فتنة أسوان وأزمة التكامل القومي
عمر سمير خلف ,نوران سيد أحمد
مصر
Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [346.85 KB]

تقع أزمة التكامل والاندماج القومي والاجتماعي في قلب أزمات التنمية، وتتفاقم هذه الأزمة في بلدان العالم الثالث إذ لا تستطيع الدولة إدماج فئات واسعة فيها، ولا تتعامل مع قطاعات عريضة من المجتمع كمواطنين بل كأعضاء في قبائل أو كأجزاء من أقاليم يمارس التمييز ضدها بشكل واضح، والأزمة الأخيرة في أسوان بين قبيلتي الدابودية والهلايلة ليست الأولى من نوعها التي تتكشف فيها هذه الأزمة فقبل اثني عشر عاما شهدت محافظة سوهاج أحداث قرية بيت علام[1] والتي عجزت الدولة عن حلها بالآليات المتعارف عليها في الدول الحديثة إذ لجأت إلى الأعراف كما هو الحال في معظم قضايا الفتن الطائفية على مر السنوات الماضية وفي نوفمبر 2011 اندلعت أعمال عنف قبلية بين قريتي أولاد يحيى وأولاد خليفة ولم تستطع الدولة وقف إطلاق النار بين القريتين لأيام رغم تدخل قوات الجيش واستعمالها للغاز المسيل للدموع وفرض حظر التجوال لوقف القتال،[2] ومع ذلك تجددت الاشتباكات في يونيه 2012[3] ثم ما تلبث الدولة أن تلجأ للحلول العرفية في أعقاب تلك الأحداث التي تهدأ وتشتعل بإرادة الأطراف لا بتدخل الدولة من حين لآخر، بل أن السياسيين المصريين سواء أعضاء الأحزاب ومرشحيها البرلمانيين أو مرشحي الرئاسة منذ 2005 وحتى الآن يتعاملون مع المواطنين بمنطق مقابلة كبرائهم سواء مشايخ قبائل أو عمد قرى ونجوع وكفور.

وبالتأكيد فإن منطق الدولة الحديثة لا يلغي القبليات والعصبيات والولاءات التحتية بل يسعي لتأطير المواطنين فيها كآلية من آليات التنظيم ينبغي أن تأتي بعد الحزب والجمعية الأهلية وكل ما يمكن التعامل معه باعتباره جزءا من المجال العام، ولسنا هنا بصدد تقييم صحة أو خطأ هذا المنظور، بقدر ما نحن بصدد تقدير وضع الدولة المصرية التي ترى نفسها دولة حديثة وريثة نظام محمد على الحداثي كما يراه القائمون على السلطة أو مثقفي بعض التيارات ومدى جدية ادعائها هذا في ظل الأحداث.

ومفهوم التكامل والاندماج الاجتماعي يمثل ظاهرة مركبة ومتعددة الأوجه يصعب حصرهما في معنى قاطع ومحدد، وكذلك قياسها كميا عدا بعض المؤشرات التي يختلف تفسيرها، وهي فكرة قد تعني أشياء مختلفة لأناس مختلفين، وهي قد تعني للبعض معنى إيجابيا إذ توحي بالفرص والحقوق المتساوية لكل البشر وبالتالي أن تكون أكثر اندماجا هي أن يتم تعظيم الفرص الأحسن في الحياة. ومن ناحية أخرى قد تعطي كلمة اندماج انطباع غير مرغوب فيه للتماثل، ولمجموعة ثالثة فالمفهوم محايد لا يعني حالة مرغوبة أو غير مرغوبة فهو ببساطة طريقة لوصف أنماط مختلفة قائمة لعلاقات إنسانية في مجتمع معين. وبعبارة أخرى تعني كلمة اندماج بالتكامل الطوعي والايجابي لعناصر غير متشابهة أو متطابقة أصلا.

ويمثل التكامل والاندماج الاجتماعي أرضية جيدة لسياسة تنموية توفر شروطا جيدة لتحقق مشاركة جميع المواطنين بفئاتهم وأصولهم المختلفة في التنمية كصانعين لها مستفيدين منها. والتكامل والاندماج الاجتماعي يقترب أيضا كمفهوم في الصيغ المناسبة لإدارة التنوع والتعدد الثقافي ويحول التباينات الإثنية والدينية واللغوية لأشكال تساعد في بناء الوحدة على أساس التنوع.

