حقوق المشتغلين في سوق العمل من أجور، وتأمينات، وتدريبات مهنية.. إلخ من أهم عوامل زيادة الإنتاجية من ناحية، ومن ثم نجاح الاقتصاد وزيادة ثقة المواطن من ناحية أخرى ومن ثم استقرار أي نظام سياسي. وعادة النقابات هي المؤسسات التي تمثل مطالب أعضائها من المشتغلين في سوق العمل وتوفر لهم خدمات شتي كالتأمين الصحي والتدريبات المهنية.. إلخ، من خلال حوار مجتمعي ومفاوضات بين ممثلي أصحاب العمل وممثلي الحكومة وهو ما يعرف بالحوار الثلاثي حسب منظمة العمل الدولية. في ظل غياب الحوار الثلاثي، يبدأ دور النقابات في الضمور وتصبح هامشية أو تابعة للحكومة غير ممثلة لحقوق العمال، وتبدأ الإضرابات والحركات العمالية نتيجة لعدم وجود آليات حوار وخطوات مفاوضة لتمثيل المطالب وحل المنازعات. في الواقع، تعاني مصر من غياب الحوار الثلاثي المنظم والمقنن وكان من نتائج غياب هذا الحوار أن شهدت مصر في السنوات الأخيرة سلسلة من الإضرابات والإعتصامات. في ضوء هذا، تهدف هذه الورقة، من خلال دراسة وضع النقابات والحوار الثلاثي في مصر ونتائج هذا الوضع، لطرح توصيات وإجراءات من الواجب اتخاذها لحل أزمات العمال الراهنة.
وواقعنا المصري يشهد في كل تلك المراحل أن الحوار بين العمال والحكومة وممثلي أصحاب العمل كان غائبا، حيث تعاني الحركات النقابية من غياب آلية ثلاثية للمفاوضات التي وفقا لمنظمة العمل الدولية تُعرف بالحوار المنظم و المقنن الذي يتم بين ممثلين الحكومة وممثلو العمال و ممثلو أرباب العمل من حين لآخر وأحيانا في مواعيد محددة وثابتة لنقاش مطالب كل فئة من الفئات الثلاث ([1]).
وبالرغم من غياب الآلية الثلاثية، أحيانا يحدث ما يسمي بالمفاوضات الجماعية التي عادة ما تأخذ مكان على مستوى المؤسسة /الشركة التي لدى العاملين بها بعض المطالبات. تلك المفاوضات منصوص عليها في قانون العمل 112 لسنة 2003 وتتم في الشركة بين ممثلي الوزارة وممثلي أصحاب العمل واللجنة النقابية التي تمثل العمال، وتعتبر الشكل الوحيد للحوار. تهدف تلك المفاوضات إلى تلبية مشاكل أو مطالب كلا من الطرفين (أصحاب العمل والعمال/الموظفين) وعادة يتم اللجوء إليها بعد سلسلة من الاعتصامات والإضرابات يقوم بها العمال. أما إذا لم تنجح هذه المفاوضات في التوصل إلى نقطة اتفاق بين الطرفين، يستمر العمال في الإضراب والاعتصام أو الاعتراض. وأصبح اللجوء إلى هذه المفاوضات على نطاق أوسع وخصوصا بعد ثورة 25 يناير نتيجة لقوة الحركة العمالية وزيادة الإضرابات والاعتصامات من أجل المطالبة بحقوقهم.
ويعد غياب الحوار المنظم والرسمي بين أرباب العمل والعمال والحكومة من أحد أهم العوامل التي نتج عنا اندلاع الإضرابات، فهذه الأخيرة أصبحت الوسيلة الوحيدة أو الملاذ الأخير أمام العمال/الموظفين للتعبير عن حقوقهم، نظرا لعدم وجود أي إجراءات منظمة لحل المنازعات مثل نظام للإنذار المبكر من خلال التنبيهات والشكاوى أو مؤسسة تسوية المنازعات، أو مفاوضات منظمة. كما كام من نتائج غياب الحوار أنه تم إدراج مصر على القائمة السوداء لمنظمة العمل الدولية بسبب عدم احترام الاتفاقية الموقع عليها والخاصة بحقوق من في العمل والتي صدرت في عام 1990. تم اختراق الاتفاقية فيما يتعلق بحرية الجمعيات/النقابات وعدم التمييز على أساس الدين أو العرق أو اللون أو الجنس وهما من إحدى الحقوق المنصوص عليها في الاتفاقية. التوقيع على مثل هذه الاتفاقية لا يؤدي فقط إلى احترامها وإنما على البلد الموقعة ترجمتها إلى قوانين وطنية. ولذا أصبحت مصر ملتزمة بموجب القانون الدولي على احترام اتفاقية منظمة العمل الدولية منذ أن وقعت عليها. ومع ذلك، لا يوجد قانون وطني يوفر ويضمن الحرية النقابية. والجدير بالذكر أن من جهة النظر القانونية، فإن القانون الوطني لديه السيادة على القانون الدولي، إذن في حال إقرار قانون للحريات النقابية، ستكون له السيادة.
