ورقة سياسات عن مواجهة الإهمال الطبي في مصر
نورهان شريف
مصر

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [1.02 MB]

الإهمال الطبي: بين تفاقم المشكلة والاستغلال الإعلامي للمسؤولين وبين افتقاد آلية تنفيذ واضحة

لقد بات الحديث عن تدني مستوى الخدمة الطبية وسوء إدارة قطاع الصحة في مصر مرتبط بفكرة غياب الرقابة الحكومية على الوحدات الصحية بشكل عام وأيضا إلى غياب المساءلة الطبية. ولعل تفاقم مشكلة الإهمال الطبي في مصر وازدياد عدد الضحايا جراء الإهمال أصبح ظاهرة من الصعب تجاهلها. فوفقا لتصريح من النيابة الإدارية يوجد 594 قضية إهمال طبي عام 2014 في القطاع الحكومي فقط دون القطاع الخاص. وكان مردود استغاثات الإهمال الطبي في المنشآت الصحية متوقفا على فكرة الزيارات المفاجئة من المحافظين أو هيئة رقابية حكومية مثل هيئة الرقابة الإدارية، وكان نتاج تلك الزيارات هو إعلان المسؤولين عن مفاجأتهم عن الوضع المتردي للمنشئات الصحية المتمثل في عدم التواجد في المستشفيات أو الوحدات الصحية أثناء النوبتجية وعدم الالتزام بمواعيد العمل، التأخير في تقديم الرعاية الطبية والتدخل الطبي لها دون مبرر والتدخل الطبي المخالف للأصول والأعراف الطبية والإهمال في تقديم الرعاية الطبية والمتابعة بعد إجراء التدخل الطبي، بالإضافة إلى رفض استقبال الحالات المرضية الطارئة من قبل المستشفيات الخاصة بالمخالفة لقرار رئيس مجلس الوزراء باستقبال تلك الحالات لمده 48 ساعة وفيما يعد مخالفة صريحة لنص المادة 18 من دستور مصر الحالي،وذلك وفقا لأخر تقرير صادر من الرقابة الإدارية عن قطاع الصحة. وغالبا ما تنتهي تلك الزيارات بإعلان المحافظ أو الجهة الرقابية عن إحالة مدير المستشفى أو الطبيب المقيم فيها إلى التحقيق دون التطرق إلى إعلان النية لإيجاد آلية لتحديد وحصر المشاكل وضمان عدم تكرار واستمرار ذلك الوضع المزري الذي يكتشفوه في المنشئات الصحية.

إذا قمنا بالنظر إلى الأطر التنظيمية التي تنظم عمل الأطباء وتقوم بدور المحاسب والمراقب، فتعتبر نقابة الأطباء في مصر التي هي بمثابة اتحاد للأطباء المصريين، والمعروفة بكونها أقوى اتحاد مهني في قطاع الصحة. وهي الجهة المسئولة عن محاسبة الاطباء تأديبيا (مهنيا)، أما المحاسبة الجنائية فهي من اختصاص النيابة العامة، وفي خلال المحاسبة الجنائية على الأخطاء المهنية يجب أن يحضر ممثل عن النقابة التحقيقات حسب القانون.

يلزم القانون النائب العام بابلاغ نقابة الأطباء في أي قضية تخص الأداء المهني لأعضاء النقابة، وتضم النقابة ٣ هيئات لمحاسبة الأطباء:

  1. لجنة التحقيق أو لجنة الشكاوى: تتشكل من عضوين من مجلس النقابة وعضو من النيابة العامة ومهمتهم فحص الشكاوى والتحقيق فيها، وتتم الإجراءات من خلال إحضار صورة من ملف الحالة في المستشفى وإزالة الأسماء وإرسال الملف لأحد الخبراء لكتابة الرأي العلمي، واستدعاء الشاكي والمشكو في حقة لأخذ أقوالهم، أما الشكاوى الأخرى في غير الأخطاء المهنية فيتم استدعاء الطرفين والشهود للتحقيق، وفي حالة وجدت اللجنة شبهة إدانة فتحول الشكوى للجنة آداب المهنة.
  2. لجنة آداب المهنة أو ما يعرف بالمحكمة التأديبية: وهي اللجنة رقم 2، وتتكون من 7 أعضاء، 3 من أعضاء مجلس النقابة، و2 من مجلس الدولة، مستشار من النيابة الإدارية ومحامي النقابة، وتختص هذه المحكمة بإصدار الأحكام التي تتراوح ما بين غرامة مالية لا تزيد قيمتها على ألف جنيه، ووقف عن العمل يتراوح ما بين 3 أشهر إلى سنة، وهي أحكام مخففة لا تمثل عقاب أو رادع عن الإهمال الطبي الذي قد يودي بأرواح المرضى.
  3. الهيئة الاستئنافية: وتتكون من ثلاثة أعضاء، عضوين من مجلس النقابة ومستشار من محكمة الاستئناف، ويتم من خلالها استئناف الأحكام الصادرة من لجنة آداب المهنة.

