جماعات العنف الديني بعد سقوط الإخوان
إسماعيل الإسكندراني
مصر
Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [797.86 KB]

مقدمة

ارتبط سقوط الإخوان السياسي في 30 يونيه 2013 والقضاء نهائيا على وجودهم في السلطة بعدها بثلاثة أيام في 3 يوليو بعودة ظهور جماعات العنف الديني في المشهد الاجتماعي- الديني- السياسي، وتحولها إلى فاعل رئيسي في مجريات الأمور أمنيا وسياسيا. تشوب كثيرا من الكتابات حول العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين وهذه الجماعات عيوبٌ منهجية وتسرعٌ يقود أصحابها إما للتعسف في الربط التنظيمي والفكري بينهما، أو التعجل بنفي العلاقة رغم شواهد التلاقي في الخطاب والشعور بالتهديد وغيرهما.

قد يكون سبب الخلل المؤدي إلى التسرع موقفا سياسيا/أيديولوجيا مسبقا قد يحتفي بإعلان الإخوان المسلمين رسميا جماعة إرهابية، على ما يشوب هذا الإعلان من طابع إداري تنفيذي وافتقاده للمستند القضائي. وقد يكون شيئا من الاستعلاء فوق المستوى الوصفي، والحرص على التمسك بمستوى التحليل، حتى إن غابت عن المحلل معلومات حيوية حديثة، فيلجأ إلى الاستخراج من مخزون معلوماته القديمة ما استحق به –فيما سبق– وصف “المتخصص” في بعض فروع العلوم الاجتماعية أو السياسية والإستراتيجية.

أزعم في هذا المقال أن المستجدات في أوساط التنظيمات “ذات السند الإسلامي” – بحسب تعبير حسام تمام– قد بلغت من التعقيد والتراكم منذ اندلاع الثورة في يناير 2011 مستوى يضطرنا إلى الاحتياج لدراسات وبحوث وصفية وتوثيقية جديدة، قبل الشروع في تحليلِ واقعٍ ملغومٍ بالمجهول لدى أغلب الباحثين بعيدي الصلة بمجريات الأمور في سيناء تحديدا. كما أجادل بأن مدخل سيناء، كبعد سوسيوسياسي وجيواستراتيجي، هو أهم مدخل يمكن فهم تطورات مشهد جماعات العنف الديني من خلاله، سواء في السياق الوطني المصري أم في السياق الإقليمي العربي الإسرائيلي، أم حتى على المستوى العالمي حيث صراع تنظيم القاعدة، والمنشقين عنها، ضد المصالح الأمريكية خصوصا، والغربية عموما.

كمتخصص في شؤون سيناء، درست الجماعات الإسلامية في سيناء عن كثب، وليس العكس. لذلك يدور المقال حول تحول جماعات سيناء المسلحة إلى الداخل المصري، معرّجا على بزوغ جماعات عنف ديني جديدة في وادي النيل، ويُختتم بمقارنة استقرائية مختصرة بين اندماج الجماعات في سيناء وتشظيها في وادي النيل.

تحول جماعات سيناء المسلحة إلى الداخل المصري

عرف استخدام السلاح بشكل جماعي منظم في سيناء في إطار الصراع القبلي الذي كان يمتد بين سيناء وفلسطين التاريخية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. فالقبائل الكبرى التي تقطن المنطقة الحدودية من سيناء (مثل: السواركة، والرميلات، والترابين، والتياها، والعزازمة) موزعة بين مصر وفلسطين التاريخية والأردن، ولها أصول وامتدادات داخل بلاد الحجاز (المملكة العربية السعودية). ولم تعرف هذه المنطقة الحدود السياسية بمعناها الدولي إلا بدخول وعد بلفور حيز التنفيذ وبلوغ ذروته باندلاع حرب 1948.

