نظّم «منتدى البدائل العربي للدراسات» بالتعاون مع موقع «صفر»، ندوة بعنوان «العدالة المكانية وفقر الخدمات العامّة في بلدان المنطقة العربية». أدار الندوة أديب نعمة، خبير ومستشار في التنمية والسياسات الاجتماعيّة ومكافحة الفقر، وتحدّث فيها كلّ من هويدا عدلي، أستاذة العلوم السياسية في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وفي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وفي جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، وأسامة دياب، الكاتب والباحث في التنمية والزميل في قسم الدراسات الشرق آسيوية والعربية في جامعة لوفن في بلجيكا، بالإضافة إلى سفيان جاب الله، عالم اجتماع وأستاذ مساعد في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في صفاقس.
«التوسّع الحضري الطائش» يرفع القيمة التبادلية للسكن على حساب قيمته الاستخدامية
أسامة دياب
كاتب وباحث في التنمية وزميل في قسم الدراسات الشرق آسيوية والعربية في جامعة لوفن في بلجيكا
إن المهمة الرئيسة للبحث الاجتماعي هي خلق علاقات ما بين أشياء لا علاقة واضحة فيما بينها، ومن هنا فكّرت كثيراً عن الكيفية التي يمكن بها أن أربط ما بين مسالة العدالة المكانية ومسألة فقر الخدمات العامة، ولا سيما في المنطقة العربية، بكونها سياقاً طرفياً من منظور التقسيم الدولي للعمل.
والحقيقة، تشهد بلدان ومناطق كثيرة في العالم العربي ما يمكن تسميته بـ«الثورة العقارية» أو «الفورة العقارية»، ولذلك سوف أستعير مصطلح «التوسع الحضري الطائش» من ديفيد هارفي، الذي يدل على التوسّع الكبير للمدن والمشاريع الإسكانية والعقارية، إنما ليس بغرض إسكان الناس وتوفير السكن لها. باختصار، يمكن القول إن «التوسّع الحضري الطائش» يرفع القيمة التبادلية للسكن على حساب قيمته الاستخدامية، وبالتالي يحوّل السكن إلى مخزن للقيمة أي قناة لامتصاص رأس المال والاستثمار على حساب قيمته الاستخدامية.
ويتجلّى هذا الواقع بوضوح في مصر ولبنان، ولديّ إحصاءات متعلّقة بهذين البلدين عن الشغور العقاري. في مصر 44% من العقارات في القاهرة الكبرى خالية أو شاغرة بحسب إحصاء منظمة «عشرة طوبة». وفي لبنان تصل النسبة إلى 23%، بينما في دول منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أو ما يُسمّى بنادي البلدان الغنية، تصل هذه النسبة إلى حوالي الـ10%. لا شك أن هذه النسبة الأخيرة مرتفعة ولكنها متدنية بالمقارنة مع بلداننا، والسبب هو أن الهدف من العقار لم يعد مرتبطاً بتوفير السكن للناس وإنّما التراكم الرأسمالي.
أحد أهم أسباب التوسّع العمراني أو الحضري الطائش هو السعي وراء التراكم الزائد في رأس المال سواء على مستوى المنطقة أو العالم. وبحسب مجلّة «هارفرد بزنيس ريفيو»، زادت نسبة رأس المال إلى الناتج المحلي الإجمالي في العقود الثلاث الأخيرة نحو ثلاثة أضعاف. وما أقصده من ذلك هو تبيان أن كل المؤشرات، حتى السائد منها، تدل على أن هناك وفرة كبيرة في رأس المال.
