ماذا يحدث في منطقتنا؟

المشهد السياسي التونسي بعد 25 تموز/ يوليو 2021

أسماء نويرة
تونس
Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [373.71 KB]

جاءت هذه المداخلة في إطار الندوة السنوية لمنتدى البدائل العربي للدراسات تحت عنوان «التطورات في المنطقة العربية: التطورات في تونس والسودان وقضية التطبيع عبر تطبيق زووم، والتي عقدت يوم 20 شباط/ فبراير 2022.

ما يحصل اليوم في تونس يندرج بالضرورة في صيرورة التجربة التونسية وبالتالي يجب العودة إلى الوراء لوصف الوضع قبل فترة من الزمن كي نفهم الأحداث الحالية.

مرت 10 سنوات على هذه التجربة التي تمت المراهنة عليها من الداخل والخارج. ولكن منذ سنتين تقريبًا طغى الإحساس بالخيبة، خصوصًا في الداخل، وصار الجميع يتحدث عن فشل التجربة وانتهائها. وقد تمّ توصيف ذلك في كتاب جماعي صدر في حزيران/ يونيو 2021 عن المرصد التونسي للانتقال الديمقراطي تونس: الانتقال المتعثر «Tunisie: la transition bloquée1

لأنه لم يتم الجزم أن التجربة توقفت وانتهت وتم إرساء نظام جديد، لكن المسار توقف لأسباب متعددة، سياسية واجتماعية واقتصادية، وهنا سيتم التركيز على الأزمة السياسية.

منذ سنوات، هناك أزمات متعددة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكنّ الأزمة اشتدت بعد انتخابات 2019 وأصبحت أزمة نخب وأزمة أحزاب وأزمة الدولة التي ضعفت أمام المطالب الاجتماعية ولم تستطع الاستجابة لمطالب الشارع كما لم تستطع إصلاح الوضع الاقتصادي المتدهور.

لقد شهدت تونس، على مستوى منظومة الأحزاب، حالةً من عدم الاستقرار إذ تم الانتقال من ثمانية أحزاب معترف بها الى حوالي 250 حزبًا اليوم. لكن المشكلة ليست في تنامي عدد الأحزاب، بل في عدم استقرار الخارطة الحزبية التي ما فتئت تتشكل وتعيد التشكل مع كل مناسبة انتخابية.

كما أن أغلب الأحزاب لم تستطع الحفاظ على ديمومتها، بما فيها الأحزاب التي فازت في الانتخابات مثل “نداء تونس”، فباستثناء “حزب النهضة” الذي حافظ على تماسكه ما خلا بعض الاستقالات، بقيت الأحزاب الأخرى تتشكل وتتفتت وتنشأ منها أحزاب جديدة. كما أن الأحزاب صارت تفتقد الى أيديولوجيا وأفكار واضحة، فكل الأحزاب تريد أن تصبح وسطية، حتى أن العديد من الأحزاب حاولت التبرّؤ من أيديولوجيتها، سواءً من اليمين أو اليسار، لمحاولة التموقع في الساحة السياسية، الأمر الذي دفع مثلاً الأحزاب التي تعرّف عن نفسها بأنها حداثية وعلمانية إلى عدم اتخاذ مواقف في قضايا اجتماعية مهمة تتعلق بالحقوق والحريات، وفي بعض الأحيان إلى اتخاذ مواقف رخوة أو التخلّي عن هذه الهوية لصالح مصالح سياسية آنيّة ممّا جعل المواطن يفقد ثقته في هذه الأحزاب.

هذا بالإضافة إلى أن الأحزاب في تونس تعاني من نقص في التعبئة الجماهيرية التي تكون مرتبطة فقط بمواعيد الانتخابات لينقطع التواصل مع المواطنين بعدها. وقد أدى هذا القصور إلى فقدان هذه الأحزاب للعمق الاجتماعي.

كما أن الأحزاب لم تقم بإصلاحات هيكلية داخلها في اتجاه دمقرطة العمل الحزبي لتفسح المجال للعمل السياسي أمام النساء والشباب. وفي نظر المواطن، هناك مسافة بينه وبين الأحزاب، وهو ما عبّرت عنه انتخابات 2019 التي اتجه فيها الناخبون إلى انتخاب مستقلين، واعتبر المواطنون أن هذه النتائج هي بمثابة عقاب للأحزاب.

