أفغانستان: أبعاد تاريخية واستراتيجية
أحمد فرحات حمودي

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [507.10 KB]

وحدها الصدفة قادتني، قبل عامين، لقراءة رواية بديعة للكاتب الأفغاني عمر قيس أكبر مترجمة للفرنسية بعنوان «Kabul était un vaste Jardin» «كانت كابول حديقة شاسعة»، وهي رواية تحاكي واقع شاب أفغاني كان عمره تسع سنوات عندما اشتدت الحرب بين الحكومة الأفغانية الشيوعية بقيادة محمد نجيب الله والمقاتلين الإسلاميين والتي أفضت إلى سقوط حكومة نجيب الله وسقوط العاصمة كابل بيد الجماعات المقاتلة في الليلة الفاصلة بين 27 و 28 أيار (مايو) سنة 1992 في ما بات يُعرف بليلة “الله أكبر”.1 وتصور الرواية بدقة متناهية المعاناة التي كابدها المجتمع الأفغاني والتحولات العميقة التي مسّته فغيرت عقلية ونفسية الشعب الأفغاني على مدى أكثر من عقد من الزمن.

قبل قراءتي لهذه الرواية الباهرة كانت لدي فكرة سطحية وعامة عن أفغانستان، وهي الرواية المتداولة بين عموم مواطني الدول العربية والإسلامية ومفادها أن ثورةً قامت على النظام الشيوعي في أفغانستان قادها “مجاهدون” تمكنوا من النصر فيها ولكن سرعان ما اختصموا حول الحكم فاندلعت حرب أهلية لم تنتهِ إلا بقدوم “طالبان” وسيطرتها على البلاد بين عامَي 1996 و 2001، تاريخ سقوطها ودخول الغازي الأمريكي مسنودًا من التحالف الدولي غداة أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001. ولا شك أن هذه القراءة تغذت كثيرًا من البروباجندا الغربية والإسلامية من خلال تسمية المقاتلين الإسلاميين بـ “فرسان الحرية” وتصوير المقاتل الطاجيك أحمد شاه مسعود على أنه جيفارا آسيا الوسطى وأسد البن جشير (هكذا قدمته وسائل إعلام فرنسية خلال إحدى زياراته لباريس) علاوة على سلسلة أفلام الممثل الهوليوودي سيلفستر ستالون “رامبو”. وكان أغلب قنوات التلفزيونات الرسمية العربية تسمّي المقاتلين الإسلاميين في أفغانستان من أصول عربية بالمجاهدين العرب، بل وصل بهم الأمر في بعض الأحيان إلى تحفيز الشباب العربي للذهاب إلى أفغانستان لنصرة إخوانهم المجاهدين هناك، وكذا كان خطاب الأئمة في الجوامع، كما استشرت الإشاعة والأسطورة والخرافة.

دفعتني رواية عمر أكبر إلى الغوص في شعاب أفغانستان وجبالها وتاريخها وأهلها الطيبين- يحدث أن نحب بلدًا بسبب رواية أو لوحة فنية أو قصيدة شعر أو أغنية- لأكتشف وجهًا آخر لبلد أكاد أجهل عنه كل شيء.

 

أولاً: أفغانستان خلال الحكم الملكي
أفغانستان، أو أرض الأفغان، هي ملتقى طرق تقع في آسيا الوسطى تحدها من جهة الشمال دول طاجيكستان وأوزباكستان وتركمنستان، وتحدها من الغرب إيران، ومن الجنوب باكستان، والصين شرقًا. وهي تتميز بموقعها الاستراتيجي الهام حيث كانت تمثل جزءًا مهمًّا من طريق الحرير فكانت مطمح الغزاة منذ القدم. وعلى الرغم من أغلبية البشتون، فإن الشعب الأفغاني عبارة عن فسيفساء من العرقيات المتعددة من الطاجيك والهزارة والتركمان وأقلية عربية توجد أساسًا في مدينة مزار شريف. ويمثل المذهب السني الحنفي أغلبية الشعب الأفغاني مع وجود المذهب الشيعي الذي يعتنقه أغلبية الهزارة. والدارية هي اللغة الرسمية في البلاد مع وجود لغات أخرى، خاصةً البشتونية والفارسية والعربية.

