تطور المواطنة بين الفلسفة السياسية الليبرالية والواقع المصري
مينا سمير
مصر

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [577.16 KB]

يقول المهتمون بتطور الفلسفة السياسية الليبرالية، ومركزية مفهوم المواطنة داخل هذه الفلسفة، أن المفهوم تطور في سياق التحولات التي ارتبطت بالخطاب السياسي الليبرالي، وتم ذلك انطلاقا من الانتقادات العديدة التي وجهت إلى بعض مضامينه بغية تطويرها، في ضوء المتغيرات والمكاسب التي حدثت في التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي، خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، مع تطور الديمقراطية في سياق علماني، فالديمقراطية والمواطنة مفهومين لا يمكن الفصل بينهما.

مقدمة
تعد المواطنة أحد المصطلحات الحديثة نسبيا في عالم السياسة، بالرغم من وجود إرهاصات لها منذ أيام الفلاسفة اليونانيين مثل أفلاطون وأرسطو عندما تحدثا عن المواطن في أثينا، وقد بدأ التنظير لها منذ منتصف القرن الماضي تقريبا، كما أنها أصبحت أحد الكلمات المفتاحية للعلوم السياسية والتاريخ في العقد الأخير من القرن ذاته1.
وتتميز المفاهيم السياسية بتعدد التعريفات والتوصيفات، لذا يمكننا أن نُعرف المواطنة على أنها “حركة مجتمعية في إطار قانوني يضمن المساواة في الحقوق والواجبات بين سكان الإقليم الواحد، وإطار اجتماعي يضمن عدم التمييز من فئة تجاه فئة أخرى من السكان، في إطار سياسي يضمن كفالة الإطارين القانوني والاجتماعي”.
وكان مبدأ المواطنة قد تم إدراجه في الدستور المصري، بعد التعديلات على دستور 1971 التي استفتى عليها المصريون في 26 مارس 2007، والتي اشتملت على تعديل 34 مادة دستورية، شملت المادة الأولى، التي اعتبرت المواطنة ولأول مرة في تاريخ مصر أساسا يقوم عليه نظام الحكم، وهي المادة التي اعتبرها الكثيرون غطاء تجميليا لمواد أخرى من شأنها “دسترة” تقويض النظام الحاكم للمكتسبات المحدودة لهامش الانفتاح السياسي المحدود التي نتجت عن تعديلات الدستور في 20052.
وفي إطار دعوات قوى المعارضة للتصويت برفض التعديلات الدستورية3، رد النظام بحملة إعلامية ضخمة لحث المواطنين على التصويت بنعم، وكانت المواطنة أحد وسائل الترويج التي ركزت عليها الحملة، وصورتها بأنها المساواة بين المسيحيين والمسلمين، مما ساهم في تشكيل وعي جمعي منقوص عن المواطنة التي لا تقتصر فقط على المساواة على أساس الدين، بل تشمل اللون، العرق، الجنس… الخ.
ومن يتأمل أوضاع المواطنة قبل 25 يناير، يصل إلى أن مفهوم المواطنة أصبح يعيش في أزمة، لوجود ممارسات تخالف مواثيق حقوق الإنسان، وسيادة القانون، ومبادئه، وقد عمل النظام السابق للثورة وأجهزته على تدعيم الممارسات التي تعمل على تناقص مساحة المجال العام، وشملت تلك الممارسات، الاستبعاد لأسباب تتعلق بالفكر، والنوع، والعقيدة4، وبذلك فقد وصفت المواطنة في مصر قبل الثورة اصطلاحيا بالمواطنة المنقوصة والمواطنة غير المتوازنة5.
إلا أن ميدان التحرير خلال الـ18 يوما، هما عمر الاعتصام الذي قام به الثوار في 25 يناير وحتى 11 فبراير 2011، شهد تراجعا كبيرا في أنماط الاستبعاد الاجتماعي، الذي يصيب مستويات عدة في البنية الهيكلية للمجتمع المصري، فكان للفئات التي تعاني من الاستبعاد الاجتماعي مثل المرأة والأقليات الدينية والعرقية حراكا مؤثرا في إطار السعي نحو التغيير، مما أنتج درجات عالية من التفاؤل حول تحقيق مواطنة فعالة بأبعادها المختلفة، والخروج بها من الميدان إلى الوطن.
