اللبنات الأولى لاقتصاد بديل
وائل جمال

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [887.33 KB]

لم تكن المنطقة العربية استثناء فيما يتعلق بخطاب النيوليبرالية العالمي الكلاسيكي، الذي يقوم على الدفع بفكرة أنه لا يوجد بديل آخر. فلقد تم تقديم هذا الخطاب المتكامل مرة تلو المرة، حتى بعد أن تلقت هذه السياسات ضربة مباشرة بانتفاضات وثورات عام 2011. وبرغم انتكاس الثورات العربية وإعادة الإنتاج العميقة والعنيفة للنيوليبرالية، بعد توقفها البسيط، فإن طرح البدائل سواء في نطاق السياسات البديلة، أم في إطار اقتصاد بديل، تظل قضية ملحة بفعل فشل النيوليبرالية المتواصل من ناحية واستمرار أزمة الحكم المركبة من ناحية أخرى. ويجري ذلك كله على خلفية نقاش عالمي متصاعد بخصوص النظام الاقتصادي والسياسي الذي يمكن أن يعقب الرأسمالية.

في مواجهة كل من دافعوا عن ضرورة التخلي عن النموذج الفكري والسياسي الحاكم للسياسات النيوليبرالية في العالم العربي، تم توجيه انتقادين متضادين، وذلك بحسب الحاجة، وبحسب الموقف والتوقيت. فجاء الانتقاد الرئيسي للرؤى الكلية، المكتسية بتصورات عامة عن بوصلة جديدة لتوجهات السياسة الاقتصادية، هو أن ما يتم تقديمه هو رؤى نظرية عامة، يصعب تحويلها إلى خطط عملية ومشاريع محددة، لتوصم بالشعبوية السياسية واجتداء الرضاء الشعبي، ناهينا عن عدم الانضباط الفني. في حين أنه في مواجهة الخطط العملية المحددة والمطالب الملموسة، التي قدمتها الحركات النقابية والاجتماعية، وبرامج أحزاب ومرشحين رئاسيين، جاءت الانتقادات من منطقة الافتقار للإطار الجامع والمشروع العام المغايرين، اللذين يضعان في اعتبارهما خططا بعيدة المدى والسياقات الإقليمية والعالمية.

ولقد تنوعت مقترحات ومشروعات السياسات البديلة المقدمة من أسفل بامتداد العالم العربي، وحتى قبل اندلاع الثورات العربية، بين تجارب تعاونية وفي الإدارة الذاتية، وخطط بديلة مصاغة من أصحاب الشأن في قطاعات كالصحة والتعليم والنقل العام وفي إدارة الموارد العامة والدفاع عن البيئة، وحملات للمطالبة بالإصلاح الضريبي أو لإعادة تنظيم قوانين مجابهة الفساد وغيرها[1]. لكن جهدا موازيا لم يتم بالقدر المنشود على مستوى تأسيس تصور عام عن اقتصاد بديل، ينطلق من هذه التجارب ويبني عليها ويُنَظِّر لها.

مفارقة الثنائيات السائدة

في أغسطس 2015، كتبت مجلة الإيكونوميست البريطانية المحافظة، تحت عنوان: “ما البديل؟[2]” عرضا لكتاب جون بلندر: الرأسمالية: المال والأخلاق والأسواق[3]. تعترف المجلة بافتقار الرأسمالية للأنصار، بينما تتوالى الاحتجاجات عليها من تحالف يتسع من البابا فرانسيس إلى حركة احتلوا وول ستريت، بالإضافة إلى القلق المتزايد فيما يخص اللا مساواة التي تتفاقم عبر النظام الرأسمالي برمته. وتنقل المجلة عن بلندر وكتابه أن الرأسمالية قد تتعرض لأزمة أخرى لكنها قادرة على التكيف والتواؤم، مصدرةً عرضها بجملة تقول إن “الرأسمالية لا تتسم بالكمال، لكنها أفضل من الأنظمة الأخرى”، وهي جملة تقع تماما في قلب خطاب “لا يوجد بديل آخر”، الذي يشكل مرتكزا أساسيا راسخا للنيوليبرالية وأنصارها.

 لكن خطاب “لا يوجد بديل آخر” يتسع ليقوم على أسس مركزية أخرى على رأسها ثنائيات: التكنوقراطي في مواجهة السياسي الأيديولوجي، والبراجماتي العملي في مواجهة المثالي الطوباوي، والدولة في مواجهة الشركات.

يصف الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستجلتز الثنائية الأولى قائلا إنه “عادة ما يتم تقديم النصح للدول النامية، أو يتم توجيهها، كي تتبنى إصلاحات يوصي بها “خبراء” يطلق عليهم اسم تكنوقراط مدعومين في العادة من قبل صندوق النقد الدولي، بينما عادة ما توصف المعارضة لهذه السياسات بأنها شعبوية”[4]. ومصطلح التكنوقراط ذاته صيغ في بدايات القرن العشرين للإشارة إلى حكم الخبراء.

 ينزع هذا التصور من السياسة الاقتصادية انحيازاتها الاجتماعية مصورا إياها على أنها قرار تقني محض محايد بشكل كامل بينما يتضمن اتهاما مضمرا ومعلنا لكل سياسة أخرى مغايرة بأنها نابعة من انحياز أيديولوجي “غير علمي”.

“يمكن للتكنوقراط بالفعل أن يجعلوا محطة كهرباء تعمل بشكل أفضل، لإنتاج الكهرباء بأقل سعر ممكن. فهذا في معظمه أمر يتعلق بالهندسة، وليس السياسة. أما السياسات الاقتصادية فهي في العادة ليست تكنوقراطية بهذا المعنى”[5]. يشير ستجلتز إلى أن كل سياسة اقتصادية تتضمن آثارا متضادة ومبادلات بين ما هو سلبي وما هو إيجابي، ومستفيدين ومتضررين. “فهناك سياسات ترفع التضخم لكنها تقلل البطالة، سياسات تساعد المستثمرين وأخرى العمال. ويسمي الاقتصاديون السياسات التي لا يمكن أن يتحسن بسببها حال البعض دون أن يسوء حال البعض الآخر بأنها “الوضع الأمثل لباريتو، بينما لو هناك سياسة واحدة أفضل من غيرها كله بالنسبة للجميع فتسمى الوضع المسيطر لباريتو. ولو أن كل الاختيارات بين السياسات كانت محض باريتية، أي لو أنه لا يسوء وضع أحد بسبب اختيار سياسة دون الأخر، لكانت كل اختيارات السياسات بحق محض فنية”[6].

