المواطنة في الدول التي تحاول استكمال مسار ما بعد الحراكات الاجتماعية
نوران سيد أحمد

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [551.46 KB]

تمهيد:

اختلفت المسارات التي مضت فيها العملية السياسية في البلدان التي شهدت انطلاق الانتفاضات بها كما هو الحال في مصر وتونس، بين تعثر في حالة المسار الأول، وتقدم حذر في تونس، وبالرغم من تفاوت التهديدات التي تواجهها كل منهما، تبعا للمتغيرات الهيكلية، وطبيعة القوى السياسية وتوازناتها في كلا البلدين…إلخ، إلا أنه يبقي أن كلتا الدولتين ما زالتا في مرحلة إعادة تأسيس في أعقاب هذه الموجات الثورية والتي تتطلب مراعاة لطبيعة الحقوق والمطالب الجماهيرية التي دفعت المواطنين للنزول في الشوارع في عام 2011 للمطالبة بها. وهي المطالب التي تتزايد أهميتها في ضوء مرحلة التحول الديمقراطي الأولية، وبالتالي فإن عدم القدرة على تلبية هذه المطالب من شأنه أن يهدد هذا المسار بالانهيار خاصة في ضوء هشاشة المسارين في البلدين، في حال تكرر الاحتجاجات والانتفاض والغضب، أو أن من شأنه أن يقلل من جودة وكفاءة النظام السياسي في البلدين على اعتبار محدودية استجابة هذا النظام لمطالب المواطنين والجماعات المختلفة، وبالتالي ضعف قدرته على إدماجهم في النظام السياسي. وهي المطالب التي تندرج بتعددها (سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية) تحت مظلة المواطنة. وقد كانت مطالبات هذه الانتفاضات بالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية حافزا لطرح أسئلة ونقاشات حول المواطنة كأساس للعلاقة بين الدولة والمواطن في أحد المستويات، والدولة والمجتمع في مستوى أخر، وحول إمكانية تحقيق دولة المواطنة التي تستند على المساواة والقانون.[1]

واقع يزداد تفجرا بعد الحراكات الاجتماعية

تتفاوت الإشكاليات التي تواجه المواطنة في البلدان التي تمر بمرحلة التحول الديمقراطي كما هو الحال في مصر وتونس، ففي الوقت الذي تمثل فيه إشكاليات المواطنة في مصر واقع أكثر تعقيدا على اعتبار التنوع الأفقي والرأسي للتركبية الاجتماعية المصرية، والتي تنعكس في إشكاليات المواطنة بمداخلها المختلفة، في مقابل الوضع في تونس والذي يتسم فيه المجتمع بقدر كبير من التجانس على نحو يجعل من الوزن النسبي للحقوق الثقافية مثلا أقل من بقية المداخل الأخرى للمواطنة كالمدخل القانوني، والسياسي والاقتصادي. ففي الوقت الذي أتت فيه هذه الانتفاضات كانفجار للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية، إلا أن حدوثها أتي بواقع أكثر تعقيدا وتداخلا، على نحو لم تشهده من قبل لا هذه الدول والأنظمة وتوازنات القوى داخلها، وتعقد المصالح بها، على نحو أضر كثيرا بقضية المواطنة ووضعيتها على النحو التالي.

مع مجيء موجة الحراكات الاجتماعية في عام 2011 وما تلاها فقد أخذت القوى السياسية الرئيسية على المشهد مطالب وجوهر الحراكات الاجتماعية لأبعاد أوسع، وحملته ما لا يحتمل، حيث كانت هذه الحراكات تدور بشكل أساسي حول مطالب أساسية ومبدئية مثل الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية، في الوقت الذي انصبت فيه السجالات السياسية حول الصراعات الإيديولوجية والقضايا الكبرى الكلية مثل الهوية، الدين، الإيديولوجيات، والاستقطابات الحادة بين الإسلاميين والعلمانيين، وهي الصراعات التي أخذت شكلا صفريا ومعمقا، وتم التعامل مع كل الاستحقاقات والترتيبات السياسية في المشهد باعتبارها صراعا مستمرا على الشرعيات السياسية في مقابل بعضهم البعض، وهو ما أتي على فرص تطوير خطابات سياسية أكثر براجماتية، أو حزم برامج سياسات عامة تشتبك مع هذه الحقوق الأساسية، وغيرها من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المرتبطة بالمواطنة. وهو الصراع الذي أجهض معه في مراحل لاحقة الحقوق والحريات المدنية بالأساس-تمثل اللبنة الأولى لنموذج مواطنة متكامل وحقيقي- والسياسية كذلك والتغاضي عن وقائع انتهاكها في إطار هذه المعركة مع الخصوم المختلفين. وهو الأمر الذي أهدر قيمة مثل هذه الحقوق باعتبارها حقوقا تأسيسية لأي إنجازات سياسية في المستقبل.