كما أن التكامل والاندماج الاجتماعي بشقيهما العملي يرتكز على استراتيجيات وسياسات وابتكارات مؤسسية تستهدف الفئات المحرومة والهامشية في مختلف الأوضاع الثقافية والسياسية بقصد تحقيق تكافؤ الفرص والمساواة في الوصول إلى الموارد من خلال قنوات تضمن تحديد وتلبية احتياجات وطموحات تلك الفئات، ويضع التكامل والاندماج الاجتماعي حلولا لكثير من المشاكل كالسخط الاجتماعي والانفصالية والنزاعات القومية والصراعات الإثنية والعرقية.[4]

تلخص عبارة الساخر جلال عامر كثيرا مما يدور في خلدنا إذا أردنا تلخيص علاقة السلطة المركزية بالصعيد “علاقتنا بالصعيد تقتصر على المسلسلات، والصعيد ليس مطاريد الجبل ولكن مطاريد الدولة التي تبدد ميزانيتها على القاهرة الكبرى على حساب مصر العليا”[5]، وربما ليس هذا حال الصعيد فقط بل معظم الأطراف الجغرافية لمصر وحتى الأرياف في دلتاها وإن بدرجات أقل.

الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للأزمة: تعاني أسوان منذ 2011 أزمة اقتصادية واجتماعية طاحنة إذ كانت قبل الثورة من أكثر المحافظات المستقبلة للسياحة وكان قطاع كبير من أبنائها يعملون بالسياحة ويحرصون على استقرار محافظتهم لجلب المزيد من السياح إليها، تفاقمت هذه الأزمة في الشهور الأخيرة إذ وصلت نسب الإشغال إلى أدني مستوياتها، ومن ثم فالمحافظة تعاني أزمة بطالة أكثر من غيرها من المحافظات التي تعتمد على أنشطة أكثر استقرارا كالتصنيع أو الخدمات الموجهة للداخل أو خدمات النقل البحري أو حتى الزراعة التي وإن تأثرت بتبعات الثورة إلا أن تأثرها لم يكن بالقدر الذي حدث للمحافظات السياحية، ليست أزمة تدهور السياحة سببا مباشرا إلا أنها عامل غير مباشر، إذ أن سبب الهدوء النسبي لم يعد موجودا، فالتنافس على الأرزاق التي ضاقت أصبح أقرب إلى الصراع منه إلى التنافس، كما أن هذا الركود هو أحد أبرز العوامل التي دفعت كثير من أبناء المحافظة للسعي في البحث عن مصادر رزق بديلة متمثلة في تجارة المخدرات والسلاح، وكلها عوامل دفعت بخروج الأزمة الأخيرة عن السيطرة وتعظيم حجم الخسائر والضحايا بين الطرفين.[6]

وتتجذر القبلية في أسوان، كبقية محافظات الصعيد والمحافظات الحدودية، أكثر من غيرها وينخفض اعتماد المواطنين على الدولة ومن ثم ينظرون إلى القبيلة على أنها الأقرب إليهم، لأن نظرتهم للدولة ارتبطت بالدور السيئ لوزارة الداخلية باعتبارها الحكومة وفقط أو باعتبار الدولة محصل الفواتير دون تقديم خدمات مرضية للمواطنين. كما أن الانتماء القبلي أوجد نوعا ما يٌعرف بالتعددية الهيكلية، حيث أن انتماء الفرد لقبيلة بعينها هو أحد العوامل الميسرة لحصوله على أي خدمة، وكذلك تسيير دخوله لجهاز الدولة بحكم انتمائه لهذه المجموعة، ومن ثم التمتع بكثير من المميزات الاقتصادية والاجتماعية.

