يندر في العالم المعاصر وجود مجتمع متجانس على نحو مطلق، فـ“عدد المجموعات الإثنية/الثقافية يتجاوز عدد الدول/الأمم؛ فهناك 190 دولة عضو في الأمم المتحدة في مقابل 5000 مجموعة إثنية تتكلم كل واحدة منها لغتها الخاصة تنتمي إلى 600 مجموعة لغوية”[1] ولا تخلو أي دولة على وجه الأرض من واقع التنوع إلا فيما ندر، إذ تعد أيسلندا، وكوريا الدولتين الوحيدتين في العالم من حيث الانسجام الثقافي.
في هذا السياق، لا تشكل المجتمعات العربية استثناءً من حيث تعدديتها الدينية والإثنية واللغوية، ولإن هذه المجتمعات أصبحت بفضل الدولة القومية الحديثة نتاجا معاصرا لتجانس ثقافي، اعتادت حكوماتها تجاهل التنوع، ومساواة الوحدة بالتجانس، والمساواة بين الأفراد بالتماهي، في هوية الدولة/الأمة.
وقد شرعت الدولة العربية الحديثة باحتواء تنوعها الثقافي ومحاولة إعادة توحيد الأفراد على أساس بنية مركزية للسلطة يجري تقبلها قسرا على نحو جماعي، فقد كان البحث عن التجانس الثقافي ضروريا من وجهة نظر نخب السلطة لقيام الدولة واستمرارها.
لكن، ما يمر به العالم العربي من تحولات منذ الربيع العربي (تونس، مصر، ليبيا، اليمن) وظهور تنظيم داعش الذي هدد التنوع في أكثر من بلد (لا سيما في سوريا والعراق)، وضعت الحكومات العربية أمام شعور بالارتباك وفقدان البوصلة إزاء مطالب بالاعتراف بالتنوع بعد عقود من الإنكار على صعيد الجماعات ومطالب المساواة الكاملة في المواطنة بعد عقود من التمييز على صعيد الأفراد.
وتقترح الورقة مجموعة من السياسات على صعيد التشريعات والتربية والثقافة والتمكين الاقتصادي، من شأنها تعزيز المواطنة في البلدان العربية المتعددة الثقافات. لكن في سياق يعيد النظر بالنموذج القديم للمواطنة الذي طرح طوال عقود ما بعد الاستقلال وقبل انطلاق الربيع العربي وظهور تنظيم داعش.
إعادة النظر في مفهوم المواطنة
نما مفهوم المواطنة في السياق السياسي والثقافي العربي أسوة بالمفهوم المعاصر المرتبط بالانتماء القومي إلى شعب وطني موحد في إطار الدولة/الأمة، وتأسس في سياق اقصاء السلطة لأصوات جماعات مختلفة دينيا وطائفيا من المجال العام، فقد تبنى الإطار الجامع الجديد المضفور بفكرة “القومية” هندسة فوقية للأمة (خلقها من أعلى) على نحو أهمل أصوات جماعات إثنية عديدة، فاستبعدت عن تشكيل هوية أمة جامعة، ولتجد تقاليدها وثقافاتها محظورة أو مدانة أو منسية في أحسن الاحوال، فقد كانت فلسفة القومية استيعابية بالإكراه، وفرزت آلياتها التوحيدية لإنتاج الهوية المشتركة مثل “التعليم” هوية أحادية طردت الآخر الداخلي من معادلة تخيل الامة، خالقة فجوة معرفية بمكونات المجتمع، ومن ثم صد سيرورة إنتاج هوية تعددية من أسفل.
ومع ذوبان فريرز السلطة الذي جمد مطالب قديمة ترجع إلى بناء دولة ما بعد الاستقلال، أو رفع غطاء قدر الطبخ عن المكونات الاجتماعية المنصهرة بقوة الحديد والنار، تناهى إلى أسماعنا صدى أصوات مقموعة على امتداد العالم العربي: الأمازيغ- المغرب العربي، الأقباط- مصر، الأكراد وأقليات أخرى- العراق وسوريا، الشيعة- السعودية والبحرين، المسيحيون- السودان.. إلخ[2].