على جانب آخر هناك واقع الاستقلالية التي تتمتع بها أجهزة ومؤسسات الحكم والإدارة داخل الدولة الواحدة في المنطقة العربية، خاصة ما مرت منها بحراكات اجتماعية، حيث مثلت فيها هذه الحراكات فرصة مربكة لأجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة بين تأييد بعضها لهذه الحراكات، أو الترقب تجاهها، وحتى التصادم معها والفترة التي تلت هذه الحركات، وهو الأمر الذي تعمق منذ ذلك الوقت وحتى الآن على نحو أوجد مناخ من الاستقلالية وحرية الحركة الذاتية لهذه الأجهزة المختلفة، وامتلاك بعضها لحلفاء متعددين من خارج أجهزة الدولة في إطار شبكات مصالح متعددة، على نحو يجعل من الصعوبة على القوى والحركات الاجتماعية والمبادرات صياغة خطة ومطالب المواطنة الخاصة بها، والتوجه بها لأحد أجهزة الدولة ومؤسساتها، الأمر الذي يهدد بتجميد وتهديد أي مكتسبات محتملة في هذا الصدد في ضوء تعدد الرؤى العامة لهذه المؤسسات، في هذا الإطار يمكن الإشارة لمثال واضح وهو المكتسبات التي تمكنت المبادرات الشبابية النوبية من حصدها فيما يتعلق بالحقوق الثقافية وحقوق العودة المرتبطة بالنوبيين والتي تم إقرارها في دستور 2014 إلا أن هذه المكتسبات ذهبت أدراج الريح مع القرار الجمهوري رقم 444 والذي قضى باعتبار 16 قريبة نوبية أراض عسكرية حدودية.[2]

تبدو كذلك الإشكالية المتعلقة بدور الدولة وكيف يمكن أن تٌمارس انعكاسا سلبيا على مطالب المواطنة ومسارها، وهو الدور الذي يمتلك قدر كبير من الارتباك، حيث يبدو أن الدولة أميل إلى تفكيك ذاتي لمساحات تأثيرها وممارستها وصلاحيتها، لصالح جماعات واعتبارات أولية سواء كانت في شكل شبكات علاقات ومصالح أو القبيلة، أو الجماعة الدينية، وهو الأمر الذي يخلق مساحات سيطرة متوازية من جانب أطراف وقوى ما دون الدولة على المواطنين، كما هو الحال في تولي الكنيسة مسئولية حقوق المسيحيين، وكذلك تراجع الدولة في مساحات الخدمات العامة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية لصالح مبادرات وقوى المجتمع المدني، والقوى السياسية والجماعات الدينية التي تتولى تقديم هذه الحقوق للمواطنين، وهو الأمر الذي يهدر قيمة المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، ويهدد من قيمة المواطنة وفلسفتها خاصة، أن توازنات القوى بين هذه الجماعات والاعتبارات الأولية الناتجة عن هذا الواقع التفكيكي هي الحاكمة في حصول المواطنين على حقوقهم من عدمه.

