الأزهر والتحول الديمقراطي في مصر
جورج ثروت فهمي
مصر

هذه الورقة هي نتاج مجموع من ورش العمل شارك فيها:

أحمد عبد الحميد – دينا يوسف – سيف الله الخوانكي – عمرو صلاح – مصطفى خطاب – هبة ياسين

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [3.16 MB]

ظلت علاقة الأزهر بالمجال السياسي في المرحلة التي تلت إسقاط نظام مبارك محل جدل: فبينما رأى بعضهم أن هذا الدور يشكل انتهاكا لمبدأ الفصل بين الدين والدولة، فإن أخرين رأوا فيه جهدا محمودا من أجل رأب الصدع ما بين القوى السياسية والفكرية المختلفة خلال المرحلة الانتقالية. تسعى هذه الورقة إلى تقييم دور الأزهر منذ الاطاحة بنظام حسني مبارك في فبراير 2011 وحتى تدخل القوات المسلحة لعزل محمد مرسي في يوليو 2013 وإلى أي مدى ساهم الأزهر في الدفع بعملية التحول الديمقراطي، أو شكل تدخله في السياسة عائقا في سبيل هذا التحول وذلك بهدف تقديم مجموعة من التوصيات حول مستقبل علاقة الأزهر بكل من الدولة والسياسة والمجتمع في مصر.

أولا: الأزهر والسياسة بعد 25 يناير 2011

سعى الأزهر خلال الأيام الأولى لثورة 25 يناير 2011 أن يوازن ما بين الدعم لمطالب المتظاهرين السلميين المطالبين بالحرية والعدالة والكرامة وبين الخوف من انفراط عقد المجتمع والفوضى، فجاء في بيان مجمع البحوث الإسلامية في 2 فبراير 2011 أن “الإسلام يقرر الحقوق ويحمي الحريات ويرفض الظلم ويقف إلى جانب الشعوب في مطالبها المشروعة في العدل والحرية والعيش الكريم” إلا أن البيان أكد في ذات الوقت أن “المصلحة الوطنية والحفاظ على أمن الوطن وسلامته مقصدا أساسيا من مقاصد الشريعة يقدم على ما سواه”.

وبعد تنحى مبارك عن السلطة وتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة قيادة المرحلة الانتقالية، بدأ شيخ الأزهر أحمد الطيب في عقد جلسات للحوار والنقاش بين كبار علماء الأزهر ومجموعة من المثقفين المصريين من مختلف الانتماءات الفكرية والدينية في ظل حالة من الاستقطاب السياسي والفكري الحاد خلال المرحلة الانتقالية بين القوى الإسلامية والقوى المدنية. وقد أسفرت تلك الاجتماعات عن مجموعة من الوثائق التي سعت إلى ايجاد مساحة توافق بين مبادئ الشريعة الإسلامية وقيم الحرية وحقوق الإنسان، وعلى رأسها وثيقتي مستقبل مصر ووثيقة الحريات الأساسية.

في يونيه 2011، أعلن الطيب “وثيقة الأزهر لمستقبل مصر” بعد جلسات حوار شارك فيها كبار علماء الأزهر مع مجموعة من المفكرين من انتماءات فكرية ودينية مختلفة. أكدت الوثيقة في مادتها الأولى: “دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة. ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها علي قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيه النواب الشعب، بما يتوافق مع المفهوم الإسلامي الصحيح حيث لم يعرف الإسلام لا في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرف في الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية التي تسلطت على الناس، وعانت منها البشرية في بعض مراحل التاريخ، بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلي شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية”. وفي مادتها الثانية على “اعتماد النظام الديمقراطي، القائم على الانتخاب الحر المباشر، الذي هو الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمي للسلطة، وتحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلي الشعب، وتوخي مصالح الناس العامة ومنافعهم المرسلة في جميع التشريعات والقرارات، وإدارة شئون الدولة بالقانون والقانون وحده وملاحقة الفساد وتحقيق الشفافية التامة وحرية الحصول على المعلومات وتداولها”.

