جلبير الأشقر

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [3.68 MB]

من مفارقات التاريخ أن الولايات المتحدة الأمريكية التي كان لها الدور الرئيسي في فرض «حرية التجارة» على العالم أجمع، والتي هي البلد الأكثر تقدما في مجال التكنولوجيا بوجه عام بحيث تتفوّق بالإنتاجية على سائر بلدان العالم في حقول إنتاج عديدة، هذه الولايات المتحدة بعينها بات يرأسها رجلٌ يتبنّى خطابا اقتصاديا قوميا متشنّجا يشبه مذهب المركنتيلية (الإتجارية) الاقتصادي الذي ساد في العصر الرأسمالي الأول السابق لاستشراء التصنيع. هذا الرجل، دونالد ترامب، يتّهم دولا أفقر من بلده بكثير كالمكسيك والصين بأنها تستغلّ الأمريكيين، مستفيدة من حرية التجارة التي فرضها عليها الأمريكيون أنفسهم.

ومثلما يوجد فرقٌ شاسع بين الأيديولوجيا القومية عندما تصدر عن دولة إمبريالية فتكون رجعية اضطهادية، والأيديولوجيا القومية عندما تصدر عن دولة تابعة ومضطهَدة فتكون تحرّرية (إلا إذا كانت موجّهة ضد أقلية مضطهَدة داخل الدولة التابعة)، ثمة فرقٌ شاسع بين الحماية الاقتصادية (أو الحمائية، أي سياسة حماية الإنتاج الوطني من المنافسة الأجنبية بواسطة الرسوم الجمركية وغيرها من الحواجز أمام المنتجات الأجنبية) عندما يمارسها طرفٌ ينتمي إلى دولة مسيطرة في الاقتصاد العالمي، قادرة على فرض مشيئتها على الدول الأفقر والأضعف، وبين الحماية الاقتصادية عندما يمارسها طرفٌ ينتمي إلى دولة «نامية» تبغي التحرّر من التبعية. والحال أن معظم البلدان المسماة بالنامية عاجزة عن تحقيق تنمية متناسقة ومستديمة بسبب طغيان الدول المتفوّقة في التجارة العالمية من خلال كلفة الإنتاج لديها، سواء أكانت دولا إمبريالية متفوّقة تكنولوجيا وصناعيا أم دولا يقوم تفوّقها على توفيرها ليد عاملة رخيصة وتحت الطاعة في ظلّ نظام قمعي.

وبوجه عام، فإن مذهب الحماية الاقتصادية عندما يصدر عن دولة مسيطرة إمبريالية إنما تكون وظيفته تجاه البلدان النامية والتابعة في المجال الاقتصادي وظيفة اضطهادية، بينما تكون وظيفته تحررية عندما يصدر عن دولة تنتمي إلى الصنف الأخير من البلدان. وهذا يندرج في مبدأ أخلاقي عام يفيد بأن حماية الضعيف من القوي موقفٌ تحرّري تقدّمي بينما «حماية» القوي من الضعيف موقف اضطهادي غارق في الرجعية.

الطريق إلى التنمية

في الحقيقة، فإن كافة الدول الغنيّة التي تسيطر اليوم على الاقتصاد العالمي إنما قامت في مرحلة من تاريخها بحماية إنتاجها الوطني، قبل أن تسعى في عصر النيوليبرالية إلى منع البلدان النامية من انتهاج الطريق ذاتها التي انتهجتها هي في طور حاسم من نموّها. وهذا ما شبّهه الاقتصادي الكوري-البريطاني المدرّس في جامعة كامبريدج، ها-جون شانج (Ha-Joon Chang)، بمن استخدم سلّما كي يتعدّى جدارا ثم ألقى بالسلّم بعيدا كي لا يستطيع الآخرون استخدامه واللحاق به (Kicking Away the Ladder).