على المستوى الدولي، وفي الفترة اللاحقة للأزمة المالية العالمية في 2008، سجّلت كميات كبيرة من المال البخث، بسبب الانخفاض الكبير في أسعار الفائدة، وقد استخدم هذا المال في التوظيف العقاري. أما على المستوى الإقليمي، توجد فوائض النفط في بلدان الخليج التي تبحث دائماً عن منافذ لها من أجل التراكم. وبالفعل، سمح التوسّع الحضاري أو الفورة العقارية بامتصاص هذا الفائض على مستويين: أولاً على مستوى التطوير العقاري نفسه عبر خلق المشاريع العقارية، ولذلك نرى المطوّرين الإماراتيين منتشرين في المنطقة لامتصاص جزء من رأس المال الفائض وخلق قنوات رابحة له. وثانياً على مستوى شراء العقارات نفسها، فعندما ننظر إلى تطوّر أسعار العقارات بالمقارنة مع الأجور والتضخّم، نجدها تزيد بوتيرة أعلى بكثير، ما يدل أن الطلب على العقارات أعلى من الطلب على أي سلعة أخرى في الاقتصاد، وأن العقارات تستخدم كقناة لامتصاص رأس المال الفائض.
أما السبب الثاني للتوسّع الحضري الطائش فهو التقسيم الدولي الجديد للعمل. قام التقسيم الدولي القديم للعمل على ثنائية المواد الخام في مقابل المواد المصنّعة. كانت بلدان الشمال تصدّر المواد المصنّعة التي تستوردها بلدان الجنوب التي تصدّر بدورها المواد الخام، سواء معادن أو مواد زراعية أو نفط أو طاقة. لكن مع اتجاه التصنيع نحو الجنوب تغيّر هذا الواقع، وأصبح الجنوب العالمي مصدر المواد المصنعة بشكل رئيس، وعلى رأسه الصين، كما أصبح مستورداً للخدمات أو السلع والمنتجات غير الملموسة. وقد يكون شكل الـ Growing Smile التعبير الأمثل عن التقسيم الدولي الجديد للعمل. فهو يقسم عملية الإنتاج إلى ثلاث مراحل: ما قبل التصنيع، وما بعد التصنيع، والتصنيع نفسه. وعليه نجد أن مرحلتا ما قبل وما بعد التصنيع أصبحتا تستحوذان على قيمة أكبر من مرحلة التصنيع نفسه بالمقارنة مع فترة السبعينيات. طبعاً مراحل ما قبل التصنيع أي البحث والتطوير والتصميم، وما بعد التصنيع أي التسويق تصنّف على أنها خدمات غير ملموسة. معنى هذا أن البلدان التي تزرع وتصدّر وتنتج مواداً ملموسة هي في وضعية خاسرة.
في الخلاصة، إن خلق اقتصاد قائم على صناعات أو خدمات ذات قيمة مضافة عالية يعد أمراً صعباً في ظل التقسيم الدولي الجديد للعمل. ولذلك تمّ اللجوء إلى القطاع العقاري كحلّ لتوفير فرص عمل ودفع النمو الاقتصادي في البلدان الجنوب، نظراً لكون العقار غير قابل للاستيراد. وبالتالي إن الحل الشائع للتعامل مع أزمات التقسيم الدولي للعمل يضع الجنوب العالمي، بما فيه المنطقة العربية، في وضعية خاسرة دائماً.
تعدّ الصين أول من أطلق هذا النموذج. عندما فقد حوالي 30 مليون صيني أعمالهم بسبب الأزمة المالية العالمية في العام 2008، شرعت الصين بالتوسّع الحضري الطائش. وطوّر ديفيد هارفي هذا المصطلح لتوصيف الحالة في الصين. وبالنتيجة، خلق هذا التوسع فورة، ونتج عنه الأزمة العقارية التي عصفت بالاقتصاد الصيني بأكملة في العام 2019. لقد خلق التوسّع الحضري الطائش أزمة في الصين، على الرغم من كون اقتصادها تصديري وصناعي بامتياز، فما بالك باقتصادات المنطقة العربية الأكثر حاجة لهذا النوع من التوسّع العمراني.