بالنسبة للنخب السياسية، سواءً المنتمية إلى الأحزاب أو المستقلة، فقد بدت عاجزةً عن إدارة عملية الانتقال الديمقراطي، وبدت في قطيعة مع الناس، وأحيانًا بدت نخبًا فاسدة. أما في وسائل الإعلام، فبدت دائمًا متصارعة، وقد شكّل هذا أحد أسباب تشوّه صورة السياسيين والنخبة السياسية إذ اعتمدت وسائل صراع تقوم على الحطّ من الخصوم والوصم الأخلاقي مما هيّأ الأمر للخطاب الشعبوي الذي يدّعي الدفاع عن الشعب ضد هذه النخبة الفاسدة التي استولت على الحكم منذ 2011.

نأتي هنا إلى النظام السياسي الذي تأسس مع دستور 2014. منذ إصدار الأخير، بتنا كمن يسير في حقل ألغام باعتبار الدستور توافقيًّا ويحتوي على نصوص قد تكون متعارضة. وقد تم إرساء نظام مختلط، لا برلمانيًّا ولا رئاسيًّا، وهو نظام غير متناسق ففي كل أزمة يتجنّد رجال القانون والسياسيون من أجل إيجاد حلّ قانوني ومخرج للأزمة. وتجدر الإشارة إلى أن الفاعلين السياسيين كانوا قبل عام 2019 يقبلون العمل في إطار هذه الوثيقة التوافقية، ولكن منذ 2019 تعالت أصوات تنادي بتعديل الدستور أو ترفضه تمامًا وتدعو إلى إلغائه وتعديل النظام السياسي، وقد تمّ تحميل الدستور أخطاء السياسيين ومسؤولية ما آلت اليه الأمور بعد 2019 الأمر الذي هيّأ الرأيَ العام لقبول تعليق العمل به بعد 25 تموز/ يوليو 2021.

وعلى الرغم من وجود نقائص عديدة في الدستور، فإنه من الممكن تعديلها. لكنّ سبب الأزمة لا يكمن في الدستور، فعدم قبول الفاعلين السياسيين للنظام السياسي الجديد هو من الأسباب الرئيسية لهذه الأزمة التي اشتدت في كل مؤسسات الدولة مع وصول فاعلين سياسيين جدد للحكم، سواءً في السلطة التنفيذية أو التشريعية، وخطابهم شعبوي بالأساس وبدا الصراع بين مختلف المؤسسات فشاهد التونسيون عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مظاهر الصراع تحت قبة البرلمان. وقد هيّأت هذه المشاهد الناس، إلى حدّ بعيد، للانخراط في الدعوة إلى حلّ البرلمان، كما هيّأت الرأيَ العام لقبول تجميده في 25 تموز/ يوليو 2021.

إلى ذلك، برزت صراعات أخرى، كالصراع بين رئاسة الجمهورية ومؤسسة مجلس النواب ككلّ، وليس فقط رئيسه راشد الغنّوشي. وظهر أيضًا صراع بين رأسَي السلطة التنفيذية، أي رئيسَي الجمهورية والحكومة، الأمر الذي ساهم في تعطيل سير مؤسسات الدولة، خصوصًا مع تزامن هذه الأزمة مع الأزمة الصحية إثر انتشار “كوفيد 19”.

هذا بالإضافة إلى وجود صراع بين كل الفرقاء السياسيين، منذ عام 2012، حول السلطة القضائية التي يحاول كل طرف سياسي وضع اليد عليها برغم أنه يفترض بها أن تكون مستقلة. لقد زجّ هؤلاء بالمؤسسة القضائية في صراعاتهم السياسية، ما جعل المواطن التونسي يفقد ثقته أيضًا فيها الأمر الذي جعلها في مرمى التشكيك والتحريض من الشعبويين. وهذا يبرر الإجراءات التي قد يتم اتخاذها ضد السلطة القضائية ومؤسساتها في هذا الإطار.

في الواقع، يمكن القول إن صعود الشعبوية في تونس هو نتاج لجملة هذه الأسباب والأزمات السياسية، ولكن أيضًا الاقتصادية وعدم قدرة الدولة على القيام بإصلاحات جوهرية وهيكلية تزامنًا مع الأزمة الصحية الناتجة عن فيروس “كوفيد 19”.

ساهمت الأزمة الاقتصادية في صعود الحركات الشعبوية خلال انتخابات 2019، ولم يقتصر ذلك على الرئيس قيس سعيّد، إذ ظهرت حركات وحملات شعبوية كثيرة مثل حملة “وينو البترول” التي تعتبر حملة شعبوية بامتياز.

