تجربة الإصلاح المؤسسي البولندية:

السلطة القضائية نموذجا

نوران سيد أحمد
Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [626.25 KB]

تعد تجربة إصلاح المؤسسات في بولندا والتي نتجت عن عملية الانتقال الديمقراطي التي شهدتها هذه الدولة من أنجح التجارب التي شهدتها دول موجة التحول الثالثة للديمقراطية في أوروبا الشرقية والتي بدأت منذ منتصف السبعينيات. وقد عمدت هذه التجربة على تبني عملية إصلاح قوية للتركة الموروثة من النظام الشيوعي، منطلقة من قناعة باستحالة هدم المؤسسات القائمة بالفعل بشكل كامل بما يعنيه ذلك من تكلفة عالية لا يمكن تحملها اجتماعيا وسياسيا، بحيث أضحى السؤال الرئيسي الذي سعت هذه العملية للإجابة عليه هو: كيف يمكن إدارة عملية هيكلة حقيقية لمؤسسات الدولة دون أن يعني ذلك توقف هذه المؤسسات عن أداء وظائفها وتقديم خدماتها لعموم المواطنين؟

أولا: عملية الهيكلة للمؤسسة القضائية البولندية:

اتسمت عملية إصلاح السلطة القضائية في بولندا بقدر كبير من التعقيد والتداخل، وهما ما تمثل في صعوبة تحديد نقطة زمنية فاصلة بدأت عندها عملية الإصلاح، إلى جانب تعدد الأطراف الذين انخرطوا في هذه العملية، والتي اختلفت بطبيعة الحال دوافع كل منهم، وإن كان هذا التشابك والتعقيد والقدرة العالية على إدراكهما والتعامل معهما من جانب كل الأطراف، قد أسفر في النهاية عن المسار الإصلاحي المتوازن الذي خضع له مرفق العدالة.

1-إرهاصات إصلاح مرفق العدالة في العهد الشيوعي:

للوهلة الأولي تبدو عملية الإصلاح التي طالت مرفق العدالة البولندي، وكأنها عملية ولدتها مفاوضات المائدة المستديرة التي تمت في (أبريل- ديسمبر 1989)، وهو القول الذي لا يوجد ما يعضده، حيث أن الدراسات والمتابعة للتطورات التي شهدتها بولندا تحت الحكم الشيوعي في سنواته الأخيرة خاصة في أواخر السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين تكشفان عملية إصلاح المؤسسة القضائية، ودخولها طور التطور بدأت في هذه السنوات لعدة عوامل تضافر فيها الداخل والخارج، لدفع المؤسسة وتطورها في هذا الاتجاه.

لعل العلامة الإصلاحية الأبرز التي طالت مرفق العدالة في سنين الحكم الشيوعي الأخيرة كانت هي إنشاء كل من المحكمة الإدارية العليا، والمحكمة الدستورية العليا والتي جاء الإعلان عن نشأتها في العام 1982 في أعقاب المصادمات التي حدثت في العام 1981 والتي أعقبها فرض قانون الطوارئ في بولندا، وهي الخطوات التي يمكن قراءتها في إطار الخبرة التاريخية للحزب الشيوعي، والتي تؤكد على أن النظام كان دائما ما كان يعهد لإبداء تنازلات أمام الاحتجاجات الكبرى التي واجهها في أعوام 1956،1968،1970،1976، وحتى عامي 1980-1981، كحيلة لاحتواء الاحتجاجات والالتفاف عليها، وربما ما يعضد من هذه الحجة هي المماطلة التي أبداها النظام في تنفيذ هذه الخطوة، حيث أن إقرار القانون الخاص بإنشاء المحكمة الدستورية لم يتم إلا في العام 1985-والذي عين لها اختصاصات قضائية محدودة وهو الأمر الذي ينطبق بدوره على المحكمة الإدارية العليا، كما أن المحكمة لم تبدأ ممارسة عملها إلا في عام 1986. إلا أن تأثير العوامل الداخلية لم يقف عند حد الضغوط التي مارستها القوى المعارضة من أجل تمرير مثل هذه الإصلاحات، بل امتد أيضا للقوى السياسية التي تواجدت إلى جانب الحزب الشيوعي وكان مسموح لها بالتواجد في المجال السياسي مثل الحزب الديمقراطي، إلى جانب التطورات البنيوية الداخلية التي شهدها الحزب الشيوعي في تلك الفترة من تنامي وصعود لجناح إصلاحي داخله، وجميعهم ضغطوا في اتجاه استحداث هذه المؤسسات في النظام السياسي في سعيها لمواكبة التطورات التي شهدتها الأنظمة الدستورية الأوروبية بشكل عام، وخاصة في الدول التي بدأت فيها عملية التحول من أنظمة حكم سلطوية وشمولية في تلك الفترة، كما هو الحال في إسبانيا والبرتغال عامي 1978 و1982 على الترتيب، من التحرك نحو إعلاء القيم والرقابة الدستورية على العمل البرلماني (التشريعات)، والذي تٌرجم في إنشاء محاكم دستورية عليا.

