المواطنة والبناء الوطني في سياق النزاعات المسلحة
وليد حدوق

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [583.90 KB]

تشهد المنطقة العربية في سياق ديناميكيات ما بعد تحولات 2011 تصاعدا لحالات النزاع المسلح. وبالإضافة إلى الساحتين الليبية والسورية – العراقية وما تؤديان إليه من تفكك الدول الوطنية والمجتمعات القائمة على أساس هوياتي، فإن تحديات النزاع المسلح ومخاطر احتمالاته تشمل وبنفس القدر الدول التي تشهد مخاضا سياسيا ومراحل شد وجذب على غرار تونس ومصر. ذلك أن هذه الدول ورغم عدم سقوطها في الاحتراب الأهلي، فإن انخراط جزء من مكوناتها الاجتماعية في العمل المسلح في الداخل (سيناء في مصر) أو في بؤر التوتر يجعلها معنية بسؤال العلاقة بين إدارة النزاع المسلح واستباق مخاطره من جهة وبناء دولة المواطنة من جهة ثانية.

وتحاول هذه الورقة، بالاستناد إلى تشخيص أفق بناء المواطنة الساحات العربية عموما وفي الساحة الليبية على وجه التحديد والتي تشهد احترابا أهليا متواصلا منذ سنة 2011، أن تسلط الضوء على التحديات الرئيسية لبناء المواطنة في سياق نزاع مسلح قائم أو محتمل الحدوث وأن تبلور مقاربة وتوصيات لصنع سياسة بهذا الخصوص.

إدارة النزاع المسلح، آليات تحويل الصراعات ومخاطر تعميق أزمة المواطنة

مع نهاية الحرب الباردة وازدهار الفرضيات القائلة بإمكانية تحقيق ازدهار وسلام شاملين، عرف المجهود الدولي الأممي والحكومي وغير الحكومي الهادف إلى حل النزاعات المسلحة واستباقها فضلا عن احتواء العنف المترتب عنها تطورا ملحوظا. وفي سياق الأزمات التي طفت على السطح في خضم ما بات يعرف بـ”موجة الربيع العربي” سنة 2011، بدا أن المجهودات والمبادرات الساعية للبحث عن حل سلمي وبمعزل عن مدى تقدمها أو تعثرها -بدا وكأنها- لا تتطلع للمساهمة في بلورة الحل المنشود إلا بقدر ما تكرس الهويات الإثنية والطائفية ما قبل الوطنية واقعا سياسيا بما يفتح الباب أمام مخاطر إعادة إنتاج الأزمة كلما اختلت موازين القوى.

ولما كان إدماج كل الفاعلين والاقليات والمتضررين من الصراعات هاجسا رئيسا لمبادرات تحويل الصراعات وحلها، فقد أدى ذلك إلى استسهال الاعتماد على آلية المحاصصة قصد تفادي هيمنة أغلبية مفترضة على المراحل التمهيدية لحل النزاع وبقية أشكال الانتقال السياسي. ورغم الفوارق الرئيسية بين السياقات المحلية داخل المنطقة العربية، فإن هذه المبادرات، وبحكم اعتمادها لآليات تكرس المحاصصة الإثنية و/أو الطائفية، كثيرا ما تحمل داخلها جذور أزمة بعيدة المدى لن تسهل في أحسن الأحوال بناء المجال المواطني المشترك.

وبخلاف الحالة اللبنانية إثر الحرب الأهلية، أو العراقية بعد الاحتلال الأمريكي، فإن شرعنة المحاصصة الجهوية والقبلية في ليبيا لم تأت على خلفية صراع عسكري هوياتي واضح المعالم. فإذا كان صحيحا أن الشرارة الأولى قد انطلقت من المنطقة الشرقية التي تعرضت طوال عقود حكم القذافي لتهميش سياسي واقتصادي، فإن خارطة الاحتراب الأهلي الليبي في سياق أحداث 17 فبراير 2011 لم تفرق بين شرق وغرب أو جنوب، وحتى داخل المكونات القبلية المعروفة بولائها التاريخي لنظام القذافي برزت مدينة الزنتان كمعقل رئيس من معاقل مواجهة النظام في المنطقة الغربية. وفي بدايات المسار السياسي الليبي ومرحلة الإعداد لانتخابات المؤتمر الوطني العام، ابتعدت الآلية الانتخابية عن منطق المحاصصة الجهوية والقبلية: إذ منحت هذه الآلية خمسي المقاعد للقائمات الحزبية فيما أسندت البقية للترشحات الفردية مع اعتبار الوزن الديمغرافي لكل دائرة انتخابية وذلك بمعزل عن التمثيلية القبلية أو الجهوية. وتدريجيا، ومع تفاقم الخلافات السياسية على خلفية صياغة الدستور، أفرزت الوساطات المحلية والإقليمية والدولية مأسسة للانقسامات الجهوية والقبلية، وتجلى ذلك كأوضح ما يكون في آلية انتخاب لجنة الستين، المكلفة بصياغة الدستور الليبي، والتي أسند فيها عشرون مقعدا لكل إقليم من الأقاليم التاريخية الثلاث وذلك بمعزل عن اعتبارات الوزن الديمغرافي. وإذا كانت صيغة المحاصصة لتشكيل لجنة الستين قد جاءت لتأمين حد أقصى من التوافق حول النص الدستوري الجديد، فإن أحداث صيف 2014 واندلاع ما عرف بـ”عملية الكرامة” بقيادة خليفة حفتر كرست محاصصة لجنة الستين واقعا عسكريا.

