مقتل قاسم سليماني.. قيادة إيران ليست انتحارية
توفيق عبد الصادق

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [960.55 KB]

تكاد صورة جنرال إيران الذي قتلته أمريكا بالعراق فجر يوم الجمعة 3 يناير/كانون الثاني 2020 تحجب صور المشهد العالمي، لا حدث ولا خبر في جميع وسائل الإعلام ودوائر القرار العالمي، سوى عن رحيل رجل وقائد اسمه قاسم سليماني. محللين ومستشرفين ما يمكن أن يحمله مقتله من تصاعد في حدة المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة إدارة دونالد ترامبونظام الجمهورية الإسلامية، وتداعيات هذا الصراع المفتوح على منطقة الشرق الأوسط والعالم، سواء من الناحية الأمنية والعسكرية، أو مفرزاته الجيوسياسية والاقتصادية.

خطوة ترامب بقصف موكب قائد فيلق القدس سليماني، وتصفيته مع أبو مهدي المهندس أبرز قادة الحشد الشعبي وباقي صحبهم، فعل وخطوة غير مسبوقة في مسلسل إدارة الصراع والمواجهة من قبل الإدارة الأمريكية مع النظام في إيران والمفتوحة منذ زمن الثورة عام 1979.

قوة الضربة ووجعها وحدة وقعها على الإيرانيين، لا يلخصها سوى حجم التهديد والوعيد بالانتقام لبطل إيران القومي ويدها الضاربة في الخارج، التي أطلقها كل القادة السياسيين والعسكريين، وكثافة اللحظة الفارقة المسجلة في جنازة الرجل، بما حملته من مشاهد مؤثرة وطاغية في أعداد ملايين المشيعين، ورمزية ودلالة بكاء مرشد الجمهورية علي خامنئي“.

وإذا كان قرار قتل قاسم سليماني حسب وجهة نظر ترامب وفريقه الاستشاري، جاء كجواب لينهي مرحلة اختبار صبر الولايات المتحدة الأمريكية على استفزازات قادة طهران العسكرية المتكررة والمتزايدة في الآونة الأخيرة، وذلك منذ خبر اسقاط الطائرة الأمريكية المسيرة من نوع آر كيو-4 غلوبال هوك” شهر نوفمبر من العام 2019 والهجوم على حلفاء واشنطن عبر استهداف بوارج النفط ومنشآت شركة أرامكو لإنتاج البترول في السعودية منتصف شهر سبتمبر/ أيلول 2019، مروراً بهجوم فصائل عراقية موالية لإيران على قاعدة عسكرية مشتركة أمريكية عراقية بمدينة كركوك يوم 28 ديسمبر/كانون الأول 2019 ومقتل مقاول أمريكي، وحتى حادثة محاولة اقتحام السفارة الأمريكية ببغداد وحرق مداخلها بتاريخ 31 ديسمبر/كانون الأول 2019. فإنه بكل تأكيد فتح الباب لمرحلة أشد خطورة، مرحلة تطرح فيها الاسئلة أكثر من الأجوبة.

من صراع متحكم فيه إلى صراع خارج السيطرة

مع كل حادث أو مشهد في الإقليم والعالم يكون عنوانه إيران وأمريكا، يبرز إلى الواجهة صراع الطرفين القديم المتجدد، فمنذ قيام الثورة الإيرانية في العام 1979، وما أعقبها من احتجاز لموظفي السفارة الأمريكية كرهائن، والعلاقة بين طهران وواشنطن تعرف حالة من التصادم والريبة وعدم الثقة بين الطرفين. هذه العلاقة التنافرية وان كانت تعرف في بعض المحطات والأوقات حالة من الانفراج، خاصة في فترتي الرئيسين الاصلاحين السابقين هاشمي رفسنجانيومحمد خاتميمن الجانب الإيراني وفترة الرئيس السابق بيل كلينتونمن الجانب الأمريكي، إلا أنها شهدت أقصى درجات توترها خلال فترة الرئيس السابق أحمدي نجادوالرئيس السابق جورج بوش الابن، المتزامنة مع حرب يوليو/تموز 2006 بين حزب الله حليف إيران في لبنان واسرائيل.

الثابت خلال المراحل والفترات السابقة، أن صراع الطرفين كان صراعاً متحكماً فيه. بمعنى أنه كان إن شئنا القول مؤسس على قاعدة أو عرف عدم تجاوز الخطوط الحمراء، التي فرضها كل طرف على الأخر، (تهديد وجود النظام في إيران والمس بقادته ورموزه، مقابل المصالح الأمريكية المباشرة والحيوية).