لذا، تتبنى الورقة مفهوم المواطنة الحاضنة للتنوع الثقافي (Intercultural Citizenship) بوصفه الإطار المناسب للدول التعددية في العالم العربي، وهو إطار تتبين أهميته مما يأتي:
1- تجاوز فشل النموذج القديم في المواطنة وبناء الأمة بطريقة الانصهار القسري مع البنية المجتمعية القائمة، والتي فشلت في استيعاب التنوع الذي تنطوي عليه المجتمعات التعددية.
2- مواجهة مخاطر بزوغ هوياتي (كرد فعل) يؤكد على الانتماء الأضيق، من خلال آليات الاستقطاب الإثنوطائفي الحاد بين الأنا والآخر، (سيناريوهات تفكك العراق إلى دويلات وهجرة أقلياته، انفصال جنوب السودان، عدم الاستقرار في مصر، الفوضى في سوريا، مطالب الشيعة المتنامية في البحرين والسعودية.. إلخ).
3- مواجهة مخاطر تهديد وحدة الدولة، فالتنوع يمثل رأسمال لبلدان المنطقة، لكن إذا لم تحسن إدارته من قبل الدولة، قد يتحول إلى قاعدة للنزاع والتفرقة والخلاف.
تقدم المواطنة الحاضنة للتنوع الثقافي نموذجا يقي من جهة من خطر سياسات الاندماج والانصهار وذوبان المجموعات الثقافية في بوتقة قومية ضاغطة كما في حالات المواطنة وفق نموذج الدولة/الأمة التقليدي، حيث تستبعد الخصوصيات باسم المساواة المطلقة التي يمكن ان تنتهي بفرض ثقافة أو إيديولوجية حصرية على الآخرين. ومن جهة أخرى يدفع هذا النموذج بالتنوع الثقافي إلى حالة من التفاعل والتلاقح ضمن الفضاء العام المشترك وفي الفضاءات الخاصة الفردية والجماعية أيضا، فيقي بذلك الانقسام الاجتماعي (الذي قد يحدث في سياق النموذج التعددي) ويحافظ على وحدة الهوية الوطنية.[3]
وإذا كانت المواطنة وفق النموذج التقليدي تتحقق بالالتزام بمنظومة الحقوق والواجبات المتساوية والمشتركة بين الجميع، فالمواطنة الحاضنة للتنوع الثقافي، المكملة لها في مجتمع تعددي، تقتضي مقاربة المساواة والشراكة من منطلق احترام التنوع واعتباره مصدرا للغنى الجماعي المشترك. فبذلك يصبح المواطن الأخر باختلافه الثقافي جزءً من عملية بناء الذات الفردية المجتمعية، بدلا من أن يكون منافسا على المكتسبات أو مجرد متساو معي في الحقوق والواجبات. بهذا يصبح التنوع مرتبطا بعملية التفاعل أكثر من ارتباطه بالمسافة التي تفصل بين الجماعات. فحاجة كل طائفة إلى الأخريات تتعدى كونها شاهدة على تمايزها عنهن. إلى كونها تشكل معا مسارا وتلاقيا حول مضمون مشترك.[4]
أفضل الممارسات الدولية
تبين دراسات وتحليلات لحالات معينة أن من الممكن إقامة ديموقراطيات ثابتة في كيانات حكم متعددة الثقافات. وثمة جهود بذلت لإنهاء الاستبعاد الثقافي للمجموعات المتنوعة، ولبناء هويات تعددية وتكاملية (المثال الأبرز في الحالتين الإسبانية والبلجيكية). توفر مثل هذه السياسات حوافر لتطوير مقاربة الوحدة في التنوع، ويمكن للمواطنين إيجاد الحيز المؤسسي والسياسي للتماهي مع بلادهم ومع هوياتهم الثقافية الأخرى على حد سواء ولبناء ثقتهم بالمؤسسات المشتركة، وللمشاركة في السياسات الديمقراطية ودعمها.
