الريعية والأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها على المنطقة

الأردن ,الإمارات العربية المتحدة ,البحرين ,السعودية ,العراق ,الكويت ,المغرب ,عمان ,قطر
Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [355.99 KB]

جلسة حوار ثانية حول الريعية في المنقطة العربية مع:
أ. محمد زبيب

محمد زبيب
الريع كمفهوم للتعمية
لن أعود كثيرًا إلى مفاهيم الريعية لأنها أُشبعت درسًا بواسطة الأصدقاء الذين شاركوا في الندوة السابقة وهم فواز طرابلسي ووائل جمال ونجيب عيسى. وقد كان هناك خلال الندوة السابقة توافق على مسألتين أساسيتين في ما يتعلق بوصف الريعية على الاقتصادات العربية في المرحلة السابقة: تتمثل المسألة الأولى في أنه تمّ استخدام الريعية كمفهوم للتعمية على أي تحليل للأنماط أو النماذج الرأسمالية في المنطقة العربية، وتمّ تحليل أزمات هذه الرأسماليات بإعطائها صكّ براءة للنتائج المحققة في معظم الدول العربية، وبالتالي نسبها إلى مفهوم مطّاطي وغير واضح اسمه “الريعية”. وتتمثل المسألة الثانية في أنّ نقد مفهوم الريعية كمصدرٍ لأزمات ومشكلات الاقتصادات العربية لا يعني أنّ الريع ليس موجودًا أو أنه مجرد خيال أو وهم، بل هو وليد نمط الإنتاج الرأسمالي وبالتالي هو متآخٍ مع هذا النمط وبات يشكل عنصرًا أساسيًّا من عناصر رأس المال وتَركّز الثروة والدخل في أيدي القلة القليلة من المجتمعات.
بالإضافة إلى هذين الأمرين اللّذين توافقنا عليهما إلى حدّ بعيد، أثير نقاشٌ، سأنطلق منه في هذه الجلسة، تحت عنوان “هل أننا نتحدث عن دول ريعية أم عن الرأسمالية الريعية بشكل عام”؟، وهو أمر شرحه وائل جمال في الجلسة السابقة بشكل واضح وممتع جدًّا. أقول سأنطلق من هذه المسألة لكي ألاقي عنوان الجلسة الحالية المتعلقة بالأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها على اقتصاداتنا في هذه المنطقة من العالم. من المفيد أن نشير في البداية إلى أنّ الرأسمالية على مستوى العالم ككل تعاظم فيها الريع بأشكاله الحديثة وبات مصدرًا أساسيًّا من مصادر تراكم الثروة، الأمر الذي أجاد في شرحه توماس بيكيتي في كتابه “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” والذي تتبّع على سلسلة تاريخية طويلة مسألةَ تركّز الثورة، وبالتالي أوضح من خلال البيانات التي عمل عليها كيف تحوّل صاحب المشروع في النمط الرأسمالي إلى ساعٍ وراء الريع وتاليًا مراكمة المزيد من الدخل من دون أن يقابل ذلك أيّ عمل.
باختصار، على مدى الخمسين عامًا الماضية، كان سياق تطوّر نمط الإنتاج الرأسمالي في مصلحة تراكم رأس المال الضخم والكبير وقطاعات التمويل وإنتاج واستهلاك الوقود الأحفوري، وكذلك في مصلحة تعاظم أرباح الشركات الكبيرة، لا سيّما مع التطورات التكنولوجية ومع ظهور أنماط الأعمال الجديدة وشركات من نوع “فايسبوك” و”غوغل” و”مايكروسوفت” وغيرها، بحيث أصبحت هذه الشركات من أكبر الشركات العالمية وتُعتبر من الشركات المتعددة الجنسيات صاحبة الاحتكارات الكبيرة، كسمة من سمات الرأسمالية بطورها الحديث.

الحرب الأوكرانية: تطوّر في مسار الأزمة

اليوم، يواجه هذا النمطُ الذي تطوّر كثيرًا على مدى نصف القرن الماضي أزمةً فعليةً متعددة الرؤوس والجوانب. الحرب الحاصلة في أوكرانيا ليست سوى طور من أطوار تطوّر هذه الأزمة، بحيث جرى التعبير عن وجود تنافس بين قوى إمبريالية في محاولةٍ إمّا للاحتفاظ بهيمنة اقتصادية وسياسية وعسكرية على مستوى العالم، أو لاستعادة أو تبوّء مكانة في منظومة السيطرة والهيمنة على مستوى العالم. وبالتالي، من وجهة نظري، ليست هذه الحرب وحدَها مصدرَ الأزمات التي تواجه النظام الاقتصادي العالمي، إنّما هي تطور جديد في مسار هذه الأزمة التي تبدو بلا أفق وبالتالي تصدر عواقب وخيمة على البشرية جمعاء.
إذا أردت أن ألخّص علامات أزمة النظام الاقتصادي العالمي كما هي ماثلة اليوم، فالعالم كله مشغول بالحديث عن وجود موجة تضخمية عالمية يرافقها تباطؤ في النموّ أو ركودٌ يُتوقّع أن يكون طويل الأجل يصيب الاقتصادات العالمية المتقدمة وغير المتقدمة. وهذان الأمران يضافان إلى مشاكل متجذرة في الرأسمالية. وقد اتّخذت هذه الأزمات أبعادًا خطرة خلال المراحل الأخيرة تتعلّق بزيادة اللامساواة في توزيع الثروة والدخل والموارد على مستوى العالم بين الدول وداخل المجتمعات، بالإضافة إلى مسألة الاحتباس الحراري أو التغيّر المناخي الذي يهدد بكوارث طبيعية جدّية تمثّل خطرًا حقيقيًّا، وتُبيّن، بما لا يقبل الشك، كيف تتعامل الرأسمالية مع الطبيعة فتوجب هذا النوع من التنافس بين رفاهيتنا والحفاظ على الطبيعة والبيئة التي نعيش فيها.
وتضاف إلى ذلك التحدياتُ التكنولوجية وبالتالي المسائل المتعلقة بالتشغيل والعمالة وتوزيع الدخل والحديث يطول. ويمكننا رؤية كل هذه النقاط من زوايا مختلفة لكنّ الزاوية الحاضرة اليوم، والتي نراها بوضوح، تتمثّل في الحروب القائمة والنزاعات المحتدمة وفي التغيرات الجيوسياسية التي تسير بسرعة كبيرة جدًّا وبالتالي تضعنا أمام تساؤلات مهمة للغاية حول الحاضر والمستقبل وكيف سترسو عليها الأمور ووفق أي تفاهمات أو تواطؤات على مستوى العالم من الممكن أن نرتكز إلى توقعات معينة تتصل بما يحصل على مستوى النظام الاقتصادي العالمي.
اليوم، في ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا، فُتح الحديث بشكل كبير حول مستقبل هيمنة الدولار كعملة احتياط عالمية. وقد استدعى ذلك نقاشًا وسجالاً كبيرَين حول سلاح العقوبات الاقتصادية وتأثيره الفظيع والكبير جدًّا على مستوى معيشة الناس، وتطورهم، ورفاهيتهم، وأمانهم. وبالتالي بدأت التكهنات تزداد حول إمكانية تطور الأمور إلى ظهور أقطاب عالمية متنازعة ومختلفة تُنهي عصر القطبية الواحدة التي سادت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي إلى اليوم.
من وجهة نظري، قد تبقى الإمبريالية الأميركية مهيمنة لفترة طويلة وذلك نتيجة عوامل عدة في مقدّمتها القدرات التكنولوجية والعسكرية، بالإضافة إلى القدرات الاقتصادية. لكنّ العقوبات الشاملة التي فُرضت من قِبل الدول الصناعية المتقدمة والدول الرأسمالية المتقدمة على روسيا، وتحديدًا على البنك المركزي الروسي لناحية تجميد احتياطات ضخمة لروسيا في العالم موظَّفة بالدولار، قد تشكّل بداية جدّية للعديد من الدول الناشئة للتفكير بكسر هيمنة الدولار والانتقال إلى أنظمة نقدية بديلة. ولكن، من وجهة نظري، من السابق لأوانه أن نبني على هذه التكهنات، بانتظار كيف ستتطور الأمور ليس على الجبهة الغربية الروسية فحسب، إنما أيضًا على الجبهة الغربية الصينية التي يبدو أننا على وشك الدخول إلى المعركة الكبرى بين هاتين القوّتين الجبّارتين على مستوى العالم.