ولا يقلل هذا التصور/الركيزة فقط من كفاءة السياسة الاقتصادية، باستبعاد بدائل من نطاق اقتراحات السياسة الاقتصادية، لكنه أيضا يوطد، وبشكل مستمر، مواقع ومصالح فئات بعينها على حساب أخرى. ففيما يتعلق مثلا بخطاب التنمية النيوليبرالي السائد بخصوص الفقر، والذي يعزوه إلى نقص في الخبرات والمعارف، فإن التعامل مع قضية الفقر على أنها قضية فنية “يضفي شرعية وسلطات إضافية على الدولة، أو الجهة، التي تنفذ هذه السياسات «الفنية»”[7].

بل إن ويليام إيسترلي يقرن هذا الخطاب الفني بما يسميه “التنمية الاستبدادية”. “ما كان الحق الإلهي للملوك في السابق صار الحق التنموي للمستبدين والديكتاتوريات. الرؤية الضمنية للتنمية اليوم تتعلق بسلطويين ذوي نوايا طيبة يقدم لهم النصح خبراء فنيون”[8].

وتصاحب هذه الثنائية دوما ثنائية البراجماتي/العملي/الواقعي في مواجهة سياسات مثالية طوباوية غير عملية، غير قابلة للتنفيذ على الأرض. تضع النيوليبرالية في الطرف الأول مقدمة نفسها على أنها البديل الوحيد القابل للتنفيذ والتطويع وفقا لشروط الواقع، بما أنها محض فنية وخالية من الأيديولوجيا. “على مدى الثلاثين عاما الماضية نجحت الواقعية الرأسمالية في ترسيخ أنطولوجيا أعمال “بزنس”، من خلالها يتضح أن كل شيء في المجتمع بما فيه التعليم والصحة يجب أن يدار كبزنس”[9].

وهكذا فإن الواقعية الرأسمالية، في صيغتها النيوليبرالية، كأيديولوجية الرأسمالية المسيطرة حاليا، هي مناخ يشمل بأثره أوسع نطاق اجتماعي ممكن، ويلغي في الوقت ذاته كل بديل كسياسة غير واقعية. مناخ “لا يشكل فقط إنتاج الفكر والثقافة ولكن أيضا تنظيم العمل والتعليم ويعمل كنوع من الحاجز الذي يعوق الفكر والحركة”[10]. وبالطبع تتجاهل الواقعية النيوليبرالية حقيقة أن ما قامت به هي ذاتها من إعادة تشكيل للعالم كانت فكرة لا تخطر على بال. فمن كان يتخيل في الستينيات مثلا أن تحدث موجات الخصخصة العالمية لكافة مناحي الإنتاج والحياة على مدى العقود الماضية؟

ومن الهام هنا الإشارة إلى أن هذا المناخ والنسق يخلقان شروطا سياسية وعملية معوقة لخلق البدائل وحريصة على نزع فتيلها أولا بأول. بل إن هذه الواقعية تنزع لتبرير كل المشاكل الاجتماعية كما يلاحظ الفيلسوف الفرنسي آلان باديو:

“قادتنا وناشري الدعاية على علم تام بأن الرأسمالية الليبرالية، هو نظام غير منصف، وظالم، وغير مقبول للغالبية العظمى من البشرية. كما يعلمون أيضا أن ديمقراطيتنا هي مجرد وهم: أين قوة الشعب؟ أين هي السلطة السياسية لفلاحي العالم الثالث، وللطبقة العاملة الأوروبية، وللفقراء في كل مكان؟ نحن نعيش في تناقض: واقع وحشي، لا مساواتي بشكل كبير-حيث يتم تقييم كل الوجود على أساس المال فقط، وتقديم ذلك كله على أنه المثال. ولتبرير محافظتهم، فإن أنصار النظام القائم لا يمكنهم اعتبار هذه الحالة مثالية أو شيئا رائعا. لذا بدلا من ذلك، فقد قرروا أن يقولوا إن كل الباقي مروع.[11]

ويضرب العمل الذي قامت به إلينور أوستروم، عالمة الاقتصاد السياسي الأمريكية الحاصلة على جائزة نوبل في 2009، مثالا على الواقعية الإمبريقية لبديل المشاعات، الذي لا يمكن تخيل قبول النيوليبرالية به كنموذج للتنظيم الاقتصادي الواسع. فقد درست أوستروم المشاعات التي استمرت في بعض الحالات آلاف السنين، وهو الأمر الذي يقوم في حد ذاته دليلا على تهافت حجة الاقتصاديين السائدة بأن المشاعات مصيرها إلى زوال. بل ونظرت أولستروم في المشاعات التي فشلت باستخدام تقنيات معقدة في العلوم الاجتماعية، وطورت بعض الأفكار الأساسية على المستوى المايكرو (الجزئي)، لما جعل المشاعات وحدات ذات كفاءة[12].

أما الثنائية الثالثة المكونة لخطاب “لا يوجد بديل آخر” فهي حصر كل اختيار اقتصادي بين عالم الشركات الكبرى ذاك، الوحيد الواقعي المفارق للشرور الكبرى، وبين دولة استبدادية شمولية تسيطر على الاقتصاد عبر قطاع عام بيروقراطي، وقد كشفت التجربة التاريخية فشلها وانحطاطها. وهكذا فمن حيث المبدأ، يستبعد الخطاب أي وجود لأي أشكال مفارقة لهاتين الصورتين للتنظيم الاقتصادي الاجتماعي السياسي كالتعاونيات والإدارة الذاتية والملكية العامة الخاضعة للرقابة الشعبية والمشاعات.. إلخ.

بل إن هذه الثنائية تضيق نطاق البديل الخاص لسوق لا تحتمل، على الأقل حين تستطيع أو حين لا تستوجبها براجماتيتها أو إنذارات الانهيار، كما حدث من تأميمات في أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2008، حتى تنظيم الأسواق، ناهيك عن رأسمالية الدولة.