وتظهر نظرة سريعة عن أفضل الممارسات الدولية، إنه ليس من الضروري أن تعني الهوية القومية، ضمنا، هوية ثقافية متجانسة واحدةـ، ومن الممكن أن تؤدي محاولات فرض هوية كهذه إلى توترات اجتماعية ونزاعات. تستطيع الدولة أن تكون متعددة الأعراق، ومتعددة للغات، ومتعددة الأديان؛ كما تستطيع أن تكون ثنائية القومية علانية (بلجيكا). أو متعددة الأعراق (الهند). وفي وسع المواطنين أن يكنوا في الوقت ذاته، ولاءً قويا لهوية دولتهم، ولثقافتهم الخاصة. وتتيح الدساتير التي تعترف بالهويات المتعددة والتكاملية، كما في جنوب أفريقيا، الاعتراف السياسي والاجتماعي والاقتصادي لمجموعات متمايزة[5].
من البديهي أن الدولة بكيانها الأوسع قد تتفتت إذا لم يشعر الناس بالولاء والمحبة إلا للفئة التي ينتمون إليها (يوغوسلافيا). وثمة بلدان، مثل أيسلندا وجمهورية كوريا والبرتغال، وحتى البلدان التي تقارب المثال الأعلى لدولة قوية متجانسة ثقافيا؛ لكنها مع مرور الوقت قد تجابه تحدي التنوع مع وصول موجات من المهاجرين، كما حدث في هولندا والسويد.[6]
تظهر بلجيكا وإسبانيا كيف يمكن للسياسات المناسبة تعزيز الهويات المتعددة والتكاملية؛ حيث تستطيع مثل هذه السياسات (التي تطبقها بلجيكا منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وإسبانيا منذ إقرار دستور عام 1978) تخفيف الاستقطاب بين الفئات في المجتمع، مع تمسك غالبية المواطنين اليوم بهويات متعددة وتكاملية[7].
مثل هذه الممارسات الدولية مفيدة إلى حد بعيد لاقتراح أية سياسات مماثلة لتعزيز المواطنة في البلدان العربية متعددة الثقافات، لكننا سنمضي على نحو أكثر دقة وتفصيلا في الاحتكام إلى تجارب وممارسات ناجحة فيما يخص كل سياسة محددة نقترحها.
سياسة تشريعية لتعزيز المواطنة
نعتقد إن أي تخطيط لسياسة تشريعية تعزز قيم المواطنة في الدول العربية المتعددة الأديان والطوائف عليها أن تراعي بنظر الاعتبار تأكيد قيمتين اساسيتين للمواطنة هما (المساواة الكاملة أمام القانون) بوصفها جوهر المواطنة، و(الاعتراف بخصوصيات الجماعات) بأشكال مختلفة، لضمان عدم هيمنة جماعة على المجتمع وتهميش غيرها، وتعزيز التفاعل والاثراء المتبادل بين أبناء الوطن الواحد، وعلى نحو يساعد على قبول الاختلاف على مختلف المستويات، واحترام الأخر لتوطيد العيش معا بين المواطنين وبناء الترابط الاجتماعي بينهم.