في هذا العام، ظهر أول عمل مسلح ذي طابع ديني/جهادي في سيناء، بتنظيم الإخوان المسلمين معسكرات تدريبية للمتطوعين في حرب فلسطين في كل من العريش وسد الروافعة. انحسر بعدها الإخوان واختفوا تنظيميا من سيناء عقب انقلاب/ثورة يوليو 1952 واحتدام الصراع بين حكم الثورة والإخوان في 1954. بالتزامن، دخلت الطريقة الدرقوية الشاذلية إلى سيناء على يد الشيخ أبو أحمد الغزاوي، الذي تلقاها عنه الشيخ عيد أبو جرير من قبيلة السواركة ونشر زواياها في أرجاء شمال سيناء.

في حرب 1956، القصيرة نسبيا، اختبرت المخابرات الحربية المصرية وطنية “الصوفية الجهادية” وصدق تعاونها ضد العدو الإسرائيلي. لذلك تم توثيق التعاون على أساس ديني-وطني طيلة فترة الاحتلال الكلي والجزئي لشبه جزيرة سيناء (1967 – 1982)، على كافة المستويات المعلوماتية والعملياتية والإدارية. كان لموقف أهل سيناء الرافض تماما لاتفاقية كامب ديفيد (1978) ومعاهدة السلام (1979) أثرا كبيرا في تمسك سكان المنطقة الحدودية بثوابتهم العدائية ضد إسرائيل، وقد عززت فترة الاحتلال من ترابطهم العائلي مع أقاربهم وأصهارهم في الأراضي المحتلة وقطاع غزة (حيث اختفت الحدود السياسية كما كان في السابق).

في هذه البيئة التي تعتز باقتناء السلاح والمهارة في استخدامه كجزء من الثقافة البدوية العربية، ومع ضعف النفوذ الصوفي لأسباب متعددة، كانت الحاضنة الاجتماعية التي استقبلت فكر السلفية الجهادية الموالي لتنظيم القاعدة، سعيا وراء تطبيق نظرية أولوية العدو القريب (إسرائيل) عن العدو البعيد (الولايات المتحدة في العراق أو أفغانستان). وجدت هذه الجماعات تعاطفا شعبيا نسبيا مع نشاطها المسلح في الفترة من يونيه 2010 إلى أغسطس 2013، حيث اقتصرت عملياتها على استهداف خط تصدير الغاز إلى إسرائيل دون إراقة الدماء (يؤخذ في الاعتبار الوضع التنموي والخدمي المتدهور في شمال سيناء وأزمة أنابيب البوتاجاز فيها)، ثم انتقلت عملياتها في 2012 إلى الداخل الإسرائيلي في إيلات وصحراء النقب (وهو ما لا يلاقي أية غضاضة في الأوساط الشعبية السيناوية)، وظهرت ذروة التأييد الشعبي في جنازة الجهاديين الأربعة الذين قتلوا بقذائف إسرائيلية ثالث أيام عيد الفطر الماضي (أغسطس 2013) قبيل استهدافهم الأراضي الفلسطينية المحتلة بصواريخ أرض-أرض.

تراجع التأييد الشعبي بشكل جذري مع انخراط الجماعات المسلحة في سيناء في الاشتباك مع القوات النظامية المصرية، وهو ما يعد خروجا عن مسارهم القديم الذي أعلنوه والتزموا به في بداية أمرهم. ولم يلبث خطابهم أن تطور من اتهام الجيش المصري بالخيانة والعمالة إلى الحكم عليه بالردة والكفر، ثم انتقلوا بعملياتهم خارج شمال سيناء (تفجير مديرية أمن جنوب سيناء في أكتوبر 2013)، وخارج سيناء بالكلية (مبنى المخابرات العسكرية في الإسماعيلية، وتفجير مديريتي أمن الدقهلية والقاهرة). وهكذا، انتقلت الجماعات الدينية المسلحة في سيناء، وعلى رأسها “أنصار بيت المقدس”، من تنظيمات مقاومة غير ملتزمة بمعاهدات الدولة وغير عابئة بالقوانين الدولية إلى تنظيمات تمرد مسلح ضد قوات الدولة النظامية. الخطوة التالية كانت انتقالهم إلى جماعات إرهابية لا تكترث بوجود المدنيين في محيط اشتباكاتهم مع القوات النظامية أو تحميلهم مسؤولية تواجدهم في محيط المقرات الأمنية والعسكرية. صحيح أنهم لم يستهدفوا المدنيين بشكل موسع، إلا أن تهديدهم باستهداف “بعض الإعلاميين” المتورطين في التحريض على قتل المعتصمين في رابعة والنهضة –بحسب بيان تبنيهم مسؤولية محاولة اغتيال وزير الداخلية في سبتمبر 2013– فضلا عن استهداف السائحين في جنوب سيناء (فبراير 2014) قد حسم التصنيف القانوني لنشاطهم في خانة الإرهاب.