الأزمة واستجاباتها: الخطة «ب»

هزت الأزمة العالمية في 2007-2008 بتوابعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عالميا كل تلك الثنائيات. وانقسمت ردود الفعل العامة إلى ثلاثة بحسب ماسيمو دي آنجليس، أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة شرق لندن ومؤسس الجريدة الإلكترونية “المشاعي”، إلى ثلاث خطط عمل: الخطة «أ» كخطة للنظام الرأسمالي تهدف إلى تطوير أشد قوى رأس المال تدميرا بتجريم كل لحظات إعادة التوزيع “متناسية أن ذلك يحدث طيلة الوقت لصالح الأغنياء”[13]، ويحذر دي آنجليس من أنه لو كانت المقاومة غير كافية فإن هذه الخطة ستعني التقدم للقضاء على الحقوق الباقية، ماسحة القيود القانونية البيئية لتقليص تكاليف رأس المال. من ناحية أخرى، دفعت الأزمة جزءا من الطبقات الحاكمة للتفكير في خطة «ب»، تقترح أن تقوم الدولة بقدر من إعادة التوزيع للتعامل مع التفاوتات الاجتماعية واللا مساواة المتفاقمة، وإخضاع البنوك والقطاع المالي لقدر من التنظيم والتشريع، مع تبني سياسات أفضل للتعامل مع التغير المناخي…إلخ. “هذه الخطة لن تنجح ما لم يسبقها (كما حدث آخر مرة) أزمة اقتصادية ودمار ومذبحة واسعة النطاق (لا تختلف إن لم تفوق الحرب العالمية الثانية) كي تسمح بعودة معدلات الربح لمستوى عال بما يكفي الرأسماليين كي يعيدوا الاستثمار”[14]. وهكذا يدعو دي آنجليس لضرورة البحث عن خطة العمل البديلة «ج».

ولقد عكست الأزمة نفسها في ظهور أفكار اقتصادية جديدة من تيارات عدة. انحصر بعضها في التركيز في محاولة تطوير سياسات بديلة لتلك القائمة في إطار الاقتصاد السائد، أو تغيير بعض منطلقاته في إطار الاقتصاد الرأسمالي إلى محاولة تطوير أطر لاقتصاد بديل بالكامل.

أحد التقسيمات لما أثارته الأزمة في الفكر الاقتصادي يشير إلى ثلاثة تيارات رئيسية تندرج تحت مسمى “علم اقتصاد جذري”[15] بحسب جين هاردي بجامعة هيرتفوردشاير البريطانية. “الاقتصاديات الجذرية مصطلح عام واسع يتضمن من هم نقديون لطرق ووصفات الاقتصاد النيوكلاسيكي السائد، وهي المدرسة الاقتصادية التي تهيمن على التدريس في الجامعات وتوفر النظرية والتبرير للنيوليبرالية وتؤازر سياسات المؤسسات المالية الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين”[16].

أول هذه التيارات يمثلهم الاقتصاديون الرفيعو المكانة في الولايات المتحدة كبول كروجمان وجوزيف ستجلتز. ويوجه هؤلاء انتقاداتهم لأنصار بوصلة عجز الموازنة وانسحاب الدولة مخافة الدين العام مركزين على تحسين الطلب مما يجعل اقتصاديا كجيمس جالبريث يسميهم بالتجسد الإلهي الجديد لجون ماينارد كينز.

التيار الثاني وفقا لهاردي، هو تيار انتقائي في نقده للأزمة والكساد ويمثله روبرت شيللر الاقتصاد السلوكي الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد عام 2013، وهو تيار يعطي للعوامل الثقافية والنفسية وزنا كبيرا في الطريقة التي تعمل بها الأسواق منتقدا نظريات كفاءة الأسواق.

أما التيار الثالث فهو امتداد لما بعد الكينزيين الكبار كجون روبنسون، ويضم اقتصاديين كفيليب أريستيس وجان توبوروفسكي في بريطانيا، واللذين وسعا نظريات كينز لتشمل اللامساواة وتسييد القطاع المالي (الأمولة)[17]، بناء على إطار نظري يرى في الرأسمالية نظاما مأزوما غير مستقر بطبيعته لكنه قابل للإنقاذ.

يمكن بشكل واضح تسكين هذه التيارات في إطار خطة العمل «ب»، بحسب تصنيف ماسيمو دي آنجليس. هذه التيارات، تقدم سياسات تفصيلية هنا وهناك للتعامل مع قضايا اللا مساواة واستمرارية النمو وتحفيزه وضبط الأسواق كي تعمل بطريقة أكثر كفاءة إلى جانب استعادة دور غيبته النيوليبرالية للدولة في الاقتصاد.

وتذهب هذه التيارات أحيانا بعيدا من وجهة نظر الأيديولوجية النيوليبرالية في اقتراح بعض السياسات البديلة، التي تبدو جذرية وصعبة المنال بشدة في السياق السياسي وتوازن القوى السائد كالدخل النقدي العام غير المشروط لكل المواطنين (Universal Basic Income) أو فرض ضرائب على الثروة، أو محاولة تنظيم ومكافحة الملاذات الضريبية، إلخ. ويدفع هذا دي آنجليس للتأكيد على أنه قدرة هذه التيارات على التأثير سيظل قاصرا لأن هذه الإصلاحات أو السياسات التفصيلية البديلة للسياسات التفصيلية النيوليبرالية تقتضي درجة من المواجهة مع نظام الهيمنة الطبقي والسياسي المسيطر وهي مواجهة تقتضي وجود أطر بديلة متكاملة.

الاقتصاد البديل بين الكلي والجزئي

لم تقتصر المراجعات وعملية البحث عن اقتصاد بديل على الاقتصاديين، بل إن أهم أطر الاقتصاد البديل العامة التي تم تقديمها في السنوات الأخيرة كمحاولة لاستبدال النيوليبرالية أو تجاوز الرأسمالية استلهمت واستفادت من تحركات على الأرض قام بها منتجون ومستهلكون. مثلا، بعد ثلاثة عقود شهدت إعادة هيكلة نيو ليبرالية عميقة للخدمات العامة في إطار خصخصتها وتوجيهها من منطلقات التراكم الرأسمالي والربح، بزغت تحركات عالمية قاعدية محلية تستعيد الخدمات العامة من يد القطاع الخاص في المياه والطاقة والرعاية الصحية. يرصد كتاب “التحول للعام في عالم مخصخص”[18] من تحرير ديفيد ماكدونالد، هذه الحركة العالمية وبعض تجلياتها في جميع أركان الأرض.