إلى ذلك، ينطوي التوسع الحضري الطائش على تأثيرات لافتة على الخدمات العامة. إن سطوته على الاقتصاد تأتي على حساب الصناعة والزراعة والخدمات كالصحة والتعليم والاستثمار، وينتج عنه تراجع في الإيرادات الضريبية على ثلاث مستويات: أولاً لأنه عبارة عن رأس مال ضخم يستثمر في أصول لا تخلق قيمة ولا تنتج أي شي ولا تدفع الضرائب. ما يعني أن الأموال التي توظّف في العقارات من أجل حفظ القيمة والمضاربة، كان من الممكن استثمارها في مجالات أخرى تخلق فرص عمل وتنتج قيمة وتدفع ضرائب. ثانياً، تعد غالبية العاملين في المشاريع العقارية عمالة موسمية وغير رسمية يجري التخلص منها بانتهاء المشروع. وهذا يعني أن هذه المشاريع تدفع ضرائب أقل على الأجور. عدا أن انتشار هذا المستوى الكبير من العمالة غير الرسمية يخفّض نسبة العمالة المغطّاة تأمينياً، ويؤثر على الخدمات العامة كون العاملين في القطاع العقاري ليس لديهم تأمين صحي أو اجتماعي. وأخيراً، تعدّ الضرائب العقارية في بلداننا، ولا سيما في مصر ولبنان، شديدة الانخفاض، كما أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي من أدنى المناطق من حيث نسب الضرائب العقارية بكل أشكالها، سواء الدخل العقاري أو الشغور أو الضريبة على الأرباح الرأسمالية الناتجة عن المضاربة في العقارات، وهو ما يؤثر على الضرائب التي يمكن توظيفها في تقديم الخدمات العامة. أيضاً، أجرت منظمة «عشرة طوبة» ببحث بيّن أن غالبية المطورين العقاريين مُسجّلين في ملاذات ضريبية لتجنّب دفع الضرائب. على سبيل المثال، إن الاستثمارات المسجّلة في الإمارات العربية المتحدة هي أقل بكثير من الاستثمارات الفعلية المنفّذة فيها، ومعنى هذا أن المطوّرين العقاريين يسجّلون في الإمارات العربية المتحدة للتهرب من دفع الضرائب والحصول على حوافز ضريبية كبيرة، وهي ضرائب من الممكن توظيفها في تقديم الخدمات العامة.
3 متدخلين في المدينة: رأس المال والمطوّرون العقاريون والدولة
سفيان جاب الله
عالم اجتماع وأستاذ مساعد في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في صفاقس في تونس.
أقدّم هنا مسودة لفهم اللاعدالة المكانية في تونس. وأنطلق بالأساس من أن القاعدة في تونس هي اللاعدالة، وأن الاستثناء هو العدالة سواء مكانياً أو طبقياً أو ثقافياً أو حتى سياسياً على كل مستويات أو سيرورات «الدمقرطة» منذ العام 2011. للأسف، بعد العام 2011، صرنا نراجع كل ما اعتقدنا أنه شكّل نوعاً ما شيئاً من الدمقرطة الاقتصادية الاجتماعية والثقافية والسياسية والمجالية.
منذ العام 2011 وحتى اليوم، انتهجت الدولة التونسية باختلاف الأنظمة السياسة نفسها في إنتاج وإعادة إنتاج اللاعدالة طبقياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. لطالما برز نوع من الريع في تونس وفق مفهوم الباحث عزيز كريشان، بمعنى احتكار علاقة القرب من السلطة وليس ربطاً بالاقتصاد البترولي، وهذا واقع دائم وموجود ومستدام في تونس منذ قرون.
فمنذ القرن الرابع عشر، برزت عائلات في مجالات محدّدة، في تونس العاصمة وصفاقس وسوسة، واحتكرت علاقة القرب من السلطة، وشهدت مدّاً وجزراً معها أحياناً، لكنها في كلّ الحالات كانت من تحدّد السياسات، وتشرّع القوانين التي تخدمها، وتحتكر نصيب الأسد من الثروة وتوزيع الثروة. هذا النظام الريعي أو شبه الرأسمالي الموجود في تونس، أنتج تفاوتاً على المستويات الثقافية والاقتصادية والسياسية وأيضاً على المستوى المكاني.