وعاد الأزهر في يناير 2012 ليصدر وثيقة الحريات العامة. وتضمنت الوثيقة أربعة حريات:

  1. حرية العقيدة: التي أكدت الوثيقة أنها “حجرَ الزَّاوية في البناء المجتمعي الحديث، وهي مكفولةٌ بثوابت النصوص الدِّينية القطعيَّة، وصريح الأصول الدستوريَّة والقانونيَّة؛ فلكلِّ فردٍ في المجتمع أنْ يعتنقَ من الأفكار ما يشاء، دون أنْ يمسَّ حقِّ المجتمع في الحفاظ على العقائد السماويَّة؛ فللأديان الإلهيَّة الثلاثة قداستها، وللأفراد حريَّة إقامة شعائرها دون عُدوان على مشاعرِ بعضهم أو مَساسٍ بحرمتها قولاً أو فعلاً، ودون إخلالٍ بالنظام العام”.
  2. حريَّة الرأي والتعبير، وصفتها الوثيقة بأنها “أمُّ الحريَّات كلها، وتتجلَّى في التعبير عن الرأي تعبيرًا حرًّا بمختلف وسائل التعبير؛ من كتابةٍ وخطابة وإنتاج فني وتواصُل رقمي، وهي مظهر الحريَّات الاجتماعيَّة التي تتجاوز الأفراد لتشمل غيرَهم؛ مثل تكوين الأحزاب ومنظَّمات المجتمع المدني، كما تشمل حريَّة الصحافة والإعلام المسموع والمرئي والرقمي، وحريَّة الحصول على المعلومات اللازمة لإبداء الرأي”.
  3. حريَّة البحث العلمي، وأكدت الوثيقة على أن “البحث العلمي الجادُّ في العلوم الإنسانيَّة والطبيعيَّة والرياضيــَّة وغــيرها، قاطرةَ التقدُّم البشري، ووسيلةَ اكتشافِ سنن الكون ومعرفة قوانينه؛ لتسخيرِها لخير الإنسانيَّة، ولا يمكن لهذا البحث أنْ يتمَّ ويؤتي ثماره النظريَّة والتطبيقيَّة دون تكريس طاقةِ الأمَّة له، وحشد إمكاناتها من أجله”.
  4. حريَّة الإبداع الأدبي والفني، وأكدت الوثيقة أن “الآداب والفنون في جملتها تستهدفُ تنمية الوعي بالواقع، وتنشيط الخيال، وترقية الإحساس الجمالي، وتثقيف الحواس الإنسانيَّة وتوسيع مَداركها، وتعميق خِبرة الإنسان بالحياة والمجتمع، كما تقومُ بنقد المجتمع أحيانًا، والاستشراف لما هو أرقى وأفضل منه”.

مع انتخاب محمد مرسي رئيسا لمصر في يونيه 2012، عرفت العلاقة ما بين الرئاسة ومؤسسة الأزهر توترا مكتوما بدا في عدة مواقف سعت فيها الرئاسة لتجاهل الأزهر أو التقليل من شأن إمامه الاكبر. وقد ادت تلك العلاقة المتوترة بالأزهر إلى التراجع عن دوره السابق في محاولة التقريب بين وجهات نظر الاطراف السياسية المختلفة. وفي ظل غياب أية محاولات للتواصل، عرفت مصر خلال فترة حكم الرئيس السابق محمد مرسي حالة متزايدة من الاستقطاب السياسي والمجتمعي ما بين جماعة الإخوان المسلمين والمؤيدين لها في جانب، والمعارضة على الجانب الاخر. حيث اتهمت المعارضة جماعة الإخوان المسلمين ببسط نفوذها على مؤسسات الدولة المصرية لترسيخ نظام سلطوي، بينما اتهمت جماعة الإخوان المسلمين المعارضة بالسعي للانقلاب على نتيجة الانتخابات الرئاسية. تطور الاستقطاب ليصل إلى مصادمات دامية بين القوى المعارضة والثورية وأنصار جماعة الإخوان المسلمين. فدعا الأزهر الحركات الثورية والقوى السياسية لاجتماع بمشيخة الأزهر للنقاش حول قضية استخدام العنف في العمل السياسي. وأسفر النقاش عن وثيقة نبذ العنف (يناير 2013) والتي أكدت على “حُرمَةِ الدِّماءِ والمُمتَلكاتِ الوَطَنيَّةِ العامَّةِ والخاصَّةِ، والتَّفرِقةُ الحاسمةُ بين العمَلِ السِّياسيِّ والعملِ التخريبيِّ.” كما طالبت الوثيقة بالالتزام “بالوسائلِ السِّياسيَّةِ السِّلميَّةِ في العمَلِ الوطنيِّ العامِّ، وتربيةُ الكوادرِ الناشطةِ على هذه المبادئِ، وترسيخُ هذه الثَّقافةِ ونشرِه”، مطالبة بـ”حمايةُ النَّسيجِ الوَطَنِيِّ الواحدِ من الفِتَنِ الطائفيَّةِ المصنوعةِ والحقيقيَّةِ، ومن الدَّعواتِ العُنصُريَّةِ، ومن المجموعاتِ المسَلَّحةِ الخارجةِ على القانونِ، ومن الاختِراقِ الأجنبيِّ غيرِ القانونيِّ، ومن كُلِّ ما يُهدِّدُ سَلامةَ الوطَنِ، وتضامُنَ أبنائِه، ووحدةَ تُرابِه”.