الريع والطاقة في العالم العربي
بحصيلة ما يجري اليوم، وفي ما يتعلق بمسائل محددة نستطيع منها أن ننطلق إلى واقعنا في المنطقة العربية، أود الإشارة إلى المسألة التي ربما كانت الأساس الذي قامت عليه الأفكار والنظريات المتعلقة بريعية الدولة العربية، أو الاقتصادات الريعية العربية، وهي تلك المتعلقة بالطاقة أو النفط والغاز. إنّ جزءًا من التغيرات الجيوسياسية المتسارعة تفرضها خريطةُ الطاقة في العالم وهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما حاولتُ أن أوجزه بعلامات تدهور وضع النظام الاقتصادي العالمي والإصابات المباشرة التي أصيب بها على مسار طويل.
اليوم، نشهد زيادة حادة في العودة إلى استهلاك الفحم في إنتاج الطاقة على عكس كل الالتزامات السابقة بتخفيض انبعاثات الكربون على مستوى العالم. وبعد تراجعٍ لعقدٍ من الزمن، عاد الحديث عن التوسع في إنتاج الغاز الصخري بالولايات المتحدة على رغم كل ما أثير حول أثره البيئي وحول التكلفة المرتفعة. وفي هذا السياق، نشهد عودة، ولو محدودة، لأهمية منطقة الشرق الأوسط كمنتِج للنفط والغاز على صعيد العالم، وبالتالي يترافق هذا مع ضغوط جيوسياسية كبيرة جدًّا في حوض البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي يجعلنا منقطةً في قلب التوترات العالمية وفي قلب التداعيات المحتملة للأزمة الاقتصادية العالمية.
إن هذا الواقع يطرح علينا أسئلة محددة حول كيفية النظر أولاً إلى أوضاعنا وكيفية التفكير بتحصين أنفسنا من المخاض الذي يمرّ به العالم على مستوى التغيرات والنظام الاقتصادي العالمي أو التغيرات على مستوى التكتّلات والأقطاب العالمية.
من الواضح أن العديد من الدول العربية تراهن بشكل كبير على زيادة اكتشافاتها لمخزوناتها الغازية والنفطية. وباعتقادي، سيؤدي ذلك إلى تخفيف التداعيات التي تصيب هذه الدول على مستوى الأزمات التي تَنتج من التطورات العالمية وتحديدًا في ما يتعلق بتراجع أو بانخفاض تدفقات الرأسمالية من الخارج إلى هذه الدول، وهذا مسار قد يصبح أكثر حدةً مع الوقت في ضوء التنافس العالمي على استقطاب وجذب التدفقات الرأسمالية، وأيضًا على مستوى التحديات الاجتماعية التي يمرّ بها معظم الدول العربية. إذا أخذنا على سبيل المثال ظاهرة التضخم التي يُتوقع أن تستمر لسنوات عدة، فبحسب تقرير “الفاو” الأخير، إنّ عشر دول عربية على الأقل تواجه مخاطر انعدام الأمن الغذائي، ومن ضمن هذه الدول مصر ولبنان وسوريا وليبيا والمغرب وجيبوتي واليمن والعراق، وبالتالي هذه الدول بمعظمها، بالإضافة إلى دول أخرى، تمثل النماذج المعبّرة عن المرحلة السابقة التي تحوّلت فيها اقتصادات هذه الدول إلى اقتصادات هشّة من خلال ارتباطها البسيط بسلاسل التوريد العالمية وتخصّصها ببعض قطاعات الخدمات البسيطة وأيضًا في الصناعات الاستخراجية وبعض الصناعات التحويلية المعَدّة للتصدير وتراجع موقع الزراعة والإنتاج الزراعي في هذه الدول بشكل كبير جدًّا بعدما كانت القطاعات الزراعية تحتلّ موقعًا مهمًّا في اقتصاداتها، وهذا أمر لافت يضعنا أمام تحدٍّ مهمّ للنظر في كيفية الرد على الأزمة القائمة وتداعياتها وكيفية تحصين مجتمعاتنا.