وقد أسهم شانج إسهاما متميّزا في تعميم نقد الأطروحات النيوليبرالية المعاصرة التي تزعم أن حرّية التجارة هي الإطار الأفضل لتحقيق التنمية، إذ أجرى بحثا مستفيضا في استراتيجيات التنمية التي اتّبعتها الدول الصناعية تاريخيا، مبيّنا أن ما من دولة بين الدول الصناعية الرئيسية التزمت مبدئي “حرّية التجارة” (free trade) و”عدم التدخّل” (laissez-faire) عندما كانت في طور الإقلاع، أي في حالة مرادفة لحالة ما يسمّى اليوم بالبلدان الناشئة.

لا بل كانت بريطانيا ذاتها ومن بعدها الولايات المتحدة بين الدول التي لجأت إلى أقصى إجراءات الحماية والتدخّل الحكومي في تسيير الاقتصاد في طور إقلاعها. والمحصّلة أن البلدان الصناعية جميعها تقريبا لم تكتف بحماية انتاجها القومي بل تدخّلت بكثافة لتشجّع هذا الإنتاج وتدعمه، لا سيما في الصناعات الناشئة، وذلك داخل السوق القومية كما في المنافسة على الأسواق العالمية.

وبالطبع، لا تكتمل المحاجّة بدون تناول ردّ الفكر النيوليبرالي على الذين يبيّنون الحقائق الواردة أعلاه، وهو يزعم أن ما كان ناجعا في أطوار مبكّرة من تاريخ الاقتصاد العالمي الحديث، أي تاريخ الرأسمالية بكلام آخر، لم يعد صالحا في عصرنا. ولا مجال اليوم لتقليد استراتيجيات تنمية جرى اتّباعها في القرن التاسع عشر، بل لا خلاص بغير سلوك طريق النيوليبرالية التي تحدّها حرّية التجارة من جانب وعدم التدخّل من الجانب الآخر. وإنها لحجّة عامة لدى الفكر النيوليبرالي في تبرير كافة وصفاته بأن لا خيار سواها، وقد تمّ تلخيصها بشعار “لا يوجد بديل” (there is no alternative) المعروف بـ”تينا” (TINA) وهي الحروف الأربعة الأولى للعبارة الإنجليزية.

ويشير دعاة النيوليبرالية إلى ما يزعمون أنه فشل حقبة الاستناد إلى الحمائية وتدخّل الدولة، التي تلت الحرب العالمية الثانية واستمرّت حتى نهاية السبعينيات على النطاق العالمي. ومن المعلوم أن الدول الصناعية، وفي طليعتها بريطانيا بعهد رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر وأمريكا بعهد الرئيس رونالد ريجان، اعتنقت بعد تلك الحقبة المذهب النيوليبرالي وانقضّت على المذهبين اللذين كانا سائدين حتى ذلك الحين، ألا وهما المذهب الكينزي (Keynesianism) في البلدان الصناعية، وهو الداعي إلى تدخّل الحكومة في تنظيم الدورة الاقتصادية، ومذهب التنموية (developmentalism) في البلدان النامية، وهو القائم على الجمع بين الحمائية وقيادة الدولة للتنمية الاقتصادية.

فيتّهم دعاة النيوليبرالية السياسات الكينزية والتنموية بأنها أدّت إلى أزمة عالمية في السبعينيات اتّسمت بالتضخّم النقدي في البلدان الصناعية وبالمديونية الثقيلة في البلدان النامية. وقد دخل حينها الاقتصاد الرأسمالي العالمي في مرحلة ركود، مما أثبت في نظرهم فشل النموذجين وضرورة إجراء انعطاف حادّ نحو المذهب النيوليبرالي على النطاق العالمي. وبالطبع تعمّد دعاة النيوليبرالية ألا يأخذوا في الحسبان دور النفقات العسكرية الأمريكية، ولا سيما تلك المتعلقة بحرب فيتنام، في تفجير أزمة النظام النقدي الدولي، وكذلك دور الارتفاع الكبير في أسعار النفط الذي شهدته السبعينيات، والذي أطلقته المقاطعة النفطية العربية التي تقرّرت بمناسبة حرب أكتوبر 1973، دور ذلك الارتفاع الصاروخي في أسعار النفط في مفاقمة أزمتي التضخّم والمديونية. هذا لأنه كان يناسب دعاة النيوليبرالية أولئك أن يصرّوا على أن الأزمة ناجمة عن النموذجين اللذين سعوا وراء القضاء عليهما.