ومن هنا، يمكن أن نستخدم مفهوم السوسيولوجي الفرنسي، جاردون زيلو، الذي عمل على المجال والمدينة، وتحدث عن البرجزة الحضرية، ثم التمدّن المحيطي، أو ما اسميه الإضحاء الطرفي أي خلق ضواحي طرفية، ثم الإقصاء أو الإفراد. فماذا يقصد زيلو؟ وكيف أطبّق هذه المقاربة في تونس؟
يقول زيلو إن لكل مدينة ثلاثة يتدخلون فيها وهم: رأس المال والمطوّرون العقاريون والدولة. وهذا وجد في تونس منذ عهد «البايات» أي الحكّام الأتراك أو التونسيين الأتراك ما قبل الاحتلال الفرنسي. على سبيل المثال، بعد الفتنة التي حدثت في البلاد في القرن الخامس عشر، تم طرد قبائل جبال وسلات نحو مناطق تسمى كرش الغابة. لاحقاً، وبعد قيام الدولة، جرى طردهم مجدّداً إنما بطريقة مختلفة في الثمانينيات والتسعينيات، إذ تدخل المطوّرون العقاريون بشراء الأراضي من السكّان أو بإعطائهم أراضٍ أو مساكن اجتماعية في الضواحي أو الأرياف أو في أحياء شعبية مقابل انسحابهم من هذه المجالات، التي أصبحت حالياً منطقة مبرجزة يسكن فيها سكان الطبقة المتوسطة.
منذ الاستقلال وحتى ثورة العام 2011، تدخل المطوّرون العقاريون ورأس المال والدولة بكل بيروقراطيتها وسياساتها لإنتاج ثلاث أشكال حضرية مختلفة. لمن يعرف تونس، هناك المنتزهات والمنارات مثل العوينة وعين زغوان وسيدي بو سعيد وقرطاج وحدائق قرطاج وأيضاً الأحياء النخبوية في سوسة وصفاقس. طبعاً لا يوجد قانون يمنع فئات اجتماعية محدّدة من الدخول إلى هذا الشكل من الفضاءات والمجالات الحضرية وعدم السكن فيها، لكن العديد يجدون أنفسهم مقصيين عن السكن في هذا الفضاء البرجوازي بحكم سعر الأرض وثمن الخدمات فيها.
أما الشكل الثاني فهو الإضحاء الطرفي أو التمدّن المحيطي الذي خلق مجالات، تتدخل فيها الدولة بالأساس، عبر تمكين الطبقة الوسطى من السكن فيها والتركّز في إقامات جماعية فيها نوع من التحضر الاجتماعي. أما الشكل الثالث فهو الإفراد، ويضمّ الذين سقطوا من الشكلين الأولين والثاني ووجدوا أنفسهم في مجالات اجتماعية حضرية، لا يمكن وصفها بالعشوائيات، وإنما مجالات نسميها في تونس الحُومة الشعبية. ومن هذه الأحياء الشعبية تخرج أغاني الراب وحركات الألتراس والهوليغانز. وهي معروفة في الدواخل التونسية أو في المدن الكبرى بأنها خزان الثورات والانتفاضات ويسكن فيها الأفراد الأقل مراكمة لكل الرساميل الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
عملت على هذه المجالات كثيراً ضمن مواضيع عن الانقطاع المدرسي ومعدلات الجريمة والتجارب السجنية والبطالة وعدم الزواج وانتشار الظاهرة الجهادية. وهناك تختلف الاحتجاجات عن احتجاجات الطبقة الوسطى، فهي لا تخرج في النهار ولا إلى الفضاء العام، بل احتجاجاتها ليلية ويقودها شباب تتراوح أعمارهم بين 18 و35 سنة، وأيضاً تختلف فيها القضايا الاجتماعية والنفسية والثقافية عما هو موجود في المجالات المبرجزة أو التي شهدت توسعاً محيطياً للطبقة الوسطى. كما أنها تسجّل أعلى مستويات الانقطاع المدرسي والفقر والبطالة.