اتصالا بواقع التفكيك الذاتي من جانب الدولة لصلاحيتها ومساحات تأثيرها، تأتي إشكالية عدم احترام القانون في مصر في الثقافة الجماهيرية، والتي تلعب دورا أساسيا في تدهور دولة المواطنة، وتترك عملية إنفاذ القانون والتمكين في كافة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين وهو الأمر الذي يحسمه في كثير من الحالات اعتبارات توازنات القوى والمصالح على الأرض، ومن ثم يبدو عدم احترام ثقافة دولة القانون من جانب المواطنين يعكس تحديات ومطالب حقيقية وتنعكس على عدم قبلوهم بالرضوخ لمنظومة القانون، إما لعدم عملها بكفاءة، وفساد بعض أجهزة إنفاذ هذه المنظومة، أو لإدراكهم بأن الدولة تعمد لإرجاع المواطنين للقوى التقليدية لتحقيق هذه المطالب ونفض أيديها عنهم.

 وهو الأمر الذي صاحبه حالة من العنف المتوسع في بلدان المنطقة بما فيها تونس، ومصر، والتي تنعكس بالضرورة على وضعية الأقليات، والجماعات الأضعف، حيث صاحب العنف الممارس في مصر على خلفيات سياسية في أعقاب الثورة 2011، وقوع المواطنين المسيحيين وخاصة في مناطق الريف والصعيد في مرمى نيران هذا العنف، كما كان الحال في أعقاب فض اعتصام رابعة العدوية 2013.[3]

على جانب آخر بدى أن أحد الإشكاليات مرتبطة بالمسار الذي انتهجته المبادرات والقوى السياسية في أعقاب 2011 في رفع قضايا المواطنة بمستوياتها المختلفة، خاصة المبادرات التي ارتبطت بالجماعات الثقافية والدينية، وهو عدم قدرتها على التواصل مع المبادرات الأخرى خارج مجموعاتها للتشبيك معها لتعضيد المطالب المشتركة وممارسة ضغوط على السلطة والقوى السياسية، إلى جانب انعزالها عن المجموعات التي تدافع عن حقوقها وتتبني مطالبها بالمعني الجغرافي، وعلى مستوى الخطاب، وضعف قدرتها على استقطاب القواعد التقليدية والمحافظة لخطابها. وهو الأمر الذي انتهي لحصار كل من الدولة وأجهزتها من جهة، والقوى القديمة داخل الجماعات لهذه المبادرات والمجموعات. إلى جانب الاستقطابات السياسية والتي ارتبطت بصعود التيار الإسلامي، والتي انعكست بطريقة أو بأخرى على هذه المبادرات والحركات التي لم تدرك حينها على نحو كبير خطورتها على مسار عملها وتواصلها مع القواعد الجماهيرية، والتي انتهت لتخوفات على حقوق المواطنين من غير المسلمين في هذه المجتمعات، أو غير الإسلاميين، الأمر الذي كان من شأنه في حالة مصر عودة فئات واسعة من المسيحيين المصريين لأحضان الكنيسة والبعد عن التنظيمات المدنية بعد خروجهم من عباءة الكنيسة في يناير 2011.[4]

إلا أن الواقع الإقليمي أتى كذلك بتحدياته، حيث ظهرت كيانات إقليمية منافسة تقوم على أسس مناقضة لمفهوم المواطنة ودولتها مثل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والذي يسعى لطرح ذاته باعتباره نموذجا للتنظيم الاجتماعي والسياسي عوضا عن دول ما بعد الاستقلال في المنطقة. بالطبع لمثل هذه النماذج خطورتها وتحدياتها الأمنية داخل دول أخرى في المنطقة مرت بالحراكات الاجتماعية مثل مصر وتونس من حيث محاولات امتداد هذه التنظيمات لخلق مناطق عازلة في هذه الدول لإقامة نماذج مشابهة كما هو الحال في شبه جزيرة سيناء بمصر. إلا أن تحدياتها في جانب آخر أنها تطرح ذاته كنموذج عقائدية مناقضة ومتحدية لدولة المواطنة، بقيمها، وهو النموذج التي تروج له باعتباره القادر على تمكين المواطنين اجتماعيا وسياسيا، وهو ما يلقي صدىً في أوساط الشباب ومتوقع أن يزداد بين المواطنين في ضوء ضعف قيم وتقاليد الدولة القومية وإنجازاتها في نفوس المواطنين، وهو في أحسن التقديرات قد لا ينتهي بانحيازهم لهذا المشروع العقائدي، إلا أنهم في الأغلب لن يروا في أنفسهم طرفا في هذا الصراع مع الدولة القومية.