ولتحقيق ذلك، نقترح حزمتين من التشريعات، الأولى تؤكد المساواة وتناهض التمييز، والثانية تعمل على تعزيز التنوع. فقد نجحت سياسة مناهضة التمييز في إدماج أفراد مستبعدين ومهمشين في بوتقة مجتمعات تعددية، ومن الأمثلة المعروفة على نطاق واسع، نجاح سياسة مناهضة التمييز ضد السود في الولايات المتحدة وطبقة المنبوذين في الهند.وقد شرعت كل من كندا وصربيا وجنوب أفريقيا والاتحاد الأوربي قانونا شاملا لمناهضة التمييز. أما في الولايات المتحدة والمغرب، فقد سنت تشريعات مجزأة، إذ صدر في الولايات المتحدة 17 قانونا فيدراليا يختلف فيه نطاق الحماية والفئات المحمية من قانون إلى أخر، وكذلك فعلت المغرب التي سنت قوانين مختلفة لمناهضة التمييز وعدلت بعض قوانينها بما يتلاءم مع سياسة مناهضة التمييز[8].
لكن على أي تشريع مقترح أن يتوافر على عناصر أساسية تتمثل بما يلي: فهم المقصود بالتمييز، تحديد أشكال التمييز وصوره، تحديد الجماعات التي يجب حمايتها، ولا سيما إن بعضها لا يحظى بالاعتراف الرسمي في أكثر من بلد عربي. وأخيرا تحديد كيفية تطبيق القوانين المناهضة للتمييز، فالعملية التشريعية معقدة، ولا تتضمن مجرد صياغة تشريع والتصويت عليه واقرارها، إنما المحك هو كيفية ضمان تنفيذها والنتائج المترتبة على هذا التنفيذ.
من جهة ثانية على أي تشريع لتعزيز التنوع أن يتضمن العناصر الآتية: حق الفرد باختيار الهوية، وعدم إجباره على الاندراج ضمن هوية رسمية تحددها الدولة، والحق في استعمال لغته الخاصة إذا كانت مختلفة عن اللغة الرسمية أو لغة الأغلبية، والحق في التعليم من خلال منح الدولة الجماعات المختلفة الحق في التعليم بلغاتها الأصلية، فضلا عن التعلم باللغة الرسمية للدولة، وأخيرا الحق في الوصول إلى وسائل الإعلام.
سياسة التربية المواطنية
على الرغم من الإدراك المتزايد بأهمية التربية المواطنية في إعداد مواطنين يمثلون مساهمين في مجتمعات تعددية عربية عديدة، لكن أجريت دراسات حول برامج التربية المواطنية في إحدى عشر دولة عربية رئيسية من قبل مركز كارنيجي للشرق الأوسط كشفت عن وجود فجوة واسعة بين الأهداف المعلنة لبرامج التربية المواطنية وبين تنفيذها الفعلي[9]. وفي معظم الدول العربية التي شملتها الدراسة، لا تمت خطط إصلاح التعليم للواقع السياسي بصلة، ولا تشمل التزامات سياسية بتعليم مواطنين أحرار وديمقراطيين ومبدعين[10].
تشمل التربية المواطنية ثلاثة جوانب رئيسة هي[11]:
– معرفة المفاهيم المدنية ونظم وعمليات الحياة المدنية
– مهارات المشاركة المدنية، وحل المشكلات، والتفاوض
– القابلية، وحس الانتماء والقيم والاخلاق.
والغرض من ذلك هو تطوير ثقافة متكاملة ومواطنين ومسؤولين يعرفون حقوقهم وواجباتهم القانونية، وتطبيق هذه المعرفة لتقييم السياسات والممارسات الحكومية. علاوة على ذلك، فان رعاية الطلاب ليصبحوا مواطنين يعملون من أجل الصالح العام لها تأثير إيجابي على جماعاتهم ومجتمعاتهم.
تضم سياسة التربية المواطنية مقاربتين متداخلتين: التربية عن المواطنة، والتربية من خلال المواطنة. الأولى هي مجرد حد أدنى من التربية بشأن الحقوق والواجبات والمعرفة حول التاريخ والسياسة. وتعلم الثانية الطلاب من خلال المشاركة في الأنشطة المدنية، داخل المدرسة مثل التصويت لمجلس المدرسة، وخارج المدرسة مثل الانضمام إلى جماعة مدافعة عن البيئة في المجتمع. تغطي “التربية المواطنية” أهداف كل من هاتين المقاربتين؛ بالإضافة إلى ذلك، هي تستهدف القيم والاتجاهات، وترتبط بتجربة الطلاب الكاملة في المدارس. وتعد قيم المواطنة هذه أساسية لمقاربة التنمية البشرية وتعميم الأهداف الوطنية الأكثر شيوعا للتربية المواطنية في كثير من البلدان: لتطوير قدرات الفرد وتعزيز تكافؤ الفرص وقيمة المواطنة[12].