وقد تمكّن الثنائي المؤلف من الولايات المتحدة وبريطانيا من جرّ أوروبا إلى ذلك الانعطاف وإلى استلهام المذهب النيوليبرالي في تحديد سياساته الاقتصادية. كما تمّ فرض المذهب ذاته على البلدان النامية من خلال “إجماع واشنطن” (Washington Consensus)، وهي التسمية التي أُطلقت على الوصفات الاقتصادية المستوحاة من الفكر النيوليبرالي والتي أجمعت عليها المؤسسات الثلاث الأكثر تأثيرا في الاقتصاد العالمي، ألا وهي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية، وكلّها تتخّذ من العاصمة الأمريكية مقرّا لها.

هل نجحت النيوليبرالية؟

اليوم، بعد بداية المنعطف النيوليبرالي بما يناهز أربعين عاما وبما يتعدّى مدّة سيادة الكينزية والتنموية غداة الحرب العالمية الثانية، نقف أمام ما يكفي ويفي من التجربة التاريخية كي نقيّم نتائج الحقبتين ونقارن بينها. والحال أن معدّل النموّ السنوي المتوسط لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي على النطاق العالمي بلغ 3.5% في الستينيات، في عزّ الحقبة الكينزية-التنموية، و2.8% إذا أخذنا الستينيات والسبعينيات معا، أي السنوات بين 1961 و1979، بينما هبط المعدّل المذكور إلى1.6% في عزّ الحقبة النيوليبرالية بين 1990 و2007، قبل الأزمة الكبرى التي عصفت بالاقتصاد العالمي بدءا من سنة 2008 (تمّ حساب الأرقام الواردة أعلاه استنادا إلى بيانات البنك الدولي).

وما نجاح كوريا الجنوبية وتايوان في تحقيق تنمية ناجحة والانتقال من فئة البلدان النامية إلى فئة البلدان الصناعية سوى تأكيد لما سبق، خلافا لانطباع خاطئ ينسب ذلك النجاح للنيوليبرالية، إذ أن البلدين انتهجا سياسات تنموية في الجوهر ولو برعاية أمريكية وشكّلا بذلك استثنائين من نوع الاستثناء الذي يثبت القاعدة. أما سبب رعاية واشنطن لهذين الاستثنائين فهو أن البلدين كانا متراسين أماميين للولايات المتحدة في حربها على الشيوعية في حقبة “الحرب الباردة”، في مواجهة برّ الصين الرئيسي وكوريا الشمالية، شأنهما في ذلك شأن ألمانيا الغربية في مواجهة ألمانيا الشرقية. ولا يمكن فصل “المعجزات الاقتصادية” التي حققتها الدول الثلاث عن دعم واشنطن لتنميتها بسبب دورها الاستراتيجي من الزاوية الجيوسياسية. وفي صدد الصين، لا بدّ من أن نشير أيضا إلى أن جزءا هاما من رقم 1.6% في معدّل النموّ السنوي المتوسط لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي على الصعيد العالمي بين 1990 و2007 يعود فضله إلى وتيرة التنمية المذهلة التي شهدتها جمهورية الصين الشعبية، حيث تلعب الدولة دورا مركزيا طاغيا في تسيير الاقتصاد بما يخدم المصلحة القومية.

هذا وبالرغم من أن أزمة سنة 2008 الكبرى قد فاقت أزمة السبعينيات عمقا وخطورة بكل وضوح، فإنها لم تؤدّ (أو لم تؤدّ بعد) إلى التخلّي عن المذهب النيوليبرالي الذي تسبّب في نشوبها بصورة أكثر جلاء بكثير من جلاء مسؤولية المذهب الكينزي عن أزمة السبعينيات. بل على العكس، فقد انتهز دعاة النيوليبرالية فرصة الأزمة كي يشنّوا هجمة جديدة واسعة النطاق لاستكمال فرض مذهبهم بحجة أن سبب الأزمة كامنٌ في عدم تطبيق الوصفات النيوليبرالية بصورة تامة، وأن الخروج من تلك الأزمة نحو إعادة تسريع وتائر النموّ الاقتصادي إنما يتطلّب مزيدا من الحزم في تطبيق الوصفات ذاتها.