وإذا كان من بديهي القول إن تتقاطع النزعات المسلحة القائمة في المنطقة العربية مع حالة من تسييس الهويات الطائفية الدينية أو القبلية الإثنية وعسكرتها، في الساحة الليبية وفي غيرها على غرار سوريا والعراق واليمن، فإن الآليات السائدة لتحويل الصراعات وحلها أو إداراتها كثيرا ما تنحو إلى مأسسة الشرخ الهوياتي وتكريس السردية ما قبل الوطنية واقعا سياسيا معترفا به.

تحاول هذه الورقة إذن تسليط الضوء على بعض المقاربات البديلية في إدارة النزاع المسلح ومسارات تحويل الصراع بأفق مواطني، أي بشكل يؤسس لدولة المواطنة المأمولة ولا يعيد إنتاج نفس أسباب الأزمة، بالاستناد إلى تجارب دولية سابقة عملت بالحد الأقصى على تحييد العامل الإثني والهوياتي دون السقوط في طوباوية إلغائه.

هل من حل واقعي لصراع مسلح ذي طابع هوياتي من خارج تسييس الهوية والمحاصصة؟

تمثل النزاعات ذات الخلفية الهويات أو تلك التي تتحول تدريجيا إلى صراعات بين جماعات إثنية أو قبلية أو طائفية مغلقة، حالة شديدة التعقيد في عالم النزاعات المسلحات وفي التجارب المقارنة لآليات إدارة هذه النزاعات وحلها. وإذ يعتبر لاري دايموند [1]Larry Diamond أن الشرخ الإثني والصراع بين جماعات تنسب نفسها إلى أصول مشتركة متخيلة منفصلة عن الجماعة الوطنية الحديثة، يمثل أحد أهم العراقيل أمام البناء الوطني والديمقراطي في سياق ما يعرف بالدول النامية، فإن الإشكالية الرئيسية تتعلق بمدى واقعية إمكانية تجاوز هذه الشروخ الإثنية بصيغة تتجاوزها. وفي هذا الإطار يعتبر Donald Horowitz [2]في كتابه حول الجماعات الإثنية والنزاعات المسلحة أن مقاربات هذه الأزمات عادة ما تتسم بسذاجة ثنائية إلغاء وتجاوز البعد الهوياتي أو تشاؤم وجمود أولئك الذين لا يرون إمكانية حل خارج دائرة المحاصصة الإثنية. وإذا كان نقد هذه المقاربة المتشائمة يركز على انعكاساتها السلبية على المسار المواطني الديمقراطي فضلا عن حدود نجاعتها على المدى البعيد، خاصة من زاوية تحول الانقسامات الإثنية وتغير طبيعتها حسب السياق وتطوره التاريخي، فإنه يصبح من الضروري أن نسلط الضوء على إيجابيات وفاعلية معالجة النزاعات ذات الطبيعة الإثنية بآليات أكثر مرونة، أي بطريقة تنحو إلى تجاوز الأطر الهوياتية الضيقة في محاولة احتواء الاستتباعات الآنية للنزاع المسلح وتأثيرات ذلك على النسيج المجتمعي.

وإذا كنا نستطيع أن نعرف مسار حل النزاعات باعتباره جملة من العمليات والمبادرات الهادفة إلى إعادة بناء إحساس وواقع الانتماء المشترك داخل جماعة سياسية معينة، فإن أحد أهم مكونات هكذا مسار يتمثل في الحد من التأثير السياسي للعامل الإثني في الحل الموجود، أي أن يتم العمل على تشكيل حد أقصى من الأطر السياسية المتجاوزة للعامل الإثني وبتشجيع المبادرات التي تصب في هذا الاتجاه.