اشتدت حدة الاستقطاب مع دعوة حركات سياسية إلى انتخابات رئاسية مبكرة، وهو ما رفضه محمد مرسي الذي أصر على استكمال مدته الرئاسية. فشهدت عدة محافظات مصرية مظاهرات حاشدة يوم 30 يونيه 2013 ضد نظام محمد مرسي للمطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة. رفضت مؤسسة الرئاسة الاستجابة لمطالب المتظاهرين، فأصدرت القوات المسلحة بيانا يطالب بضرورة الاستجابة للشعب المصري في الأول من يوليو 2013 قبل أن تتدخل في الثالث من يوليو لعزل محمد مرسي وطرح خارطة طريق سياسية جديدة تتضمن إجراء انتخابات رئاسية مبكرة وتعطيل العمل بالدستور وتعيين رئيس المحكمة الدستورية رئيسا انتقاليا. إلا أن محمد مرسي رفض القبول بهذا الإجراء وأصر على أنه لا يزال هو الرئيس الشرعي للبلاد ودعا المؤيدين له إلى رفض تلك الإجراءات. فاعتصمت جماعة الإخوان والمؤيدين لها في ميداني رابعة العدوية ونهضة معلنين رفضهم للتدخل العسكري ومطالبين بعودة محمد مرسي للرئاسة. امتد اعتصام جماعة الإخوان المسلمين والمؤيدين لها لأكثر من 40 يوما، شهد خلالها الاعتصام مصادمات عنيفة بين قوات الشرطة والجيش والمتظاهرين قبل أن تتدخل قوات الشرطة لفض الاعتصام بشكل نهائي يوم 14 أغسطس 2013.

وقد سعى الأزهر الشريف خلال تلك الفترة إلى استعادة دوره كوسيط ما بين الأطراف السياسية المختلفة، فدعا إلى الحوار ما بين الفرقاء السياسيين والابتعاد عن لغة التحريض واستخدام العنف، ومن ثم أصدر بيانا في 6 يوليو 2013 وجه فيها 10 نصائح للدولة والمجتمع، كان من ضمنها: ضرورة ألا تزيد “الفترة الانتقالية عن الحد اللازم لتعديل الدستور وإجراء الانتخابات النيابية والرئاسية للإسراع في العودة إلى الحالة الطبيعة الديمقراطية الدستورية التي ارتضاها الشعب”، كما طالب البيان “بالإفراج الفوري عن كل معتقلي الرأي والناشطين السياسيين والقيادات الحزبية غير المطلوبة في قضايا جنائية، وبمصالحة وطنية حقيقية بين الأطياف السياسية والفكرية دون إقصاء أو استبعاد”. وعاد الأزهر للتأكيد على قضية المصالحة الوطنية في بيان أخر في 23 يوليو 2013 طالب فيه كلَّ المصريين “أن يُساهموا ويُشاركوا جميعًا؛ أحزابًا وقوًى وتيارات سياسية ومجتمعية ومؤسَّسات، في إنجاح هذه المصالحة الوطنية المرجوَّة، والإقبال عليها بروح الصِّدق والإخلاص والشفافية والتجرُّد؛ لأجل تحقيق وحدة الشعب وأمنه وسلامته”.