إشكاليات التنظير للمواطنة في مصر:
لقد نما مفهوم المواطنة الحديث في إطار معرفي غربي، نتج عن محطات عدة أهما الثورات في كل من إنجلترا، فرنسا والولايات المتحدة، التي أرست إلى مفاهيم جديدة عن المواطن، الذي يحظى بمجموعة من الحقوق السياسية، الاجتماعية والقانونية في مقابل ولائه للوطن القومي، بعدما كان مجرد تابع أو أحد رعايا الإمبراطور أو الملك.6
وعلى الرغم من اختلاف الأُطر والقواعد تلك عن واقع المجتمع المصري، القائم على أن “الأسرة أساس المجتمع، قوامه الدين والأخلاق والوطنية، وتحرص الدولة على تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها”7، أي أن مفهوم المواطنة في مصر وفيما تطرحه أغلب الأدبيات العربية بشكل عام يخضع لشرطين هما مسقط الرأس، والانتماء إلى الجماعة الذي يركز على عنصر الايمان باعتباره القاسم المشترك للعلاقة بين أعضاء الجماعة، إلا أن العديد من المنظرين للمواطنة يقعون في فخ “البراديغما”، أي يحاولون نقل الإطار المعرفي والنظري الغربي، وتطبيقه على الواقع المصري، دون النظر إلى الاختلاف في السياقات السياسية والاجتماعية والإيديولوجية… إلخ.
تطور المواطنة في الغرب وفق تطور الفلسفة السياسة الليبرالية:
يقول المهتمون بتطور الفلسفة السياسية الليبرالية، ومركزية مفهوم المواطنة داخل هذه الفلسفة، أن المفهوم تطور في سياق التحولات التي ارتبطت بالخطاب السياسي الليبرالي، وتم ذلك انطلاقا من الانتقادات العديدة التي وجهت إلى بعض مضامينه بغية تطويرها، في ضوء المتغيرات والمكاسب التي حدثت في التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي، خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، مع تطور الديمقراطية في سياق علماني، فالديمقراطية والمواطنة مفهومين لا يمكن الفصل بينهما.
وفي هذا السياق قدم توماس مارشال نموذجا نظريا من خلال تحليل التجربة البريطانية، وذلك في إطار سعيه لتطوير مفهوم المواطنة وفق معطيات النصف الأول من القرن العشرين، حيث قدم مارشال نموذجا للمواطنة يتكون من ثلاثة عناصر، وهي المدنية، السياسية، والاجتماعية.
وقصد مارشال بالمواطنة المدنية، الحقوق اللازمة للحرية الفردية، مثل حرية التعبير، حرية الفكر والإيمان، الحق في التملك، وإبرام العقود السارية، والحق في العدالة، والحق في الدفاع، والحق في المساواة مع الأخرين من خلال القانون. أما العنصر الثاني وهو المواطنة السياسية، فيقصد به حق المشاركة في السلطة، وحق الترشح والانتخاب. أما العنصر الأخير فهو المواطنة الاجتماعية، ويقصد بها الحق في الحصول على قدر من الرفاه الاقتصادي، الأمن، الرعاية الطبية، والمشاركة الثقافية، والتمتع بنظام تعليمي واجتماعي حضاري8.
وقد أنتج مارشال نموذجه متأثرا بسياق تاريخي حدد معالم النظم السياسية الأوروبية وفي القلب منها حقوق الإنسان، فبعد انهيار الإمبراطورية الرومانية ظهر عدد من الممالك الأوروبية المستقلة، والتي كان الإقطاع هو نظام الحكم لها، من خلال تنظيم هرمي على رأسه الملك نزولا حتى الوصول إلى العامة، مع مرجعية دينية صلبة، ويصف مارشال هذا العصر بالعصر الأول، حيث لم يكن هناك مساواة بين النبلاء والعامة في الحقوق والواجبات9.
وقد وضعت معاهدة “وستفاليا” عام 1648، حدا لتلك الحقبة، حيث نتج عن الصلح بين الدول الأوروبية المتحاربة تأسيس للدولة القومية ذات الطابع المدني الذي نشأ مع انحسار كبير لنفوذ مؤسسة الدين على الحكم.