وتعبر هذه الأزمة في جوهرها عن أزمة الاندماج القومي، بين مجموعات مختلفة عرقيا أو إثنيا يعاني كلها من التهميش والتجاهل من الدولة باختلاف درجاته، وبشكل يعكس إلى حد كبير عجز الدولة عن استيعاب هذه المجموعات في سياساتها وهياكلها، وهي أزمة لعبت الدولة فيها دورا سواء بشكل مقصود أو غير مقصود ناجم عن تجاهل لكثير من المتغيرات الديموجرافية، وبه قدر كبير من التدخل المقصود من جانب الدولة لتغيير التركيبة الاجتماعية والجغرافية لم تراع بأي حال من الأحوال هذه المجموعات ومطالبها ومحاولة تكييف وضعها في ضوء حقيقة التطورات التي نتجت عن العوامل الطبيعية في المحافظة، كعمليات التهجير المستمرة التي شهدتها هذه المجموعات، على نحو أوجد حيزا من الجوار الاجتماعي لم يتم بشكل تلقائي، حيث أن بعض هذه المجموعات مثل النوبيين والتي تمتعت بقدر من العزلة بحكم المتغيرات الجغرافية والتي ترسخت بواقع الوفرة الاقتصادية والاكتفاء الذاتي في منطقة بلاد النوبة قبل التهجير الذي حرم هذا المجتمع من كل مقدراته الاقتصادية وأوجدته في حيز جغرافي مع مجموعات أخرى مختلفة، على نحو يبدو أن الدولة لم تسع لإطلاعهم عليه قبيل تهجيرهم، ما خلق إحساسا بأن هناك مساعي لمزاحمتهم والتسلط عليهم من جانب هذه المجموعات برضى وتشجيع من الدولة أو في أفضل الأحوال عدم ممانعتها، وفي الوقت ذاته إطلاق الدولة المنافسة بين جميع هذه المجموعات على نفس الدرجة حول المقدرات الاقتصادية والاجتماعية، دون تسوية تعويضات لخسائر بعض المجموعات مثل النوبيين ما جعل الإحساس بالخسارة والتجاهل أكبر، وأوجد نوعا من الحساسيات تضاعفت على ضوء فقد هذه المجموعات باستمرار لكثير من امتيازاتها الاجتماعية والاقتصادية، وهو أمر لم تلتفت له الدولة حين إقرار هذه السياسات على نحو رسخ وعمق من هذه الحساسيات بين المجموعات العرقية المختلفة وصولا لحد مطالبة بعض الأصوات داخل كل معسكر منهم خلال الأزمة الأخيرة بضرورة رحيل الطرف الآخر عن المحافظة وإقصائه تماما، وربما هي لهجة جديدة لم تستخدم في مثل هذا النوع من المنازعات باستثناء الطائفي منها والذي يتم فيها اللجوء لمثل هذه الحلول بترحيل أحد طرفي النزاع خارج منطقة سكنه تجنبا للاشتباك مع الطرف الآخر.

وهي بدورها تمثل مؤشرا واضحا على مدى تدهور وضعية المواطنة وإدراك وفهم المواطنين لها وخاصة في مناطق الأطراف، من حيث الاعتقاد بأن الأسبقية التاريخية والحضارية وما شابهها هي العامل الأوحد في اكتساب حقوق المواطنة وممارستها، حتى لو أن أحد الأطراف استقر لفترة زمنية طويلة، واستقرت معه مصالحه ومطالبه الاقتصادية والاجتماعية، مما يعكس مدى تخلف الصورة الذهنية للمجتمعات المحلية في مصر عن تكوين المجتمعات استنادا على نقائها العرقي والقبلي.

الأزمة في جانب آخر جاءت كاشفة عن قوة بعض الفاعلين في هذه المجتمعات المحلية، على رأسها المكون القبلي على النحو السالف بيانه، علاوة على دور المكون الصوفي ممثلا في الطرق الصوفية والذي يتمتع بقوة وقبول في جنوب مصر وتجذر في نفوس المواطنين هناك، وهو ما يتضح في حجم التأييد والترحيب الذي لقته مجهودات الوساطة من جانبها لحل الأزمة، كما اتضح في توسط شيخ الطريقة الإدريسية في أسوان الشيخ أحمد الإدريسي لعقد الهدنة، والتي تعضدت بدخول شيخ الأزهر على الخط بما يمثله من مكانة روحية باعتباره أيضا منتميا لبيت الطيب أحد أبرز معاقل الصوفية في صعيد مصر.