وتفيد المعلومات الواردة من أكثر من بلد عربي، بأن الكتب المدرسية المستخدمة في كثير من البلدان تقدّم معلومات بخصوص الأخر الديني في إطار التعليم المدرسي، بعيدة كل البعد في الواقع عن استيفاء شرط الحياد، بل أنها تعزز في بعض الأحيان القوالب النمطية القائمة ضد المختلف دينيا أو طائفيا، وتقع على عاتق الدول مسؤولية اتخاذ التدابير المناسبة لتصحيح هذا الوضع المؤسف[13].
لذاـ أصبح من الملائم إعادة النظر في تدريس التربية الدينية في المراحل الأولية، وتطوير تدريس هذه المادة على نحو يركز على الثقافة الدينية، أو الدعوة إلى تدريس المشتركات الدينية، أو فلسفة الدين. ويقتضي تشجيع الدول العربية على فحص مناهج التعليم وتغييرها وتعديلها، لغرض بناء مناهج دراسية تتلاءم مع مجتمع متعدد الإثنيات والأديان والطوائف.
سياسة ثقافية لتعزيز المواطنة
تواجه الدولة في البلدان العربية متعددة الثقافات تحد إدارة التنوع الثقافي بين متطلبات متعارضة مثل تحقيق الوحدة والانسجام الثقافي بحيث لا تطغى الخلافات الثقافية بين المواطنين وتتحول إلى انقسام، ومطلب غرس ثقافة احترام التنوع والاختلاف الثقافي تعبر عن جميع خصوصيات الجماعات وممارساتها الثقافية.
نقطة التوازن بين هذين المطلبين المتعارضين تكمن في تعزيز مواطنة حاضنة للتنوع الثقافي عبر تبني وتصميم سياسة ثقافية تبلور “ثقافة مشتركة” تسهم في تقوية الأواصر بين أفراد من خلفيات ثقافية مختلفة، وتنمية إحساس مشترك بالانتماء بين المواطنين، وتوفير أرضية من التفاعل المشترك بين الثقافات يحد من تشظي المجتمع في حال إلغاء الخصوصيات، وتعزيز شعور الأفراد بأهمية التنوع بوصفه أساس وثروة المجتمع ومظلة لإحساس عام ولغة مشتركة وقيم متكاملة متفاعلة تنبثق من خلال الحوار المتعدد الثقافات.
وبخلاف الأنموذج الإدماجي القسري الذي يؤسس لثقافة أحادية البعد تتطلب التطابق مع املاءاتها من قبل جميع الثقافات الفرعية، فإن وحدة المجتمع وانسجامه في البلدان العربية التعددية تكمن في “الاتفاق على ثقافة مشتركة” تشمل مجموع القيم العامة والمثل والممارسات الثقافية والمعتقدات الدينية والأعراف للجماعات المختلفة، ويتحدد هذا “الاتفاق” في كيفية بناء هذه الثقافة المشتركة من خلال اشتراك جميع المواطنين على اختلاف خلفياتهم الدينية والطائفية عن طريق حوار تفاعلي هادف يجمعهم على تحقيق هذا الهدف مشترك.