ما حدث في تونس يوم 25 تموز/ يوليو 2021 حين أعلن الرئيس قيس سعيّد تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه وجملة من الإجراءات الأخرى، يندرج في إطار العملية السياسية أو عملية الانتقال في تونس، وهناك من يراه نتيجة مباشرة لما سبق. وقد لقيت هذه القرارات على المستوى الإقليمي دعمًا من قِبل بعض البلدان على مستوى الخطاب، لكن في المقابل لم تدعم هذه البلدان الرئيس لوجستيا او ماديا فيما دعت البلدان الأوروبية الى إعادة النظام السياسي إلى ما كان عليه والعودة إلى شرعية المؤسسات.

اعتمد قيس سعيّد على الفصل 80 من الدستور التونسي2 مبررًا ما قام به بالخطر الداهم والحالة الاستثنائية، وذلك برغم أن الفصل 80 لا يبرر بتاتًا ما قام به الرئيس ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال اعتماده للقيام بكل هذه الإجراءات. وقد كان الناس مهيئين لما وقع، ولكن أيضًا تم العمل على تهيئتهم لقبوله، لذلك لاقى القرار ترحيبًا من المواطنين، ولكن أيضًا من جزء كبير من النخب. ويجب القول إن المساندة كانت من فئات مختلفة سياسيًّا واجتماعيًّا، ولكن يجمعها عدم الرضا بما حدث في العشرية الأخيرة، كي لا نقول الغضب ممّا حدث، وقد تم تحميل المسؤولية كاملة للإسلاميين برغم أن المسؤولية تتحملها كل الأطراف السياسية، لذلك فإنّ جزءًا كبيرًا ممن عارض الإسلاميين ساند قيس سعيّد في قراراته، سواءً بشكل مطلق أو بشكل مشروط. واختلفت الآراء في توصيف ما حصل، إذ يعتبره المؤيدون تصحيحًا للمسار، ويعتبره المعارضون انقلابًا. لكن أيًّا كان التوصيف، فتونس في وضعية استثنائية على جميع الأصعدة.

في الداخل التونسي، نرى أنه مؤخرًا أصبح هناك تململ في الجيش حتى لا يتم إقحامه في الصراعات السياسية باعتباره سلطة محايدة قبل وبعد 2011، أما المؤسسة الأمنية فقد تم وضع اليد عليها من خلال التعيينات الجديدة بعد 25 تموز/ يوليو وأصبحت أداة في يد السلطة. أما موقف اتحاد الشغل، المنظمة الشغيلة الأكبر في تونس، فهو غير واضح ويبدو رخوًا في بعض الأحيان، خاصةً أن أمينه العام تعرّض إلى هجمات من قبل أنصار قيس سعيّد وبالتالي لا يبدو أن الاتحاد يساند الرئيس بصفة مطلقة مثل العديد من الأحزاب ولا نراه في المعارضة أيضًا، لكن الأكيد أن اتحاد الشغل اليوم لا يمكن أن يلعب الدور نفسه الذي لعبه عام 2013 و2014 في الحوار الوطني، فالأزمة اليوم مختلفة والفاعلون مختلفون.

برغم قتامة المشهد، لا يمكن الجزم بانتهاء المسار في تونس، بل ما يحصل حلقة من حلقات هذا المسار وهي مرحلة “الشك” (uncertainty) حسب أدبيات الانتقال الديمقراطي. وما زال هناك بصيص من الأمل باعتبار وجود مجموعة من السياسيين ومن المجتمع ما زالت تقاوم وتعارض ما حصل وتريد إرساء الديمقراطية. وفي الوقت نفسه، يظلّ خطر الاستبداد قائمًا، خاصةً في صورة تعديل النظام السياسي إلى نظام رئاسي، وما نراه اليوم من استحواذ رئيس الجمهورية على السلطتين التشريعية والتنفيذية وصراعه القائم مع السلطة القضائية، وفي ما يقوله أنصار الرئيس بأنه سيتم إرساء نظام جديد لم تتمّ تجربته سابقًا.

1 للاطلاع على الإصدار باللغة الفرنسية يمكنكم مراجعة الرابط التالي: https://umr-devsoc.pantheonsorbonne.fr/publications/tunisie-transition-bloquee

2 الفصل 80 من دستور تونس لعام 2014 “لرئيس الجمهورية في حال الخطر الداهم الذي يهدد كيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، ويتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس ومجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن (الرئيس) عن التدابير في بيان إلى الشعب”.

Start typing and press Enter to search