هكذا فبعد أن قامت الدول الغربية بإخماد حريق الأزمة بخرقها للقاعدة النيوليبرالية خرقا عظيم الحجم من خلال تدخّل الحكومات وضخّها السخيّ للأموال العامة من أجل تعويم المؤسسات المالية الخاصة، إلى حد أن مجلة “نيوزويك” الأمريكية أصدرت في عام 2008 عددا حمل على غلافه عنوان “كلّنا اشتراكيون الآن”، سريعا ما تبيّن أن الذين تكهّنوا أو تمنّوا أن أزمة 2008 سوف تقضي على النيوليبرالية مثلما قضت أزمة السبعينيات على الكينزية، إنما كانوا يحلمون.

وهذا يحيلنا إلى حقيقة أساسية هي أن أشكال تنظيم نمط الإنتاج الرأسمالي لا تتبدّل بفعل جدلية فكرية، وكأن الرأسمالية ظاهرة ثقافية، بل تقوم على موازين قوى بين طبقات المجتمع وداخل الطبقة الرأسمالية ذاتها. فقد انفجرت أزمة 2008 في سياقٍ كان لا يزال مطبوعا بميزان للقوى الطبقية مائل بقوة لصالح الرأسمالية، ولا سيما قممها المالية، وهو نتاج العقود الثلاثة السابقة. وقد تحكّم ميزان القوى ذاك بمصائر الأزمة وأفضى إلى تصعيد في الهجمة النيوليبرالية، بالرغم من تناقض ذلك تناقضا صارخا مع الدروس البديهية “الفكرية” للأزمة.

وقد شهدنا في المنطقة العربية مثالا مدهشا عن هذه الحالة في أن المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، لم تستخلص من الانتفاضة الكبرى التي انفجرت في منطقتنا في عام 2011 وما تلاها من نهاية للاستقرار الإقليمي السياسي القمعي الذي ساد طيلة عقود، لم تستخلص تلك المؤسسات سوى ضرورة المضي بحزم مضاعف في بلداننا في تطبيق وصفاتها المستوحاة من المذهب النيوليبرالي. هذا على الرغم من أن الأزمة الاجتماعية-الاقتصادية التي نجم “الربيع العربي” عنها كانت بصورة واضحة وضوح الشمس نتاجَ إخفاق التغييرات الاقتصادية التي جرى إدخالها في بلدان المنطقة خلال العقود السابقة بوحي من المذهب النيوليبرالي ذاته. وتقدّم مصر أسطع مثال عن ذلك حيث بدأت الحكومة المصرية منذ خريف 2016 بتطبيق فجّ لما يسمّى “علاج الصدمة” (shock therapy) تحت إشراف صندوق النقد الدولي، بالرغم من أن كل من يدرك طبيعة الضمور الاقتصادي المصري وأسبابه البنيوية لا بدّ من أن يعلم علما يقينا أن نتيجة “علاج الصدمة” هذا سوف تكون صدمة بلا علاج.