عقب المصادمات التي شهدتها منطقة المنصة بين المتظاهرين ورجال الأمن في 27 يوليو 2013، أصدر الأزهر بيانا أدان فيه تلك الأحداث، معلنا أن “هذه التصرفات الدموية ستفسد على عقلاء المصريين وحكمائهم كل جهود المصالحة ومحاولات رأب الصَّدع ولم الشمل، وعودة المصريين إلي توحدهم كشعب راق متحضر”. وأن الأزهر لا يزال متمسكا بمبدأ “أن مقاومة العُنف والخروج على القانون لا يكون إلا في حُدود القانون، وباحتِرام حقوق الإنسان، وأخصها الحق في الحياة”، وطالب الأزهر الحكومةَ الانتقالية بالكشف عن حقيقة الحادَث، مطالبا القوى السياسية دون إقصاء بالمبادرة إلى “الجلوس على مائدة حوار جادة مخلصة ذات مسؤولية وضمير للخروج من هذه الأزمة ومن هذه التداعيات الدموية ومن هذه الأجواء التي تفوح منها رائحة الدماء”.

كما أصدر الأزهر بيانا يوم فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في 14 أغسطس 2013، حذر فيه من استخدام العنف وإسالة الدماء، مؤكدا أن استخدام العنف لا يمكن أن يكون بديلاً عن الحلول السياسية، وأنَّ الحوار العاجل والجاد هو الحل الوحيد للخروج من الأزمة، داعيا جميع الأطراف إلى ضبط النفس، والاستجابة إلى الجهود الوطنية للحوار والمصالحة الشاملة، مؤكدا أنه لم يعلم بإجراءات فض الاعتصام إلا عن طريق وسائل الإعلام. إلا أنه على الرغم من كل تلك الجهود التي بذلها الأزهر وإمامه الأكبر للوصول إلى مصالحة وطنية، فإن تلك الجهود لم تكلل بالنجاح، حيث أصر كل طرف على موقفه الرافض للحوار لتستمر حالة الاستقطاب السياسي والمجتمعي.

ثانيا: محددات سلوك الأزهر الشريف

يشير تحليل مواقف وخطاب الأزهر خلال المرحلة الانتقالية إلى أنه يسعى للدفاع عن مجموعتين من المصالح: المصالح الفكرية والمصالح المعنوية. تتمثل المصالح الفكرية في إقامة المجتمع الإسلامي، أما المصالح المادية فتدور حول زيادة حصة الأزهر داخل المجال الديني بهدف السيطرة على المجال الديني. إلا أن المنفعة التي تجلبها تلك المصالح، تحدها أيضا مفسدة يسعى الأزهر إلى اجتنابها، استنادا إلى فقه الموازنات والأولويات. فالمصلحة الفكرية المتمثلة في إقامة المجتمع الإسلامي، تحد منها مفسدة الفتنة أو الفوضى التي قد تصيب المجتمع فينهار أو يقتتل أفراده فيما بينهم. فبينما يسعى الأزهر إلى تحقيق منفعة إعادة الإسلام إلى صدارة حياة المسلمين، فانه طالما حذر من استخدام العنف في سبيل تحقيق هذا الهدف، حتى لا تكون فتنة أكثر شرا من المنفعة المبتغاة. وبذات المنطق، فان سعى الأزهر إلى زيادة حصته من المجال الديني، يحد منها مفسدة، وهي أن يتم منع الأزهر من الدخول إلى المجال الديني أو أن يتم اختراق الأزهر من قبل جماعات دينية أخرى. وقد حكم سلوك ومواقف الأزهر خلال المرحلة الانتقالية عملية الموازنة المستمرة بين المنافع والمفاسد، سواء على صعيد المصالح الفكرية أو المصالح المادية.

 

المصالح منفعة مفسدة
المصالح الفكرية إقامة المجتمع الإسلامي الفتنة أو الفوضى
المصالح المادية السيطرة على المجال الديني الخروج من المجال الديني أو فقدان الاستقلال المؤسسي

حاول الأزهر في الأيام الأولى للثورة أن يتبنى موقفا وسطا، يوازن ما بين الدعم لمطالب المتظاهرين السلميين في التحرير وبين الخوف من انفراط عقد المجتمع والفوضى. حيث اجتمع مجمع البحوث الإسلامية في جلسة طارئة يوم 2 فبراير 2011، وجاء موقفه أن “الإسلام يقرر الحقوق ويحمي الحريات ويرفض الظلم ويقف إلى جانب الشعوب في مطالبها المشروعة في العدل والحرية والعيش الكريم” إلا أن المجمع أكد أيضا أن “المصلحة الوطنية والحفاظ على أمن الوطن وسلامته مقصدا أساسيا من مقاصد الشريعة يقدم على ما سواه. ومن هنا فان التعبير عن الرأي يجب أن يظل محكوما بالمصالح العليا للوطن وفي مقدمتها الأمن”. وطالب مجمع البحوث المواطنين “بأن يلتزم الجميع بالتعقل والهدوء والبعد عن أي صدام أو عنف، وبخاصة في هذا الظرف الذي تمر به الأمة”، كما طالب “باجتماع سائر القوى السياسية دون إقصاء لأحد لحوار فوري يهدف إلى احتواء الأزمة ورأب الصدع والحفاظ على الأمن”.