وفي بريطانيا، وعلى الرغم من وجود الوثيقة العظمى “الماجنا كارتا” منذ عام 1215، والتي تنص على أنه لا يجوز معاقبة فرد من دون محاكمة عادلة، مما يُعد مكسبا للحقوق الفردية في بريطانيا، إلا أن واقع الأمر أكد أن المستفيدين من تلك الوثيقة هم فئة محدودة من البريطانيين، مما أدى إلى “الثورة المجيدة” عام 1689، والتي دعا لها أعضاء البرلمان وأيدها الشعب، ونتج عنها القضاء على فكرة الحق الإلهي للملك، وزيادة سلطة البرلمان، وكذلك قانون الحقوق الإنجليزي الذي يمنح امتيازات أكبر للحقوق الفردية للمواطن.
وفي فرنسا في 14 يوليو 1789، اندلعت الثورة الفرنسية، نتيجة للاستبداد السياسي، التفاوت الطبقي، والفساد الإداري والقضائي، واتخذت الثورة شعارا لها “الحرية، الإخاء، والمساواة”، ونتج عنها إلغاء الملكية المطلقة وإقامة النظام الجمهوري، وفصل السلطات، وفصل الدين عن الدولة، وفي 26 أغسطس 1789 أصدرت الجمعية التأسيسية وثيقة حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي، والتي تضم الحقوق الفردية للمواطن والجماعية للأمة الفرنسية.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية في 1865، وبدعم من الرئيس إبراهام لينكولن بغرض إنهاء الحرب الأهلية الأمريكية، صوت الكونجرس على التعديل الثالث عشر والذي يقضي على العبودية في الولايات المتحدة، ويساوي بين الأمريكيين البيض والسود أمام القانون، أي المساواة القانونية.
شكل ذلك التطور في حقوق الإنسان ضميرا إنسانيا ضد الجرائم والانتهاكات الإنسانية التي نتجت عن الحربين العالميتين، وظهرت الحاجة إلى إيجاد مرجعية عالمية لحقوق الإنسان، فكانت النتيجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948، الذي نص في مادته الثانية “لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء”.10 ومع ما أنتجته تلك المحطات التاريخية من أدبيات وتنظيرات للحقوق الإنسانية، جاء “مارشال” بنظريته عن المواطنة، والتي تعتبر النظرية الليبرالية الكلاسيكية التي ترى أن المواطنة هي الوضع القانوني الذي يوفر الحقوق والواجبات إلى الأعضاء ضمن الدولة القومية. ويستند نظرية مارشال في كتابه “المواطنة والطبقة الاجتماعية”، الذي حلل فيه تنمية المواطنة باعتبارها تطورا من الحقوق المدنية والسياسية، ثم الاجتماعية، منذ القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين. وقد خلق مفهوم المواطنة لمارشال الكثير من الجدل، لا سيما أن نموذجه لا يأخذ في الاعتبار الفوارق الاجتماعية11.
وترجع أهمية نظرية مارشال إلى أنه لم يقدم تعريفا للمواطنة، بل كيف تعمل المواطنة، كما أنه افترض أن المواطنة تتطلب حقوقا اجتماعية، للوصول إلى الحقوق المدنية والسياسية، وذلك بسبب عدم المساواة الناتج عن الرأسمالية12.
لكن ثمة نقاط ضعف في تصور مارشال، منها وجود عناصر أخرى للمواطنة غفلت عنها نظريته، حيث لم تلتفت إلى العمليات الاجتماعية التي لها تأثير سلبي على المواطنة، كما غاب عنها التحليل المقارن، إذ لم تخرج عن حدود تحليل المواطنة في التجربة الإنجليزية. وافترض مارشال أن المواطنة تصل إلى درجة العضوية الكاملة في دولة ما، لأنها تأتي كعقد وتضامن بين أناس أحرار على الدرجة نفسها من الحقوق والواجبات. وهي أساس التضامن القومي، فالولاء إلى القومية هو أساس المواطنة، وليست المواطنة هي أساس الولاء، كما أنه افترض أن المواطنة تحدث نتيجة تغيير من أعلى في المقام الأول، وليس نتيجة تفاعلات بين الفاعليين المجتمعيين، أي ليست نتيجة تغيير من أسفل.13
إسهامات جون رولز:
في عام 1971، ظهر كتاب “نظرية العدالة” للفيلسوف الأمريكي “جون رولز”، بعد عقدين من الصراع المحتدم في الخمسينيات والستينيات على حقوق السود أو على التمييز، ونضالات المجتمع المدني من ضمن النظام السياسي لإقرار قوانين المساواة والعدالة ومنع التمييز، وعلى الصعيد الخارجي الحرب الباردة، وهو الصراع الذي أَدخل الولايات المتحدة بعد الحرب الكورية (1950-1953) في حرب أُخرى أكثر احتداما هي حرب فيتنام (1965-1975)، وظهور شكوك عميقة لدى الشباب الأميركي في الجامعات بشأن عدالة تلك الحرب، وما ترتب على ذلك من اعتصامات وتظاهرات وإضرابات ومظاهر شَغب وعدم تعاون في نواح شتى من الحياة الأكاديمية، والخدمة العسكرية، ووجوه القلق السياسية والاجتماعية المدنية. والأمر أو السبب الثاني التحدي الذي كانت تطرحه الأدبيات الشيوعية لمفاهيم المساواة والحرية وإنسانية الإنسان. وقد بلغت الشيوعية ذروة نجاحها في الستينيات والسـبعينيات لتبني الاتحاد السوفياتي والصين حركات التحرر على مستوى العالم بما في ذلك داخل الغرب الأمريكي والأوروبي، وانتشار مفاهيم مكافحة الاستعمار الخارجي، والاغتراب الداخلي، بحيـث شكل ذلك تحديا كبيرا للمفاهيم والسياسات القائمة على الليبرالية الديمقراطية المحافظة في الولايات المتحدة على الخصوص. والأمر أو السبب الثالث، فهو تطور المشكلات النظرية والدستورية في العقل الأمريكي تحت وطأة السياقات والتحديات، بحيث صارت الثُنائية القديمة “فردية – جماعاتية” أكثر حدة وطرحا، وبما يتجاوز قدرة العقل النفعي الأميركي على الاستيعاب والتوسط والاستثمار.
وقدمت مجهودات “رولز” الذي يعد من مؤسسي “الليبرالية الاجتماعية” ذات الميول الاشتراكية حيث اهتم بالعدالة الاجتماعية، حلولا لذلك التوتر القائم بين عناصر المواطنة وآليات عمل السوق الرأسمالي في نظرية مارشال فيما يتعلق بالتمايز الرأسمالي من جهة والمساواة التي تفرضها المواطنة من جهة أخرى.
ويقول رولز في كتابه “نظرية العدالة كإنصاف” “لا يمكن القول عن التوزيع الطبيعي للقدرات والمواهب بأنه عادل أو غير عادل، كما أنه لا يمكن القول إنه ليس من العدالة في شيء أن يولد الناس داخل المجتمع في موقع متميز. هذه وقائع طبيعية فحسب14. وأما ما يعتبر عادلا أو غير عادل، فهو طريقة تعامل المؤسسات مع هذه الوقائع، ليس هناك ضرورة تدعو الناس للاستسلام لهذه الوقائع العارضة. إن النظام الاجتماعي ليس خارجا عن سيطرة الإنسان أو أنه غير قابل للتغيير أو التعديل، ولكنه نظام ناشئ عن النشاط الإنساني”15.
وذكر رولز أن عدم التساوي الاقتصادي يجب أن يخضع لشرطين، الأول أن يكون هناك مواقع ووظائف مفتوحة للجميع وبشروط تضمن المساواة في الفرص، أما الثاني أن يعود هذا الفرق الاقتصادي بالنفع على أقل أفراد المجتمع استفادة16.
يهتم رولز في هذا الكتاب بالعدالة باعتبارها إنصافا، موضحا مفهوم العدالة ودورها والمبدأ الرئيسي لنظريتها وكذلك وجهة نظره بصدد فرضية الوضع الأصلي الذي يقوم على حجاب الجهل، وهي وسيلة لتحديد أخلاقية قضية ما (الرق على سبيل المثال) بناء على التجربة الفكرية التالية: الأطراف فيما يُسمى بـ”الموضع الأصلي” لا يعلمون شيئا عن قدراتهم، أذواقهم، وطبقاتهم داخل المجتمع. فحجاب الجهل يحجب هذه المعرفة، بحيث أن المرء لا يعرف ما هو العبء أو الامتيازات الاجتماعية التي سترسو عليه بعد أن يُكشف هذا الحجاب. مع حجب هذه المعرفة، يجب على هذه الأطراف في “الموضع الأصلي” أن تقرر تلك المبادئ التي يقوم عليها توزيع الحقوق، المناصب، والموارد في المجتمع. كما قال رولز “لا يوجد أحد يعرف موقعه في المجتمع، ولا طبقته الاجتماعية أو حالته، ولا يعرف حتى نصيبه من التوزيع للموارد الطبيعية ولا القدرات، لا ذكائه ولا قوته ولا هيئته”17، الفكرة إذن تكمن في نزع القيمة من هذه الاعتبارات الشخصية، والتي أخلاقيا، لا علاقة لها بعدالة أو لا عدالة المبادئ التي يقوم عليها توزيع ميزات أو عوائد التعاون الاجتماعي.