التنمية الرثّة بشكليها

وبعد، لا بدّ من أن نُبقي في بالنا أن التنمية ليست غاية في ذاتها بل سبيلٌ إلى غاية أسمى هي تحسين شروط معيشة المجتمع البشري، أي المجتمع بأسره وليس فئات منه دون سواها. فلا بدّ من التمييز بين تنمية تحقق الغاية المذكورة وأخرى لا تحققها بل تؤدّي إلى تعميق فجوتين، إحداهما بين قطاعات الاقتصاد والثانية بين طبقات وفئات المجتمع. وغالبا ما يُغفَل أن الفكرة الرئيسية التي جاءت بها “نظرية التبعية” (dependency theory) في الستينيات لم تكن أن التبعية السياسية-الاقتصادية تعيق التنمية فحسب، بل أنها، وهذا الأهمّ، تؤدي إلى تنمية مشوّهة وتابعة بنيويا. بكلام آخر، فإن “قصور التنمية” (underdevelopment) -الذي كنّا نسمّيه باللغة العربية “التخلف” (backwardness) بالرغم من أن “قصور التنمية” تعبيرٌ جاء بالأصل ليحلّ محلّ ذاك التعبير الذي له وقع الإهانة- إنما هو حالة تتطوّر في إطار نظام عالمي قائم على تبعية بلدان الأطراف لبلدان المركز.

هذا ما وصفه الاقتصادي الألماني-الأمريكي أندري غوندر فرانك بأنه “نموّ قصور التنمية” “The Development of Underdevelopment”، وهو عنوان مقال شهير له صدر عام 1966. وسوف يبتكر لاحقا الكاتب ذاته تعبيرا اشتهر في وصف ذلك النوع من التنمية، إذ أطلق عليه تسمية “التنمية الرثّة” (Lumpendevelopment) التي تشرف عليها “برجوازية رثّة” (Lumpenbourgeoisie)، وهي تسمية مستوحاة من مفهوم “البروليتاريا الرثّة” (Lumpenproletariat) لدى كارل ماركس.

طبعا، لا يفوت أحدا أن برجوازية البلدان التابعة، خلافا للشرائح الدنيا من البروليتاريا التي كان يمكن وصفها مجازا بأنها رثّة الثوب، تلك البرجوازية ثريّة، بل تحوز أحيانا على ثراء فاحش، وهي أبعد ما تكون عن ارتداء الثياب الرثّة (بغضّ النظر عن الموضة الراهنة في بلدان الغرب في ارتداء ثياب ممزّقة!). غير أن ما قصدت الاستعارة المجازية أن تشير إليه هو أن تلك البرجوازية رديفٌ منحطّ لبرجوازية أقطار المركز الصناعية وأنها تشرف على تنمية مشوّهة، كما أسلفنا الذكر.

هذه المفاهيم تنطبق عادة على التنمية التي تتم في إطار من التبعية الاقتصادية لأقطاب إمبريالية في سياق علاقات رأسمالية. والنتيجة العادية لهذا النمط من التنمية هي من جهة نموّ، بل أحيانا تضخّم القطاعات التي يلبّي نموّها مصلحة الأقطاب الإمبريالية وحاجات السوق الدولية، وفي المقابل قصور، بل أحيانا ضمور قطاعات أخرى تلبّي حاجات السوق المحلّية، وبالأخص حاجات شرائح المجتمع الفقيرة.

بيد أن المنطقة العربية عرفت في تاريخها المعاصر، في العقود الأولى التي تلت الحرب العالمية الثانية، نمطا آخر من التنمية التابعة تميّز بأنه نتج عن تمرّد قومي ورغبة في التحرّر من الهيمنة الإمبريالية الغربية أدّيا إلى البحث عن تنمية تحقق الاستقلال القومي المنشود. إلّا أن الطريق التي تم اختيارها من أجل ذلك لم تكن طريق الاستقلال عن قطبي الهيمنة العالمية، الأمريكي والسوفييتي، على طراز ما اختارته الصين الشعبية، بل طريق الاعتماد على الاتحاد السوفييتي الذي نظر إليه الذين اختاروا الطريق المذكور كنموذج ناجح يُقتدى به.