في هذا السياق، من المهم، استجابة البنية الثقافية المؤسسية من متاحف ومعارض ومهرجانات رسمية وغير رسمية سينمائية وفنية وموسيقية وأدبية لهذا الهدف، من خلال الاحتفاء بالثقافات المختلفة وإدماجها تفاعليا في الأطر الثقافية للمجتمع، على نحو يوفر مصادر مشتركة لتنمية الشعور بأهمية التنوع والافتخار بثرائه وللتمتع بمزاياه وسحره. إذ “يفترض بكل مجتمع ودولة أن يستثمرا التنوع الثقافي المكون للوطن عبر إبرازه في التربية الوطنية وتشييد المتاحف التي تحفظ الذاكرة المتعددة لهذا الإرث، إن كان مناطقيا أم إثنيا أم دينيا.. وتشجيع السياحة الداخلية والخارجية للاطلاع على ذلك، وتشجيع البرامج والمهرجانات والاحتفالات الشعبية التي تحتفل بهذه الامور الثقافية.. إلخ”[14].
تعد الأطر الحوارية الرسمية وغير الرسمية أبرز آليات التفاعل الداخلي داخل الثقافة المشتركة، من مؤسسات دينية وتربوية ولقاءات ومنتديات ثقافية ومراكز تفكير ومنظمات تطوعية ومبادرات مدنية، تسهم في بلورة فكر وخطاب ومقاربات تربوية وتثقيفية تستطيع أن تتعامل مع التنوع بشكل إيجابي وتضبط إيقاعه وفق نموذج مواطنة حاضنة للتنوع الثقافي.
تساعد هذه الأطر، الأفراد والجماعات على التكيف مع العيش المشترك والاحتفاء به بوصفه مصدر قوة للذات، وجعله محور “الثقافة المشتركة” المكونة من جميع الثقافات الخاصة بالأفراد والجماعات.
وعلى الدولة، ومن خلال الأطر الرسمية للحوار، التزام أساسي يتمثل بضمان حدوث التفاعل الثقافي في إطار من المساواة والعدالة، وتمكين كافة الجماعات في المساهمة الفعالة في التفاعل الثقافي داخل هذه الثقافة المشتركة وعدم توجيه الحوار بما يمنح صورة غير حقيقية عن المجتمع، والتعامل مع الاختلافات بوصفها مصدر غنى وليست مصدر تهديد لوحدة المجتمع، بعبارة أخرى تحويل الدولة لدورها من “موجه” إلى داعم ومتلق ومتفاعل، لغرض نزع الطابع الاحتفالي الفج أو الاستعراضي عن أنشطة الحوار التي تتدخل في توجيها الدولة، وضمان عدم تحولها إلى مجرد عمل دعائي لإثبات الانسجام الديني والطائفي في المجتمع خلافا للواقع.
من شأن الثقافة المشتركة التي تبنى عبر حوار تفاعلي هادف تقوده أطر رسمية وغير رسمية، أن تصل بالمجتمع إلى (تكوين عابر للجماعات والطوائف والمناطق) حول قضايا وطنية مشتركة، وتوفر مساحة مميزة لتعزيز التفاعل والتبادل الثقافي وتقريب وجهات النظر والتحالف والشراكة بهدف تنمية المجتمع وخدمة القضايا الانسانية، وهو أفضل سبيل لتقوية الشعور بالانتماء الوطني والمسؤولية المشتركة المنفتحة على سائر مكونات المجتمع[15].
سياسة تمكين اقتصادي مناسبة
يجب ألا ينظر للتنوع في المجتمع على أنه عقبة أمام التنمية، فالعقبة تحدث عندما تفتقر قطاعات من السكان إلى فرص المساهمة في التنمية على قدم المساواة. بل يمكن النظر للتنوع على إنه فرصة ومصدر ثروة لا يمكن أن تستثمر على نطاق واسع، وتترك أثرها على تنمية الاقتصاد بشكل عام، دون سياسات تمكين اقتصادي تقوم على النظر للمواطنة على كونها (مُنتِج ومًنتج).