إلا أن السلطة سعت لأن تأخذ حيزا من التواجد في مراحل متقدمة من الأزمة وبعد دخولها حيز السيطرة، وإن كان من خلال أجهزتها المحلية وليست القومية والمركزية، والتي وجهت برفض من جانب أطراف الأزمة، وذلك من خلال المشاركة في لجنة المصالحة وإدارة الأزمات والتي تمثلت فيها سلطة الدولة من خلال شخوص محافظ أسوان، ومدير أمنها، ورئيس جامعتها إلى جانب الأطراف سالفة الذكر والمعنيين من طرفي النزاع.[7]

النظرة للأخر في خطاب كلا الطرفين: وبدأ كلا الطرفين النظر إلى عشيرته وقبيلته باعتبارها المخلص الوحيد والجدار الصامد في مواجهة الطرف الآخر عندما غابت الدولة عن التدخل وتفاقمت الأمور، ومن ثم تم ترديد عبارات عنصرية من قبل كلا الطرفين تجاه بعضهما، ومع اتباع أساليب الحل العرفية وعلاج المشكلة بالمسكنات سوف تؤجل المشكلة لتنفجر من حين لآخر في التوقيت والمكان الذي يحدده أيا من الطرفين ويصبح دور الدولة هو إدارة الأزمة وليس حلها.

وتعد حرب الخطاب التي تبادلها طرفي النزاع طول فترة الأزمة، كاشفة عن قدر كبير من العزلة بين هذه المجموعات بطريقة أو بأخرى وكذلك عن حجم العنصرية الكامنة لدى هذه المجتمعات والصور الذهنية لدى كل منها عن الآخر، وهو ما يمكن ملاحظته من متابعة وسائل التواصل الاجتماعي والالكتروني، واللقاءات الصحفية والتلفزيونية مع طرفي الأزمة، فقد ساد خطاب عنصري يرتكز في أحد جوانبه على إدعاءات حول النقاء العرقي والإثني لدى طرفي الأزمة وخاصة الطرف النوبي، في مقابل دونية وانحطاط الطرف الآخر للأزمة من بني هلال، والجانب الآخر الذي ارتكز عليه هذا الخطاب العنصري هو التركيز على بعد المكانة الاجتماعية والطبقية لطرفي النزاع وهو ما يحمل أبعادا تاريخية موروثة تتمثل في حقيقة كون أحد طرفي النزاع (النوبيين) كان الأوفر حظا من ناحية الملكية والثراء مقارنة بالطرف الآخر والذي كان يعمل قديما في خدمة وأملاك النوبيين، مع الاعتراف بأن ليس هناك كثير من المواد التي يمكن الاعتماد عليها للاستماع لوجهة نظر الطرف الآخر والتيقن على نحو قاطع من تبنيه لنفس الخطاب، نظرا لضعف تواجده على وسائل التواصل الاجتماعي في مقابل الطرف الآخر الذي اكتسب خبرة طويلة على صياغة خطابه وتقديم نفسه وقضيته في المحافل الدولية، وإن كانت الشهادات التي بينها عدد من التحقيقات الصحفية التي تسير في اتجاه التأكيد على وجود مظلمة تاريخية وقدر من التمايز ضد بني هلال يتم ممارسته تاريخيا من جانب النوبيين.

إلا أن هذا الخطاب لم يتوقف عند حد العنصرية، بل أن خطابه يحمل أبعادا متمثلة في مطالبة بعض الأصوات في داخل كل معسكر منهم بإقصاء وإبعاد كل طرف منهم خارج المحافظة كسبيل وحيد لإنهاء الأزمة أو القضاء على احتمالات أزمات مقبلة بين الطرفين، وهو وإن كان يعكس قدر العنصرية المتواجد، وحتى اتهام بعض أطراف الأزمة وخاصة بني هلال بممارسة جرائم أخلاقية واجتماعية، إلا أنه في جانب آخر يعكس مدى العطب والفشل من جانب الدولة في تقديم سياسات من شأنها خلق نوع من التكامل أو الاندماج القومي بين الطرفين.