وإذ تخفي المحاصصة على الأساس الهوياتي/الإثني المصالح المتضاربة داخل المجموعة الإثنية الواحدة، فإن ذلك قد يمثل مدخلا أو فرصة للتخفيف من تأثير العامل الإثني على اللعبة السياسية. إذ كثيرا ما تفترض المحاصصة أن المصالح والرؤى داخل المكون الإثني الواحد متجانسة، وأن هذا التجانس يولد إعادة إنتاج للعامل الإثني في العملية الانتخابية، في حين أن المصالح التمثيلية الانتخابية والاقتصادية والاجتماعية عادة ما تكون متجاوزة للشروخ الهوياتية التقليدية. وعلى سبيل المثال، في تجربة كوسوفو ساهم التركيز على المواضيع الإشكالية داخل المجموعات الألبانية في تخفيف حدة الشرخ التقليدي ذي الخلفية الدينية الألباني – الصربي، وأدى تدريجيا إلى بناء تحالفات سياسية خارج الأطر الإثنية الضيقة وفتح المجال أمام تكتلات سياسية تجمع بينها رؤية مشتركة لمصالح واقعية في مقابل المصلحة المتخيلة للجماعة الإثنية المغلقة. وفي تقريرها الصادر سنة 2003 والموجه في شكل توصيات للبعثة الأممية في كوسوفو، أوصت مجموعة الأزمات الدولية[3] إلى أهمية توخي نظام انتخابي يتجاوز أحادية التمثيلية الإثنية، وذلك بالاعتماد على التمثيلية النسبية (المرتبطة بالمحاصصة الإثنية) ولكن ضمن دوائر انتخابية تتقاطع مع المجال البلدي أو مجموعة بلديات عادة ما تكون مختلطة. ويشير ذات التقرير إلى أن الحفاظ على التعدد والتنوع الإثنيين في كوسوفو لا يمران عبر “سياسة إثنية” وإنما عبر الاشتغال على “مستقبل مدني” للحياة السياسية في هذا البلد. إن التخفيف من تأثير العامل الإثني على رهانات الصراع السياسي يحتاج إلى مبادرات وإجراءات تحفيزية وإرادية، وهو ما تشير إلى بعض نماذجه “مجموعة حقوق الأقليات”: من ذلك أن يكون الحصول على الأغلبية في الانتخابات مشروطا بأغلبية سكانية (أي عدد المنتخبين) وأغلبية في عدد معين من الجهات أو الأقاليم، أو أن يكون ترشح الأحزاب في الانتخابات البرلمانية مشروطا بحد أدنى من التمثيلية على المستوى الوطني.

البناء السياسي والتشريعي للمؤسسات: الخيارات والحدود

يمثل بناء المؤسسات والأرضية التشريعية للحياة السياسية أحد أهم الرهانات في سياقات النزاع المسلح، وإذا كانت الحرب “تواصلا للسياسة بوسائل أخرى”، فإن الأطراف الأهلية المتنازعة عادة ما تسعى إلى تكريس سرديتها ومبررات لجوئها للسلاح واقعا سياسيا وقانونيا دائما، أي أن تسعى إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب فيما يتوقع ان تفضي إليه ترتيبات الوضع الدائم المستقبلي.

وإذا كان البناء المؤسساتي يتمحور حول أسئلة ثلاث هي الشكل الدستوري للمؤسسات والآلية الانتخابية ومسألة الحكم المحلي، فإنه غالبا ما يترجم كل سؤال من هذه الأسئلة إلى خيار يتعلق بإحدى الثنائيات: ثنائية الفيدرالية في مقابل الوحدوية، والنظام الرئاسي في مقابل البرلماني، والتمثيلية الأغلبية في مقابل النسبية. وتتناول الأدبيات المتعلقة بـ”بناء المؤسسات” أو “بناء الدول” هذه الثنائيات وتضيف إليها جملة الخيارات المتفرعة عنها والتي تفتح الباب أمام آليات أكثر مرونة، منها على سبيل المثال ما يتعلق بالنظام الرئاسي الذي يلعب فيه نواب الرئيس دورا متقدما في صناعة القرار ويكون وجودهم ضامنا لتمثيل مجموعات إثنية لا يمكنها وزنها العددي من حظوظ متساوية في انتخابات عامة مباشرة، أو بآليات الديمقراطية التوافقية التي يكون فيها تشكيل الحكومات رهينا بالائتلافات الواسعة. بيد أن القاسم المشترك بين مختلف هذه النماذج يكمن في مسألة التمثيلية النسبية والتي تبدأ بالقانون الانتخابي وتتعداه إلى المحاصصة في غيره من المؤسسات.