بزوغ جماعات جديدة

خلال استقصاء ميداني ومقابلات بحثية سابقة إبّان حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، تأكد عدم وجود علاقة بين تنظيمات العنف الديني الكلاسيكية (الجماعة الإسلامية المصرية وتنظيم الجهاد) وبين التنظيمات المسلحة في سيناء، أو من يسمون “الجهاديون الجدد”. ومن خلال العمل الميداني في شمال سيناء على مدار السنوات الثلاث السابقة، اتضحت لي الفوارق الفكرية والأيديولوجية الحادة بين الجهاديين (سواء سلفيين أم تكفيريين) وبين كل من ارتضى العمل السياسي من الإسلاميين بإنشاء أحزاب سياسية (الحرية والعدالة، والنور، والبناء والتنمية، ثم الوطن لاحقا).

يتراوح الشقاق بين الجهاديين، المؤمنين بالعمل المسلح كطريق أوحد لتطبيق الشريعة وإقامة الخلافة، وبين الإسلاميين السياسيين من تفسيق الأوائل للأخيرين وحتى تكفيرهم. قد يتوقف “السلفيون الجهاديون” عن تكفير أعيان الإسلاميين السياسيين، لكنهم بلا شك يرون في الطريق الديمقراطي ومعيار المواطنة كأساس للعلاقة السياسية كفرا وضلالا، فيقولون عن الأنشطة الحزبية والسياسية في هذين الإطارين إنها أعمال كفرية مناقضة لتوحيد الحاكمية والتفاضل بالإيمان والتقوى، لكنهم يتورعون عن تكفير كل من انخرط فيها، ويضعون للتكفير شروطا منهجية.

لكن سقوط مئات الإسلاميين في فض الاعتصامين وفي المظاهرات ومقتل بعض نسائهم واعتقال البعض الآخر أثار لدى حملة الفكر الجهادي والمتعاطفين معهم من شباب الإسلاميين السياسيين دوافع التضامن والثأر. كما تسببت التجاوزات والانتهاكات الموسعة في تسويغ استسهال التكفير، خاصة حين اقترنت هذه التجاوزات بمواقف مثيرة للعواطف الدينية، فحملت بيانات “أنصار بيت المقدس” عناوين مثل “غزوة الثأر لمسلمي مصر”، وعبارات أخرى في متونها مثل “مذابح الساجدين والصائمين”.

في السياق ذاته، يمكن فهم نشاط “كتائب الفرقان” و”أجناد مصر” وغيرها من جماعات لم تظهر في وادي النيل سوى بعد سقوط الإخوان. فقد كان التخوف من انتشار ظاهرة “جيش الرجل الواحد”، حيث يتعلم الأفراد كيفية صنع قنابل بدائية عبر الإنترنت أو يقتنون أسلحة نارية شخصية لينفذوا بها عمليات تستهدف القوات النظامية بدافع انتقامي ولامبالاة بنجاتهم، حيث استحضار الرغبة في اللحاق بالراحلين من أصدقائهم وأقاربهم وتنامي اليأس في نفوسهم. لكن ما حدث، وقد يكون مرشحا للزيادة، هو بزوغ جماعات صغيرة متناثرة تحمل الرؤية والمهمة نفسها.