وبعد تخلي مبارك عن السلطة، بدأ موقف الأزهر في التحول. فقد تغير المناخ السياسي ومعه تغير تقييم الأزهر للمنافع والمفاسد المصاحبة لمصالحه الفكرية والمادية. فمع سقوط مبارك والصعود السياسي السريع لجماعات دينية كالإخوان المسلمين والسلفيين، أدرك الأزهر وقيادته الحالية، أن من مصلحة الأزهر أن يكون في مصر دولة يطبق فيها القانون، ونظاما سياسيا يحترم الحقوق والحريات، حتى يستطيع الأزهر الحفاظ على مكانته واستقلاله داخل المجال الديني خوفا من أن تسعى التيارات الدينية إلى السيطرة على الأزهر في حال وصولها للسلطة دون دستور يضع الحدود الفاصلة بين الدولة والنظام السياسي ويحفظ للأزهر استقلاله.

ومع وصول التيارات الإسلامية إلى السلطة خلال الانتخابات البرلمانية في نوفمبر وديسمبر 2011 والانتخابات الرئاسية في يونيه 2012، تراجعت أهمية المصالح الفكرية للأزهر، فقد صارت مسئولية النظام الحاكم، وصارت مصالح الأزهر المادية هي الأكثر إلحاحا، فوصول الإخوان المسلمين للحكم صار يهدد استقلالية الأزهر ودوره في المجال الديني، خاصة إذا ما نجح الإخوان في إعادة إنتاج نظام مبارك، ليصبح الرئيس فوق الدولة والدستور. من جانب آخر، فإن حالة الاستقطاب الحاد التي شهدها المجتمع المصري، سواء السياسي بين القوى المدنية والدينية أو الديني بين المسلمين والأقباط، إضافة إلى تزايد المظاهرات والاضطرابات قد دفعت الأزهر أيضا إلى محاولة تبني حلا وسطا يرضي الأطراف المختلفة بهدف إبعاد شبح الفتنة والفوضى عن المجتمع المصري. فجاءت مشاركة الأزهر في 3 يوليو 2013 بهدف اعفاء محمد مرسي من منصبه والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة لتجنيب مصر حالة من الفوضى في ظل استمرار الاستقطاب السياسي. الا أن جماعة الإخوان المسلمين رفضت المشاركة في العملية السياسية الجديدة وتمسكت بمحمد مرسي كرئيس للبلاد. سعى الأزهر خلال تلك الفترة إلى محاولة الوساطة بين السلطة الانتقالية وجماعة الإخوان المسلمين في محاولة لتجنيب مصر حالة الفوضى والعنف. إلا أن محاولاته قوبلت بالرفض من قبل السلطة الانتقالية وجماعة الإخوان على حد سواء.

ثالثا: الأزهر ومستقبل العملية السياسية في مصر

يشير أداء الأزهر خلال المرحلة الانتقالية إلى أن المؤسسة الدينية في سعيها إلى تجنيب البلاد مخاطر الفوضى قد تلعب دورا هاما في الوساطة بين الأطراف السياسية المختلفة وفي العمل على إيجاد حلا وسطا. وعلى الرغم من صعوبة الوضع السياسي والاجتماعي في ظل حالة الاستقطاب السياسي والمجتمعي فإن الأزهر قد يستطيع لعب دورا فعالا خلال الفترة القادمة إذا ما نجح في إدارة علاقته بكل من الدولة والسياسة والمجتمع المصري بشكل أكثر فعالية.