الزراعة لاقتصاد أكثر حصانة
هذا الانسحاق التام الذي مررنا به إزاء ما فُرض علينا على مستوى النظريات النيوليبرالية والمسائل المتعلّقة بالعولمة التجارية وكلّ المسائل التي شهدناها على مدى الأربعين عامًا الماضية تحت عنوان “صعود النظرية النيوليبرالية” يضعنا مجددًا أمام هذا التحدّي بأنّ علينا أن نقلع عن التفكير الأحادي الجانب باعتماد نماذج النموّ المدفوعة بالتصدير كجزء من الارتباط بسلاسل التوريد العالمية من دون أن نكتسب الخبرات والإمكانيات اللازمة لكي ننمّي اقتصاداتنا وبالتالي نجعلها أكثر صلابة وفعالية في خدمة مجتمعاتنا بدل أن نحوّل هذه المجتمعات إلى أدوات ووسائل لخدمة رأس المال وتراكمه وتراكم الثروة والدخل فقط. هنا تظهر أهمية الزراعة كمسألة أساسية في تفكيرنا كجزء من انتقالنا إلى اقتصاد أكثر حصانة إزاء التداعيات العالمية، وهذا أمر مهمّ في ضوء المخاطر التي نواجهها؛ المخاطر البيئية ومخاطر تضخم أسعار الغذاء وانقطاع سلاسل التوريد الذي نشهده منذ أزمة “كوفيد” حتى اليوم، وربما قبل ذلك.

نضال اجتماعي وسياسي لحلّ الأزمة
في الحديث عن الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها على المنطقة كلامٌ كثير.
ما يعنيني الآن وأودّ التشديد عليه هو أنّ التحدي يكمن في كيفية المواجهة من خلال قلب النماذج والاتجاهات التي كانت معتمدة، وهذا يتطلب نضالاً اجتماعيًّا حثيثًا ومستمرًّا نستطيع من خلاله إعادة الاعتبار إلى الاستثمار العامّ من أجل الصالح العامّ ليحلّ محلّ هذا التوسع في الاستثمار الرأسمالي الخاص من أجل الربح، ذلك أنّ التناقضات التي نشهدها الآن ونمنحها صفات الريعية وغيرها هي في الواقع تناقضات في نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه الذي يحرّكه هاجسُ الربح كهاجس أساسي. إننا بحاجة إلى إعادة إنتاج مشروع سياسي كبير جدًّا يقوم على الاعتراف بأن رأس المال الخاص فشل فشلاً ذريعًا في الحدّ من الفقر وعدم المساواة، وفشل في الاستثمار في البنى التحتية وتوفير الخدمات التي يحتاجها المجتمع والاقتصاد. كما فشل فشلاً ذريعًا في اكتساب التكنولوجيا وبالتالي إدخالها في أنماطنا الإنتاجية. وفشل على المستوى البيئي بشكل كبير وفادح وقد لا يكون قابلاً للتعويض. نحن نتحدث عن هذا النوع من الفشل. والردّ لا يمكن أن يكون إلا بإيجاد وابتكار الأطر المؤسسية والسياسية التي تسمح بإعادة الاعتبار للمصلحة العامة وبالتالي لتوظيف الموارد والإمكانيات في تحقيق هذه المصلحة التي يُفترض أن تصيب مطامحنا جميعًا إلى تحقيق الرفاهية والسعادة.

رجاء كساب
المغرب يزرع ما يحتاجه الغرب
بالنسبة للمغرب، ما زال الاقتصاد يرتكز على الزراعة، لكن للأسف بدلاً من أن يرتكز على الزراعة الاستهلاكية الموجهة إلى ما يحتاجه الشعب المغربي، فإنّ الزراعة فيه تتمّ وفق ما يحتاجه الغرب. وهذا أمرٌ مؤسفٌ للغاية لأنه يستنزف الثروات المائية والتربة والموارد الطبيعية خدمةً للغرب بحجة أنّ لهذه الزراعة قيمة مضافة أكبر من الزراعة المحلية. لكن بطبيعة الحال بعد اتّباع هذا النموذج من الزراعة التصديرية لمدة أكثر من عشر سنوات، بدا أنّ تعميق الأزمة، خاصةً في ما يتعلق بالأزمة المائية، أصبح يتعاظم يومًا بعد يوم، خصوصًا أننا في منطقة تعاني من شحّ المياه وستواجه أزمةً مائيةً أكثر سوءًا خلال السنوات المقبلة خاصةً مع التغيرات المناخية.