المواطن (مُنتِج)، ووسيلة نمو، عندما يكون مواطنا، وهدفا للتنمية. والمواطن (مًنتج)، وعنصر إنتاج نادر، ومورد اقتصادي غير قابل للنضوب. وتتمثل أفضل سياسات للتمكين الاقتصادي في تمكين السكان (وهم أهم مورد اقتصادي على الإطلاق) من أن يكونوا مواطنين، بحقوق معلومة، وواجباتٍ محددة بدقة.
في هذا السياق، فإن سياسات التعليم الجيد، الإطار القانوني الذي يعزز المساواة في جميع أشكالها (لا سيما من الناحية الاقتصادية)، التوزيع العادل والمنصف للدخل الوطني، و للفائض الاقتصادي، خطط التنمية “المكانية” الشاملة، التي تراعي الميزة النسبية لأماكن سكن المواطنين، وخصوصيات عيشهم، وسلوكياتهم، ونشاطهم الاقتصادي، ستكون هي “الترتيبات ” الكفيلة بأن يقدموا لمجتمعهم، أفضل ما لديهم في جميع المجالات، وتجعل كل تقدم، مهما كان بسيطا، ونسبيا، قابلا لأن يكون دائما، وعتبة للمضي إلى ما هو افضل، من الواقع الراهن[16].
وستشكل مراعاة التعددية عند رسم السياسات الاقتصادية المدخل الأمثل لاقتصاد متنوع، لا يهيمن عليه المتحكمون بمصادر الريع، فالتعددية هي القيمة المضافة، التي لا غنى عنها في أية عملية انتاج سليمة، وذات جدوى.
لكن، من المهم تغذية متطلبات أساسية:
– أولا توفير قاعدة بيانات دقيقة عن الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية للسكان على أساس الهوية، من حيث: معدل البطالة، هيكل البطالة، مستوى التشغيل، هيكل التشغيل، معدلات الهجرة، مستوى الدخل، مصادر الدخل، مستوى الفقر، اوضاع خدمات البنية التحتية، مستوى الأمية، معدل الالتحاق والتسرب في المراحل التعليمية المختلفة، الأوضاع الصحية. من أجل تحديد اولويات تتطلب رصدا سريعا للتخصيصات في الموازنة العامة للإيفاء بأهم الاحتياجات لدى السكان الذين يواجهون ظروفا صعبة أو تمييزا أو تتهدهم مستويات الفقر.
– مشاورة المجتمع المحلي وممثليه بشأن أولويات التنمية وسلم الاحتياجات، لا سيما وإن الدولة لا تمتلك عادة الموارد الكافية للإيفاء بكافة المتطلبات دفعة واحدة.
– على الدولة التزامين من الناحية التشريعية لغرض تعزيز التمكين الاقتصادي لقطاعات من السكان قد تواجه التمييز في العمل أو الفرص الاقتصادية بسبب هويتها الدينية أو الطائفية: سلبي بمنع ومناهضة التمييز وإيجابي بتبني تدابير إيجابية تعالج أثر التمييز طويل الأمد.
– على الدولة تشجيع مؤسسات القطاع الخاص للمساهمة بدورها في التمكين الاقتصادي ومقاومة الفقر الذي يطال شرائح سكانية على أسس من هويتها الدينية أو الإثنية أو الطائفية، وذلك عن طريق توفير فرص العمل وأن تتبنى هذه المؤسسات سياسة تكافؤ الفرص للجميع، وهو أمر من شأنه تعزيز تنوع القوة العاملة لديها والذي يعود بالفائدة على المجتمعات المحلية المختلفة.
خاتمة
يبقى تنفيذ السياسات المقترحة أعلاه، رهنا بتوفر إمكانيتين لهما علاقة مباشرة بالدولة، أولهما تتعلق بالإرادة السياسية التي من دونها لا يمكن المضي في تنفيذ هذه السياسات أو نسخ مخففة منها على الأقل، وثانيهما توفر الموارد اللازمة لتنفيذها.