طبعا، يسهل لنا اليوم رؤية قصور تلك النظرة وتعاميها عن حدود وتناقضات النمط البيروقراطي التي سوف تؤدّي إلى انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول التابعة له في نهاية الثمانينيات. لكنّ الإنصاف يقتضي منّا أن نقرّ بأن الاتحاد السوفييتي كان يبدو في الخمسينيات والستينيات كدولة حققت هي الأخرى “معجزة اقتصادية” بنهوضها من دمار الحرب العالمية الثانية وصعودها السريع إلى مرتبة القوة العظمى التي تقف في وجه الإمبريالية الأمريكية. كما لا بدّ من أن نتذكّر أن خطاب موسكو كان في ذلك الحين خطابا محرّضا بشدّة على التحرّر القومي من الاستعمار والإمبريالية، بما يتناغم تماما مع تطلّعات حركات التحرّر القومي في بلدان “العالم الثالث”. وهذا ما يفسّر كون غالبية دول “عدم الانحياز” (التي كانت مصر الناصرية من أبرزها) قد انحازت في الواقع إلى الاتحاد السوفييتي ضد المعسكر الغربي.

بيد أن التمثّل بالنموذج السوفييتي من قِبَل حكّام الدول العربية التي ساد فيها التيّار القومي لم يكن بسبب إعجابهم بإنجازات الاتحاد السوفييتي الاقتصادية والعسكرية فحسب، بل أيضا وإلى حدّ بعيد بسبب تمثّلهم بالنموذج السوفييتي للحكم. وهو نموذج دكتاتوري بيروقراطي ومخابراتي كان – بالرغم من قيامه على أساس “الشيوعية”، أي على أساس تميّز بإزالة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الاجتماعية – نموذجا تناسب تماما مع الطموحات السلطوية لأنظمة نتجت عن انقلابات عسكرية واتجهت نحو فرض أحكام عسكرية مخابراتية ممزوجة بدكتاتورية الحزب الواحد على الطراز السوفييتي (وتجدر الإشارة إلى أنها سمات اشترك بها النموذج السوفييتي مع النموذج الفاشيستي الذي أرساها في سياق رأسمالي، لكنّه اندحر خلال الحرب العالمية الثانية).

وقد نجم عن اقتداء الأنظمة العربية القومية بالنموذج السوفييتي واتّكالها على موسكو في إرشاد تنميتها الاقتصادية ومساعدتها عليها، أنها أفرزت تنمية مشوّهة أو “رثّة” من نوع آخر، أعادت إنتاج كافة مساوئ النموذج البيروقراطي السوفييتي. جاء ذلك في إطار اقتصاد ساد فيه القطاع العام من خلال التأميمات واستثمارات الدولة، لكنّه سمح بدرجة أعلى من الفساد وبسرعة أكبر في الانحطاط من خلال تركه المجال مفتوحا أمام البيروقراطيين للتراكم الرأسمالي الخاص والتحوّل البرجوازي.

هكذا أفرزت التنمية المشوّهة في ظلّ الأنظمة القومية العربية وتحت إشراف الاتحاد السوفييتي بيروقراطية برجوازية “رثّة” مقارنة ببيروقراطية المركز السوفييتي. وما لبثت تلك البيروقراطية “الرثّة” أن طمحت إلى التخلّص من النموذج السوفييتي واستبداله بالنموذج الغربي المتمحور حول القطاع الخاص، مع استبدال التبعية لموسكو بالتبعية لواشنطن، بما يسمح لها باستكمال تحوّلها الرأسمالي في سياقٍ لم يكن ممكنا أن يفضي إلى غير رأسمالية المحاسيب. وهو ما تحقّق عبر “الانفتاح” الذي دشنّه أنور السادات على أنقاض الناصرية في مصر وقلّده سائر الأنظمة القومية العربية بتحوّلها إلى ذلك المزيج بين البيروقراطية “الرثّة” ورأسمالية المحاسيب الشائع في المنطقة العربية.

التنمية المتناسقة والسيادة بمعنييها

مما سبق نستخلص درسين أساسيين. الأول أن لا تنمية متناسقة بلا سيادة وطنية، إذ أن التنمية المتناسقة لا بدّ لها من تدعيم السيادة الوطنية من خلال تطوير متناسق للقدرات الاقتصادية للدولة النامية، الأمر الذي يستحيل بدون القضاء على تبعيتها، أي على ارتهانها غير المتكافئ بدول أخرى أكثر تطوّرا. والغاية هي أن يحلّ محلّ ذلك الارتهان التبعي ارتهانٌ متبادل ومتكافئ هو السمة الطبيعية للعلاقات الاقتصادية بين الدول الصناعية.