ليلى الرياحي
الريع في تونس مسألة نضال اجتماعي وميداني
إنّ الريع في تونس من المواضيع التي تدرّ كثيرًا من الحبر حاليًّا. إننا نتساءل جديًّا عن شكل النظام الاقتصادي في تونس وكيفية الخروج منه وقد أصبح واضحًا للعيان أنه يفقّر الجميع لصالح مجموعة صغيرة. ولا تقتصر الأسئلة المطروحة على الناحية النظرية، فهناك أسئلة من الناحية العملية أيضًا. على سبيل المثال، نعمل كثيرًا في جمعيتنا “المنصة التونسية للبدائل” مع الحراك الاجتماعي. والعديد من الحركات الاجتماعية تطرح قضية تريّع الاقتصاد التونسي أو الشكل الريعي له، وذلك من ضمن المسائل التي تعمل عليها. إنّ مثل هذه النقاشات تساعدنا على بناء فكر أقرب إلى واقعنا، كما تساعدنا، من ناحية أخرى، على النضال الميداني.
ريع المواقع
من هذا المنطلق أتى عملي حول مسألة الريع في تونس. وسأستند إلى كتابٍ حول الريع للمناضل التونسي عزيز كريشان. يقول الكتاب إنّ النظام الريعي القائم في بلدنا لا يستند إلى ملكية مادية أو فكرية، بل ينبني على منطق مخالف تمامًا لما نراه في بلدان أخرى مثل الخليج والبلدان الأخرى التي تتوفر فيها موارد كثيرة للاستغلال، مثل النفط أو التكنولوجيا وغيرها. فالمورد الرئيسي الذي يعتمده النظام في تونس لمراكمة الربح هو، بحسب كريشان، ذو طابع سياسي بامتياز ويتمثل في القرابة من السلطة وقرابة مجموعةٍ، يطلِق عليها اسمَ أوليغارشية، من السلطة على المستوى المحلّي والدخول في علاقة قائمة على المنافع معها. هو نظام مبني بهدف تكثيف شكل خاص من أشكال الريع هو ريع المواقع تحديدًا، أي أن يتموقع الشخص أو الشركة داخل النظام الاقتصادي بطريقة تمكّنه من اجتذاذ الريع من دون إنتاج الثروة محليًّا أو المشاركة في خلقها.
بعض المواقع في نظامنا السياسي- الاقتصادي كفيلة بتمكين هذا الطرَف أو ذاك من امتيازات خاصة ومحميات احتكارية ووسائل كسب سهل تفتح أبوابًا لمراكمة الثروة على حساب المصلحة العامة وعلى حساب بقية الفئات الأخرى كالفلاحين، والشركات الصغرى، والأجراء، وغيرهم. وهذه الأقلّية نافذة ذلك أنها وريثة الاستعمار الداخلي، وهذه فكرة متداولة في تونس تقوم على أنّ هناك مجموعة تستعمر داخليًّا بطريقة تمكّنها من الوصول إلى جملة الثروات على حساب بقية البلاد، وتُعتبر هذه الطغمة نفسُها منفذًا للاستعمار الخارجي وأداةً لبسط سيطرته على أنظمة الإنتاج المحلي.
توجد على رأس النظام الريعي في تونس حلقة ضيّقة أصبحنا نعرف أغلبها اليوم بالأسماء هدفها المراكمة السريعة للربح والحفاظ على مواقعها وامتيازاتها. تتكون هذه الحلقة من كبار رؤوس الأموال، وعلى رأسها المصارف، خاصةً بعد استقلالية البنك المركزي والتي سنّها بقانون عام 2016. لقد أصبح البنك المركزي التونسي يستدين من الخارج ثم يوزّع التمويلات على المصارف الخاصة التي تُقرض الدولة. وقد أصبحت للمصارف إمكانية تحقيق ربح وفير فقط من الدَّين في تونس.
وهناك شركات أخرى كمساحات البيع الكبرى والشركات التي تمارس التجارة بالخدمات، عددها قليل لكنّ ربحها كبير جدًّا، وهي على ارتباط مع مسؤولي الدولة وتحيط بها شبكة علاقات سواءً داخل الدول أو خارجها عن طريق المنظمات والمؤسسات. وترتبط هذه الحلقة خارجيًّا بالدوائر المالية وبالاقتصاد المعولَم عن طريق شبكات للتبادل الحر والعلاقات مع المموِّلين والمصارف والمستثمرين الأجانب، مما يجعلها قناةً للمصالح الخارجية في تونس. وتصدر عنها أيضًا أهمّ السياسات العامّة والمالية والتنموية والتحفيزية وكذلك الحمائية، وهي بذلك تتحكّم في العلاقات الاقتصادية داخل النظام الاقتصادي التونسي. وتجدر الإشارة إلى أنّه مهما كانت نتائج الانتخابات في تونس، فإنّ ما لاحظناه خلال السنوات العشر الأخيرة أنّ هذه المنظومة نادرًا ما تتأثّر بتغيّر المسرح السياسي، فمصالحها تبقى محفوظة على الدوام.
على المستوى الاقتصادي، نجد هذه المنظومة تنشط أو تتموقع ضمن ثلاثة أصناف من الأنشطة بشكل خاصّ:
أولها القطاعات الريعية البحتة كالصناعات الاستخراجية والاتصالات والمالية والتجارة المبنيّة على الملكية الفكرية.
ثانيها القطاعات التي تشغّل اليد العاملة الرخيصة كالنسيج والصناعات الغذائية والخدمات
ثالثها القطاعات التي تحتكرها الدولة، والتي تحفّزها أو تمنعها بطريقة أو بأخرى. تمثّل هذه الشركات نسبةً قليلةً جدًّا من الشركات الناشطة في تونس، لكنها تتمتع بامتيازات ضخمة وحماية خاصة ممّا يفسر تحوّلها إلى قطاعات تولّد ريع مواقع. وهي تمتاز أيضًا بقدرتها على تطويع القوانين لخدمتها وتكييف السياسات العامّة بما يخدم مصالحها، وتتماهى مع الهيمنة الخارجية بسهولة، وهي تتواجد حتى في التمثيليّات النقابية والأطر التفاوضية.
وتلعب هذه الشركات كذلك دورًا واضحًا في رسم السياسات الاقتصادية. ولعلّ جائحة “كورونا” شكّلت فرصةً لكشف الوجه القبيح لتلك السياسات، فإبّان حكومة الياس فخفاخ تحت حكم الرئيس الحالي قيس سعيّد، تمّ اتّخاذ عدد من الإجراءات من ضمنها خطوط تمويل خاصة ليست موجهة للشركات الخاصة التي تحدث عنها لكنها موجهة للتصرّف والأشغال والهيكلة والرسملة، أي أنها قروض وإعادة هيكلة لقروض قديمة لا تخدم الإنتاج بقدر ما تضع مثل هذه الشركات في وضعيات مريحة أكثر أمام الأزمة. كذلك رأينا امتيازات لصالح الشركات التي تعتمد التصدير بشكل كلّي فأصبح لها الحق بأن تبيع في تونس نسبة من منتوجاتها من دون أي رقابة على خروج أرباحها بالعملة الصعبة. هذا بالإضافة إلى أنّ إجراءات البطالة الفنّية لم تطَل سوى النُّزُل وشركات المصانع المناولة ومثل هذه الشركات.