  • علاقة الأزهر بالدولة المصرية:

غاب على مدار زمن طويل أي تمايز ما بين النظام الحاكم ومؤسسات الدولة في مصر نتيجة للعقود المتعاقبة من النظم السلطوية. فقد نجحت النظم السلطوية المتعاقبة في تطويع مؤسسات الدولة لتعمل لصالحها، فغاب أي استقلال للدولة عن النظام الحاكم وصرنا نتحدث عن دولة ناصر، ودولة السادات، ودولة مبارك. ونتيجة لهذا التماهي بين النظام والدولة، فإن على الأزهر في تلك المرحلة الجديدة من عمر مصر أن يحاول أن يضع خطا فاصلا بين علاقاته المؤسسية بالدولة، بحكم هيكله التنظيمي ومصادر تمويله، وبين سعى النظام الحاكم إلى السيطرة عليه ومحاولة استغلاله لتحقيق أهداف النظام كما جرت العادة في العهود السابقة. وبينما تشير وثيقة الأزهر الأولى حول مستقبل مصر إلى وعي لدى الأزهر وإمامه الأكبر بهذا التمايز بين الدولة والنظام، فإن التحدي الذي يواجه الأزهر هو إلى أي مدى ستقبل السلطة السياسية بهذا التمايز؟.

  • علاقة الأزهر بالسياسة:

نجح الأزهر خلال المرحلة الانتقالية في وضع حد فاصل بين انخراطه بالسياسة بمعنى المشاركة في الشأن العام وبين السياسة بمعناها الحزبي، فبدا أن قيادته واعية لهذا الفارق ما بين الشأن العام والعمل الحزبي، ودارت كل مبادراته خلال المرحلة الانتقالية حول جهود للوساطة ما بين الأطراف السياسية المختلفة دون أن ينزلق لدعم طرف سياسي على حساب أخر. فالأزهر شأنه كشأن أي فاعل اجتماعي له الحق في الاشتراك في الجدل العام والإدلاء برأيه دون أن يعد ذلك انتهاكا لمبادئ الديمقراطية طالما ظل هذا الرأي قابلا للنقاش والرفض وليس حكما يجب اتباعه. فما بين وصاية الأزهر على المجال العام واقصاءه تماما عنه مساحة يحق للأزهر فيها أن يعبر عن مواقفه وآرائه دون حساسية زائدة من بعض القوى العلمانية.

  • علاقة الأزهر بالمجتمع المصري:

منذ أن قام النظام الناصري بمصادرة الأوقاف الدينية والأهلية، وسعى إلى إحكام سيطرة الدولة على مؤسسة الأزهر، فقد الأزهر معظم قنوات الاتصال بالمجتمع المصري، اللهم إلا من خلال مؤسساته التعليمية ومؤسسات الدولة كالإعلام. إلا أن الملفت في تاريخ الأزهر خلال الأربعة عقود الأخيرة، انه لم يسع إلى استغلال المناخ الأكثر انفتاحا خلال عهد السادات ومبارك لمحاولة مد جسور التواصل مرة أخرى مع المجتمع. حيث ظل الأزهر حبيسا في استراتيجياته للتغيير من أعلى، ولم يسع إلى استكشاف فرصا للتغيير من أسفل من خلال المجتمع. وما زاد الأمر صعوبة على الأزهر، هو أن المساجد في مصر تخضع إلى رقابة وإشراف وزارة الأوقاف، فلا يملك الأزهر حتى فرصة التواصل مع المجتمع من خلال المساجد. على العكس من الحالة التركية، حيث تملك رئاسة الشئون الدينية حق الإشراف على جميع المساجد في تركيا، وهو ما يسمح لها بقدر كبير من التواصل مع المجتمع، على الأقل من خلال خطب الجمعة.

من المهم أن تعيد قيادة الأزهر تقييم استراتيجيتها التي تتمحور دائما حول الدولة والسلطة السياسية، لتتجه صوب المجتمع وفئاته المختلفة. وتشير التجربة التركية إلى نجاح كبير في هذا الشأن، حيث نجحت رئاسة الشئون التركية في بناء جسور لها مع المجتمع التركي رغم كونها مؤسسة عامة. فلم تكتف بالمساجد، بل قام بعض من العاملين بها بإنشاء مؤسسة مجتمع مدني بهدف القيام بالمهام التي لا تستطيع المؤسسة الرسمية القيام بها، وصارت تلك المؤسسة الأهلية، مؤسسة ديانات، أحد أكبر منظمات المجتمع المدني التركي وأكثرها نشاطا.

Start typing and press Enter to search