والحال أن شرط مثل هذه التنمية هو القطيعة مع الإطار النيوليبرالي القائم على حرية التجارة وأولوية القطاع الخاص. فإن تجارب التنمية الناجحة لدول حصل نموّها في ظروف سيادة دول أخرى على السوق العالمية في زمننا المعاصر، شأنها في ذلك شأن الدول التي كانت الأولى تاريخيا في تحقيق التصنيع بحيث أتيح لها الانتساب إلى مركز النظام الرأسمالي العالمي، تلك التجارب جميعا إنما استندت إلى حماية انتاجها الوطني ودور مركزي للدولة والقطاع العام في رعايته ودفع تنميتها، بخلاف العقيدة النيوليبرالية الداعية إلى تقليص دور الدولة إلى حدّه الأدنى والتعويل على القطاع الخاص وحده في ظروف من الحرّيات الاقتصادية غير المقيّدة.

بيد أن التنمية المتناسقة لا تصبو إلى “الاكتفاء الذاتي” والانعزال، بل إلى التكافؤ، كما سلف الذكر. وقد كانت لتجارب الانعزال عن السوق العالمية، سواء أكانت تجارب اختيارية أم قسرية، كلفة عظيمة أدّت إلى تنمية غير متناسقة وفاشلة بصورة حادّة في نهاية المطاف. وهذا ما يتهدّد أيضا الصيغ القصوى مما يسمّى “ما بعد التنموية” التي ترفض النموذج الصناعي واصفة إياه بالغربي على غرار الصيغ القصوى من الفكر “ما بعد الكولونيالي” التي تنبذ العلوم الاجتماعية بحجة أنها غربية. فإن الموقف الداعي إلى الانكفاء على الذات والاستناد بصورة أساسية إلى أساليب الإنتاج التقليدية إنما هو موقف رومانسي طوباوي يحيل في الواقع إلى طوبى رجعية بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ تريد الرجوع بالمجتمع إلى الوراء وتبرّر دعوتها بتصوير أسطوري الماضي.

بيد أن ما هو أهم بكثير من تلك النظريات، وقد بات اعتبارا لا بدّ من أن يحتلّ مكانة أساسية في أي مشروع تنموي، إنما هو الاعتبار البيئوي. ويواجه العالم اليوم حالة كارثية بسبب التجاهل الكامل لهذا الاعتبار، سواء من قِبَل الاقتصادات الرأسمالية أو من قِبَل الاقتصادات البيروقراطية. ولم يتعمّم الوعي بخطورة الكارثة المحدقة بالجنس البشري سوى بصورة متأخرة إلى حدّ أن جلّ ما يمكن التطلّع إليه الآن هو الحدّ من الأضرار، ولا يمكن الحلم بإزالة الأضرار كليا والعودة إلى الحالة التي كانت الكرة الأرضية عليها قبل الثورة الصناعية. ويلتقي هنا مفهوم التنمية المتناسقة مع مفهوم التنمية المستديمة الذي غدا ركنا أساسيا من أركان المفهوم الأول، بمعنى أن أحد أهم شروط التناسق في التنمية إنما هو حفاظها على الثروة البيئية وضمان ديمومتها بالتالي.

أما الدرس الثاني الذي ينبع من كل ما سبق، بما في ذلك مناقشتنا للدرس الأول أعلاه، فهو أن للتنمية المتناسقة شرطا لا غنى عنه على الإطلاق وهو يتعلّق بالمعنى الآخر للسيادة. فإن المفهوم السياسي للسيادة لا يقتصر على السيادة الوطنية، أي سيادة الدولة إزاء الدول الأخرى في المجتمع الدولي، بل يتعلّق أيضا بالسيادة داخل الدولة ذاتها. وهو المعنى الأقدم للسيادة الذي أشار إلى سلطة سيّد المجتمع، وقد كان إمارة فردية في معظم الحالات التي عرفها التاريخ البشري. ومع العصر الحديث انتصرت فكرة الديمقراطية وما اقترن بها من مطالبة بسيادة الشعب في الدولة.