كشفت السنوات التي أعقبت إنشاء كل من المحكمة الدستورية العليا، والمحكمة الإدارية العليا(1981)، عن حجم وقدر المهنية والكفاءة التي أبدتها كل من المؤسستين في أداء اختصاصاتهما–المحدودة- والتي تجسد في الفصل في كثير من القضايا المعروضة عليهما بشكل انحازتا فيه للقانون، وحماية الأفراد من تعسف الدولة والحزب الشيوعي خاصة في الجانب الإداري، وهو الأمر الذي دفع أجهزة الدولة في تلك الفترة لمحاولة الالتفاف على الأحكام الصادرة من المحكمة الإدارية العليا على سبيل المثال، والدخول في مناوشات مع كلتا المحكمتين. وهي البواعث التي أكدت امتلاك كلتا المؤسستين لقيم ديمقراطية محتملة يمكن البناء عليها في تأسيس جهاز قضائي مستقل يتناسب مع الرؤى الديمقراطية التي امتلكتها قوى المعارضة في ذلك الوقت، وهي القيم التي ساعد على ممارستها ووجودها داخل هذه النخبة القضائية، التطورات التي طالت الحزب الشيوعي في أواخر السبعينيات والتي أضعفت من دوره بالوقوف على عملية التنشئة السياسية التي كان يلزم خضوع أعضاء الحزب لها قبل توليهم للوظائف العامة بما في ذلك القضاة، حيث أنه في أعقاب احتجاجات عام 1976 العمالية والتي اتسمت بضخامتها وقوتها، سعي النظام لضم عدد كبير من الأفراد لعضويته ردا على الاحتجاجات ضد سياساته للتدليل على قوة شرعيته، وهو الإجراء الذي كان من شأنه إدخال عناصر كثيرة للحزب لا تؤمن ولا تدين بالولاء بالضرورة للعقيدة والحزب الشيوعيين، ومع دخول بولندا عقد الثمانينيات، وتردى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، قام عدد كبير من الأعضاء بالخروج من الحزب، وضعف الإقبال على الانضمام إليه بشكل كبير، وهو الأمر الذي أضعف يد الحزب وقيادته العليا في تسريح العناصر التي سعت للتمايز عن أو الخروج عن الخط العام للحزب أثناء ممارستها عملها خوفا من خسارتها، حيث أن عدد كبير من العناصر الكفؤة قد انسحبت بالفعل من الحزب في تلك الفترة، وهو الأمر الذي أعطى القضاة هامش للحركة باستقلالية في أداء عملهم، فعدد من الإحصاءات الرسمية في تلك الفترة -على وجه التحديد عام 1984- توضح أن نسبة 70% من المدعيين العامين في بولندا ينتمون للحزب الشيوعي، ونسبة 48% فقط من القضاة كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي، في مقابل انضمام عدد منهم لحركة تضامن. وقد دعم من استقلالية هذه العناصر القضائية أن في مقابل غياب قنوات التنشئة السياسية التقليدية الشيوعية لهم-كما ورد في دستور 1952 والذي حدد ضرورة تلقين هؤلاء القضاة أيدلوجيا لضمان ولاءهم وخدمتهم للعقيدة الشيوعية- وُجدت روافد جديدة للقيم الديمقراطية ممثلة في المحافل والجامعات الكاثوليكية والتي كانت تتمتع بقدر من الاستقلالية، جعل هذه الجامعات نافذة لهم على التطورات الدستورية والقضائية التي تشهدها الدول الأوروبية الأخرى.