وتتضمن المعايير الأساسية التي استخلصها ماكدونالد من هذا الرصد الذي يشمل معارك بدائل مياه الشرب في كولومبيا، وتجارب جامعي القمامة في البرازيل والهند، والصحة العامة للسكان الأصليين في جواتيمالا، وحتى استعادة بنوك في تركيا وتجارب استعادة خدمات محلية للنطاق العام في بعض مدن ومحليات الولايات المتحدة معايير جديدة لتقييم الخدمات العامة تتضمن الحق الشامل في الحصول والوصول للخدمة العامة، السعر والجودة، والمساواة، والتضامن والكفاءة، والمحاسبة والمشاركة، والجوانب البيئية. وهي معايير جديرة بالمقارنة بالمعايير النيوليبرالية التي تدعي التركيز على الكفاءة في مواجهة عجز الدولة المالي والإداري لكنها تنتج في معظم الحالات إقصاءً واستبعادا للفئات الأفقر وارتفاعا في الأسعار وتدهورا في الخدمة وتعميقا للا مساواة بإخضاع الخدمة العامة لاعتبارات تراكم وأرباح الشركات الكبرى.

ولم تقتصر حركات المقاومة القاعدية على الاستعادة للعام، بل اتسعت لبزوغ تجارب تعاونية وفي الإدارة الذاتية للمرافق وللمصانع من قبل المنتجين، بل وتقديم تصورات وخطط نقابية بديلة لإدارة السياسات العامة والمراقبة على الموازنات وتخطيطها، وكل هذه الأشكال وجدت طريقها على الأرض في المنطقة العربية في أعقاب ثورات 2011، من مصر لتونس للمغرب والجزائر وغيرها بينما شهدت بعض دول الشمال الأفريقي حركات نضالية في قضايا العدالة المناخية تطرح على جدول الأعمال قضية ديمقراطية إدارة الموارد العامة[19]. وتشير هذه التجارب العربية للتشابك بين النضالات العالمية القاعدية في مواجهة النيوليبرالية من ناحية، وإلى بعض القواعد العامة التي يمكن استلهامها من هذه النضالات والتي تشكل الأساس لمدارس الاقتصاد البديل المختلفة.

وهكذا نجد أن محاولات صياغة الخطة «ج» على حد تعبير ماسيمو دي آنجليس قد بنت نفسها وقامت دوما من قلب تجارب مقاومة فعلية على الأرض، أحيانا لتصيغ استراتيجيات وأطر اقتصادية بديلة جزئية (مايكرو) وأحيانا أخرى كلية بمحاولة صياغة اقتصاد كلي بديل يتجاوز الرأسمالية (ماكرو).

ولم تخالف حركة مناهضة العولمة الرأسمالية (التي سماها البعض حركة مناهضة الرأسمالية) منذ 1999 وبدايات العقد الأول من الألفية الثالثة القاعدة. فكانت ملهما رئيسيا لبعض تيارات الاقتصاد البديل (ولم تعف من تأثيرها في الحقيقة أمثال كروجمان وستجلتز)، التي قامت على انتقاد مؤسسات التمويل الدولية، وعلى رأسها ثلاثي البنك الدولي والصندوق ومنظمة التجارة العالمية من ناحية وتدعو لإسقاط ديون العالم الثالث وإعادة صياغة النظام الاقتصادي العالمي، وأخرى تنتقد هيمنة الشركات الكبرى على السياسة الاقتصادية من ناحية أخرى وتحذر من توابع استمرار برنامج النيوليبرالية العالمية من خصخصة وغيرها.

لكن استمرار البرنامج وتعمقه والمقاومة له دفعت جميعها لظهور أو بروز تيارات متنوعة كانت موجودة قبلا، منها المناهضون للشركاتية، والبدائل الخضراء للعولمة المحذرة من حدود النمو الاقتصادي، وتطويرات متعددة للاقتصاديات الماركسية سواء من خلال تطوير نظرية الإمبريالية أم نظرية الأزمة الرأسمالية، بالإضافة للبدائل الاشتراكية البيئية والاقتصاديات النسوية، وبالطبع المشاعية واقتصاد المشاركة (الباريكون) واشتراكية الطوباوية الواقعية[20].

أهداف ومبادئ الاقتصاد البديل

“يقدم الباريكون منطقا اقتصاديا جديدا يشمل مؤسسات ذات معايير مرشدة وآثارا جديدة، إلا أن الباريكون محصلة طبيعية لمئات السنين من الكفاح من أجل العدالة الاقتصادية وكذلك الجهود المعاصرة بحكمتها ودروسها المتراكمة، وسوف يكشف اللثام عما يمكن للباريكون المساهمة به تجاه هذا الميراث وما يجري حاليا من نشاط بطريقة أو بأخرى خلال السنوات المقبلة”[21]، هكذا يلخص مايكل ألبرت، وهو من أهم منظري الباريكون، الوضع الديناميكي التاريخي غير المغلق الذي يسم تيارات الاقتصاد البديل ويجمع بينها، والعلاقة الجدلية بينها وبين نضالات المنتجين والمستهلكين على الأرض.

الباريكون هو نظام اقتصادي يقوم على ملكية مشتركة لوسائل الإنتاج، وعملية صنع قرار تشاركية تعمل كآلية اقتصادية أساسية لتخصيص عناصر الإنتاج وتوجيه الإنتاج والاستهلاك في المجتمع من خلال مشاركة كل الأشخاص في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم كبديل للسوق والتخطيط المركزي للدولة على حد سواء. أما اشتراكية الطوباوية الواقعية فتقوم على مزيج من العمل من أجل إصلاحات تحسينية لكنها من النوع الذي يتجاوز عيوب النظام القائم ومؤسساته وسياساته لكنها لا تتوقف عند التحسين وإنما تصور مخططا لعالم اجتماعي مغير، وهو ما يسميه إريك أولين رايت بالطوباوية الواقعية، أو الاشتراكية الاجتماعية، والتي يعرفها بأنها برنامج سياسي ملتزم بالرفاه الواسع للمجتمع بدلا من مصالح ضيقة لنخب محددة.