مبادئ العدالة عند جون رولز:
حدد رولز مبدأين للعدالة، الأول هو أن جميع الأشخاص متساوون في الحقوق والحريات الأساسية مثل الحقوق السياسية التي تشمل الحق في التصويت والترشح للمناصب، وحرية التعبير والتجمع، حرية الضمير، وحرية الملكية الشخصية وعدم التعرض للاعتقال التعسفي، إلا أنه استثنى بعض الحقوق الأخرى، والتي أطلق عليها “حقوق ليست على القائمة” مثل حرية التعاقد، وحرية امتلاك عناصر الإنتاج18.
أما المبدأ الثاني، أنه يجب ترتيب اللامساواة في الحقوق المدنية والاقتصادية، بحيث يكون لها أعظم فائدة للأشخاص الأقل حظا في المجتمع، بالإضافة إلى المساواة العادلة في الفرص19.
فخلافا للتصور الليبرالي المفرط لمسألة العدالة يقر رولز بإمكانية تحقق العدالة كإنصاف، شرط الإيمان بمبدأ “التعاون” كعنصر استراتيجي لتوفير الرفاهية للجميع، أي أن رولز يحث على تحقيق البعد الاجتماعي في عملية الإنتاج، طالما سيتوزع بالتساوي على أفراد المجتمع (العدالة التوزيعية)، ويبدو من خلال ما سبق أن رولز يضع “مبدأ التعاون” في مقابل “الروح الفردية”، فإذا كان من نتائج التعاون توحيد الصفوف وتكامل الأدوار وإنصاف جميع الأطراف، فإن من نتائج الفردانية، التشرذم وطغيان الذاتية والأنانية على مبدأ المصلحة العليا، وعندما نتحدث عن تضارب المصالح فإننا نعني بذلك أن الأشخاص غير مهتمين أو مبالين بالقواعد التي يتم بها توزيع محصول تعاونهم من جراء تلهفهم لتحقيق أهدافهم، فكل فرد يفضل الحصول على الجزء الأكبر من هذه المزايا بدل الجزء الأقل، أي أن كل واحد يسعى إلى تحقيق مصلحته معتقدا أن مجهوده الخاص كفيل لبلوغ أهدافه وطموحاته وغاياته. ولهذه الأسباب وغيرها يتوصل “رولز” إلى ضرورة وضع مقاربة جديدة لمفهوم العدالة يتسنى من خلالها تحديد مبادئ أخلاقية وسياسية تشمل مختلف التصورات الممكنة لمسألة العدالة الاجتماعية وتكملها، بل ان العدالة كإنصاف، كما يرى رولز هي القاعدة التي ستضمن التوزيع العادل للخيرات وفق تصور أخلاقي يرضي الجميع، وذلك من خلال مبادئ العدالة الاجتماعية كما بلورها “جون رولز” والتي ستكون وسيلة فعالة لتوحيد الحقوق والواجبات داخل المؤسسات الأساسية للمجتمع، كما أنها ستساعد على التوزيع السليم والمتكافئ للأرباح.
غير أنه على الرغم من الاختلاف الملاحظ عند الأشخاص حول المبادئ التي يجب أن تكون بمثابة الأسس القاعدية لمجتمعهم، ومع ذلك فوجود الاختلافات لا يمنع من وجود نظرة خاصة لكل واحد منهم للعدالة، بمعنى أنهم يدركون الحاجة إلى هذه المبادئ وأنهم مستعدون للدفاع عنها.
هذه المبادئ تسمح بوضع الحقوق والواجبات الأساسية وتحقيق ما يعتقدون انه توزيع عادل للمزايا والأعباء الناتجة عن التعاون الاجتماعي، ولهذا يمكن القول إن مبادئ العدالة كإنصاف من شأنها أن تقدم تصورا شاملا لكل التصورات المختلفة للعدالة وتحتويها في نفس الآن، بشكل يجعلها تتخذ أبعادا قابلة للتطبيق عمليا داخل البنيات المؤسساتية متى توفرت الظروف المناسبة لذلك20.