كما أن هذا الخطاب لا يقف عند هذه الحدود وإنما يضع قدرا كبيرا من المسؤولية واللوم بخصوص هذا الوضع وانفجاره على عاتق الدولة، بداية من تبنيها سياسات توطين لهذه المجموعات المتنوعة إثنيا وثقافيا من القدم، اتسمت بأنها كانت شديدة الجمود والميكانيكية على نحو لم تراعى فيه الاعتبارات الاجتماعية، والخصوصية التي يمتلكها كل طرف، إلي جانب كون سياسات التوطين تلك أتت على الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية التي امتلكها كل طرف من الطرفين، وهو ما يتضح بشكل بارز في الجانب النوبي والذي حُرم من كثير من امتيازاته بفعل الهجرات المتكررة المختار منها والمخطط منها من جانب الدولة، دون تعويض إلى الآن، ومن ثم جاء تواجد هذه المجموعات وخلق هذا الجوار بشكل افتقد العفوية والتلقائية، وارتباطه في ذهنية الطرفين بالدولة، ومن ثم النظر لمثل هذا الجوار باعتباره ذريعة من الدولة للمس بكل طرف منهم. وكذلك وجود اتهامات من جانب كل طرف بأنه أقدر على النفاذ لأجهزة الدولة ومن ثم التمتع بالعديد من هذه الامتيازات كالوظائف، والخدمات والسلع العامة ومن ثم تعمد حرمان الطرف الآخر منها، وهو بدوره يطرح تساؤلات حول مسألة حيادية جهاز الدولة في المحافظة، وكيفية إدارة الدولة لهذا التنوع الثقافي داخل هذه المحافظة.

الصراع بين حلول الدولة والحلول العرفية: الجديد في أزمة أسوان أن الدولة تحاول أن تلعب دورها من خلال وسيط عرفي وأن هذا الوسيط العرفي توصل إلى هدنة شهر، ومصطلح الهدنة يعني ضمنا التسليم باندلاع الصراع مستقبلا وأن القضية أكبر من مجرد صراع قبلي ثأري تقليدي.

ويرى بعض المحللين للأزمة أن تقويض الدولة مستمر من قبل السلطات المفترض فيها حفظها بل وتدعيمها رغم افتراضهم حسن النية فالمسألة تتعلق بسلامة الأدوات المستخدمة من عدمها، فقيام التجاذب بشأن أحداث أسوان بين إعمال القانون والقبض على المشتبه في مسئوليتهم الجنائية، وتقديمهم للنيابة تمهيدا لاتهامهم ومحاكمتهم، ثم إنزال العقوبات بهم إن ثبتت مسؤولياتهم، من جانب، وبين الدعوة إلى جلسات الصلح العرفي، ودفع الدية، وتوسط رجال الدين والخير، من جانب آخر، يعبر عن تجاذب آخر بين أدوات الدولة الحديثة التي تعزز شرعيتها في مقابل أدوات التشكيلات الاجتماعية الأولية التي تدعم شرعيتها هي على حساب شرعية الدولة[8].

ومع الوقت فإن تهميش الأطراف بشكل مستمر قد يفضي إلى انفراط عقد ولائها للدولة وبحثها عن مناطق مهمشة مماثلة في دولة جوار تربطها معها علاقات قبلية وعائلية ومصالح اقتصادية واجتماعية أقوى مما يربطها بمصر كما هو الحال في مناطق مطروح وعلاقتها بالشرق الليبي والنوبة وعلاقتها بنوبة شمال السودان، وكذلك القبائل العربية القاطنة بمنطقة حلايب وشلاتين وعلاقتها بامتداداتها في شمال السودان، ونفس الحال ينطبق علي القبائل التي تقطن سيناء وعلاقتها بامتداداتها في الأردن والسعودية وفلسطين، سياسات الأجهزة الأمنية في تعاملها مع هذه المناطق تفضي إلى تعميق لجوئها لولاءاتها التقليدية كالقبيلة والعائلة والمنطقة بل قد تؤول حال تحولها للقمع أو إلى نمط العقاب الجماعي إلى تمترس هذه المناطق بولاءاتها في مواجهة الدولة نتيجة حالة من حالات التضامن حول الذات تهدم منطق الدولة ذاته.