ولا تخالف اشتراكية الطوباوية الواقعية الباريكون في أشكال الملكية التعاونية لوسائل الإنتاج لكنها تستخدم السوق في عملية تخصيص الموارد للإنتاج وتسهيل الصلة بين قرارات الإنتاج والمستهلكين وتجمع بين ملكية الدولة والسوق والملكية التعاونية التشاركية. وأما المشاعية فهي نظام اقتصادي يتضمن اشتراك عديد من الناس (مجتمع) في الموارد ويتحكمون فيها وفي علاقاتهم وفي عمليات الإنتاج وإعادة الإنتاج عبر العمل أفقيا في المشاعات والعمل المشاعي.

وبرغم الاختلاف بين تيارات الاقتصاد البديل المختلفة، بالذات الأكثر تكاملا منها كالباريكون اشتراكية الطوباوية الواقعية والمشاعية، فيما يتعلق بتجاوز الرأسمالية من عدمه وبوجود السوق وأيضا في حدود التغيير المطلوب وهل يستوجب تغييرا شاملا في النظام، إلا أنها تكاد تجمع على عدد من الأبعاد العامة تشترك فيها، وإن تباينت بهذا القدر أو ذاك أحيانا في التفاصيل.

يضع روبن هانيل، وهو من منظري الباريكون أربعة أهداف أساسية يجسدها النموذج الاقتصادي الذي يدعو إليه هي:

“1- نريد للناس أن يكون لهم رأي في القرارات بقدر ما تؤثر فيهم.

 2- نريد أن تكون النواتج عادلة وكفؤة.

 3- نريد أن تعزز الإجراءات التضامن لا أن تضعفه.

 4- نريد أن تكون كل خططنا مستدامة بيئيا”.[22]

يصف هانيل هذه المبادئ أو الأهداف بصياغة أخرى في كتابه “للناس بالناس، دفاعا عن قضية اقتصاد المشاركة”[23] حيث تشمل الديمقراطية الاقتصادية والعدالة الاقتصادية والاستدامة بالإضافة إلى الكفاءة والتضامن والتنوع في إطار من الملكية الاجتماعية.

أولا، الديمقراطية الاقتصادية: تهاجم أطر الاقتصاد البديل الثلاثة مفاهيم الحرية الاقتصادية المحافظة السائدة التي تقصر الحرية الاقتصادية على الحرية في التعاقد الشخصي وفيما يخص الملكية، وتستبدلها بمفهوم آخر يتجاوز قاعدة الأغلبية الديمقراطية المتعارف عليها لتعطي قوة في عملية صنع القرار تتناسب مع الدرجة التي يتأثر بها المرء بالقرارات الاقتصادية المختلفة. “نحن نسمي هذا الإدارة الاقتصادية الذاتية، ونعتقد أن التفكير في تحقيق الإدارة الاقتصادية الذاتية للكل هو أفضل طريقة للتفكير في تحقيق الديمقراطية الاقتصادية”[24]. ويدافع أنصار المشاعية عن نظام أفقي غير مركزي يعمل من أسفل لأعلى في اتخاذ القرار يقوم على الإدارة الذاتية وتعديل استخدام الموارد في مواجهة النظام الهرمي من أعلى لأسفل القائم على السيطرة والأوامر الذي يعمل وفقا له نظام الأرباح الرأسمالي كما أنه فيه يحل التوافق محل حكم الأغلبية.[25]

ثانيا، العدالة الاقتصادية: يتعامل هذا المبدأ مع سؤال: ما هو التوزيع المساواتي لأعباء ومنافع النشاط الاقتصادي؟ يتم التمييز هنا بين أربعة مداخل أو قواعد رئيسية تحكم التعويض: الأول هو لكل حسب قيمة مساهمة رأس المال البشري أو المادي، والثاني لكل حسب قيمة مساهمة رأس المال البشري، والثالث لكل حسب الجهد أو التضحية الشخصية، والرابع لكل حسب حاجته. ويقول هانيل إن الأول يعبر عن الطريقة التي ينظر بها المحافظون للعدالة الاقتصادية، والثاني يمثل موقف الليبراليين، بينما الثالث فهو كيف يعرف أغلب المدافعين عن العدالة الاقتصادية المصطلح، أما الرابع فهو المبدأ التوزيعي الذي يؤمل في أنه سيزدهر في عالم التضامن الإنساني في المستقبل[26]. ويمزج الباريكون بين المدخلين الثالث والرابع فيحدد مبدأه التوزيعي العادل بأنه “مكافأة الناس بحسب الجهد أو التضحية والحاجة”.

ثالثا، الاستدامة: تقوم الاقتصادات البديلة على وعي تام بخطر التغير المناخي وقضية الاستدامة، وتتبنى “المبدأ التحوطي” الذي رسخته الحركة والنضالات البيئية. ووفقا لهذا المبدأ، فإنه حينما تكون هناك عدم يقينية رئيسية تتعلق بمخاطر ذات آثار كبيرة، فإنه يفضل التحوط. هنا يتم التمييز بين مفهومين للاستدامة، الأول الاستدامة “الضعيفة”، وهي أن يترك للأجيال القادمة رصيد من رأس المال الطبيعي والإنتاجي يساوي في مجموعه الكلي ما لدينا الآن، والاستدامة “القوية”، وتعني أن يساوي هذا الرصيد ما نتمتع به الآن بمعنى الحفاظ على قيمة الرصيد الطبيعي[27].