وقد التفّت الأقليات الميسورة على تلك المطالبة من خلال حصر السيادة الشعبية بعملية انتخابية تجري كل بضع سنوات ويلعب فيها المال دورا رئيسيا، هي نموذج الديمقراطية الانتخابية التمثيلية التي يتصرّف الممثّل بموجبها كما يطيب له وهو حرّ من أي تفويض ملزِم. وبالتوازي مع ذلك النموذج، تطوّر نقده الجذري وجرت صياغة نموذج بديل هو الذي يُطلق عليه اسم الديمقراطية المباشرة. وتقوم هذه الأخيرة على رقابة دائمة يمارسها الناخبون، أي الشعب، على الحكم وعلى النوّاب المنتخَبين مع الاحتفاظ بصورة دائمة على القدرة على تبديل أي نائب يخون التفويض الموكل إليه وفي أي وقت. ويتكامل مفهوم الديمقراطية المباشرة هذا مع مبدأ الرقابة الجماعية على كافة مواقع السلطة داخل المجتمع، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية.

والحال أن كافة نماذج التنمية التي شهدها التاريخ حتى الآن، الرأسمالية منها كما البيروقراطية، تشير إلى خلاصة واحدة، هي ضرورة اعتماد الديمقراطية المباشرة في تسيير الدولة والاقتصاد. وبينما انهار النموذج البيروقراطي بسبب تناقضه المطلق مع تلك الضرورة، سعت الرأسمالية إلى احتواء صعود المطالبة بالديمقراطية المباشرة من خلال فسح المجال أمام صيغ من رقابة “المواطن” تتم غالبيتها عبر “منظمات غير حكومية” لا تجد النيوليبرالية صعوبة في استيعابها بتصويرها لدور “المجتمع المدني” كرديف سياسي لدور السوق في المجال الاقتصادي. غير أن الحيلة لم تنطلِ طويلا وقد رأينا في السنوات الأخيرة تصاعدا ملحوظا للمطالبة بديمقراطية مختلفة جذريا عن تلك التي تشكّل المصلحة الرأسمالية سقفها.

فإن التنمية المتناسقة تقتضي سيادة شعبية حقيقية بشكل الديمقراطية المباشرة والرقابة القاعدية على الدولة والانتاج. ولا بدّ للأغلبية الشعبية من أن تُشرف مباشرة على التنمية بحيث تضمن تلبية هذه التنمية لحاجات عموم الشعب واحترامها لشروط الحفاظ على البيئة. فضلا عن ذلك، تحتاج التنمية المتناسقة إلى تخفيض تكاليف نشاطات الدولة غير المنتجة، وفي طليعتها النشاطات القمعية وكافة أشكال التبذير البيروقراطي. ولا يكتمل هذا الشرط بغير ديمقراطية قاعدية حقيقية هي الطريق الوحيد إلى تنمية تسير بالإنسانية إلى مستقبل مشرق بدل السير بها إلى الظلام والهلاك.

مراجع

  1. جلبير الأشقر، الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية، ترجمة عمر الشافعي، بيروت: دار الساقي، 2013
  2. Ha-Joon Chang, Kicking Away the Ladder: Development Strategy in Historical Perspective, London: Anthem Press, 2003
  3. Andre Gunder Frank, “The Development of Underdevelopment”, Monthly Review (New York), Vol. 18, No. 4: September 1966, pp. 17-31
  4. Andre Gunder Frank, Lumpenbourgeoisie and Lumpendevelopment: Dependency, Class and Politics in Latin America, New York: Monthly Review Press, 1970.
  5. Claudio Katz, “Considerations on Postdevelopmentalism in Latin America”, International Socialist Review (Chicago), Issue #97, Summer 2015, pp. 36-52.

Start typing and press Enter to search