إلى جانب بعض الاعتبارات الموروثة من الفترة السابقة على الحراكات الاجتماعية في عام 2011 طبيعة التنظيم الإداري الغالب للدولة العربية بما فيها مصر وتونس ذات الطابع المركزي، والذي يحتكر فيه المركز كافة السلطات والمقدرات دون باقية الإقليم الجغرافي للدولة، وهو ما يتصادف معه في عدد من الحالات العربية وجود مجموعات أقلية أو مجموعات ثقافية مختلفة في مناطق الأطراف وبعيدا عن المركز والعاصمة.[5]

رؤى وتجارب دولية أو سابقة نجحت في التعامل مع هذه المشكلة:

يبقي النضال من أجل المواطنة عملية ديناميكية، ونتاج تفاعل المتغيرات الداخلية الخاصة بكل دولة ومجتمع، وأن المداخل المختلفة للمواطنة لا تمضي في مسار واحد وبالدرجة ذاتها داخل كل مجتمع. هنا تأتي جملة من المجهودات والتجارب على الصعيدين العربي والدولي في التعامل مع المداخل المختلفة للمواطنة، وكذلك مستويات وأطراف النضال المختلفة، على النحو التالي:

تجربة الحراك الأمازيغي وهي بشكل أساسي تعطي إضاءات للجماعات المطالبة بحقوق المواطنة وكيفية النضال من أجلها، وكيفية المراكمة وضمان الاتصال المستمر لتجربة الحراك والناشطين بها، حيث ترافق الحراك الأمازيغي مع نقاش معمق لقرابة 3 عقود حول السبل التي يجب أن ينتهجها هذا الحراك، بين تصور يقول بدعم الفعل المدني للجمعيات والمنظمات غير الحكومية الأمازيغية من أجل اختراق المجتمع ومؤسسات الدولة في إطار مقاربة غير صدامية، مبنية على حقوق الإنسان تتبني العمل الميداني من خلال توعية المواطنين بأشكال التمييز التي تتعرض لها الثقافة الأمازيغية ومن خلال العمل التنموي لصالح المناطق الأمازيغية المهمشة عبر الاستفادة من الشراكات الدولية في مجالات التنمية الديمقراطية.[6] وجمعت تجربة النضال الأمازيغي في المغرب بين المداخل المختلفة للمواطنة حيث بدأ نضالهم في محاولة الحفاظ على الهوية الثقافية الخاصة بهم؛ بإنشاء الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي بالرباط سنة 1967 كمنطلق لهذا الاتجاه، وبعد اقتصار المطالب على الدفاع عن الثقافة والفنون الشعبية دون وجود أي مطلب أو خطاب سياسي أو حقوقي مباشر، حتى طورت الحركة بعدها خطابا مطلبيا مباشرا ذي أبعاد ثقافية وسياسية. وهو ما تطور بعد ذلك لتوقيع ميثاق أكادير 1999 وتوقيع مذكرة حول الحقوق الثقافية الأمازيغية.

تجارب دستورية وقانونية كوسيلة لترسيخ المواطنة وتقنينها، وهنا يمكن الإشارة للتجربتين الهندية والبرازيلية، وعامل التميز في هذه التجارب كونها نماذج دستورية تتضمن قدر كبير من التركيب في معالجة الفئات الأضعف وتمكينها بشكل يعطي طبيعة إدماجية لها مثل المرأة وحقوقها باعتبارها فئة اجتماعية من ضمن مجموع، بما يمكنها على مختلف المستويات (سياسي، اجتماعي، ثقافي، اقتصادي) على نحو يٌزيد من سهولة تقبل المجتمع وتفاعله معها، في إطار توجه عام لتحقيق تكافؤ الفرص والتمكين لكل الفئات الاجتماعية دون تمييز، وهنا يطرح الدستور البرازيلي لعام 1986، والذي عمد لتفكيك القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وما يرتبط بها من روابط ومواقع اجتماعية على نحو أفقي، ومن ثم تسكين الفئات الاجتماعية داخل هذه القضايا على نحو ملائم ومتكافئ، مثل قضية المرأة، فهناك المادة 5 والتي تؤكد على المساواة بين جميع الأشخاص دون أدنى تمييز، كذلك الفقرة 31 والتي نصت على قضية المساواة بين الرجل والمرأة والأطفال في البرازيل فيما يتعلق بمساءلة الملكية متى كان القانون الشخصي الذي يخضع له المتوفي في غير صالحهم،[7] وحقوق السجينات فيما يتعلق برعاية أطفالهن في السنوات الأولى في الفقرة 50،[8] وجاءت المادة 7 (وهي تنظم حقوق العمال في الحضر والريف) في فقرتها الـ20 لتؤكد على ضرورة المساواة في الأجر بين الرجل والمرأة، وكذلك المادة 201 التي تٌنظم قضية الضمان الاجتماعي والتأكيد على حق المرأة في التمتع به في إطار حق الأمومة والمرأة الحامل.[9]