ومن الثمانينيات بدأت عملية الإصلاح تأخذ وتيرة أسرع وأكثر صراحة ومكاشفة في إطار التفاعلات والسجالات بين النظام والمعارضة، وقد ساعد على المضي قدما في هذا المسار، تنامي وصعود العناصر الأكثر براجماتية داخل الحزب الشيوعي مثل ميزوسلو رافوسكي –والذي كُلف بمهمة الاتصال مع حركة تضامن، وكذلك الأمر ذاته حدث داخل حركة تضامن وغيرها من القوى المعارضة والتي دعمت اتجاه التواصل والتفاوض مع النظام، حتى دخلت العملية السياسية بأكملها في نقطة التحول الأكبر مع مفاوضات المائدة المستديرة (أبريل- ديسمبر 1989).

2-مفاوضات المائدة المستديرة:

استمرت هذه المفاوضات في الفترة بين (أبريل-ديسمبر 1989)، والتي أفضت للاتفاق على إدخال عدد من التعديلات الدستورية على دستور 1952 الشيوعي، والتي تمثل أهمها (في إطار الحديث عن إصلاح السلطة القضائية) على النص صراحة على كون السلطة القضائية سلطة ثالثة في الدولة، تتمتع بالاستقلالية في أداء عملها، وكذلك النص على إنشاء المجلس القومي للقضاء، وهو موكل بترشيح أسماء القضاة لرئيس الجمهورية ليقر تعيينهم. ويتضح من السابق أن هذه المرحلة من التحول كان الاهتمام الأكبر فيها منصب على الهيكلة السياسية للنظام، والتي كانت أوضح ما يكون في التركيز على التكييف القانوني والدستوري للمؤسسة القضائية، دون أن يمتد ليطول شخوص العاملين بالمؤسسة لعدة اعتبارات إحداها وجود عناصر تتسم بالاستقلالية والكفاءة النسبية داخل هذه المرفق على النحو السابق بيانه، إلى جانب أن قوى المعارضة التي جلست على مائدة المفاوضات كانت أكثر برجماتية وأقرب لتبني مبدأ التصالح مع الماضي، لكن الاعتبار الأقوى كان هو إصرار النظام الشيوعي في المفاوضات على حماية العناصر التي انتمت له وعملت في ظله من ملاحقة القوى المعارضة الصاعدة -في مقابل التنازلات التي قدمها النظام لهم فيما يتعلق بالانتخابات والتعديلات الدستورية- خاصة مع توقع النظام خسارته للانتخابات البرلمانية في مقابل قوى المعارضة، حيث كان الاتفاق بين المعارضة والنظام فيما يتعلق بالسلطة القضائية على استمرارية قضاة المحكمة الدستورية، إلى جانب تقليص نفوذ السلطة التنفيذية وتدخلها في القضاء، حيث تم تمرير تشريع يتعلق بتنظيم المحاكم يخرج شأن الرقابة عليها، وكذلك تقييد سلطة تعيين قضاتها من يد وزير العدل، وكذلك تقييد يد السلطة التشريعية في تشكيل السلطة القضائية من خلال اقتراحها فقط لشخص رئيس المحكمة الدستورية العليا ليوافق عليه الرئيس، وتقليص سلطتها في تعيين عدد كبير من القضاة في المجلس القومي للقضاء، وهو الأمر الذي رضي به النظام القديم على اعتبار أنه سيحمي عناصر السلطة القضائية من التطهير والتسريح على يد القوى المعارضة، وكذلك قبلت به قوى المعارضة على اعتبار أن تبني نهج التسريح من شأنه أن يستعدى الأحزاب الشيوعية لتكرار نفس الأسلوب حال وصولها للسلطة مرة أخرى، الأمر الذي سيضر بمرفق العدالة في النهاية. وعليه كانت الأجهزة القضائية المستحدثة مثل المجلس القومي للقضاء سبيل المعارضة لضخ عناصر جديدة في المؤسسة توازن العناصر المحتمل قربها من الحزب الشيوعي، إلى جانب موافقة النظام على إبقاء عدد من الصلاحيات فيما يتعلق بالسلطة القضائية في يد رئيس الجمهورية لتوقعهم بأنه سيحتفظ بهذا المنصب.