تأسست مملكة أفغانستان على أنقاض إمارة أفغانستان عام 1929 2 على يد أمان الله خان. ومباشرةً إثر تأسيسها عاشت حالة من الاضطراب الذي لم ينتهِ سوى باستلام ظاهر شاه الحكم في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1933 وهو في سن التاسعة عشر بعد اغتيال والده الملك محمد نادر شاه، واستمر حكم الملك ظاهر شاه لمدة 40 عامًا حتى انقلب عليه ابن عمه محمد داود خان في 17 تموز/ يوليو عام 1973 . كان ظاهر شاه رجلًا مستنيرًا وهو الذي قضى جزءًا من شبابه في فرنسا عندما كان والده سفيرًا هناك في عشرينيات القرن الماضي، وهو الذي درس الفرنسية عندما كان طفلًا في مدرسة “حبيبة”. شهدت فترة حكمه ازدهارًا اقتصاديًّا وتقدمًا اجتماعيًّا وثقافيًّا بارزًا خاصةً خلال عشريّتي الخمسينيات والستينيات. كان نظام الحكم ملكيًّا يعتمد على مجلس استشاري “اللويا جيرجا” متكون من أعيان ووجهاء القبائل والمناطق-وهو نفس الهيكل الذي صاغ دستور أفغانستان بعد سقوط “طالبان” عام 2001.

خلال فترة حكم ظاهر شاه تأسست وترعرعت الأحزاب والجمعيات والاتحادات الطلابية والعمالية وكان أهمها “الحزب الديمقراطي الشعبي الأفغاني” (شيوعي ماركسي) الذي تأسس سنة 1965 3 والجمعية الإسلامية4 التي أسسها برهان الدين رباني سنة 1972 والتي أسست فرعًا طلابيًّا لها باسم “الشباب المسلم” (بالفارسية: سازمان جوانان مسلمان). لقد تميزت فترة حكم ظاهر شاه الطويلة بالاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي والتقدم الاجتماعي وإن بأنساق مختلفة بين مختلف جهات البلاد، بُنيت المدارس والجامعات وعُمّم التعليم للأولاد والبنات واقتحمت المرأة سوق الشغل وتولت مناصب إدارية مهمة.

ثانيًا: جمهورية أفغانستان الداوودية
استغل محمد داوود خان، رئيس الوزراء وابن عم الملك، سفرَ الأخير للعلاج في إيطاليا لينقلب عليه ويعلن نهاية الحكم الملكي وتأسيس الجمهورية الأفغانية في السابع عشر من تموز/ يوليو عام 1973.5 وكان داوود خان مدعومًا أساسًا من “الحزب الديمقراطي الشعبي الأفغاني” اليساري. ومضى داوود خان في تطوير المجتمع وتحرير المرأة فشنّت عليه “الجمعية الإسلامية” حملة كبيرة واتهمته بعلمنة الدولة وبالإلحاد ما أثار حفيظة غالبية المجتمع الأفغاني المحافظ. أمام هذه الهجمة، اختار داوود خان التفاوض مع “الجمعية الإسلامية” واستمالتها، وولى وجهه نحو الرياض وإسلام أباد عوض موسكو، ولاحق أعضاء “الحزب الديمقراطي الشعبي”، حلفاء الأمس أعداء اليوم، واعتقل بعض قياداته ما حدا بالحزب إلى تأسيس الجيش الوطني الأفغاني عام 1978 الذي قاد حملة الإطاحة بداوود خان غداة اغتيال اليساري البارز مير أكبر خيبر في 19 نيسان/ أبريل 1978 تاريخ انطلاق ثورة “ثور” (ثور هو الشهر الثاني في التقويم الفارسي، وهو الشهر الذي اندلعت فيه الثورة) وانتهت الحملة باغتيال داوود خان في 27 من نفس الشهر وتأسيس جمهورية أفغانستان الديمقراطية في الفاتح من أيار/ مايو من العام نفسه، وكان أول رؤسائها نور محمد تركي6.