تريّع قطاع الطاقات المتجددة
سأتناول الآن ما جرى في تونس بعد أزمة الحرب الأوكرانية – الروسية، والإشكاليات المتعلقة بهذا الاقتصاد المبني على ريع المواقع، وسأتحدث تحديدًا عن مسألة الطاقة والغذاء. عندما نتحدث عن النظام الريعي وقضية الطاقة، هناك ربط مباشر بالطاقة الأحفورية، لكن ما نلاحظه في تونس اليوم هو تريّع قطاع آخر من الطاقة هو قطاع الطاقات المتجددة أو خلق نظام ريعي جديد في هذا القطاع نرى أن بوادره اليوم بدأت تتّضح للعيان.
بالنسبة لقطاع الطاقات المتجددة، فإنّ الاتحاد الأوروبي، عن طريق سياسة الجوار، كان أكّد أهمية هذا القطاع بالنسبة له. وهناك تعويل كبير على منطقة شمال إفريقيا في هذا المجال لتنوع مصادر هذه الطاقة في المنطقة. لقد كانت هذه السياسة التي يتّبعها الاتحاد الأوروبي مبرمجة، لكن بعد الأزمة الأوكرانية تسرّعت بطريقة ملحوظة وأصبح الحديث عنها دائمًا في تونس على أساس الاقتصاد الأخضر والاقتصاد البديل والإيكولوجي وغير ذلك.
لكن في الحقيقة ما نراه اليوم أنّ سياسات الطاقات المتجددة في تونس تعوِّل بشكل كلّي تقريبًا على الديون الخارجية، فكلّها مموّلة من المؤسسات المالية العالمية ومن الاتحاد الأوروبي. وهي توجّه هذه التمويلات والامتيازات والمنح وتحتكرها لصالح الشركات الكبرى. وهناك أيضًا سلبٌ للأراضي الفلاحية إذ تمّ سَنّ تغييرات في قانون العقارات التونسي بحيث أصبح بالإمكان إنتاج الطاقات المتجددة على الأراضي الفلاحية من دون تغيير صبغتها، ما فتح المجالَ أمام الشركات الأجنبية للاستثمار في قطاع الطاقات المتجددة في تونس. من ناحية أخرى، هناك تهميش كامل للإنتاج الموجّه للاستهلاك المحلّي لإنتاج الطاقة، وتهميش كامل لإنتاج مستلزمات إنتاج الطاقة بما فيها مثلاً اللوحات الضوئية علمًا أنّ تونس من البلدان التي تملك موردًا طبيعيًّا مهمًّا هو السيليس الذي يُستغلّ لإنتاج البلّور، بالإضافة إلى موارد أخرى يمكنها استغلالها في إنتاج اللوحات الضوئية، لكن لا يوجد هناك تشجيع إطلاقًا لهذا التوجه، بل على العكس فمنذ حوالي ثلاثة أسابيع أقفلت الشركةُ الوحيدة التي تنتج اللوحات الضوئية أبوابها بعد إفلاسها وأصبحنا نعوّل كليًّا على استيراد مثل هذه المعدات اللازمة لإنتاج الطاقة.
أهمية قطاع الطاقات المتجددة
لماذا أتحدث عن ترييع قطاع الطاقات المتجددة؟ لأنّ هذا القطاع كان يمكن أن يكون من أهم القطاعات التي تُستثمر فيها تونس لجعله قطاعًا منتجًا ومشغِّلاً بشكل جدّي عن طريق تشجيع إنتاج المستلزمات وعن طريق الاستثمار في ديموقراطية النفاذ إلى الطاقة والسيادة على الطاقة. لكنّنا نجد البلد يهرول خلف التمويلات الأجنبية والاستثمار الأجنبي، وهو بذلك يفتح جميع الأبواب لدخول المستثمرين الأجانب والشركات الأجنبية إلى الأراضي التونسية ليس بهدف الإنتاج المحلّي، بل للإنتاج من أجل التصدير إلى الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية.
وكما ذكرتُ سابقًا، الفاعلون الأساسيون في هذه المسألة هم، إلى جانب المموِّلين الأجانب، المصارفُ التونسية والتي من خلال مثل هذه المشاريع تحصل على خطوط تمويل كبيرة، ومنها تُقرض مؤسسات الدولة مثل “الشركة الوطنية للكهرباء والغاز” والدواوين وجملة المؤسسات الدولية. ومن المعروف في تونس أنّ العائلات التي تملك المصارف هي نفس العائلات التي تملك عدة أنشطة اقتصادية أخرى. وأرباحها لا تأتي من الإنتاج، بل تأتي فقط من تصدّرها لهذه المواقع التي تمنحها قدرةً على ربح وفير من دون أي مشاركة في الإنتاج أو في خلق ثروة أو في خلق مَواطن عمل في البلاد.

ريع المواقع في الاقتصاد غير المهيكل
وفي ما يتعلق بالنقطة المثارة حول ما إذا كنّا في دولة ريعية أم اقتصاد ريعي، إنّ ما نودّ أن نلفت الانتباه إليه أنّ نظامنا الاقتصادي في تونس مبني على تسهيل مواقع ريع لبعض المجموعات، وهذا يخصّ الاقتصاد الرسمي، ولكن أيضًا الاقتصاد غير المهيكل أو غير الرسمي الذي نجده يتعامل تقريبًا بنفس الطريقة، ما يعني أنّ المسألة لم تعُد متعلقة بما تقوم به الدولة، ولكن أيضًا ما هو خارج تمامًا عن نطاقها.

الريع في الغذاء التونسي
في ما يتعلق بمسألة الغذاء، نواجه في تونس إشكالية كبيرة خاصةً في ما يتعلق بالمواد الغذائية الأساسية: القمح ومشتقاته، والزيت النباتي، والقهوة، والسكر. لقد تمّ تهميش إنتاج هذه المواد الغذائية الأساسية تمامًا في تونس خلال العقدين أو العقود الثلاثة الأخيرة، واليوم ندفع ثمن الاستثمار في مقولة الأمن الغذائي عوض الاستثمار في السيادة الغذائية. وتتجلّى إشكاليات الاقتصاد الريعي في هذا الموضوع على مستويات عدة: المستوى الأول هو الإشكالية المتعلقة بالإنتاج، فالنظام الاقتصادي في تونس يشجّع الإنتاج للتصدير ولا يشجّع الإنتاج للاستهلاك المحلّي خاصةً إنتاج زيت الزيتون والتمر والقوارص. كلّ هذه موادّ معدة للتصدير ولا يربح منها الفلاح بقدر ما يربح منها المصدِّرون.
المستوى الآخر أنّ كلّ منظومات الإنتاج المحلّي الغذائية تقريبًا في تدهور تامّ. وفي هذه المسألة نعقد ربطًا مع مسألة النظام الريعي لأنّ الأمر متشعّب قليلاً سأحاول أن أوضحه بإيجاز: في تونس هذه المواد مدعومة عن طريق “صندوق التعويض” الذي استحدثته الدولة لخلق توازن بين سياسة الأجور الضعيفة من ناحية ومستلزمات الحياة اليومية الخاصة بالمواطنين من ناحية أخرى، فيتمّ من خلاله تعويض المواد الغذائية الأساسية للمواطنين بسبب ضعف الأجور. وللحفاظ على موازنتها المالية، تضغط الدولة على سعر الشراء من عند المنتِجين فيجد الفلاحون أنفسهم مجبرين على بيع منتوجاتهم للدولة بأسعار بخسة. لكنّ الدولة، من ناحية أخرى، تشتري من الخارج وبأسعار خيالية نفس هذه المواد وعلى رأسها الحبوب، وهي إشكالية كبيرة جدًّا. وعلى الخط هناك بعض الشركات المحتكِرة لتحويل هذه المواد، سواءً محليًّا أو للخارج، وهي تحتلّ موقعًا استراتيجيًّا بدعم من الدولة على حساب المستهلكين. وتمارس هذه الشركات العديد من السياسات الاحتكارية وسرقة المنتوجات منها القمح الصلب على سبيل المثال الذي يتمّ تحويله وتصديره إلى الخارج خلسةً عوض الإبقاء عليه في تونس.
لذا، نحن نتحدث عن نظام متكامل على مستويات عدة تتشارك فيه مجموعة قليلة بسند من الدولة على حساب الفئات الشعبية التونسية. ويمكن سحب التحليل نفسه على منتِجي البيض واللحوم، إذ لم يعد هناك في تونس على سبيل المثال منتِجون صغار للدجاج وللديك الرومي على الإطلاق، وأصبح هناك ثلاث شركات فقط تحتكر إنتاج هذه المواد.