تعبر هذه الأشكال الحضرية عن السياسة الممنهجة للدولة التونسية، والتي تقوم على التوزيع غير العادل في الثروة، والسياسات الحضرية الإقصائية، وضعف الدولة، وضعف علاقاتها الديبلوماسية، وفشلها في معالجة اقتصاد الشارع والهجرة غير النظامية. وهنا نعود إلى مسالة اللاعدالة المكانية والسياسات غير العادلة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وضحاياها سكّان هذه المناطق ومن ضمنهم المهاجرين غير النظاميين والعاملين في اقتصاد الشارع. ففي عملي على بحوث عدّة وجدت علاقة ترابط، لكي لا أقول علاقة سببية مباشرة، بين مكان الإقامة وحظوظ النفاذ إلى سوق العمل، أو بين مكان الإقامة وإمكانية الحصول على تأشيرة للذهاب إلى فرنسا، وبين مكان الإقامة وعدد المساجين، وبين مكان الإقامة والعودة إلى السجن، وبين مكان الإقامة والنشاط الاقتصادي.
اللاعدالة المكانية في تونس هي قاعدة وليست استنثاءً، هي سياسة شائعة في ظل العجز التنموي للدولة والتحرّر من اللوبيات والأقليات الاقتصادية الحاكمة، التي تحتكر الإدارة والوزارات الكبرى وتخطط وتنتج كل ما هو غير عادل في تونس.
تبرز في تونس لا عدالة طبقية، ولا عدالة مكانية، وحتى لا عدالة زمانية، فالنفاذ إلى مجتمع الاستهلاك متفاوت وكذلك النفاذ إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. في تونس الإقصاء مربوط بمكان السكن، ومكان السكن هو نتاج لرأس المال الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والانتماء الطبقي المتوارث وتعود جذوره إلى انتماء إلى الأرياف والمناطق الداخلية التي همّشت قبل الاستعمار وبعده.
توزيع الموارد والاستثمارات العامة: قضية مركزية تقع في صلب الاقتصاد السياسي
هويدا عدلي
أستاذة العلوم السياسية في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وفي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وفي جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا.
موضوع العدالة المكانية مرتبط بالتفاوتات الإقليمية. اهتمت المؤسّسات الإنمائية الدولية في الفترات الأخيرة بتدريس التفاوت الإقليمي بين المناطق المختلفة داخل البلدان، وحاولت تحليل أسبابها، علماً أن الأسباب في الحقيقة كلها تدور في إطار الاقتصاد السياسي.
العدالة المكانية تعريفها بسيط جداً، هي عدالة توزيع الخدمات والموارد بين المناطق المختلفة داخل البلد الواحد، مثلاً الريفية والحضرية، شمال وجنوب، مناطق مدينية متحضرة بشكل كبير ومناطق عشوائية. وتختلف العدالة عن المساواة. فالمساواة تعني أن لكل شخص أن يحصل على القدر نفسه من الموارد، فيما يقوم مفهوم العدالة على حق كلّ شخص في الحصول على حصة من الموارد تتوافق مع احتياجاته. وهذا أمر مهم لأن قضية توزيع الموارد والاستثمارات العامة هي قضية مركزية وتقع في صلب الاقتصاد السياسي. وتبيّن النظرة إلى توزيع الموارد والاستثمارات العامة بين المدن الحضرية والريف مدى سوء توزيع هذه الموارد وتخصيصها. يوجد تحيز لمناطق جغرافية بعينها، وهذا ما يظهر في مسوح الفقر. في مصر، تزيد معدّلات الفقر في ريف الوجه القبلي. فعلى الرغم من أنه يضمّ نحو 25% من السكان، لكن ترتفع نسبة الفقر فيه إلى نحو 50%. في محافظة أسيوط على سبيل المثال، 66% من المقيمين يعيشون تحت خط الفقر. يعد ذلك نتاج تفاوتات كبيرة في الثروة والدخل والموارد وتوزيع الاستثمارات الذي ينعكس على الخدمات العامة.
إلى ذلك، تبرز نقطة مهمة للغاية وهي منهجية النظر إلى الفقر. وهي منهجية مبسطة للغاية تقيس من هم تحت خط الفقر النقدي، وفي الحقيقة تتجاهل جزءاً كبيراً من الأسباب الهيكلية او الجذرية للفقر والمرتبطة بتخصيص الموارد في المجتمع المحلي.