في بيان مهم لأنصار بيت المقدس، اعتذرت الجماعة عن نسبتها إحدى العمليات في محافظة الجيزة بالخطأ لنفسها، ووضحت ذلك بأن لديها مجموعة تعمل في الجيزة فلما تمت العملية أعلنت مسؤوليتها عنها ظنا من القيادة المركزية أن المجموعة التابعة لها هي التي نفذتها. ففي حين أكدت مسؤوليتها عن تفجير مديرية أمن الدقهلية ونسبتها لـ “كتبية خالد بن الوليد” التابعة لها في المنصورة، تراجعت الجماعة عن إعلان مسؤوليتها عن عملية الجيزة (محطة مترو البحوث) بعدما أصدر “إخوانهم” في تنظيم “أجناد مصر” مسؤوليته. وهو ما يعكس قدرا هائلا من المرونة التنظيمية واللامركزية بين قيادة “أنصار بيت المقدس”، التي يرجح أن تكون موزعة بين سيناء وغزة، وبين أذرعها الناشئة في وادي النيل.

الاندماج في سيناء والتشظي في وادي النيل

في العادة، لا تظهر الانقسامات الحادة بين الإسلاميين إلا في حالات الرخاء (ولا قياس هنا على حالة الثورة/الحرب السورية). وقد أسفرت الحالة الراهنة عن تمايز واضح بين محور تحالف الإسلاميين السياسيين المعزولين من السلطة (جماعة الإخوان وذراعها حزب الحرية والعدالة، وحزب الوسط، والجماعة الإسلامية وذراعها حزب البناء والتنمية) وبين السلفيين بكافة أطيافهم. فالسلفيون المنحازون لخيار الدولة القائمة وترجيح المصلحة في عدم الخروج على السلطة المتغلبة فارقوا الإخوان وحلفاءهم في اتجاه يختلف عما سار فيه ما يمكن تسميتهم “السلفيون الثوريون” ممثلين في حركة “أحرار” وحزب الراية، حيث يقبع أهم رموزهم، الشيخ حازم أبو إسماعيل وحسام أبو البخاري، خلف القضبان، لكن دون وفاق مع الإخوان وحلفائهم (مع التفرقة بين التضامن الإنساني والوفاق السياسي).

أما عموم السلفيين الجهاديين والجهاديون الجدد فهم بالأساس حملة فكر أكثر من كونهم تنظيما/تنظيمات، لذا فمن الطبيعي أن يكون تنوع مساراتهم كبيرا، إلا أن المشهد الراهن قد حكم عليهم بإخفاء الفروقات بينهم كونها فروقا دقيقة –نسبيا– لن تؤثر كثيرا في اعتبارهم جميعا من حملة السلاح الموجه لفئة يجري التوسع في استحلال دمائها (بدءا من كبار القادة إلى صغار المجندين إجباريا في القوات النظامية)، ثم يتم استدعاء مسوّغات عدم الاكتراث بسقوط مدنيين “على هامش” العمليات.

الملحوظ حاليا هو اختفاء أسماء كافة التنظيمات المسلحة في سيناء لصالح نمو “أنصار بيت المقدس” وتطور عملياتها النوعية، وهو ما يرجح اندماج “مجلس شورى المجاهدين في أكناف بيت المقدس” و”السلفية الجهادية في سيناء” في تنظيم “أنصار بيت المقدس” الذي تغيرت دفته الفكرية وولاءاته المعلنة من تنظيم “قاعدة الجهاد العالمي” إلى تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، وهو ما يعني توسيع عباءته لتضم تنوعا أكبر من الجهاديين التكفيريين، وليس فقط السلفيين الجهاديين. في المقابل، يبدو أن العوامل الديموجرافية (الكثافة السكانية والتوسع الجغرافي) في وادي النيل قد تؤدي إلى تناثر جماعات عنف ديني وليدة بأسماء مختلفة، وقد يغلب على أنشطتها الطابع الانتقامي أكثر من الثبات الأيديولوجي أو العنف ذو التخطيط الاستراتيجي.

Start typing and press Enter to search