الانتقالية في سيناء، والذي ظهرت الحاجة الملحة لها عقب قضية إعلان الأجهزة الأمنية مقتل 10 شبان من أبناء قبائل سيناء في مداهمة أمنية لأحد أوكار تنظيم ولاية سيناء، ورفض القبائل لتلك الاتهامات وإعلانها عن اعتقال هؤلاء الشباب وما أعقبه من تصعيد، أحد الحوادث التي تؤكد ضرورة فتح ملف العدالة الاجتماعية في سيناء بآلياتها الثلاث، المصارحة، المحاسبة، وجبر الضرر، وبالقياس على تلك الحادثة هناك العديد من الأحدث الأخرى التي توفر للعديد من المنتمين إلى تنظيم ولاية سيناء الدافع والمبرر الأخلاقي على أقل تقدير لمجابهة الدولة ومحاربتها.
كما أن تعزيز التمايز بين سكان شمال سيناء في ظل غياب المواطنة الفعالة من شأنه أن يزيد من حدة الاحتقان بين المكونات المجتمعية المكونة للتركيبة السكانية للمنطقة، وهو الاختلاف الذي إذا أفتقد للإدارة الجيدة المبنية على مبادئ المواطنة من شأنه أن يعزز القبلية والانتماءات الأولية التي من دون شك سوف تبحث عن قوى تعزز تلك الاختلافات، فتصبح تلك المكونات الاجتماعية حاضنة اجتماعية للتنظيمات المتطرفة مثل تنظيم ولاية سيناء من جهة، وتصبح تلك التنظيمات بمثابة الذراع العسكرية لتلك المكونات من جهة أخرى.
أما التنمية الاقتصادية فهي ضرورة لخلق مجتمع محلي قادر على إيجاد حاضنة اقتصادية مرنة لها القدرة على استيعاب مختلف الأعراق والأديان، تخلق إطارا من المصالح التي في حاجة إلى الحماية، مما يترتب عليه نفور ومواجهة ضد أي عنصر خارج تلك المنظومة قد يتسبب في تخريبها أو إفسادها.
[1] تفجير الكنيسة البطرسية بالقاهرة: تنظيم الدولة الإسلامية يعلن مسؤوليته ويتوعد باستمرار “الحرب”، بي بي سي، 13 ديسمبر 2016، https://goo.gl/95wb0V
[2] “داعش” يهدد أقباط مصر في تسجيل جديد، روسيا اليوم، 19 فبراير 2017، https://goo.gl/9StckO
[3] محمد العجاتي، أهالي سيناء بين حقوق المواطنة وضروريات الأمن القومي، الشروق، 7 نوفمبر 2012، https://goo.gl/2cPacG
[4] علي بكر، التنظيمات الجهادية في سيناء والأمن القومي المصري، المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، 19 يونية 2014، https://goo.gl/kXxCsZ
[5] إسماعيل الاسكندراني، إلى أين ينتهي الصراع المسلح في سيناء؟، مركز الجزيرة للدراسات، 16 فبراير 2015، https://goo.gl/AcPgWu
[6] محمد مجاهد الزيات، تأثير الجماعات الإرهابية في الإقليم على الإرهاب في سيناء، الملف المصري، العدد 31، مارس 2017، https://goo.gl/ch015u
[7] “أنصار بيت المقدس” تبايع “داعش”، روسيا اليوم، 10 نوفمبر 2014، https://goo.gl/OpV3Yk
[8] مقابلة مع أحد النازحين من مسيحيي العريش، الإسماعيلية، فبراير 2017.
[9] المرجع السابق.
[10] محمد إسماعيل، خريطة الجيل الثالث من تنظيمات العنف في مصر، السياسة الدولية، https://goo.gl/aGQaqq
[11] مقابلة مع أحد النازحين من مسيحيي العريش، مرجع سابق.
[12] محمد العجاتي، أهالي سيناء بين حقوق المواطنة وضروريات الأمن القومي، مرجع سابق.
[13] المتحدث العسكري: استهداف معسكر شمال سيناء أسفر عن استشهاد جندي وإصابة 3، الوطن نيوز، 14 يوليو 2014، https://goo.gl/PvUZ78
[14] داعش يلغم شابا سيناويا ويقتله مع 15 آخرين بطرق بشعة، العربية نت، 14 ديسمبر 2016، https://goo.gl/VlLBm2
[15] إجازة لمعلمات رفح لآخر الأسبوع، المصري اليوم، 27 فبراير 2017، https://goo.gl/tJhzIl
[16] نزوح 38 أسرة مسلمة من العريش إلى الإسماعيلية، الوفد، 2 مارس 2017، https://goo.gl/GWgSR3