في الوقت ذاته كانت المعارضة على يقين أن القضاء قادر على إيجاد آليات داخلية كفيلة بدفع العناصر الفاسدة أو المشكوك في استقلاليتها وكفاءتها خارج المؤسسة، وهو الأمر الذي لم يتم على الفور بشكل ولد انتقادات داخل مجلس الشيوخ للمجلس القومي للقضاء لعدم تمكنه من الوفاء بهذه الآليات خاصة في عام 1992، ودفع مجلس الشيوخ حينها للسعي لتمرير عدد من التشريعات بهدف إطلاق يد السلطة التنفيذية في التدخل لتطهير القضاء، وكذلك في تلك الفترة تم تمرير قانون الفحص (Vetting law) عام 1993 بغرض مراجعة شخوص العاملين في الوظائف العامة لتبين أيهم كان على اتصال وثيق بالشرطة السرية في العهد الشيوعي، ومن ثم تقديمهم لمحكمة الفحص للبت بشكل نهائي في استمراريتهم من عدمها في العمل العام، وهو الأمر الذي كفل بتوليد ضغوط معنوية وأدبية على القضاة والمدعيين العامين دفعت عدد من المتورطين منهم للاستقالة من مناصبهم، حتى قبل استكمالهم لإجراءات الفحص، وهو أمر أحدث انقسام كبير حوله خشية استخدامه لتصفية الحسابات الشخصية مع عناصر النظام القديم، إلى أن قضت المحكمة الدستورية بعدها بعدم دستورية هذا القانون، وفي العام ذاته تم تمرير برنامج يقضي بإقرار عددا من الإصلاحات الداخلية للمؤسسة القضائية، وهو الأمر الذي تم تجاهل رأي وانتقادات المجلس القومي للقضاء له، إلى أن حكمت المحكمة الدستورية أيضا بعد دستوريته.

إلى أن جاءت انتخابات عام 1993 والتي أتت بالائتلاف المكون من حزب تحالف اليسار الديمقراطي (وريث الحزب الشيوعي) (Democratic left alliance) وحزب الفلاحين البولندي(Polish peasants party)، والذي تمكن من تشكيل الحكومة، وشغل أحد أعضاء حزب تحالف اليسار الديمقراطي لمنصب وزير العدل، وتعضد هذا بتمكن أحد أعضاء حزب تحالف اليسار الديمقراطي وهو الكسندر كفاسنييفسكي من بلوغ منصب رئيس الجمهورية عام 1995، حيث تمكنوا من إنجاز كثير من الخطوات المدعمة لاستقلالية السلطة القضائية، فقد عمدوا إلى الطعن في دستورية عدد من القوانين التي تم تمريرها في الفترة السابقة وتتعلق بالتدخل في الهياكل القضائية، حيث جاءت قرارات المحكمة الدستورية مؤيدة لهذه الطعون، إلى جانب دخول هذا التحالف في تفاهمات مع الهياكل القضائية حول أي إصلاح مستقبلي للسلطة القضائية، وقد تم تتويج هذه الجهود الساعية لضمان استقلالية القضاء بإقرار دستور عام 1997، حيث أبقي الدستور على سلطة رئيس الجمهورية في تعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا بناء على اقتراح وترشيح المحكمة ذاتها، وأخرج كافة الصلاحيات التي كانت للسلطة التنفيذية على القضاء، وقصر يد السلطة التشريعية في تشكيل القضاء على إمكانيتها انتخاب عدد قليل من أعضاء المجلس القومي للقضاء، وكفل للمجالس القضائية إمكانية تنظيم نفسها بشكل مستقل وذاتي، وأخيرا أكد هذا الدستور على موقع ومكانة المحكمة الدستورية العليا والقوة التي تمتلكها للدفاع عن استقلالية المؤسسة ككل.