وسعيا لإصدار قانون يضمن الحرية النقابية، في أول حكومة بعد ثورة 25 يناير، دعي وزير القوي العاملة معظم الأطراف المجتمعية إلى جلسات مناقشات ثلاثية لإعداد مشروع قانون الحرية النقابية جمعت بين ممثلي الحكومة والاتحاد العام، وممثلي أرباب العمل والجمعيات، وممثلي العمال. ونتيجة لهذه المناقشات، تم إعداد مشروع قانون ممثل لكافة الأطياف: الحكومة، القوى العاملة وأرباب العمل بعد الأخذ في الاعتبار جميع الملاحظات والتوصيات من مختلف الأطراف. تعد هذه المناقشات مهمة جدا ليس فقط لأنها أنتجت مشروع القانون الذي يتوافق مع القوانين الدولية المتعلقة بحرية النقابات، ولكن لأنها سمحت أيضا لإتاحة الفرصة للحوار والمفاوضات الجماعية الأولي من نوعها والتي من دورها ساهمت في إعداد هذا القانون.
تم تقديم مشروع هذا القانون إلى مجلس الوزراء وقت ذاك حيث تمت دراسته لمدة 4 أشهر ثم عُرض على المجلس العسكري لمدة 8 شهور، من دون أي إجراءات أو ردود فعل، ومع البرلمان الجديد والحكومة الجديدة، تجمدت دراسة هذا المشروع القانون وإقراره. والجدير بالذكر انه تم تقديم مشروع قانون أخر للحريات النقابية والذي يضم بنود ضد حرية النقابات مثل حظر وجود أكثر من لجنة نقابية في المنشأة. وهذا القانون يعد خطوة إلى الوراء ضد حرية النقابات.
وتنظم النقابات من قبل القانون الحالي رقم 35 لسنة 1976 الذي لا يسمح بإنشاء نقابات مستقلة، ولا يقنن إلا لجنة واحدة نقابية داخل الشركة/المنشأة مدرجة تحت مظلة الاتحاد الرسمية (الاتحاد العام). وبالتالي بنود القانون الحالي تتنافي مع الحرية النقابية ومع الاتفاقية الموقع عليها مع منظمة العمل الدولية. ويكون إقرار مشروع القانون الذي أُعد نتيجة المناقشات الثلاثية، والذي يسمح لحرية النقابات الامتثال لجميع التعاريف الدولية، ضرورة حتمية. هذا لأن عدم صدور القانون الذي ينظم ويضمن حرية تكوين الجمعيات يعرض مصر لمخاطر هامة وأهمها مخاطر اقتصادية، حيث أن منظمة التجارة العالمية مع منظمة العمل الدولية يسعون للربط بين تحرير التجارة وحرية الجمعيات. وبعبارة أخرى، الدول التي ليس بها حرية نقابات وتعددية سوف تُفرض عليها عقوبات في التجارة الخارجية. حال تحقق هذا الربط بين حرية الجمعيات وتحرير التجارة من خلال تلك الاتفاقية التي يدعمها الاتحاد الأوروبي وهو من أهم شركاء مصر في التجارة الخارجية أي تبلغ حصته 40% من إجمالي حجم تجارتنا المصرية، ستتحمل مصر خسارة كبيرة في معدلات التبادل التجاري الدولي إذا لم يتم إقرار قانون حرية الجمعيات والنقابات.
وهنا يأتي سؤال هام آخر ما إذا كانت حرية النقابات والتنظيم ضارة للاقتصاد أم لا. وفي هذا الصدد، وُجد أن الحرية والتعددية النقابية مفيدة للاقتصاد إذ أن الاعتراف بحقوق العمال واحترامها بل وتلبيتها في صورة أجور مناسبة وظروف عمل موائمة، يُشعر العامل بالرضا والثقة في النظام السياسي ويعضد قدرته على الحصول على حقوقه ومن ثم زيادة إنتاجيته. وبسبب غياب أليات تسوية منازعات أو الآلية الثلاثية للمفاوضات ـــــ كما سبق الذكر ــــ والتي يمكن أن تحل مطالب العمال دون تصعيد، فإن الملاذ الأخير يكون الإضراب أو الاعتصام. ولذا فقد تكبد الاقتصاد مليارات الجنيهات خلال هذه الفترة نتيجة لعدم وجود آلية تفاوض للوصول لحل مع العمال وضمان حقوقهم. فإذا كان هناك مفاوضات وخطوات منظمة لبحث مطالب العمال لكانت مصر تجنبت تلك الخسارة.
ماذا يمكن أن يحدث إذا لم تكن الإصلاحات سليمة، أي إذا تم التصويت على قانون يحجم ولا يتيح الحرية النقابية؟
في هذه الحالة سوف تسمر الإضرابات والاعتصامات ويجب في هذه الحالة أن نحترس من “ثورة العمال” أي أن ثورة العمال ستكون الجواب عن أي إجراء يسيء بالحريات النقابية، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية سواء ما يتعلق بالتجارة الخارجية أو ما يتعلق بإنتاجية العامل.
في ظل تغير النظام وعدم الاستقرار السياسي، فإنه ليس من المؤكد كيف يمكن لهذه الحركات العمالية والنقابات أن تمضي قدما ومستقبلها في ظل النظام القادم ولكن المؤكد أن مصر الآن في مفترق الطرق وحرية تكوين الجمعيات أمر ضروري ليس فقط لاحترام الاتفاقيات الموقع عليها مع منظمة العمل الدولية ولاحترام حقوق العمال، إنما أيضا لحماية الهيكل الاقتصادي المصري وتنمية مهارات العمال ومن ثم زيادة التنافسية.
[1]() في الدانمارك تتم المفاوضات الثلاثية مرة كل عامين يتم الاتفاق فيها علي المطالب الأساسية كمستوي الأجور… إلخ
[2]() من واقع التجربة الدانماركية فيما يتعلق بحقوق العمال