رابعا، الكفاءة: يتجاوز معيار الكفاءة هنا ما يحدده باريتو، ويتجاوز خطاب النيوليبرالية والسوق الذي يستخدم الكفاءة عادة من أجل تبرير الظلم الاقتصادي أو لتبرير استمرار الرأسمالية بعيوبها “كأكفأ نظام اقتصادي”. معيار الكفاءة الواسع هنا يقول إنه لو كانت المنافع الكلية لبعض الناس أو كلهم تفوق التكاليف الكلية لبعضهم أو كلهم، على أثر القيام بإجراء معين، فمن الكفاءة القيام به (ليس ما إذا كان الإجراء مربحا أم لا). وهكذا فإن معيار الكفاءة ذلك يقارن بين مستويات الرضاء المختلفة لدى القطاعات المختلفة من الناس، ويعطي أوزانا لدرجة أهمية هذا الرضاء والاستفادة عندما نحسب المنافع والتكاليف الكلية للإجراء[28].

خامسا، التضامن: ويعني بوضوح العناية برفاه وخير الآخرين، وإعطاءهم نفس الاعتبار الذي نطلبه لأنفسنا. في الاقتصادات السائدة يتم النظر للتضامن على أنه “عامل خارجي بين شخصي”، تتطلب التفسير والتبرير. لكن التضامن في الاقتصاد البديل هو خالق قوي للرفاه وحسن العيش.

سادسا، التنوع الاقتصادي: ويقوم هذا المبدأ على تحقيق تنويعة من أنماط ونواتج الحياة الاقتصادية، وهو هدف ووسيلة في الوقت نفسه. “حتى لو كان كل شخص نسخة جينية كربونية من الآخرين، فإن تعقيد هذه الوحدة الإنسانية المنفردة وتعدد حاجاتها المحتملة وقدراتها يتطلب لتحقيقها تنويعات هائلة من الأنشطة الإنسانية”[29]. الاقتصاد البديل ضد التنميط.

المؤسسات والآليات

في الباريكون تكون وسائل الإنتاج مملوكة اجتماعيا، (تشترك في هذا أيضا المشاعية)، لكن اشتراكية الطوباوية الواقعية تختلف في أنها تمزج بين هذا النوع من الملكية وبين السوق والدولة. ويعطي المجتمع مجالس واتحادات للعمال حقوق استخدام أجزاء عينة من وسائل الإنتاج عبر عملية تخطيط تشاركية بطريقة من شأنها ضمان أن يستفيد الكل بشكل عادل، وهو ما يختلف جذريا عن ملكية الدولة أو الملكية الخاصة التي نعرفها.

1-    المجالس: في كتابه عن اقتصاد المشاركة يصف مايكل ألبرت مكان هذه المجلس في الاقتصاد الجديد في السياق التالي:

“الاقتصاد يديره العمال والمستهلكون من أجل العمال والمستهلكين. فالعمال يخلقون المنتج الاجتماعي ويتمتع به المستهلكون. وفي هذين الدورين –اللذين يتوسطهما التخصيص– يدير الناس الحياة الاقتصادية.

ولكي يؤدي العمال أعمالهم بطريقة مسؤولة، ينبغي عليهم أن يضعوا في اعتبارهم ما يودون المساهمة به في المنتج الاجتماعي، بجهودهم وبالترابط مع من يعملون معهم. كما ينبغي عليهم تناول كيفية تجميع الموارد والأدوات التي يمكنهم الوصول إليها: لإيجاد مخرجات ذات قيمة يستفيد منها الآخرون وينبغي عليهم كذلك أن يكونوا على اتصال مباشر بديناميات الإنتاج، وبآثاره على أنفسهم وعلى غيرهم. وينبغي أن يزنوا فهمهم المباشر لوضع إنتاجهم وأولوياتهم الخاصة به مقابل آثار اختياراتهم على من يستهلكون منتجاتهم”[30].

وفي هذه المجالس يكون لكل عضو صوت في اتخاذ القرارات. لكن لضمان أن يكون لهذا الصوت تأثير حقيقي وألا تعوقه بنى أخرى فإن المجالس تربط بين هذه الطريقة في اتخاذ القرار وبين قاعدة العمل المتوازن. وهنا يتأسس نوعان من اللجان في كل مجلس: لجان تحديد التعويض المبني على الجهد ولجان موازنة الوظائف. ووفقا لهانيل، فإن كل مجلس عمالي سيقرر إجراءاته الخاصة للتكليف بالمهام والأعمال ولتقييم وتصنيف الجهود بالمقارنة ببعضها، وهو ما يصبح الأساس لاستهلاك الأعضاء في مجالس المستهلكين. أما لجان موازنة الوظائف فهي تهدف لتمكين العاملين. “نحن ندعي أنه إذا قام عمال بمسح الأرض طوال الوقت كل يوم، بينما آخرون يحضرون اجتماعات من كل نوع طوال الوقت كل يوم، فإن الحقوق المتساوية الشكلية للمشاركة في اتخاذ القرار لن تترجم نفسها في فرص متساوية للتأثير على القرارات”.[31] ويعترض بعض اشتراكيي السوق على مبدأ توازن الوظائف على أساس أنه يناقض الكفاءة ويجور على حريات الناس الاقتصادية، لكن المبدأ محل اتفاق بين أنصار الباريكون وبين اشتراكية الطوباوية الواقعية بالتركيز ليس فقط على حق العمل وإنما أيضا على نوعيته.

2-    التخطيط التشاركي: هنا يظهر بعض الاختلاف بين الباريكون واشتراكية الطوباويات الواقعية. يقول اقتصاد المشاركة باستبدال الأسواق بشكل كامل بالتخطيط التشاركي. ويميز هانيل هنا بين “الهدف طويل المدى واستراتيجية الانتقال، فلم أكن أبدا تحت تأثير الوهم بأنه يمكن استبدال الأسواق فورا بالتخطيط التشاركي”[32].

يحدث التخطيط في سياق خطة استثمار تقرر ما هي السلع الاستثمارية التي سيتم إنتاجها للعام وكيف سيتم توزيعها لرفع قدرات القطاعات المختلفة عند نهاية العام. ما يقرره إجراء التخطيط التشاركي، الذي تضطلع به مجالس العمال والمستهلكين ثم اتحاداتهم المنتخبة، هو أي مجلس عمالي سوف يستخدم أي مورد إنتاجي، وفي إنتاج ماذا، وكيف يتم توزيع السلع الوسيطة بين مجالس العمال وكيف سيتم توزيع السلع الاستهلاكية التي تم إنتاجها بين مجالس المنتجين والاتحادات، أي “خطة شاملة سنوية للإنتاج والاستهلاك”. “ويشارك كل مجلس عمالي أو اتحاد للمستهلكين بتقديم مقترح لما يرغب المجلس أو الاتحاد في عمله خلال السنة: مقترح للنشاط الذاتي. ثم يجيء دور “مجلس التسهيل” المنتخب قاعديا، والذي يقتصر دوره على حساب وإعلان تقديرات تكلفة الفرصة الخاصة باستخدام كل نوع من رأس المال البشري والطبيعي، والتكلفة الاجتماعية لإنتاج كل سلعة وخدمة والضرر الذي يتسبب فيه كل ملوث”[33].