وفي إطار هذه العملية الإصلاحية المعقدة لا يمكن تجاهل دور عدد من العوامل التي لعبت دورا في دعم كافة الخطوات السابقة من كافة الأطراف نحو مزيد من الاستقلالية والمهنية للسلطة القضائية، ويأتي في مقدمة هذه العوامل الرغبة في الانضمام للاتحاد الأوروبي من كافة الأطراف، وهي الرغبة التي استتبعتها مفاوضات من الطرفين، تطلبت من بولندا العمل على استيفاء المشروطيات التي حددها الاتحاد الأوروبي، وفي الاتجاه المقابل عمل الاتحاد الأوروبي بدوره على مساعدة بولندا لاستيفاء هذه المشروطيات، وهي المشروطيات التي طالت في أحد جوانبها إصلاح السلطة القضائية في إطار إصلاحات اقتصادية أوسع تجعل بولندا مناخا أكثر قابلية وجذبا للاستثمارات، مثل المراجعة للقوانين المدنية والجنائية، وإجراءات التقاضي، وكذلك التكييفات التي تم إدخالها على النظام القضائي والقانوني البولندي ليتلاءم مع نظراءه الأوروبيين الذين ارتضاهم وأقرهم الاتحاد. إلا أن الدعم الأوروبي لعملية الإصلاح تلك امتد لوجود برامج تدريب مشتركة بين الجانب البولندي وعدد من الدول الأوروبية الأخرى، لعدد من الأجهزة والمرافق القضائية البولندية خاصة وزارة العدل البولندية والتي كانت أغلب التدريبات الفنية التي تلقتها في إطار رفع القدرات الإدارية للقضاة والوزارة ككل، وكذلك تدريبات للقضاة بشكل فني، والتي أفادت فيها خبرات فرنسا وإسبانيا على وجه التحديد.

وقد لعب المجتمع المدني دورا كبيرا في عملية تهيئة المؤسسة القضائية لموافاة الشروط الموضوعة من جانب الاتحاد، خاصة فيما يتعلق بمساعدة القضاة والعاملين في هذه المؤسسة على الاطلاع على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان لتمكينهم من إنجاز عملهم بشكل أكثر اتساقا مع المنظومة الديمقراطية الجديدة، إلا أن دور المجتمع المدني ومنظماته لم يقف عند هذا الحد بل تعداه إلى تكوين وإقامة اتفاقات بينية بين مؤسساته للمساهمة بالرقابة على أي مجهودات إصلاحية مزمع إنجازها في مرفق العدالة، وهى الرقابة التي تأخذ صور تقارير دورية تكشف عن أي تطورات في القضاء، وتقدم اقتراحات بهذا الصدد، دون أن يعني ذلك تدخل أيا منهم في سير عمل القضاة.

وبرغم كافة الإنجازات السابق إيرادها إلا أن عملية إصلاح القضاء في بولندا مازالت في طور الاستمرار والتطور، حيث أن هناك عددا من القضايا التي لم تحسم إلا في الأونة الأخيرة مثل فصل مكتب المدعي العام عن مكتب وزير العدل الذي صدر تشريع بصدده عام 2009 دخل حيز النفاذ عام 2010، وهو التشريع الذي أسس المجلس القومي للمدعيين العامين المسئول عن ترشيح مدعي عام ليوافق عليه رئيس الجمهورية. إلا أن هناك عددا أخر من القضايا لم تحسم بعد خاصة ما يتعلق منها بطول إجراءات التقاضي، وضعف البنية المادية للمحاكم، قلة وتراجع عدد الكوادر المتواجدة في المؤسسة بسبب ضعف العوائد المادية المترتبة لهم في هذه المؤسسة، إلى جانب السجال حول الاختصاصات الإدارية لوزارة العدل فوق المحاكم.