كما توجد ثلاث لوائح لتنظيم عمل النقابة والأحكام الصادرة عنها، وهي قانون النقابة، لائحة النقابة ولائحة آداب المهنة -ولكن للأسف تفتقد هذه الأطر التنظيمية إلى تحديد أي نوع من العقوبة تطبق على حسب أي نوع من الخطأ. فمثلا في عام 2010، تم تلقي 779 شكوى أخطاء مهنية وتم حفظ 543 شكوى منها بعد تحقيق الطبيب الاستشاري (الذي يقوم بنفي أو إثبات خطأ الطبيب بعد النظر إلى الملف الطبي للمريض وتقرير مفصل عن الطبيب وكذلك شهادة الطبيب)- وتم بعد ذلك استبعاد 226 ملف بدعوى عدم اختصاص النقابة بها، وكانت النتيجة إحالة 10 أطباء للمحكمة التأديبية وهو رقم بسيط جدا بالنظر إلى عدد الشكاوى المقدمة.

ولعل الهدف من تلك الورقة هو التركيز على الإهمال الطبي ونظام محاسبة الأطباء المخطئين ومحاولة لتحليل هذا النظام ومدى فاعليته في وضع حلول منهجية للمشكلات التي تواجه قطاع الصحة والتي أصبحت بارزة بتزايد استغاثات المرضي جراء الإهمال الطبي والتركيز بالأخص على ضرورة خلق نظام رشيد يحكم الرقابة والمساءلة. وسيتطرق الجزء التالي من الورقة إلى المقارنة بين تجربة الولايات المتحدة الأمريكية ونيوزيلندا ودولإسكندنافية مثل السويد، والدنمارك في التصدي للإهمال الطبي والذي كان نواة خلق نظام بأكمله لمعالجة وتحسين نظام صحي معيوب كان أحد أعراضه هو حالات الإهمال الطبي.

خبرات دولية في التعامل مع القضية

يختلف كثيرا نظام المحاسبة المتبع على الإهمال الصحي في الولايات المتحدة عن ذلك المتبع في دول الإسكندنافية. فقط ثمة مشترك وحيد بين النظامين وهو الاعتراف بأهمية التفرقة بين أنواع الخطأ المختلفة في حوادث الإهمال، فليس كل خطأ يرجع إلى الطبيب وليس كل خطأ هو إهمال، حيث هناك إعتراف بأن هناك أخطاء نظامية (system errors) وهو الخطأ البشري الذي يحدث بشكل عرضي، وهناك حوادث تنبع من الأثار العكسية (adverse effects) والتي تقع أثناء الرعاية الصحية وهناك الحدث الذي ينبع عن الإهمال وهو الفشل في تحقيق المعيار الأدنى المطلوب في الرعاية الصحية.

 تشير الدراسات الدولية التي تمت على مشكلة الإهمال الطبي وخاصة في الولايات المتحدة، إلى أن هناك ألاف من الأخطاء الطبية التي تحدث كل عام، ولكن قليل منها نابع عن إهمال حقيقي من الطبيب. حاليا الولايات المتحدة تحاسب الأخطاء الطبية تحت قانون المسؤلية التقصيرية والمعروفة بالـtort system والذي يعتمد على معاقبة مقدمي الخدمة الصحية المثبت أن خطأهم نتيجة لإهمال. ويتمثل هذا العقاب في تعويض مادي ضخم يقدم للمريض المتضرر. هذا بالأساس يعني أن معظم المرضى الذين تعرضوا لأضرار نتيجة للأثار الضارة من العلاج والتي تشكل غالبية الأخطاء الطبية، لا يمكنهم الإستعانة بالنظام القضائي.