نحو تجديد المصطلحات
وحول لزوم وجود ردّ سياسي واجتماعي على هذا الوضع، فإنّ الصعوبة تكمن في إيجاد العبارات. صحيح أنّ
مصطلح “الريع” يوضح بعض الأمور عند استخدامه في تونس للبحث في مسألة الريع، لكنه في الوقت نفسه يجعل بعض الأمور غامضة لدى الأغلبية الساحقة من الناس، ما يعني أن المصطلح بحدّ ذاته يخدمنا في بعض الأحيان لكنه لا يعينُنا في أحيان أخرى. وعليه، يمكننا تجديد مصطلحاتنا للتعبير بوضوح عمّا يجري في اقتصاداتنا المحلية.
رجاء كساب
في المغرب أيضًا ريع مواقع
ما تحدثت عنه ليلى يسري أيضًا على الواقع المغربي بكل تجلّياته وتفاصيله. وأعتقد أن هناك فرق عندما نتحدث عن الريع في دولنا العربية بين دولة وأخرى، فتونس والمغرب، وأستثني الجزائر وليبيا الغنيّتين بالموارد الطبيعية خاصةً النفط والغاز، متواضعتان بالموارد الطبيعية، وبالتالي تعتمدان بشكل خاص على الزراعة والخدمات وغيرها، بينما دول الخليج مثلاً غنية بالبترول والغاز. في المغرب أيضًا ريع مواقع يمتدّ إلى الوسط السياسي والنقابي والجمعوي وفي كل الأوساط وهو السبب في الاحتكار ومجموعة من الآفات التي تعرفها اقتصادات هذين البلدين.
ومنذ عام 2010 يرفع الحراك التونسي مسألة القطع مع اقتصاد الريع كسبب من الأسباب التي تجعل الفوارق الاجتماعية صارخة وتُراكم الثروات في أيدي قلة قليلة من المنتفعين. موضوع الطاقات المتجددة في تونس شبيه أيضًا بما يحصل في المغرب، وهنا أشير إلى “محطة نور” الضخمة لإنتاج الطاقة الكهربائية والتي سيستفيد منها الخارج و”الاتحاد الأوروبي”. كما أنّ الغرب حاليًّا في أزمته مع روسيا يريد البحث عن بدائل للطاقات الكلاسيكية لكن ليس على أراضيه، بل على حساب دولنا خاصةً في المغرب العربي لاعتبارات كثيرة. لذا علينا أن نناضل وأن نبني اقتصادات مختلفة بمفاهيم مختلفة يكون الأساسي فيها الصالح العام وخدمة المواطن قبل خدمة الأجانب خاصةً “الاتحاد الأوروبي” والولايات المتحدة الأميركية لأنّ كل تلك الدولة تستفيد مما نمرّ به.