ثانيا: الحالة المصرية:

كشف العامان المنقضيان من الحراك الثوري المصري عن قدر كبير من التخبط في مسار العملية السياسية بأكملها، والتي لم يعني أيا من فاعليها بوضع تصور جاد لإصلاح المؤسسة، كما تبين قدر كبير من المخاطر والتهديدات لكافة مؤسسات الدولة المصرية، والتي نال القضاء جانبا كبيرا منها، بداية من حالات التصادم غير المشهودة منذ وقت، والتي لعبت فيها السلطة التشريعية دورا، بمحاولة تمرير مشروعات القوانين التي تعلقت بإعادة تشكيل المحكمة الدستورية العليا، قانون السلطة القضائية، الصدام مع المحكمة الدستورية العليا في أعقاب قرار حل مجلس الشعب، ثم أزمتي النائب العام الأولي والثانية، وصولا للمستجدات الأخيرة حول قانون الانتخابات الجديد الصادر عن مجلس الشورى وإمكانية ممارسة المحكمة الدستورية العليا رقابتها الدستورية عليه، إلى جانب الاعتداءات غير المسبوقة على مرافق السلطة القضائية وشخوص قضاتها، وكلها مؤشرات تُنذر بإمكانية انهيار هذا المرفق، وفي ضوء التجربة البولندية تسعي الورقة في هذا الجزء لتقديم عدد من التوصيات:-

1-وجود مشروع ديمقراطي:

فالتجربة البولندية تخبرنا بأـن امتلاك الفاعلين السياسيين لتصور ومشروع سياسي واضح قائم على فصل السلطات، توازنها، استقلالية السلطة القضائية، وقائم على مبدأ سيادة القانون، والتفافهم حوله، قد مكنهم من المضي قدما في تبني إصلاحات خاصة بالسلطة القضائية، تخدم هذا الغرض وتعد بمثابة ميزان تُقيم على أساسه أي خطوة يتم اتخاذها في هذا الصدد، وهو ما تجلى في أعقاب وصول تحالف اليسار الديمقراطي (وريث الحزب الشيوعي) للسلطة في أعقاب انتخابات عام 1993، حيث قام التحالف برفع عدد من دعاوى الطعن أمام المحكمة الدستورية العليا حول عدد من التشريعات التي كان من شأنها النيل من استقلال القضاء. وهو ما تفتقده الحالة المصرية بشدة في إطار تشرذم القوى السياسية، وعدم امتلاك أيا منها لتصورات سياسية تتعلق بمستقبل مؤسسات الدولة المصرية، وكيفية إدارتها حاليا في إطار اللحظة الراهنة الصعبة التي تمر بها مصر، ولا حتى على المدى الطويل.

2- كفاءة الإطار الدستوري والقانوني:

تكشف التجربة البولندية في هذا الإطار عن قدر كبير من العناية التي مُنحت للإطارين الدستوري والقانوني، بداية من عملية مفاوضات المائدة المستديرة مرروا بالسنوات التالية لعملية التفاوض وصولا للحظة إقرار الدستور النهائي في عام 1997بما وفراه من ضمانات أساسية للسلطة القضائية مثل المحكمة الدستورية العليا وغيرها من حزمة التشريعات التي هدفت لتحجيم يد السلطة التنفيذية فيما يتعلق بالمحاكم والقضاء، إلى جانب مراجعة القوانين والتشريعات القائمة والمعمول بها بالفعل، وهو ما عنى في أحد جوانبه الالتزام بالموضوعية والتجريد وتجنب الشخصنة في التعامل مع تشكيل وهياكل القضاء، بشكل لا يقدم عملية الإصلاح القانونية والدستورية للسلطة القضائية باعتبارها تغيير في ميزان القوى لصالح فريق على حساب الآخر، الأمر الذي سمح باستمرارية هذا المرفق في العمل، وسهل تفاعل العناصر القضائية -بما فيها العناصر المنتمية للنظام القديم- معه بشكل إيجابي ومثمر دون مقاومة. والذي تكشف غيابه في الحالة المصرية فيما يتعلق بالإطار الدستوري المنظم للمحكمة الدستورية العليا المصرية والتي استهدفت النصوص الدستورية تقليص عدد أعضائها بهدف تنحية بعضهم ممن هم على خلاف مع النخبة الصاعدة للحكم.