لكن حتى لو توفرت مثل هذه الإرادة السياسية والموارد المالية، فإن هذه السياسات لكي تعمل على نحو تكاملي فعال، فإنها تفترض: الاعتراف بنواحي القصور في العمليات التاريخية لبناء الدولة/الأمة ونموذجها التقليدي للمواطنة، ومن ناحية ثانية إدراك أهمية التنوع والهويات المتعددة والتكاملية.
لم يعد مطلب التجانس الثقافي وشروط التماسك القومي يعني فرض هوية أحادية وشجب التنوع بوصفه تهديدا، فالاستراتيجيات الناجحة لبناء دولة تعددية في العالم العربي عليها أن تتسع للتنوع على قاعدة الوحدة.
وفي هذا السياق، حاولت الورقة اقتراح نموذج يحاول تحقيق التوازن بين احترام الخصوصيات الثقافية وإعطائها المساحة الكافية في المجال العام، والمحافظة على التماسك الاجتماعي ووحدة الدولة وهويتها الجامعة من جهة أخرى.
ومع طرحها مفهوم “المواطنة الحاضنة للتنوع الثقافي” كنموذج بديل، فإنها اقترحت سياسات على مستوى التشريع والتربية والثقافة والاقتصاد، تتجاوب مع التنوع وتعززالمواطنة الحاضنة له، بهدف تنمية قدرات البلدان العربية وتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي والنفسي لجميع الأفراد والجماعات.
[1]باتريك سافيدان، الدولة والتعدد الثقافي، ترجمة المصطفى حسوني، دار توبقال للنشر، المغرب، 2011، ص13.
[2]سعد سلوم، السياسات والإثنيات في العراق – منذ الحكم العثماني وحتى الوقت الراهن، مؤسسة مسارات، بغداد، 2014، ص 5-6.
[3] الدليل العربي للتربية على المواطنة الحاضنة للتنوع الثقافي، مؤسسة أديان، بيروت، 2014 ص 37
[4] المصدر نفسه.
[5] تقرير التنمية البشرية للعام 2004، الحرية الثقافية في عالمنا المتنوع، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ص48-49.
[6] المصدر نفسه، ص 48.
[7] المصدر نفسه، ص49.
[8]COMPARATIVE LOOK AT INTERNATIONAL STANDARDS AND BEST STATE PRACTICES ON ANTI‐DISCRIMINATION LEGISLATION, PREPARED BY THE INSTITUTE FOR INTRENATIONAL LAW AND HUMAN RIGHTS WITH THE ASSISTANCE OF CARDOZO UNIVERSITY SCHOOL OF LAW, JUNE 2009, p.11.
[9] ينظر ملخصات الاوراق الخلفية في مشروع التربية من أجل المواطنة في الدول العربية (تحرير محمد فاعور وسوزان ابو رجيلي)، مركز كارنيجي، goo.gl/JGbNX6
[10] للمزيد ينظر: محمد فاعور، واقع التربية المواطنية في الدول العربية، أوراق كارنيجي، مركز كارنيجي للشرق الاوسط، مايو 2013.
[11]محمد فاعور ومروان المعشر، التربية على المواطنة في العالم العربي: مفتاح المستقبل، مركز كارنيجي للشرق الاوسط، أكتوبر، 2011، ص9
[12]المصدر نفسه.
[13] مؤتمر صورة المسيحيين و”الآخر” في المناهج التعليمية في دول الإقليم، مركز القدس للدراسات السياسية، بيروت – لبنان، 4-5 مارس 2016.
[14]الدليل العربي للتربية على المواطنة، مصدر سبق ذكره، ص 51.
[15] الدليل العربي للتربية على المواطنة، مصدر سيق ذكره، ص51.
[16] تم تطوير هذه المقاربة من خلال مقابلة الخبيرين الاقتصاديين البروفسور، عماد عبد اللطيف سالم، بغداد، 10 يونية 2016. والبروفسور ميثم لعيبي، بغداد، 13 يونية، 2016.