متدخل: وائل جمال- باحث اقتصادي من مصر
ريع المواقع: حالة “عالميّة” في قلب التراكم الرأسمالي
أودّ الاشتباك مع بعض الأطروحات التي انطلقت منها ليلى الرياحي في التعامل مع مسألة الريع في تونس، والتي تستند أو تشتبك مع التقدير الذي كان قدّمه عزيز كريشان في كتابه الأخير عن تطوّر الريع في تونس. هناك بالطبع أسئلة كثيرة مرتبطة بمسألة الريع، وهي ليست أسئلة فقط على المستوى التحليلي والنظري في ما يتعلق بمعنى الرأسمالية في بلادنا وبطبيعة تطوّرها، وحتى بتعريف الرأسمالية الذي من المفترض أن نفكّر به بينما نحلّل، لكنّها أيضًا تعكس نفسها في طبيعة وأفق الحلول.
على مدى سنين طويلة، كان اليسار العربي متأثرًا بشدة بنظرية المراحل الستالينية، والتي تقوم على أنه لا يمكن حدوث تغيير اشتراكي أو ثوري من دون المرور مسبقًا بمرحلة من التطور الرأسمالي الذي يمهّد أو يجعل الإمكانية موجودة لنظام أكثر عدالة ومساواة، وأكثر فهمًا لضرورات البيئة والمناخ أيضًا. بالطبع، هذه مشكلة كبيرة جدًّا. وقد أدى هذا المسار الستاليني باليسار العربي، كما كان يقول الصديق هاني شكر الله، إلى لعب دور المروّج للمشروع الليبرالي العربي سواءً في جوانبه المتعلقة بالمنافسة الاقتصادية وكفاءة الأسواق ومواجهة الاحتكارات أو في جوانبه السياسية من خلال دفاعه المستميت عن أشكالٍ من الديموقراطية التمثيلية وحرية الرأي البرجوازية، إلخ، معزولة عن السياق الاجتماعي والطبقي والسياسي الذي يمكن لمشروع اليسار أن ينطلق منه ويعبّر عنه.
وبرأيي، من السهل إيجاد تحليل لدور ريع المواقع من الوجهة النظرية، فهو ليس حالة قاصرة على تونس أو على العالم العربي، بل تمتدّ إلى المراكز الرأسمالية المتقدمة. كما أنه ليس قضية جديدة فهو ما كان يُسمّى في الأدبيات، وعلى مدار سنوات طويلة، “الاحتكارات” و”الكارتيلات الاحتكارية الكبرى”. على سبيل المثال، كلّ تحليلات نشوب الحربين العالميّتين الأولى والثانية كانت مبنيّة على أنّ الدول كانت على صلة قريبة هيكلية مع هذه الكارتيلات وتعكس مصالحها وتخوض حروبًا خارجية وصراعات مصالح خارجية عسكرية خدمةً لهذه المصالح.
وفي الخطاب السائد أو في الاتجاه الرئيسي المتعلق بموضوع الاحتكارات، دائمًا يُشار إلى الريع على أنّه المبلغ الذي يزيد على الربح الطبيعي بسبب المواقع والأوضاع الاحتكارية. لذا، في الحقيقة، ليس ريع المواقع علامة على عدم وجود رأسمالية، بل على العكس من ذلك، إنه علامة على وجودها بشكلها الأكثر تقدمًا. بالطبع، لكلّ دولة خصوصيات، ولمواقعنا في السوق العالمية خصوصيات، لكن ما يزيل بعض الالتباس حول هذه المسألة أن ننظر إلى دولٍ كبريطانيا والتي تحوي ظواهر شبيهة جدًّا بما لدينا.
وقد صدر مطلع الألفينات كتابٌ مهمّ اسمُه “الدولة المأسورة” Captive State يتحدّث كيف كان رجال الشركات الكبرى يتنقّلون بين مناصبهم الحكومية وشركاتهم، ما يدلّل على أثر السياسات الحكومية لحساب عدد محدود ويزداد قلةً وتركزًا بسبب أوضاع الاحتكار. إنّ هذه النقطة تُلغي بعض الشيء فكرة الخصوصية التي نتمتّع بها في هذه المسألة، وأنّ لدينا حالة غير موجودة في أي مكان آخر من العالم في إطار رأسماليات محاسيب.
مسألة أخرى مهمّة حول الاستنتاج بأنّ ما يحدث في بلادنا ليس رأسمالية بناءً على المقارنة مع وصفة رأسمالية نجدها في الكتب لا في الواقع. تفيد هذه الوصفة مثلاً بأنّ في الرأسمالية حريةُ إبداع، ونجد في المقابل أنّ أهم الإبداعات التكنولوجية في الولايات المتحدة، في “آبل” وغيرها من الشركات، تأتي من مشاريع بحثية حكومية وليس من تلك الشركات أساسًا. وتفيد الوصفة أيضًا بأن في الرأسمالية كثيرٌ من عمّال البروليتاريا الذين يحتلّون نسبةً عالية من السكان. ويتمّ الاستنتاج أنه بما أنّ هذا ليس حالنا في مصر أو تونس أو لبنان فإن هذه ليست رأسمالية، بل هي أمرٌ آخر، فنحن نحتاج في البداية، وفقًا لتلك النظرية، إلى الوصول إلى درجة التطور التي تجعلنا رأسماليين كي نتمكن من استخدام أساليب التحليل التي يمكن أن تنطبق على تحليل هذا المجتمع بآلياته. بالطبع، أختلف بشكل جذري مع هذه الفكرة، خصوصًا أنّ أهم الكتابات الموجودة حول الريوع وريع المواقع، إذا جاز التعبير، تتركز على المراكز الرأسمالية المتقدمة بحجم تفاقم هذه المسألة فيها. وتنظر هذه الكتابات في تطور الاحتكارات وأثرها على تركّز رأس المال وعلى تناقص معدلات الربح في السوق العالمية، التي تدفع دفعًا في أن تفوق معدلات الأنشطة الريعية في بلد كبريطانيا- وهي بلد قادت الثورة الصناعية في بدايتها- كلَّ الأنشطة الإنتاجية إذا أضفنا إليها أيضًا الأنشطة الريعية التي تشرف عليها خارج المملكة المتحدة.
ولا ينحصر في هذه المسألة ما هو متعلّق بريوع الاستخراج أو الريوع المالية، فهناك أنشطة جديدة موجودة لدينا في العالم العربي مثل ريع المنصّات بحيث أمتلك منصّةً لا أقوم من خلالها بأي نشاط سوى امتلاكي لها، وبالتالي ومن خلال عمل وأصول آلاف وملايين السائقين في حالات كـ “أوبر” أو عمّال توصيل الديلفري وغيرها من المنصات أحقق أرباحًا وأقاسم هؤلاء العمّال الأرباح هذه عن طريق فقط امتلاكي للمنصة (مالك يسخّر ملكيته لمالك المنصة عبر عمله في حالة أوبر). نرى هذا المسألة مثلاً في شركة “بولت” في تونس و”أوبر” و”كريم” في مصر ولبنان والأردن وغيرها من الدول العربية.
انطلاقًا من هنا، من المهم جدًّا على مستويات معيّنة أن نناقش نظريًّا أسئلةً مثل الأسئلة الآتية “هل هذه رأسمالية أم لا؟ وما المحددات التي تجعلها رأسمالية أو لا تجعلها كذلك”؟ وبالتالي، أفق التغيير ووضع موضع الريع في هذا الموضع موضعًا استثنائيًّا أم موضعًا أصيلاً في جوهر طريقة عمل النظام الرأسمالي.
إن الإجابة على هذه الأسئلة ستحدد الأفق الاستراتيجي الخاص بك بينما تناقش هذه المسألة، وستحدد كذلك البدائل العملية الموجودة على الأرض والممكنة في هذه اللحظة وما هو شكلها، بالإضافة إلى نوعية الخصوم الذين ستواجههم سياسيًّا وعمليًّا؛ كما أنها مهمة لتحديد أفق الحركات المقاومة، بالذات الحركات القاعدية التي لم تتماسك تنظيميًّا بعد كي يكون لديها دور في المسألة السياسية، إلخ.

رجاء كساب
في الحقيقة لا نختلف مع الطرح الذي طرحه وائل جمال حول مسألة ريع المواقع، لكن أودّ الإشارة إلى أننا لو درسنا هذا النوع من الريع في المغرب ستكون الصدمة كبيرة جدًّا. يكفي أن أقول إنّنا لسنا كبريطانيا حيث يتنقّل الوزراء بين المناصب الحكومية والشركات، بل نحن لدينا رئيس حكومة هو من أغنى أغنياء المغرب ويمتلك شركات كبيرة تستفيد من كل القرارات الحكومية التي تصدر. ومن المواضيع التي تحظى باهتمام كبير على الصعيد العالمي حاليًّا مسألة المحروقات إذ أنه يملك إحدى أكبر الشركات الموزعة للنفط ويعترض على إعادة تشغيل مصفاة لتكرير النفط ويستفيد من كل القرارات. وهذا الأمر يجعلنا بالفعل نتساءل: هل نحن نعيش ضمن نظام رأسمالي أم ضمن نظام من نوع آخر؟ هو ربما رأسمالية وريع واستبداد واحتكار وكلّ المفردات الممكنة.