وتوجه انتقادات للتخطيط التشاركي من زاوية أنه كي تكون خطة الاستهلاك ومن ثم الإنتاج فعالة يجب أن يعرف الناس تفصيليا مقدما ما سيستهلكونه خلال العام، ليس فقط على مستوى الكم، ولكن لكي يؤدي ذلك لتوجيه الإنتاج فإنه سيعني المنتج ونوعيته ولونه مثلا ومقاساته وهو أمر مستحيل مقدما. يقدم إريك أولين رايت هذه الفكرة كي يدافع عن أنه لو كانت الخطة مبينة على توقعات وعلى ما جرى العام الماضي أي تقديرية فإن هناك مجال هنا للأسواق كي تلعب هذا الدور. ويعتقد نقاد آخرون أن المنتجين والمستهلكين لا يمكنهم “التوصل معا بشكل محترم إلى توجيهات ينفذونها بالتبادل بلا أي وسيلة مركزية ومن غير التنافس وتبادل السلع دون أن تكون لذلك تداعيات مرعبة”[34] يرد مايكل ألبرت على هذه الانتقادات أولا من زاوية أنه “يشير إلى عدم وجود أية صلات سوى الأفقية والرأسية. إلا أن ذلك يتجاهل أنه قد يكون هناك وسائل أخرى غير الأسواق بالنسبة للعلاقات الأفقية ما لم نفترض أن الأسواق هي نظام التخصيص الأفقي الوحيد الممكن. يؤكد نوف عدم وجود طريق ثالث فالبدائل مستحيلة من الناحية المنطقية، إلا أنه لا يقدم سببا لهذا سوى التعقيد”[35]. لكن ألبرت يكمل رده على الانتقادات باستعراض طرق العمل التفصيلية المقترحة للتخصيص والتي تستخدم فيها آليات عدة منها الأسعار ومقاييس العمل عبر تقييم الجهد الذي تم عبر اللجان القاعدية والذي يعطي صورة أفضل وأكثر عدالة للتقدير، ووسائل اتصالية مختلفة تغذي عمليات دراسة واتخاذ القرار التشاركي.

معضلات الانتقال: إصلاح أم ثورة؟

هل يمكن إرساء مؤسسات اقتصاد بديل كهذه دون تغيير سياسي؟ تفرض قضية الدولة وقضية النظام الاجتماعي الاقتصادي الذي تمثله: رأسمالية القرن الحادي والعشرين نفسها بشدة. هل يجب غزو الدولة أولا وقبل أي شيء؟ ولحين ذلك هل يتم إغفال كل جيوب المقاومة الممكنة؟ هل يمكن التعايش بين السوق (أي الرأسمالية) وبين اقتصاد بديل ديمقراطي يتبع المبادئ السابق الإشارة إليها؟

ويمكن الإشارة هنا إلى ثلاث استراتيجيات ممكنة لعمل الاقتصاد البديل: القطع مع النظام بشكل كامل عبر ثورة أو تغيير سياسي جذري كبير، والتخللية، أي اكتساب جيوب للمقاومة داخل النظام السائد أو شروخ تسمح للعمل القاعدي بفرض شروطه محليا علة حد تعبير جون هولواي، والثالثة هي التكافلية بالتأثير على سياسة الدولة والنظام الحاليين.

للتحسينات الإصلاحية في كل الأحوال أهميتها فهي ترفع بعض الظلم وتعطي بعض ما غاب من حقوق، لكن نوعا من التحسينات على وجه الخصوص يعطي صورة لمخطط عالم اجتماعي مختلف. يستخدم رايت هذه الفكرة للدفاع مثلا عن وجود السوق، معتبرا أنه لا يتخيل أن فكرة استبداله ممكنة أصلا. لكن التجربة التاريخية تقول إن السوق، والنظام النيوليبرالي كما تمت الإشارة أعلاه، يصممان عالما لا يعمل إلا بشروطهما. وهكذا فإن أشكالا عديدة مما يمكن أن تعطي الصورة المثال التي يشير لها رايت كالتعاونيات مثلا تتحول تماما بعيدا عن مبادئها بفعل ضغوط السوق والتوزان الطبقي الاجتماعي. ويمكن الإشارة هنا مثلا لتعاونية “كريديه أجريكول” المالية الفرنسية الفلاحية، التي تحولت بمرور السنين إلى بنك تجاري يعمل وفقا لقواعد السوق بشكل كامل، أو تعاونية موندراجون التي صارت آليات عملها تقارب شركة متعددة الجنسيات.

“عندما يتم تنسيق تقسيم العمل عبر الأسواق فإن الذين يستغلون الآخرين تتم مكافأتهم في الوقت الذي تتم فيه معاقبة الذين يتصرفون بشكل مسؤول اجتماعيا. لهذا السبب فإن الأسواق تعمل كسرطان يقوض جهود بناء وتعميق التعاون التشاركي المساواتي”[36].

لكن كيف ومتى يتم استبدال السوق وتجاوز الرأسمالية؟ هناك إجابات عديدة على هذا السؤال. وقد بدأ طرحه بشدة بفعل الأزمة الطاحنة التي تمر بها الرأسمالية في السنوات الأخيرة. البعض قدم تصورا عن تجاوز تدريجي بفعل التطور التكنولوجي الهائل في السنوات الأخيرة كبول ميسون[37]، والبعض الآخر ما زال متمسكا بالثورة الاجتماعية كحل وحيد لمواجهة نظام لا يتسلح فقط بالقدرة الفائقة للسوق على السحق والتنميط، وإنما أيضا بترسانة سلاح أيديولوجية وقوى قمع واسعة النطاق ستدافع عن مصالح من تمثلهم قدر استطاعتها.