المواطنة في مصر وترويج اقتصارها على البعد الديني:
في ضوء المتغيرات والمكاسب التي حصلت في التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي، خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، مع تطور الديمقراطية في سياق علماني، فالديمقراطية والمواطنة مفهومان لا يمكن الفصل بينهما. حيث أن الأول يضمن مشاركة المواطن ويعترف بحقوقه وواجباته، والثاني يعمل على تقوية الديمقراطية الاجتماعية التي تسمح للمواطنين (بغض النظر عن مستواهم المعيشي والثقافي… إلخ.) بالاندماج في المجال العمومي باستمتاعهم بكل الحقوق والحريات دون تمييز، كما يرى البعض أنه لا يمكن الحديث عن الديمقراطية أو عن المواطنة في أي بلد دون تحقيق العلمانية كنمط سياسي للحكم21.
ومع مزيد من التطور أصبح ينظر إلى مفهوم المواطنة، باعتباره أفقا يتجاوز الصبغة القانونية الحقوقية، ليشير إلى حركية اجتماعية، هدفها تحرير الأفراد ودفعهم للعمل بفعالية، للتمكن من تركيب تاريخهم، والمساهمة في بناء مجتمع ديمقراطي، يضمن مختلف حقوقهم، كما يضمن حريتهم وكرامتهم.
وبالتطبيق على مصر، فلا تزال مصر تعيش في مرحلة التحول الديمقراطي، ولم تصل بعد إلى الديمقراطية الناضجة، كما أنه لا يزال النظر إلى مفهوم المواطنة، قائما باعتباره صبغة قانونية وحقوقية، تعني بحقوق الأقليات والمرأة، ولم ترق بعد إلى اعتبارها حراك مجتمعي عام، من جميع مكونات الهيكل المجتمعي من أجل تحقيق توازن ومساواة في الحقوق والواجبات العامة.
وتعد إشكاليات انتقاص المواطنة، قد فرضتها المتغيرات السياسية بعد حركة الجيش في يوليو 1952، فبدأت أسس الدولة المدنية تتآكل لصالح دولة استبدادية تؤصل لنفسها مرجعية دينية، وتبحث عن أسس إسلامية لسلوكها السياسي، مثل المبدأ الإسلامي “الأرض لمن يزرعها” عندما أصدرت قوانين الإصلاح الزراعي، أو الحديث عن اشتراكية إسلامية عندما أصدرت قرارات يوليو الاشتراكية، وقد دخلت الدولة في منافسة مع تيارات الإسلام السياسي حول من منهم يمثل الإسلام أكثر من الأخر22.
وعلى مستوى الممارسة الفعلية، بدأت حالة التعايش الديني تتراجع شيئا فشيئا، فلم يعد النظام السياسي آنذاك قادرا على السيطرة على الشرائح القبطية، واستيعابها داخل بناء الحياة السياسية الجديدة23، فبدأت تتعامل مع الكنيسة كممثل لهم، بالإضافة إلى التضييق على اليهود المصريين بحكم الصراع العربي الإسرائيلي، وإجبارهم على الهجرة، وإغلاق المحافل البهائية، والامتناع عن إصدار أوراق ثبوتية لهم24.
وبعد هزيمة يونيه 1967، ازدادت حدة اللجوء المكثف من السلطة السياسية إلى توظيف الدين الإسلامي والمسيحي في العملية السياسية، كما استمر النظام في توظيف الدين الإسلامي في صراعه الداخلي على السلطة، وتجسد ذلك بقوة في صراع الرئيس السادات مع الماركسيين والناصريين، حتى وصل الأمر لإعلانه بأنه رئيس مسلم لدولة إسلامية، مما فتح الباب إلى صراع بين مؤسسة الرئاسة والكنيسة، التي استشعرت حماية الدولة للجماعات التي تشكل تهديدا معنويا وماديا للأقباط، ووصل إلى حد اعتقال البابا شنودة وتحديد إقامته بأحد أديرة وادي الريان، في حملته ضد المعارضة بأسرها في سبتمبر 1981.