وفي السياق الليبي الذي يشهد أحد المسارات المتواصلة للبناء المؤسساتي في ظل تواصل النزاع المسلح، صادقت الأطراف السياسية في شهر مايو 2016 على النص الدستوري في مدينة صلالة العمانية بعد سنيتن من التفاوض والشد والجذب بخصوص الشكل المستقبلي للمؤسسات الدستورية، ويمثل هذا النص الذي لعبت في صياغته البعثة الأممية والوسطاء الدوليون دورا مهما، نموذجا لما يمكن أن يكون عليه البناء المؤسساتي القائم على فرضية اقتسام القوة Power Sharing. فهو -أي الدستور- يستبعد نهائيا الخيار الفيدرالي بين الأقاليم الثلاث (الشرق والغرب والجنوب) لصالح مركزية واسعة الصلاحيات يعود فيها جزء من عوائد الموارد الطبيعية إلى السلطات المحلية. إلى ذلك، ورغم أن التفاوض بين الفرقاء الليبيين انتهى بإسقاط مقترح مأسسة العواصم الثلاث (طرابلس، بن غازي وسبها)، فقد تم توزيع مقار المؤسسات في النص الدستوري بطريقة كرست هذه الثلاثة واقعا: طرابلس مقرا للحكومة، بن غازي للبرلمان وسبها للمحكمة الدستورية والمجلس الاستشاري للجماعات المحلية.

وبمعزل عن تقييم الحلول المستنبطة دستوريا في السياق الليبي من الزاوية النظرية ومن زاوية التجارب المقارنة، فإن الهوة الواسعة بين الوحدة التي حرص عليها الفرقاء في اتفاقهم على الدستور من جهة، وواقع التقسيم العسكري والإداري/السياسي بين الشرق والغرب من جهة ثانية، يدلل على حدود تأثير الأشكال المؤسساتية على مسار بناء السلم الأهلية ومن ثمة المواطنة المنشودة. وحتى في حالة التوصل إلى توافق حول شكل المؤسسات الدستورية، فإن فقدان عامل الثقة بين الفرقاء وغياب المقومات الرمزية الثقافية والمادية الاقتصادية للعيش المشترك لا يسمح بالخروج من نفق عسكرة الخلاف على أساس هوياتي إلى إدارة سياسية مواطنية للشأن العام.

تكريس “الانتماء المشترك” أو شرط الضرورة لبناء المواطنة في سياق النزاعات المسلحة

في سياق النزاعات المسلحة، كثيرا ما تسعى الأطراف الساعية إلى الحل إلى التوافق على إعلان سياسي يتضمن رؤية مشتركة بخصوص شكل المؤسسات وبنيتها وأحيانا بقية التفاصيل المتعلقة بالأسماء والأشخاص والترتيبات الانتقالية وغيرها. وفي السياق الليبي بذلت الأطراف السياسية جهدا ووقتا كبيرين لتحديد مكونات المجلس الرئاسي والتوافق على اسم رئيس الحكومة، بيد أن هذه الصيغة التي تم التوصل إليها بوساطة أممية بدا أنها لم تخرج ليبيا من مأزق “الدولة الفاشلة” وأزمة الشرعية المتواصلة منذ 2014.

وتحيلنا تجارب بناء المؤسسات في سياقات النزاع المسلح على حدود هذه المقاربة البنيوية، أي تلك المقاربة التي تركز على شكل المؤسسات وبنيتها، في تركيز وضع مستقر ودائم وقابل للتطور سواء في أفغانستان أو في العراق أو في اليمن ومؤخرا في ليبيا. وإذا بناء الأمة يرتبط بما هو أبعد من التوافق حول شكل مؤسساتي، على غرار بناء المخيال المشترك والثقافة والرموز المشتركين وتكريس واقع مصلحي اقتصادي داخل المجال الوطني. وخلافا لبعض التصورات السائدة، فإن الاشتغال على الثقافة المشتركة أو ما يمكن أن نطلق عليه المقوم الرمزي للانتماء المشترك، لا يستتبع بالضرورة صياغة شكل المؤسسات أو عملية التفاوض حولها. إذ قد يكون من الأجدى أن يساهم مسار بناء الثقافة المشتركة وتكريس حوكمة وطنية رشيدة للثروات الاقتصادية في بلورة المؤسسات وصياغة شكلها بما يفضي إلى ديمومتها وتكريسها بشكل أكثر متانة وصلابة.