ولكن يوجد انتقاد واسع لهذا النظام المعتمد بالأساس على محاسبة الطبيب المثبت إهماله بدعوى أن فكرة التقاضي لها تأثير سلبي على النظام الطبي الذي سيجعل الطبيب ينظر دائما إلى المريض بصفته خصم محتمل. إضافة إلى هذا فإن احتمالية التقاضي ستجعل الطبيب دائم الحذر والخوف وقد يتجنب عرض القيام بعمليات ذات خطورة عالية مثل التدخل الجراحي خوفا من العواقب على المريض. وقد أدى هذا الانتقاد لنظام التعامل مع الأخطاء الطبية إلى محاولات لتطوير هذا النظام إلى خلق نظام بديل لحل المنازعات وهو ما يعرف بالـADR (alternative dispute resolution) والذي يقوم على الحلول البديلة لفض المنازعات (التوفيق والتحكيم) حيث أنه يسمح لأي مريض تعرض لخطأ سواء كان نتيجة لإهمال أو لا أن يستخدم تلك الآلية. وهناك طريقتين لحل النزاع.

الأولى: هي أن تقوم هيئة المحلفين أو المحكمين بلعب دور وساطة بين الطبيب والمريض للتوصل إلى اتفاقية صلح تكون غير ملزمة للطرفين وتتم بالتراضي، والطريقة الثانية هي التقاضي من خلال هيئات المحلفين. وفي الحالتين يستفيد المريض والطبيب أكثر من طرق التقاضي التقليدية. كما يوجد حاليا توجه إلى فكرة المحكمة الصحية التي ستنقل ادعاءات الإصابة من قانون المسؤلية التقصيرية إلى النظام الإداري، والهدف منها هو الحد من الادعاءات العابثة ومنع إساءة تطبيق أحكام العدالة.

هناك أيضا مقترحات بتطوير نظام العقاب الحالي لينتقل من محاسبة الطبيب إلى محاسبة المنشأة الصحية نفسها وجعل الإدارة موضع المسؤلية القانونية. ويعطي هذا النظام المنشأة الصحية الدافع للتأكد من جودة الأطباء الذين يختارونهم للعمل وكذلك إلى حرصهم على مراقبة أدائهم وإلى التأكد من جعل بيئة العمل مواتية للتقليل من حوادث الإهمال وذلك بضمان نظافة المنشأة وجودة المعدات والأجهزة وكذلك توفر الأدوية والعقاقير الصالحة للاستخدام. تشمل المقترحات كذلك فكرة الدفع وفقا للخدمة المقدمة أو ما يعرف بالـ pay for performance(الدفع مقابل الأداء) للتحسين من مستوى الخدمة الصحية المقدمة.

أما في نيوزيلندا والدول الإسكندنافية فالنظام المتبع لمواجهة الإهمال الطبي يقع تحت نظام إداري لتعويض المرضى بغض النظر عمن ارتكب الخطأ الطبي وهو ما يعرف بالـ no fault compensation systemهذا النظام المتبع في نيوزيلندا، السويد والدنمارك والذي استبدل التعويض عن طريق القضاء بالتعويض الإداري، ويستطيع من خلاله المرضى الذين تعرضوا لخطأ طبي أن يتقدموا بطلب للتعويض دون الاحتياج إلى محامي، ويقوم فريق استشاري طبي متخصص بمراجعة الشكوى المقدمة وتحديد التعويض المناسب. ويضمن هذا النظام تعويض المرضى الذين تعرضوا لضرر حتى ولو لم يكن هذا الخطأ نتيجة لإهمال أو خطأ عارض. ويمتاز هذا النظام بالأساس إلى كونه نظاما متكاملا يقوم بتحليل المعلومات المقدمة في الشكاوى وتحديد فرص لتطوير النظام الصحي، وهذا يرجع بالأساس إلى الاعتراف بأن الحوادث الطبية ليست كلها نابعة عن إهمال أطباء ولكن معظمها ناتج عن خطأ ما في النظام الصحي، ولذا فإن نظام التعويض الذي يقوم على هذا الأساس هو بالضرورة نظام يعمل على تطوير مستمر للنظام الصحي ينظر إلى المريض باعتباره صاحب حق.