3-وجود قنوات مفتوحة بين السلطة القضائية وبقية السلطات في الدولة: وهي التي تعني بضمان ألا تأتي أي برامج هيكلة، إصلاح، أو تشريعات خاصة بالسلطة القضائية دون التداول والتفاهم مع أجهزتها بشكل يسمح للقضاء بوضع تصوراته حول النظام الذي سيُدار به المرفق ويفترض أن يطولهم ويشاركوا بإنفاذه وتطبيقه.

4-الاستعانة بمختلف الخبرات: وهو الأمر الذي يمكن أن يجد سبيله للتطبيق من خلال الاستعانة والاستفادة من التجارب المختلفة التي شهدت أنظمتها السياسية مرحلة تحول وانتقال مشابه، وكيف تم التعامل حينها مع مرفق العدالة، وهو الذي يمكن أن يتم على المستويات الرسمية من خلال إيجاد لبرامج تعاون مع مثل هذه التجارب والخبرات، أو على مستويات المجتمع المدني المعنية بهذه القضية، وهي التي يمكن أن تمتد للجانب الفني والمهني لهذه المؤسسة.

يبقي عامل هام وهو الدعم الذي قدمه المجلس الأوروبي للتجربة البولندية ممثلا في لجنة فينسيا والتي تشكلت في أعقاب سقوط حائط برلين، بغرض ترسيخ القيم والعدالة الدستورية وتطويرها في دول أوروبا الشرقية والوسطى بشكل عام، ومساعدة هذه الدول في كتابة دساتيرها، وهو العامل الذي تفتقده الحالة المصرية، إلى جانب ما يظهره السياق المصري من درجة عالية من الحساسية تجاه التعاون مع جهات وأجهزة مماثلة خارجية ودولية، في إطار أي عملية إصلاحية متوقعة.

المراجع:

  • نادين، 2011، “توصيات للحالة المصرية تجارب النجاح والتعثر في دول أوروبا الشرقية: نموذجا بولندا وأوكرانيا”، منتدى البدائل العربي للدراسات.

2- Brzezinski.Mark F ,1993,”The Emergence of Judicial Review in Eastern Europe: The Case of Poland”,Vol.41, No. 2,The American Journal of Comparative Law.

3-Brumberg.Abraham , 1989\1990, “Poland: The Demise of Communism”,Vol.69, No.1, Foreign Affairs.

4-Piana.Daniela ,2005, “Reforms and judicial cooperation in the European policy ofpromotion of the “rule of law: A comparative analysis of new members”, the annual conference of the Italian Association of Political Science.

5-KOJDERR.ANDRZEJ , 1998,“Systemic Transformation in Poland: 1989-1997”,

No.123, Polish Sociological Review.

6-Magalhães.Pedro C , Oct.,1999, “The Politics of Judicial Reform in Eastern Europe”,

Vol. 32, No. 1,Comparative Politics.

7-Sulek.Antoni,July., 1990,”The Polish United Worker’s Party: From Mobilisation to Non-Representation”,Vol. 42, No. 3,Soviet Studies.

8-Reykowski.Janusz, 2004, “Unexpected Traps of the Democratic Transformation”,Vol. 34, No. 3, Social Change in Poland,International Journal of Sociology.

9-Seleny.Anna ,July., 1999, “Old Political Rationalities and New Democracies: Compromise and Confrontation in Hungary and Poland”, Vol. 51, No. 4,World Politics.

10-Kucharczyk.Jacek,Zbieranek.Jarosław (ed), 2010, “Democracy in Poland1989–2009Challenges for the future”, Institute of Public affairs, Warsaw.

11- Three Polish organizations implement “Better justice system” program, Available on the following link:http://humanrightshouse.org/Articles/15690.html.

12- Bodnar.Adam,Oct., 2012, “UNDERESTIMATED REFORMS”, available on the following link:http://liberteworld.com/2012/10/25/underestimated-reforms/

13-http://en.wikipedia.org/wiki/Venice_Commission

14-A.Seibert-Fohr (eds.), 2012,Judicial Independence in Transition: strengthening the Rule of Law”,Springer-Verlag Berlin Heidelberg.

Start typing and press Enter to search