يتعلق هذا المقوم بتكريس رموز ومخيلة الانتماء إلى تاريخ وحاضر مشتركين، أي ببلورة سردية وطنية مشتركة متجاوزة لمرحلة الاحتراب الأهلي. وفي حين تعمل أطراف النزاع في أغلب الأحيان إلى تكريس هيمنة سردية بعينها على حساب أخرى، فإننا لا نعني بالسردية المشتركة خطابا أوحدا حول التاريخ الوطني أو القيم الجماعية وإنما يتعلق بالحد الأدنى المشترك بين مختلف الأطياف والتوجهات.

وإذ يبدو أن بناء الجماعات الوطنية والدول الحديثة في السياق العربي عموما يجد جذوره في مفهوم العصبية الخلدوني، حيث تنشأ الدولة على عصبية القبيلة أو الجماعة العضوية لتتطور إلى العمران والحضارة[4] فإن الانتماء للجماعة الوطنية الحديثة في المنطقة العربية كثيرا ما ينبني على جملة تصورات أو متخيل إقصائي، بعضها ذي خصوصية إثنية تحديثية (تونس، الجزائر، مصر) متأثر بالنموذج القومي الفرنسي، أي ببناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال على أساس “نحن” المتجانسة، أي تلك التي لا تقبل التفكيك والمتطلعة للتحديث عبر الالتفاف حول مشروع بناء الدولة وقاطراتها السياسية الحزب[5].

وفي سياقات أخرى، يكون فيها ضعف المشترك أوضح بكثير، يرتبط بناء الدولة الوطنية بغلبة فئة اجتماعية جهوية أو طائفية أو قبلية على الحكم السياسي والموارد الاقتصادية ورأس المال الاجتماعي.

إن التوصل للسلم الأهلية وبناء الكيان الوطني سياسيا ومؤسساتيا في سياقات النزاع المسلح يرتبط جوهريا ببناء المخيال الجمعي والانتماء المشترك، وهنا يبرز دور المثقفين والإعلام ومناهج التربية لا كاستتباع أو كسياسات تلي التوصل للاتفاق، وإنما ضمن عملية تحويل الصراع نفسها وضمن بلورة الصيغة المؤسساتية النهائية للعيش المشترك.

إن بناء بديل دائم لأزمة مواطنية تعبر عن نفسها في شكل نزاع مسلح أو عنيف يتقاطع مع جملة تحديات بناء الدولة-الأمة لكل مواطنيها: من زاوية الحقوق الدستورية ومن زاوية الواقع الاقتصادي الاجتماعي ومن زاوية المعنى وخيال الانتماء الوطني والمواطنة. وإذا كانت المنطقة العربية في أكثر من سياق تعيش في عمق الصراع وربما تشهد أعنف مراحله، فإن مسألة المواطنة ليست ترفا لاحقا لمرحلة احتواء العنف أو التخفيف من سطوته، وإنما ترتبط نجاعة تحويل الصراع والتخفيف من حدة العنف بالاشتغال على أسس المواطنة بطريقة لا تغلب بعدا على آخر، أي بما لا يجعل المواطنة والحل المنشود للنزاع محض مسألة إجرائية أو بنيوية أو صيغة مؤسساتية وأن يشمل البعد الأكثر تعقيدا وربما الأهم: تكريس معنى الانتماء والإحساس المشترك والحاجة إلى الإطار الوطني.


[1] Ethnicity and ethnic conflict، The Journal of Modern African Studies، 25، I (1987) p 117 – 128

[2] Ethnic groups in conflict، Donald L.Horowitz ، University of California Press.

[3] International Crisis Group (ICG)، 2003. Kosovo’s Ethnic Dilemma: The Need for a Civic Contract، Balkans Report no. 143. Pristina & Brussels: ICG.

 [4] حول الدولة الحديثة في السياق العربي والعصبية الخلدونية انظر Marion Boulby (2013) ‘ Extra regional Interests Authoritarian Elites and dependant State formation in the Arab World’ in State Formation and Identity in the Middle East and North Africa، Kenneth Christie، Mohammad Masad p-40

[5]حول إيديولوجيا بناء الدولة الوطنية. الهوية المتخيلة وتصعيد نخب الاستقلال في الحالة التونسية على سبيل الذكر لا الحصر انظر Larbi Sadiki (2002)،‘ The Search for Citizenship in Bin Alis Tunisia: Democracy versus Unity، POLITICAL STUDIES: 2002 VOL 50،499-502

 

Start typing and press Enter to search