استراتيجيات وآليات مقترحة للتعامل مع القضية:

  • إنشاء هيئة قومية مستقلة تسمي “الهيئة المصرية للجودة الشاملة” لتنظيم ومراقبة وتطبيق جودة الخدمات الصحية في وحدات تقديم الرعاية الصحية ويصدر قرار باختصاصاتها ونظام العمل بها من رئيس الجمهورية، تكون لها الشخصية الاعتبارية، وترتكز على وضع التشريعات المنشأة للأسس والمعايير والمواصفات والاشتراطات اللازمة لتحقيق الجودة، وبما تتطلبه من اشهار وترخيص واعتماد، وترشيد للأداء والتكاليف، وتحقيق السلوكيات المحفزة لأداء الخدمة المرضية للمنتفع بالخدمة، والمولدة للأدلة الإرشادية للمهنيين والفنيين والمرضي. وتقوم بالتحكيم في المنازعات التي تنشأ من أطراف الخدمة.
  • تكون تلك الهيئات الرقابية مصحوبة بوحدات مستقلة تعمل على تلقي شكاوى ومقترحات الجمهور وأن تأخذ هذه الشكاوى بجدية وأن تعمل على التعامل معها بحيادية وأن توفر استجابة سريعة مع الإعلان عن النتائج أول بأول لضمات ثقة المرضى في جدوى هذه الوحدة المستقلة وجدوى تقديم الشكوى والمقترحات حتى يتوافق المرضى ومقدمي الخدمة الصحية ولضمان إدارة نظام صحي كفء عادل وإنساني ينظر إلى المريض باعتباره صاحب حق ملزم بالعلاج والرعاية الطيبة
  • إعداد أدلة وبروتوكلات للخدمة الطبية محددة لمقدمي الخدمة الصحية ومتلقي الخدمة بحيث تخلق مقاييس يمكن من خلالها التعرف على مستويات الجودة وتحديد المتسبب في الخطأ وأيضا نوع العقوبة.
  • تقوم وزارة الصحة بالمشاركة مع نقابة الأطباء ومنظمة الصحة العالمية بتحديد مستويات للخطأ الطبي في كل مرحلة من مراحل تقديم الخدمة ومستوي الضرر الناتج عنها والعقوبة المناسبة. ويجب أن تتدرج العقوبات تبعا لنوع الخطأ ومدى الضرر الذي لحق بالمريض بحيث تزيد من درجة الاهتمام والجودة وتقلل نسب الأخطاء وتضع عقوبات رادعة للمهمل والمخطئ وعقوبة للمنشأة الطبية التي يحدث بها الخطأ. بحيث نضمن أن يكون نظام المحاسبة/العقاب محكوم بقواعد معلنة وبأطر تنفيذية لا علاقة لها بميول مدير المنشأة الصحية المزاجية والشخصية، بل يجب ضمان تمتعها بدرجة استقلال كبيرة لمنعها من أن تكون تحت تأثير سلبي من أي طرف داخل الوحدة الصحية وخارجها تؤثر على صلاحيات عملها، وأن يكون نظام المحاسبة ليس مبنيا على أساس العقاب للطبيب فحسب، بل بنية تحديد وتحليل الأخطاء الطبية محاولة للارتقاء بالنظام الصحي في مصر. ولكي يتم ذلك تقترح الورقة تطبيق التقييم والرقابة على ثلاث مستويات، يقيس الأول المستوى المهني الطبي والتمريضي، والثاني النظام الإداري والمالي، أما الثالث فيقيس المستوى الإنساني وحسن معاملة المرضى بهدف عدم اقتصار الخطأ على الطبيب وحده، ولكن أيضا على ظروف المنشأة الصحية التي ترجع إلى إدارتها.
  • تقوم الوزارة والنقابة بمراجعة دورية للأخطاء الطبية تبعا لتطور أساليب العلاج وتحديد مستويات الخطأ في كل نوع من أنواع تقديم الخدمة.
  • توجد ضرورة لتطبيق معايير الجودة على كل مقدمي الخدمة الصحية من القطاع الحكومي والخاص والأهلي لكي نرتقي بمستوى تقديم الخدمة الصحية كما حدث في الدول الإسكندنافية.
  • أن توجد دورية لمنح التراخيص الطبية للأطباء والتمريض والمنشآت الصحية تجدد كل ثلاث سنوات وبحيث نضمن تطوير مستويات الأداء وعمل أساليب متطورة للتقييم وقياس الأداء واختبارات يتم على أساسها تجديد التراخيص أو طلب توفير عناصر محددة أو تدريبات يجب الحصول عليها لتجديد الترخيص.
  • تقترح الورقة في كل خطوات إنشاء الهيئة أو تشكيل لجان المراقبة والتحكيم بأن تتضمن –بالإضافة للأطراف المعنية- أطرافا من هيئات المجتمع المدني وجمعيات أصحاب المصلحة كالمرضى والمنتفعين.

 

Start typing and press Enter to search