وقد أفضت تلك السياسات في نهاية المطاف إلى تزايد دور المؤسسات الدينية، التي أدت إلى تديين السياسة التشريعية، وتجلى ذلك في إدخال النص الخاص بالمادة الثانية في الدستور والتي نصت على أن “مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع”، والتي أدت إلى أسلمة المجال العام، مما يعيق فعالية مبدأ المواطنة، فعلى الرغم من أن البعض يستبعد أي زعم بأن مبدأ المساواة بين المواطنين متعارض مع الشرع الإسلامي، وأنه مبدأ لا يمليه إلا الفكر الوضعي المنفصل عن الدين‏، ومن ثم فهو يقيم بناء المواطنة بعيدا عن التوترات العقيدية.25‏ ومن ثم فإن الارتقاء أو الارتداد عن المساواة يخضع بالأساس إلى مدى اعتدال أو تشدد النظام.
فعلى سبيل المثال، العنف ضد الأقباط، مؤسس لفاعليه على تأويلات دينية تعمل على نفي المواطنة عن الأقباط، أو اعتبارهم في بعض الخطابات مواطنين من الدرجة الثانية، وينبغي ألا نعمم في هذا الصدد لأن خطابات محددة هي التي تقيم مثل هذا التمييز وتعتمد على الخطاب التاريخي لما يسمى بعقد الذمة.26
الخاتمة:
تخبرنا التجارب الغربية أن المواطنة قد تم تفعيلها وفق ثلاثة أطر، وهي بالترتيب القانونية، السياسية، والاجتماعية27، ويمكن استيضاح ذلك الترتيب عن طريق مطابقته مع تجربة السود في أمريكا، حيث أنهم حصلوا أولا على المساواة أمام القانون بعد التعديل الثالث عشر للدستور، ثم بعد ذلك أصبح لهم الحق في المشاركة السياسية، بعدها خاضوا نضالات كبيرة امتدت لما يقرب من القرن من أجل نيل الحقوق الاجتماعية. وهي التي عززها تنظير توماس مارشال الذي قدم نموذج للمواطنة يضم ثلاثة أطر، وهي المدنية، السياسية، الاجتماعية. ثم ما أضافه جون رولز فيما بعد بأن عدم التساوي الاقتصادي يجب أن يخضع لشرطين، الأول أن يكون هناك مواقع ووظائف مفتوحة للجميع وبشروط تضمن المساواة في الفرص، أما الثاني أن يعود هذا الفرق الاقتصادي بالنفع على أقل أفراد المجتمع.
وفي مصر، فعلى مدار عقود طويلة توجد حالة من الاحتقان الطائفي، نتيجة لمحاولة الأنظمة التي نتجت عن حركة الجيش في يوليو 1952 لاستخدام الخطاب الديني في خطابها السياسي، ويعود ذلك لأسباب عدة منها تقديم خطاب مغاير للنظام الليبرالي السابق لها، والذي أوجب عليها إيجاد بديل إيديولوجي يفسر معاداتها له وثورتها عليه، وكذلك طبيعة المنافس السياسي لها وهو تيارات الإسلام السياسي، مما جعلها تسعى لتقديم نفسها باعتبارها إما أكثر منه إسلاما، أو أنها تقدم نموذجا إسلاميا معتدلا، كل حسب المعطيات المرحلية.
وقد نتج عن ذلك تعديل الدستور عام 1980 لينص في مادته الثانية على أن “الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع” ليفتح المجال العام أمام التشدد الديني، وتتصاعد حدة التوتر الديني بين المسلمين والأقباط، ليعود الأقباط إلى انتمائهم الأولي، أي الكنيسة.