لكن منذ تولي ترامب القيادة في أمريكا سنة 2016 وإقدامه على التحلل من التزامات بلاده من الاتفاق النووي، الموقع في شهر أبريل/نيسان سنة 2015 بين إيران والمجموعة الدولية، ممثلة في الدول الست الكبرى (أمريكا، روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا)، عبر إعلانه الخروج من هذا الاتفاق عام 2018 وتوقيع عقوبات اقتصادية مؤثرة على طهران. أخذ مسار الصراع وتدبير الأزمة يتدحرج ككرة ثلج، حتى بلغ مستوى الانفجار وشفى المواجهة العسكرية المباشرة، مع قرار قتل قاسم سليماني، والذي كان لشخصية ترامب دورا مرجحا في اتخاذه؛ كقرار داس على جميع القواعد والأعراف وتعدى الخطوط الحمراء المتفق عليها سراً وعلناً. ليغير معها قواعد الاشتباك وقانون اللعبة، مما جعل من خيارات إيران محدودة إن لم تكن معدومة، فلم يبقى أمامها سوى الرد العسكري والمواجهة.

ما بعد مقتل سليماني: إيران ليس أمامها سوى الرد العسكري

بعد مقتل سليماني وارتباطاً بسياقات الضربة واتجاه الأحداث بتنا ندرك أننا متجهين صوب حالة من التصعيد والتسعير للمواجهة بين أمريكا وإيران، متخذة منحى عسكري. بالرغم من عديد الاتصالات ومساعي الوساطة الدبلوماسية التي بادر بها مجموعة من الدول والرؤساء، لحث الطرفين على التهدئة وتخفيف حدة التوتر، وهو ما كشف عنه وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، عندما قال أن بلاده تلقت أكثر من عشرون محاولة واتصال بهدف ثنييها عن الرد العسكري، على مقتل ما صنفه الكثير ثاني أهم شخصية في إيران، مع دعوتها لضبط النفس.

وبالتالي إيران كانت أمام سيناريوهات وخيارات عسكرية لا مفر من الدفع بها وإن كانت مرة، حفاظاً على كبريائها واستراتيجية الردع المتبعة في الدفاع عما تراه مصالح قومية وجيوسياسية في الإقليم. فما هي خيارتها العسكرية؟ ولماذا اختارت رداً بحجمها؟

  1. استنزاف أمريكا في المنطقة بهدف انسحابها:

وهو خيار يجمع عليه كل القادة الايرانيين سواء السياسيين أو العسكريين، من خلال ما ورد في خطاباتهم ومواقفهم المتسلسلة لمقتل سليماني، إضافة لإعلانه كهدف من طرف زعماء وقادة الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران، سواء في العراق أو لبنان (مواقف وخطابات قادة الحشد الشعبي وأمين عام حزب الله)،(1) هذا السيناريو قائم على توحيد الجهود العسكرية والتعبوية للقوات المسلحة الايرانية وأذرعها في المنطقة، حتى تكون الهجمات العسكرية بمختلف وسائلها وطرقها منسقة ومرتفعة الوتيرة، ووفق ردة الفعل الأمريكية.

تحقيق سيناريو الاستنزاف العسكري للقوات الأمريكية في المنطقة، وجعلها تغادر قواعدها وتسحب جنودها، أو على الأقل تترك بعضها كما في العراق وبلدان الخليج، رهين بالكلفة الاقتصادية التي من الممكن أن تتحملها إيران في اسناد المجهود العسكري، وتمويل أنشطة داعميها ومسانديها من الجماعات والحركات المسلحة، المنضوية تحت ما يعرف بمحور المقاومة أو الممانعة. إضافة للتوجه القادم والخطوات المتخذة من قبل أنظمة الخليج العربي في السعودية والامارات بالتحديد، سواء كان بمواصلة التمترس خلف أمريكا وخياراتها أو الجنوح نحو اتجاهات مغايرة، تسعى بموجبها نحو تحييد بلدانها ما أمكن من المواجهة المباشرة مع إيران وتحمل حمم غضبها كواجهة.

وقد تساعدهم إيران على سلك هذا الاتجاه، بضبط سلوكها نحوهم وعدم استهداف بلدانهم، خاصة بعد ملاحظة تبدل في لهجة خطاب حكام الرياض وأبو ظبي ودعوتهم لإيران وامريكا بعدم التصعيد، على خلفية مقتل سليماني.

  1. خيار التدرج نحو حرب شاملة

لا أيران ولا أمريكا يرغبان في حرب، جملة كثيرة ما يشدد عليها قادة البلدين، ويذهب إليها أغلب المهتمين والباحثين بالشأن الايراني والسياسة الخارجية الأمريكية. باعتبارها خيار مكلف للطرفين، خاصة للنظام في إيران والذي يعيش منذ سنوات على وقع أزمة اقتصادية خانقة، دفعت الشعب مرات عديدة للخرج في احتجاجات عارمة ذات مطالب اقتصادية وسياسية، ومنتقداً للسياسة الخارجية التوسعية لحكام إيران التيوقراطيين في المنطقة، وعلاقاتهم المتوترة بالمجتمع الدولي. صناع السياسة الخارجية في أمريكا بدورهم يدركون أهوال واثار الحرب على نفوس وتوجهات الشعب الأمريكي، الذي مل من أكاذيب ومبررات ساسته، منذ مأسي الحرب الفيتنامية وحتى أهوال المغامرات العسكرية في كل من أفغانستان والعراق.