كذلك الحال في الدستور الهندي والذي تضمن كذلك قدرا كبيرا من التركيب في المعالجة للفئات الاجتماعية والأقاليم السياسية في البلاد، إلا أنه يتميز كذلك في قدرته ومرونته على معالجة مسألة المواطنة على نحو يواكب التطورات الجيو سياسية التي تمر بها البلاد، مثل الانفصال المتكرر للبلاد عن باكستان، وبنجلاديش، ووضعية المواطنين المنتقلين بين الطرفين، وكذلك تضمنها لمعايير واضحة لتوصيف “من هو المواطن؟” كذلك التعرض للقوانين المناقضة للحقوق الأساسية للمواطنين التي نص عليها الدستور. إلى جانب ما تضمنه الدستور الهندي من توصيفات واضحة لتعريف ما هو التمييز والاضطهاد الممارس الذي يمكن أن يتعرض له المواطنون، إلى جانب نص الدستور على الحقوق ذات الطابع الثقافي، وتمييزها عن الحقوق المرتبطة بالأقليات.[10]

في هذا الإطار يمكن الإشارة لتوجه عالمي في النظم الدستورية، لكتابة وذكر النساء لفظا وصراحة في كافة الحقوق وفي الخطاب مع الرجال، وذلك لمنع الطريق أمام أي تأويلات قد تضر بحقوق المرأة، في إطار ما يعرف بتأنيث الخطاب، وهو التوجه الذي تنص عليه عدد من الدساتير الحديثة عبر العالم خاصة في دستور فنزويلا لعام 1999، والذي ينص في كل النصوص المتعلقة بالحقوق على “الرجال والنساء” (المواطن والمواطنة، الموظف والموظفة، النائب والنائبة، الوزير والوزيرة،، الأمر ذاته في دساتير كينيا، جنوب أفريقيا، السنغال والتي تنص صراحة على التساوي بين النساء والرجال في كافة الحقوق. هناك دستور فيتنام والذي نص صراحة على التساوي بين الرجال والنساء في الحياة السياسية، والاقتصادية، والثقافية والعائلية. وعلى نفس المسار يأتي الدستور الهندي والذي نص صراحة على المساواة بين الرجل والمرأة في الأجور. المساواة في الحقوق ممتد كذلك لتقنين المساواة بين الرجل والمرأة في داخل الأسرة والزواج، والموازنة مع العمل والمشاركة في المجال العام من جهة أخرى، وهو يتضح في دساتير فنزويلا، البرازيل، اليابان.[11]

كيف يمكن المضي في مسار يكفل حقوق مواطنة كفئة ومتوازنة؟

هي مهمة بالطبع تتطلب الكثير من الوقت والمراكمة، إلا أنه يمكن الإتيان على ذكر جملة من الطرق التي يمكن التفكير بها مستقبلا في مسار تحقيق المواطنة بمجالاتها المختلفة على النحو التالي:

  • مراجعة الدساتير: وهي عملية حتمية وأساسية في ضوء أن الدساتير بصورة أو بأخرى انعكاس للواقع، ومن ثم فإن أي تغيير في الواقع سيتتبعه تطويرا للدساتير بما يواكب هذا الواقع المتغير، فعلى الرغم من أن عددا من الدساتير في أعقاب موجة الحراكات الاجتماعية قد تضمنت تأكيدا على الحقوق الاقتصادية والسياسية والثقافية لجميع المواطنين والجماعات في الدولة، إلا أن التحدي الأكبر بعد 5 سنوات من هذه الحراكات هو التساؤل حول الآليات الإجرائية التي يمكن من خلالها تفعيل هذه الحقوق، وتطبيقها على الأرض، وقد تكون إحدى وسائله، هو إدخال آليات واضحة في النصوص الدستورية لتفعيل هذه الحقوق، على النحو الذي جاء في الدستور المصري لعام 2014 والذي تضمن توسيع قاعدة المشاركة السياسية للمجموعات المهمشة لفترات طويلة مثل المرأة والشباب، والأقباط، والتأكيد على كوتا تمثيلها في الانتخابات، وفي الأجهزة الرسمية. على النحو الذي جاء في المادة 244، 180 من الدستور.[12] إلا أنه لم يتضمن آليات تكفل أن تكون هذه الحقوق محققة لغايتها بالتمكين. كذلك ضرورة أن يتضمن الدستور توصيف وتسمية للجماعات المختلفة الثقافية بالتشاور معها، وبما تقتضيه ثقافتها وقناعتها الداخلية. بما يعكسه ذلك من احترام لهذه الجماعات.
  • التوازن في التشريعات بين الحقوق الفردية والجماعاتية والفردية، سواء من خلال تحسين وضعية الحقوق الشخصية للمواطنين، أو من خلال إصدار تشريعات تمكن الجماعات الإثنية والثقافية، أو قطاعات مثل المرأة، الفقراء…إلخ. وهي التشريعات التي يفترض أن تكون بالتوافق والتشاور بين هذه الجماعات وبين المؤسسة التشريعية.
  • يجب الالتفات للمساواة أمام التشريعات بين الرجل والمرأة، خاصة فيما يتعلق بقوانين الإجراءات الجنائية، قوانين الأسرة والميراث والتي تتطلب بالتبعية إعادة نظر فيها، بما يكفل المساواة بين الرجل والمرأة، وفي ضوء الأعباء والمسئوليات المتكافئة بين الطرفين. وعلى جانب آخر قد يكون أحد الحلول المطروحة أن يكون هناك مسارات متعددة من المعالجة القانونية للحقوق الشخصية، مثل قوانين الميراث والأسرة، بين المنظومة القديمة ذات الأساس الفقهي والديني، وكذلك مسار للقوانين المدنية للراغبين في الاحتكام لها كوسيلة لتوسيع إمكانيات الاستيعاب للفئات الاجتماعية والثقافية المختلفة. كذلك التشريعات المتعلقة بممارسة الحقوق السياسية، كما هو الحال في قوانين الانتخابات فيما يتعلق بمبدأي العدالة وتكافؤ الفرص، من خلال ضرورة أن يكون هناك مراجعة لبعض الآليات المتضمنة في التشريعات من وقت لآخر للوقوف على فعاليتها كما في نظام الكوتا في ضوء الخبرة الممارسة والتي تتضمن انحراف لهذه الآلية عن هدفها النهائي.[13]
  • أن يكون هناك نصوص واضحة في التشريعات المتعلقة بتولي الوظيفة العامة، والتي يجب أن تؤكد على حق جميع المواطنين ومساواتهم في إمكانية تولي المناصب أو الوظائف العامة، وتجريم أي مخالفة في هذا الصدد بحق المواطنين، ووجود قواعد واضحة لملاحقة أي صور من التمييز والاضطهاد.

توصيات فيما يخص الحقوق الثقافية:

وهي التي تنظر للتنوع الثقافي والحقوق المرتبطة بالهوية. والمواطنة الثقافية تجمع بين الجانبين الفردي/ الشخصي، وبين النطاق الجماعاتي، واللذان يشهدان قدرا من التداخل على النحو التالي:

  • على إثر الاعتراف بالحقوق الثقافية للمكونات المجتمعية المختلفة في بلد مثل مصر، تتعرض هذه الحقوق للالتفاف عليها، في ضوء غياب أية تشريعات من شأنها تجريم التحريض والتمييز ضد أي من المكونات الثقافية، أو الأفراد. ومحاولة توسيع النقاش على الحقوق الثقافية لتكون ذات محل تحاور مجتمعي وعدم الاكتفاء بقصرها على الجماعة محل الاستهداف، وتقديمها في إطار مجتمعي أوسع.
  • الاعتراف بقيمة التنوع ودعمها في المناهج التعليمية، خاصة في المراحل الأولى من التعليم، من خلال التعريف بالجماعات المختلفة المجتمعية، وطبيعة ثقافتها، وأهمية التعايش فيما بينها.[14] مع ضرورة أن يكون هناك تنقيح للمناهج الدراسية خالية من أية إهانة أو إجحاف للثقافات والمكونات الفرعية، ومحاولة تقديم طرح تاريخي في المناهج الدراسية يؤكد على التواصل بين المكونات الثقافية، وعلى أنها جزء من المكون التاريخي لنفس المجتمع.

توصيات فيما يخص التمكين الاقتصادي:

ويهدف لتحقيق الاستقرار والرضا الاجتماعي لجميع الأفراد وتقويه قدرات الفئات الأضعف في المجتمع، وهو الاتجاه الأحدث. دون مقايضة بين الحقوق المرتبطة بالحقوق الاقتصادية والسياسية. فنجد مثلا قانون العمل السوري وصياغته التقدمية التي تؤكد على تكافؤ الفرص والمساواة الاقتصادية بين الجنسين في معظم مواده، ومراعاته لاحتياجات المرأة الصحية المتصلة بتكوينها البيولوجي.[15]

  • في إطار الخلل البنيوي في توزيع الموارد والمقدرات في البلدان العربية، يمكن تفسير الإفقار الذي يعاني منه كثير من المواطنين، وهي الإشكالية التي تأخذ بعدا أعمق في حالة التطابق بين الفقر وبين مكونات اجتماعية بعينها خاصة في المناطق التي تتواجد بها تركزات أقلياتية تعاني من الفقر وقلة الموارد، وارتفاع نسبة البطالة. والذي قد يترافق معه استغلال من السلطات للمقدرات الاقتصادية دون انعكاس على مواطني هذه المناطق أو سياسات إفقار ممنهجة. إلا أنه حتى في حالات أفراد الجماعات الأقلياتية والتي تحظى بقدر من الموارد والثراء يتم استغلال هذه الصورة من جانب السلطة في البرهنة على حجم التسامح والانفتاح والحريات التي تسمح بها هذه السلطات، ولنفي أي قضية أو مسألة أقلياتية أو مطالب مرتبطة بها بدلالة هذا الثراء، وهي صورة تناقض الواقع الذي عادة ما يعاني فيه بقية أفراد المكون المجتمعي من الأقل حظا اقتصاديا. وهو ما يقود إلى بعد هام يتمثل في العلاقة الداخلية للمكونات المجتمعية وتوزيع الثروة بينها على نحو متكافئ للجميع، وهو تحدي أخر تشهده هذه الحقوق والجماعات المختلفة.
  • إعادة النظر في قوانين العمل خاصة في مسألة الأجور وعدالتها دون تمييز بين النساء أو الرجال، وساعات العمل، وقوانين حماية السيدات أثناء العمل من الانتهاكات المتوقعة، وتعريف المواطنات والمواطنين بها.
  • ضرورة أن تمتد معالجة حقوق الجماعات الثقافية التي تعرضت حقوقها الاقتصادية للهضم أو التجاهل، من خلال تعويضهم مثل النوبيين في مصر، وحقهم في العودة للمناطق التي لم تغرق في النوبة القديمة، وإعادة فتح ملف التعويضات النوبية على أثر التهجير وملكيات الأراضي والمنازل الخاصة بهم على نحو عادل ومتناسب،[16] وتنمية المناطق المقيمين بها.
  • عدالة قوانين الضرائب للمواطنين وفقا لتدرجات دخولهم.