كذلك تبرز نقطة منهجية أخرى متعلقة باللاعدالة المكانية، ومغالطة النظر إلى المناطق الفقيرة بشكل متجانس. على سبيل المثال، نجد أن ريف الوجه القبلي هو الأقليم الأفقر في مصر، حيث تصل نسبة الفقر إلى 48%. ومع ذلك، ليست كلّ المناطق الريفية متجانسة ولا يمكن تعميم نسبة الفقر في ريف معيّن على كل الأرياف. صحيح هناك مركز وأطراف داخل المجتمع الواحد ذلك لو افترضنا أن العاصمة هي المركز والمحافظات الأخرى هي الأطراف. لكن التمعن في بنية بعض القرى يبيّن أن بعضها جاء نتيجة امتدادات جغرافية للمدن. ففي السابق كان حجم القرية المصرية في حدود 5,000 أو 7,000 نسمة، والآن تحتوي بعض القرى على 30,000 نسمة و40,000 نسمة، وهي امتدادات جغرافية، لأن الناس تحاول البحث عن مكان تعيش فيه، ما خلق كماً هائلاً من الأطراف وأطراف الأطراف، وهي النجوع والكفور والعزب. وبالتالي يفترض توزيع الموارد وفق منطق العدالة لا المساواة، أي وفق الاحتياجات لا التساوي الكمّي لتقليل الفجوات التنموية.
وبالطبع، هناك معايير لتقييم الخدمات العامة مثل إتاحتها ومن ثم جودتها في حال كانت متاحة. لأن هذا يعني أن المحتاجين للخدمة قد يضطرون للبحث عنها وعن جودتها ودفع ثمنها على حساب الاقتصاد في غذائهم في حال لا يملكون ثمنها. إن الإمكانية المادية أو القدرة على الوصول مهمة ومرتبطة بتوزيع الخدمات. على سبيل المثال، تشترط هيئة التخطيط العمراني على بناء المدرسة الثانوية في المركز أو المدينة لا القرى. وكذلك المستشفى العام موجود في المدينة أو في المركز بدلاً من القرية حيث بالكاد يوجد وحدة للرعاية الصحية الأولية. وهذا يعني أن قواعد توزيع الخدمات لا تتوافق على الإطلاق مع التغيرات في المجتمعات المحلية، ولا سيما زيادة السكان. وتنعكس هذه الوضعية في العديد من المؤشرات، مثل نسبة عدد الأطباء والممرضين، والفصول الدراسية وكثافتها، والقطاع غير الرسمي المنتشر في المناطق الريفية والمناطق غير المخطّطة.
أيضاً إن الخدمات العامة وعلاقتها بالاقتصاد السياسي وإعادة توزيع الموارد والاستثمارات بما يتناسب مع ظروف المجتمعات لا تنفصل عن الحوكمة. إذ لا يمكن ضمان المعايير الأساسية للخدمات العامة من حيث الإتاحة والجودة والاستدامة من دون أن يكون هناك شفافية ومحاسبة ومشاركة لأصحاب المصلحة في تقييم الخدمات العامة ومتابعتها. والأهم من هذا كله هو اللامركزية التي تسبب مشكلة في كيفية إدارة الدولة والمجتمع حتى الوقت الراهن. لا تزال مصر دولة مركزية، ولا تتمتع المناطق المختلفة بصلاحية وضع موازنتها والتخطيط لنفسها، وتحديد الخدمات التي بحاجة إليها، بل تنتظر العاصمة لأن تعطيها ما تحتاجه ما يجعل حرمانها دائماً وعميقاً.
في الخلاصة، تجتاج هذه القضايا إلى اعادة نظر، وهي أكبر من مجرّد مسار للتنمية، إذ تتطلّب إعادة صياغة العلاقة ما بين الدولة والمجتمع بما يراعي العدالة الاجتماعية في توزيع الموارد والاستثمارات عبر مشاركة أصحاب المصلحة الحقيقين.