خاتمة:

إن المتفحص لهذه الأزمة ومثيلاتها يكتشف أنها وليدة لأزمة الدولة والمجتمع والهوية في مصر، الأمر الذي يستدعي النظر في الإطار الاجتماعي للسياسة وفي سوسيولوجيا الدولة لتجنب الوقوع في تصورات اختزالية لواقع مجتمعنا.

تخلي الدولة عن مسئوليتها الأولية في وقف القتال وارتضائها لأن يكون هدفها الأسمى إقرار هدنة شهر بعد جهد عرفي يعني أن هناك إرادة للتسليم بدولة رخوة وليست دولة قانون ومساواة ومن ثم على الدولة إن أرادت أن تحافظ على مسماها أن يكون لها مجموعات إنذار مبكر في المناطق المرشحة لانفجار عنف أهلي أو طائفي حتى تتمكن من اتخاذ إجراءات استباقية سليمة سياسيا واجتماعيا وأمنيا حتى تصبح ملاذا للمواطن قبل قبيلته أو طائفته.

عدم التفات الدولة للظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها بعض الأطراف قد يقود في النهاية -حال تراكمه- إلى عنف أهلي ممنهج قد لا تستطيع أجهزة الدولة السيطرة عليه حال تطوره، ومن ثم فالتعامل الأمني مع الأطراف من ناحية أو العرفي مع أحداث العنف فيها ليس حلا ولا حتى مسكنا قويا.

ــــــــــــــــــــــــــ

[1] حيث شهدت قرية بيت علام بمركز جرجا بمحافظة سوهاج بصعيد مصر حادث قتل جماعي قبلي لـ22 شخصا من عائلة واحدة في يوم 10 أغسطس 2002 وتلاها حوادث ثأر جماعي داخل مصر وخارجها حتى أن بعض الدول العربية هددت بترحيل من ينتمون لنفس المنطقة، لمزيد من التفاصيل أنظر موقع جريدة الشرق الأوسط، بتاريخ 15 أغسطس 2002، على الرابط التالي: http://is.gd/jl152N HYPERLINK “http://is.gd/jl152N”

 محمود مقبول، التفاصيل الكاملة للأحداث الدامية بين قريتى “أولاد خليفة” و”أولاد يحيى” بسوهاج.. المشاجرة بدأت يوم العيد بسبب “لعب القمار”.. وتحولت لنزاع قبلى بين “الهوارة” و”العرب” أسفرت عن قتيل و25 مصابا”، اليوم السابع، بتاريخ 8 نوفمبر 2011، على الرابط التالي: http://is.gd/YxrPwl HYPERLINK “http://is.gd/YxrPwl”

 السيد أبو على، الرصاص يعود لحسم الخلافات بـ«قرية الثأر» فى سوهاج، المصري اليوم بتاريخ 23 يونيه 2012، على الرابط التالي:

[3]http://www.almasryalyoum.com/news/details/188189 HYPERLINK “http://www.almasryalyoum.com/news/details/188189”

 حيدر إبراهيم علي، “الهوية، والاندماج القومي”، موقع مركز التنوير المعرفي http://is.gd/j1Cw7V

[5] انظر صفحة الساخر جلال عامر على الفيس بوك، بتاريخ 6 أبريل 2014 http://is.gd/WEmfEz HYPERLINK “http://is.gd/WEmfEz”

 إسماعيل الإسكندراني، “في أعماق الفتنة.. كيف يرى النوبيون أزمة أسوان (1-3)”، موقع مصر العربية، 27 أبريل 2014، http://is.gd/DXyfbX HYPERLINK “http://is.gd/DXyfbX”

 “لجنة برعاية الأزهر وإشراف محافظ أسوان لإتمام المصالحة بين الدابودية وبني هلال”، المصري اليوم، 12 أبريل 2014 http://is.gd/eERUKn HYPERLINK “http://is.gd/eERUKn”

 إبراهيم عوض، “أحداث أسوان والتكامل الوطني”، جريدة الشروق المصرية، بتاريخ 13 أبريل 2014 http://is.gd/kP0Btv HYPERLINK “http://is.gd/kP0Btv”

Start typing and press Enter to search