على مستوى السياسات:

وهو يتعلق بمستوى السياسات والإجراءات الحكومية، وما يتصل بها من لوائح، وهو أكثر المستويات تفصيلية، والأقدر على المراوغة في ضوء التعقيدات البيروقراطية والإدارية، إلا أن أهميتها تتضح في قدرتها على ملامسة الواقع واستشعار مدى التغيير، أو تفريغ القرارات والنصوص من مضمونها، وتحييدها عن هدفها الأصلي. وفي هذا المستوى يمكن الإشارة إلى:

  • سياسات التوظيف في القطاع العام والخاص وأهمية أن تكون اللوائح واضحة، في التعيين، والفصل، وضمان مساواة كافة المواطنين في حقوق التعيين في الوظائف العامة، والحصول على الخدمات العامة وفقا لمعايير واضحة لا تقوم على التمييز ضد النوع، الدين، الجهوية… إلخ.
  • وجود مؤسسة لمكافحة التمييز يكون من شأنها الفصل في أي شكاوى متعلقة بالتمييز، وتوسيع نطاق عملها ليتضمن الوظائف، والخدمات العامة، والإعلام… إلخ.
  • أن تراعي سياسات مثل الإسكان، والتعليم، والصحة الفئات المهمشة، والأقل حظا، وحتى في الأقاليم.
  • أن يكون هناك تعقب للتمييز في المؤسسات العامة والتي تقدم الخدمات للمواطنين كما هو الحال في المؤسسات التعليمية والتي تتضمن قدر كبير من هذه الممارسات، مع وضع قواعد صارمة لملاحقتها، ومعاقبة المسئولين عنها.

[1] محمد العجاتي، “المواطنة والمكونات الاجتماعية في الوطن العربي عقب الثورات العربية…استكمال البنية أم تغيير في المسار؟”، في “المواطنة والمكونات الاجتماعية في المنطقة العربية”، منتدى البدائل العربي للدراسات، منظمة هيفوس، ص 15

[2] فاطمة إمام، قرار 444، مدى مصر، https://is.gd/8cZJUm

[3] تقرير أسابيع القتل، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، يونية 2014، https://is.gd/0HoUq8

[4] شحاتة عوض، إرباك سياسي: أقباط مصر بين مظلة المواطنة ومظلة الكنيسة، 20 أبريل 2014، مركز الجزيرة للدراسات، https://is.gd/Wy7epR

[5] محمد العجاتي، “المواطنة والمكونات الاجتماعية في الوطن العربي عقب الثورات العربية…استكمال البنية أم تغيير في المسار؟” مرجع سابق، ص: 15

[6] يوسف لعراج، مرجع سابق، ص: 252

[7] ترجمة أماني فهمي، “دساتير العالم (المجلد الثالث): اليابان، البرازيل”، المركز القومي للترجمة، 2009، ص 68

[8] ترجمة أماني فهمي، مرجع سابق، ص 71

[9] ترجمة أماني فهمي، مرجع سابق، ص 309

[10] الدستور الهندي والثقافة الديمقراطية، جريدة العرب، 2 مارس 2014، http://www.alarab.co.uk/?id=16641

[11] سلوى الحمروني، نضال مكي، “المواطنة المتساوية في تونس: الضمانات الدستورية للمساواة بين المواطنين والمواطنات”، المنتدى العربي للمواطنة في المرحلة الانتقالية، سبتمبر 2012، https://is.gd/DFamw1

[12] دستور مصر لعام 2014، https://is.gd/VuBnlN

[13] سامح فوزي، ” المرأة والمواطنة.. قراءة في رأس المال الديني” في “المواطنة وحقوق النساء في مصر بعد الثورة”، منتدى البدائل العربي للدراسات، ص  34

[14] سعد سلوم، “العراق: التعددية ومستقبل المواطنة في ظل التحولات الراهنة”، في “المواطنة والمكونات الاجتماعية في المنطقة العربية”، منتدى البدائل العربي، مؤسسة هيفوس، 2015، ص: 129

[15] صباح الحلاق، “المواطنة وحقوق النساء: سوريا مثالا”، في “المواطنة والمكونات الاجتماعية في المنطقة العربية”، منتدى البدائل العربي للدراسات، مؤسسة هيفوس، 2015، ص: 95

[16] مشاكل النوبة في 100 عام، جريدة المصري اليوم، 17 نوفمبر 2010، https://is.gd/l06yW4

 

Start typing and press Enter to search