ليلى الرياحي
نظام تونس لا يحارَب كما تحارَب الرأسمالية
إن ريع المواقع مسألة قديمة تعود إلى ابن خلدون الذي تحدّث عنها عندما قال: “وضع الضياع في أيادي الخاصّة”. وفي ذلك كان يتحدث عن الاحتكار وعن عدد من الظواهر التي نعيشها اليوم والتي اعتَبر أنها تتسبّب في دمار العمران. بالفعل، هذا ليس جديدًا، لكن هناك ملاحظة يمكن أن تكون معبّرة بالنسبة للوضع في تونس ومفادها أنّ الدول التي عرفت استعمارًا، كما بلداننا، تقيّدت مناويل التنمية الخاصة بها بسبب الديون المتراكمة عليها بالأقطاب الرأسمالية العالمية، وقد عرفت بالتوازي أنظمة سياسية دكتاتورية كما هو حال تونس. وبسبب هذا الوضع يبدو أنها طورت أشكالاً اقتصاديةً خاصّة بها. هذا لا يعني أنها ليست على ارتباط بالرأسمالية، فالرأسمالية هي التي خلقت هذه الأشكال الاقتصادية. لكن في الوقت نفسه، لا يمكن أن نقول إنّ الشكل الاقتصادي الموجود في تونس حاليًّا رأسماليّ، فهو لا يعرف الرسملة. والاقتصاد الريعي تابع ومقيّد بمنوال يضمن سلب الثروة وتراكم جزء منها لدى الطغمة مقابل أن يذهب الباقي لأقطاب الرأسمال المعولم.
ما زلنا نبحث عن توصيف أكثر قربًا للواقع، لكن لا يمكننا محاربة النظام في تونس مثلما نحارب الرأسمالية. لدينا إشكاليات أخرى محلية، لذا علينا بناء جبهات لا تكون موجهة فقط للخارج ولا ضد الرأسمالية العالمية، ولكن أيضًا موجهة داخليًّا ضد من يخدم مصلحة هذه الرأسمالية العالمية وهو يتموقع داخل النظام. هذا ليس تحليلاً نظريًّا معمقًا، لكن ما نرصده من سياسات وتداعيات وتحركات واحتجاجات وقرارات يعطينا قناعة بأنّه من ناحية هناك إشكالية متعلقة بالرأسمالية، ولكن أيضًا هناك إشكالية محلية وهي إشكالية سياسية بحتة تجعل اقتصاداتنا بهذا الشكل. مثال على ذلك: لدينا في تونس اليوم رئيس جديد يملك كل الصلاحيات وكل السلطات بفعل عملية سياسية يصفها البعض بالانقلابية. هذا الرئيس هو من أكثر من تحدثوا عن إشكالية النظام الريعي والاحتكارات والمضاربة. في مقابل ذلك، وجدنا أنه أصدر مرسومًا يقترض بموجبه من مصارف تونسية بالعملة الصعبة، لا ندري نسبة الفائدة ومن هي المصارف، ما نعرفه فقط أنه أبرم اتفاقًا مع المصارف حول دين جديد داخلي، ولكن بالعملة الصعبة. كما مرّر مرسومًا للصلح الجزائي عفا بموجبه تقريبًا عن كل الفاسدين الذين ارتكبوا جرائم اقتصادية وجرائم صرف وجرائم من نوع التهرب الضريبي إلخ. هذا بالإضافة إلى وجود العديد من القروض والمشاريع الممولة من الخارج. لذا، فعلى الرغم من تغيّر المعادلة السياسية، فإن الشخص الموجود في الحكم يستعمل الأساليب نفسها وبالطريقة نفسها بهدف حماية المصالح نفسها الخاصة بالمجموعة نفسها. وهذه برأيي سياسة لافتة للانتباه، فعلى المستوى الاقتصادي هو يمارس سياسة أبشع وأعنف من السياسات التي مارستها الحكومات السابقة بما فيها حكومة بن علي نفسه، وهو في هذا السياق يحمي نفس المصالح الأوليغارشية الريعية. بناءً عليه، إننا نعتبر أن المسألة سياسية بامتياز، ونحن نتحدث عن ريع مواقع سياسية لا ريع مواقع اقتصادية.
محمد زبيب
من يجب أن يتملّك الأصول؟
إنّ الحديث دائمًا عن أننا لا نعيش في نظام رأسمالي إنما في إطارٍ من الأشكال الريعية، يضيف المزيد من الضبابية على التحليل أكثر من تقديم أي إجابات حول واقعنا والنظام الذي نعيش فيه. ما أود أن أختم به هو أن موضوعة الريعية تجرّ دائمًا إلى طرح وصفات أمام المجتمعات العربية تتلطى بأحد التعبيرين: إما البديل عن الريعية هو اقتصاد تنافسي وإما الحديث عن اقتصاد منتِج أو إنتاجي. في الحالة الأولى، الحديث عن الاقتصاد التنافسي يتجاهل مسألة أساسية في تعريف الريعية نفسها وهو تعريف واسع، ولكن سأشير إلى عنصر أساسي في هذا الإطار وهو أن الريعية تعرَّف بأنها نمط إنتاج اقتصادي وإعادة إنتاج بحيث يتملّك رأس المال الخاص معظمَ الأصول الاقتصادية في بلد معيّن أو لمجتمع معين، وبالتالي عندما نريد أن نواجه ما نسمّيه الريعية لا يمكن أن نقفز فوق المسائل المتعلقة بالملكية، وهو برأيي لبّ الموضوع. لذا، إن السؤال الذي نريد أن نطرحه على أنفسنا في حال كنا نريد تجاوز ما نسمّيه الريعية، يجب أن يتعلق بمن يجب أن يتملّك الأصول. إذا كان الاقتصاد التنافسي بمنظار الوصفات التقنية التي توضع فإننا عمليًّا نضيف المزيد من الأصول في أيدي رأس المال الخاص المتحكَّم به من قبل قلة قليلة، سواءً سمّيناها الأوليغارشية أو سمّيناها طبقة رأس المال أو أي اسم آخر. وإذا كنا نتحدث عن اقتصاد منتِج فإننا ننقل الوصفة من أشكال من الاستغلال نعاني منها في اقتصاداتنا إلى أشكال يكون الاستغلال فيها أكثر وضوحًا وربما أكثر قسوةً وحدّةً بما يتعلق بإنتاج فائض القيمة وبالتالي تحقيق الربح.
لذا، أدعو إلى أن يتركز النقاش في ما بيننا حول مسائل الملكية كمحور للحديث عن اقتصاداتنا. وفي مداخلتي الأساسية اقترحت المقابلة التي تقول بأنّ علينا أن نصيغ موقفًا سياسيًّا تجاه مشروع لتعظيم الاستثمار العام وبالتالي تعميم المنفعة العامة على فئات المجتمع المختلفة. وفي مجال الأزمة الاقتصادية القائمة اليوم، لديّ توصيتين: ضرورة أن نركز على الحاجة إلى فرض ضوابط رأس المال لتفادي المزيد من الضرر المتأتي عن ما يسمّى رأس المال المضارب والذي يوضع غالبًا تحت صفة الاستثمار الأجنبي وهذا اسمٌ مخادع، وأن نفكر ماليًّا بالحاجة إلى سيطرة الدولة أو أي أشكال أخرى اجتماعية على القطاعات التمويلية وتحديدًا المصارف وعلى القطاعات الاستراتيجية في الاقتصادات. من وجهة نظري، يشكّل هذا مدخلاً للنقاش حول مسألة الريعية وأزمة الاقتصاد العالمي اليوم وكيفية مواجهتها.

Start typing and press Enter to search