وفي عام 2007، شهد الدستور تعديلا آخر لينص في مادته الأولى على أن المواطنة هي أساسا للحكم، وتصور آلة النظام الإعلامية، والتي انساق معها بعض تيارات المجتمع المدني، أن المواطنة هي المساواة بين المسيحيين والمسلمين، متجاهلة المكونات المجتمعية الأخرى، مثل النوبيين، البجة، الأمازيغ، البدو والمرأة، بالإضافة إلى تجاهلها أصلا لعلاقة تلك المكونات كمجتمع بالدولة، على الرغم من أن التوترات بين بعض تلك المجموعات يمثل خطرا أكبر من خطر التناحر القاعدي القبطي الإسلامي، حيث أن الأقباط منتشرون في كل أرجاء البلاد، كما أنهم منصهرون مجتمعيا بشكل كبير، على العكس من بعض المكونات الأخرى التي تعيش في مناطق جغرافية خاصة بها، وتحتمي بجماعتها وعرفها، وتنتمي أولا إلى قبيلتها وعرقها28، وقد كانت اشتباكات بين العرب والهوارة، وكذلك الدابودية النوبيين وبني هلال العرب، في صعيد مصر مثالا حي على ذلك الخطر. ونستخلص من ذلك أن التجربة المصرية في المواطنة لا تحتاج إلى تغيير فوقي على مستوى التشريعات والقوانين والإرادة السياسية فقط، على الرغم من نجاح مثل ذلك النسق من قبل، من دون أن يكون لها استعداد قاعدي للتحرك نحو إنفاذها وتفعيلها. وبالتالي فإن النقل الحرفي عن التجربة الغربية من دون مراعاة الخصوصية المصرية السياسية والاجتماعية والثقافية والإيديولوجية… إلخ، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ترقى من التنظير إلى التفعيل.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1AntonisLiakos, Multiple Paths to CitizenshipT.H.Marshall’s Theory and the Greek Case, university of Athens. http://goo.gl/5xEwUG
2بهي الدين حسن، دور المجتمع المدني في التعديلات الدستورية، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 23 فبراير 2007، http://goo.gl/qbbalj
3مصر: “الإخوان” و”الوفد” و”التجمع” يقاطعون الاستفتاء على التعديلات الدستورية، الشرق الأوسط، 22 مارس 2007، http://goo.gl/igNBCd
4علي عبد الرازق جلبي، الاندماج الاجتماعي والمواطنة النشطة، مصر بعد ثورة 25 يناير نموذجا، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013، http://goo.gl/sNZEor
5منى مكرم عبيد، “المواطنة”، مجلة المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية، العدد 15، القاهرة 2006، ص 39.
6الوطن، الهوية الوطنية، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات، مركز آفاق للدراسات والبحوث، 9 يوليو 2011، http://goo.gl/grL8xJ
7المادة 10 من الدستور المصري 2014، http://goo.gl/rWDWpC
8T.H Marshall, citizenship and social class and other essays, the syndecs of the Cambridge university press, 1959. P10. http://goo.gl/uxvwWx
9توماس مارشال، المرجع السابق.
10الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، http://goo.gl/hxbKxn
11Surt foundation, Key term definition: theory of citizenship (T.H. Marshall), 11 November 2010. http://goo.gl/ctCRmU
12أنطونيوس لياكوس، مرجع سابق.
13Bryan S. Turner, Outline of a Theory of Citizenship. http://goo.gl/q7103J

14نواف الحاج لطيف، النظرية الليبيرالية ونظرية المساواة، http://goo.gl/J6Geaq
15الليبرالية السياسية ومسألة العدالة جون رولز، اوفر بلوج، 10 مايو 2008. http://goo.gl/TF2sD4
16عبد الرحمن بووشمة، نظرية العدالة عند جون رولز، موقع مغرس. http://goo.gl/3GNAjr
17Rawls, John (1999). A Theory of Justice.Harvard University Press.p. 118.
18John Rawls, a theory of justice, revised edition, Harvard College, 1999, p53
19جون رولز، المرجع السابق.
20عبد الرحمن بووشمة، مرجع سابق.
21عبد الوهاب عتى، عندما يتكلم الجميع عن المواطنة، الحوار المتمدن، 6 أبريل 2015، http://goo.gl/4P8eQX
22د. عماد أبو غازي، الحالة الدينية في مصر بين التعايش والتمييز، كتاب مصر لكل المصريين، وثائق المؤتمر الوطني الأول لمناهضة التمييز الديني، إعداد د. محمد منير مجاهد، يناير 2009، ص130.
23د. نبيل عبد الفتاح، رؤية تحليلية لواقع العنف الطائفي في ظل الارتفاع الديني، كتاب مصر لكل المصريين، وثائق المؤتمر الوطني الأول لمناهضة التمييز الديني، إعداد د. محمد منير مجاهد، يناير 2009، ص 136.
24د. عماد أبو غازي، مرجع سابق.
25طارق البشري، حول المادة الثانية من الدستور المصري، منشور في صفحته الشخصية على موقع فيس بوك، 15 فبراير 2011، http://goo.gl/U9OTyr
26د. نبيل عبد الفتاح، مرجع سابق، ص139.
27 سامح فوزي، المواطنة، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الطبعة الأولى، القاهرة 2007، ص25.
28د. هبة رؤوف عزت، لقاء في منتدى البدائل العربي، 29 أريل 2015.

 

Start typing and press Enter to search