وفي الحقيقة، فإنه لا يمكن لاقتصاد بديل على غرار الباريكون أو المشاعية أن يحقق أهدافه في العدالة الاقتصادية والاستدامة البيئية إلا في ظل تجاوز للرأسمالية، وإن كان هذا لا يعني بأي حال أنه لا يمكن تحقيق شيء لحين أن يتم ذلك، ولا أن ما تقدمه هذه النظريات هو تصور نهائي ومتكامل لما سيكون عليه النظام الاقتصادي الاجتماعي السياسي الجديد.

ولا يمكن إلا الربط بشكل جدلي بين النضالات من أجل انتزاع مساحة في النظام الاقتصادي، الآن وفورا، وبين المهمة الأكبر في تجاوز الرأسمالية ومواجهتها لبناء نظام اجتماعي اشتراكي.

“أعتقد أن هناك ثورة اجتماعية قيد التشكل، ولو تم إدراكها وكنا قادرين على جذب المزيد من الطاقات من الناس عبر العالم، فإن هذا سيعطينا فرصة للصعود من خلال عملية تحول في اتجاه مجتمع مابعد رأسمالي. إن مفهومي المتضمن عن الثورة يتماشى مع مفهوم ماركس الذي يرى الثورات الاجتماعية، أي نمو أنماط بديلة للإنتاج، كشرط مادي لأي ثورة سياسية. إن تحويلا جذريا لعالمنا يقتضي أن يتجمع الناس معا في مجتمعات تطور هذه البدائل لمنطق الرأسمالية وتضاعف أعدادها وتصل بينها”[38]، كما يقول ماسيمو دي آنجليس.

إن طريق بناء اللبنات الأولى لاقتصاد بديل يقع في نضالات المنتجين والمستهلكين على الأرض، وفي هذا فإن الثورة الاجتماعية تشتبك جدليا مع هذه النضالات فتقوم عليها ويتشكل نظامها البديل منها، ويعطيها بوصلتها.


[1] انظر: محمد العجاتي (محرر)، الاقتصاد البديل في المنطقة العربية: المفهوم والقضايا (أعمال ورشة عمل بتونس في سبتمبر 2016)، القاهرة، منتدى البدائل العربي للدراسات ودار روافد للنشر والتوزيع، 2016.

وأيضا: دينا مكرم عبيد، الحركات الاجتماعية وتصوراتها عن البدائل الاقتصادية، في: وائل جمال (محرر)، الاقتصاد المصري في القرن الحادي والعشرين، القاهرة، دار المرايا للإنتاج الثقافي، 2016.

[2]What’s the alternative? Capitalism is not perfect. But it’s better than other systems, The Economist, 15 August 2015. https://goo.gl/BqJLRG

[3]John Plender, Capitalism: Money, Morals and Markets, London, Biteback Publishing, 2015

[4]Joseph Stiglitz, Don’t trust technocrats, The Guardian, 16 July 2003. https://www.theguardian.com/politics/2003/jul/16/globalisation.economy

[5] المصدر السابق.

[6] المصدر السابق

[7]William Easterly, The Tyranny of Experts: Economists, Dictators, and the Forgotten Rights of the Poor, New York, Basic Books, 2015.

[8] المرجع السابق.

[9]Mark Fisher, Capitalist Realism: Is There No Alternative?, London, Zero Books, 2009.

[10] المرجع السابق

[11] حول مفهوم الشر: حوار مع الفيلسوف ألان باديو، موقع بالأحمر، 5 فبراير 2017، https://goo.gl/w3Ym1T

[12] Elinor Ostrom, Governing the commons: The Evolution Of Institutions For Collective Action, Cambridge, Cambridge University Press, 2015.

[13] Massimo De Angelis, Omnia Sunt Communia: On the Commons and the Transformation to Postcapitalism, London, Zed Books, 2017.

[14] المرجع السابق.

[15] Jane Hardy, Radical economics, Marxist economics and Marx’s economics, International Journalism Journal, Issue 149, January 2016. https://is.gd/7cqLaW

[16] المرجع السابق.

[17] المرجع السابق

[18]David McDonald, Making Public in a Privatized World: The Struggle for Essential Services, London, Zed Books, 2016

[19] حمزة حموشان وميكا مينيو-بالويللو (محرران)، الثورة القادمة في شمال أفريقيا: الكفاح من أجل العدالة المناخية، مؤسسة روزا لوكسمبورج ومؤسسة بلاطفورم لندن وعدالة بيئية شمال أفريقيا، مارس 2015.

[20] يمكن الاطلاع تفصيليا على هذه التيارات والمدارس في: Derek Wall, Economics After Capitalism: A Guide to the Ruins and a Road to the Future, London, Pluto Press, 2015.

[21] مايكل ألبرت، الحياة بعد الرأسمالية اقتصاد المشاركة، ترجمة أحمد محمود، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2005.

[22]Robin Hahnel and Erik Olin Wright, Alternatives to Capitalism: Proposals for a Democratic Economy, London, Verso, 2016.

[23]Robin Hahnel, Of the People, By the People: The Case for a Participatory Economy, Chico US, AK Press, 2012.

[24] المرجع السابق.

[25]David Bollier, Think Like a Commoner, Gabriola Island (Canada),New Society Publishers, 2014

[26]Robin Hahnel, Of the People, By the People: The Case for a Participatory Economy, IBID.

[27] المرجع السابق

[28] المرجع السابق

[29] المرجع السابق

[30] مايكل ألبرت، مرجع سابق.

[31]Robin Hahnel and Erik Olin Wright، Ibid.

[32] المرجع السابق

[33] المرجع السابق

[34] يعرض مايكل ألبرت لانتقادات الاقتصادي البريطاني أليك نوف ويرد عليها في: مايكل ألبرت، مرجع سابق.

[35] المرجع السابق.

[36]Robin Hahnel and Erik Olin Wright، Ibid.

[37]Paul Mason, Post Capitalism: A Guide to our Future, London, Allen Lane, 2015.

[38]Massimo De Angelis, Ibid.

Start typing and press Enter to search