هل هذا كله يجعلنا نستبعد خيار الحرب مستقبلاً؛ الأكيد لا، فالمتتبع والمواكب للتجارب التاريخية للحروب، يدرك كما يقول كارل فون كلاوزفيتزCarl von Clausewitzفي كتابه عن الحرب،)، أن الحرب هي استمرار للسياسة بأدوات أخرى“.(2إذن من المحتمل أن يدفع صراع الأجنحة المتشددة والمعتدلة داخل أوساط النظام في ايران وتضارب الارادات في إدارة الرئيس ترامب، نحو خيار الحرب، خاصة أمام صعوبة تفكيك ألغام المعادلة المبنية على تبادل الضربات العسكرية دون الوقوع في فخ الحرب الشاملة. وهي معادلة أشبه بلعبة ضرب فخار بالحجر دون تحطيمه.

  1. انتقام يعيد ضبط قواعد الاشتباك

اختيار كان مرتبطا بأن تقوم إيران بالدرجة الأولى لا غيرها، بضرب إحدى القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في محيط حدودها وعلى مرمى صواريخها، أو تستهدف بوارج وسفن واشنطن الحربية المتواجدة في المياه الاقليمية. خطوة ستكون جد محسوبة بالنسبة للإيرانيين وهم المعروفين بنهجهم البراجماتي وطول نفسهم وانتاج الفعل بدل ردة الفعل، وقد تكون أقل تكلفة بالنسبة لواشنطن، ومن شروطها أن يكون عدد قتلى الجنود الأمريكيين غير كبير، حتى لا يستدعي رداً موجعاً من قبل الألة العسكرية الأمريكية الكاسحة، تكون إيران غير قادرة على رده عسكرياً وتحمل تبعاته السياسية والاقتصادية الباهظة التكلفة.

لم يتأخر فعلاً الرد الايراني وجاء وفق هذا السيناريو ففي فجر 8 يناير/كانون الثاني 2020 أعلنت إيران عبر أجهزتها العسكرية أنها قصف قواعد عسكرية أمريكية بالعراق بحوالي 17 صاروخ باليستي أرضأرض، مع تأكيدها على مقتل عشرات الجنود الأمريكيين. في حين أن وزارة الدفاع الأمريكية نفت وقوع خسائر بشرية في صفوف جنودها، قائلة إن الأضرار كانت مادية.

اتخاذ مثل هكذا قرار، زكاه القبول الضمني من قبل إدارة ترامب في رسائلها الموجهة لقادة إيران عبر السفارة السويسرية بطهران ساعات بعد قتلها لسليماني. والتي يشاع أنها تقبل برد محدود، كعمل انتقامي وفي إطار نزع فتيل الحرب التي يخشاها الجميع.3

طرح خيارات إيران العسكرية في مواجهة الضربة القوية التي تلقتها من قبل واشنطن، باغتيال سليماني، واختيارها انتقاماً في حدوده الدنيا، جاء ليرسخ من ذلك السلوك والنهج الثابت المعروف عن القيادة السياسية لإيران عبر تاريخها منذ الثورة، بأنها قيادة غير انتحارية، فغالباً ما تكون دقة حسابات الربح والخسارة لديها، شبيهة بدقة ناسجي الزرابي الإيرانيين.

وهذا ما يجعلنا في نهاية المقالة نتوقع أن يجد الطرفان الإيراني والأمريكي، أنفسهما وكضرورة ولحساب مصالحهما الداخلية، مجبران على تقديم تنازلات ومساعدة بعضهما للنزول من أعلى الشجرة، كتمهيد لقبول وساطات من أجل العودة لطاولة المفاوضات.

1 كلمة للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في الحفل التأبيني لقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، قناة الجزيرة، 5 يناير 2020، http://bit.ly/36IsBBc

2 كارل فون كلاوزفيتز، عن الحرب، ترجمة سليم شاكر الإمامي، المؤسسة العربية للدار والنشر، الطبعة العربية الأولى، بيروت، 1997، ص 837-839.

3مقتل سليماني: طهران تقول إنها تلقت رسالة من واشنطن تدعوها إلى أن يكون انتقامها متناسبا، فرنس 24 بالعربية، يوم 04/01/2020. https://bit.ly/2N4ISZl

Start typing and press Enter to search