تميزت فترة محمد داوود خان بنهجها التقدمي خاصةً في مجال حرية المرأة ومضاعفة القوة العاملة في البلاد7 ولكن أيضًا بتردد وارتباك أول رؤساء الجمهورية أمام المعارضة المتصاعدة للجمعية الإسلامية التي انقسمت عام 1977 بين الحزب الإسلامي بقيادة جولبدين (قلب الدين) حكمتبار و”الجمعية الإسلامية” بقيادة برهان الدين رباني. هذه المعارضة المدعومة من باكستان والسعودية والولايات المتحدة تحولت سريعًا إلى جماعات مسلحة ومقاتلة وبدأت تسيطر تدريجيًّا على بعض مناطق البلاد.

ثالثًا: جمهورية أفغانستان الديمقراطية
بعد نجاح الانقلاب على داوود خان، أعلنت جمهورية أفغانستان الديمقراطية برئاسة نور محمد تركي في الأول من أيار/ مايو عام 1978. سرعان ما دبّ الخلاف بين قيادات “الحزب الديمقراطي الشعبي” وانقسم بين خلق وبارشام، ولم ينتهِ إلا بوصول بابراك كارمل لرئاسة البلاد بتدخل من الجيش السوفياتي عام 1979 الأمر الذي أذكى جذوة القتال لدى الجماعات الإسلامية المقاتلة مدعومة بالمال والسلاح والخطاب الدعوي المحرض على القتال “الجهاد” فانضم آلاف المقاتلين العرب إليهم من مختلف الدول العربية وكان بينهم شاب اسمه أسامة بن لادن. وعلى الرغم من مساعي بابراك لتطوير الاقتصاد والعصرنة الشاملة للدولة، وعلى الرغم من سياسة العفو عن المعتقلين خلال حكم تراقي وأمين، فإنه لم يتمكن من كسب تعاطف الجزء الأكبر من الشعب الأفغاني الذي ظل يعتبره دمية سوفياتية وتم عزله عام 1986 وتعويضه بمحمد نجيب الله الذي قاد البلاد حتى سقوط كابل بأيدي المقاتلين/ المجاهدين في الليلة الفاصلة بين 27 و28 أيار/ مايو 1992.8 وعلى الرغم من انهيار الاتحاد السوفياتي وخروج قواته من أفغانستان عام 1989، فإن محمد نجيب الله استطاع الصمود أمام الجماعات المقاتلة، ولسنوات ظل القتال خارج المدن الرئيسة في البلاد التي واصل أهلها عيشهم الطبيعي واستمرت المدارس والجامعات في تقديم الدروس للطلبة وواصلت المرأة الأفغانية مسيرتها نحو التحرر حتى أنك وأنت تعبر الشارع الرئيس لمدينة كابل على ضفاف نهر كابل وسط حدائقها الشاسعة والخلابة وسمائها المزين بالطائرات الورقية (اللعبة المفضلة لأطفال أفغانستان) قد تشك أنك في إحدى المدن الأوروبية.

لكنّ هذا الصمود لم يدُم، لا سيما بعد تعزيز الجماعات المقاتلة بالسلاح الأمريكي وبالخبراء وبعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 التي ألهبت حماس المقاتلين وزادت في تحفيزهم. لقد عاشت أفغانستان خلال عشرية ثمانينيات القرن الماضي حربًا ضروسًا بين الجيش الوطني الأفغاني المدعوم روسيًّا والمقاتلين/ المجاهدين المدعومين أمريكيًّا. كانت آخر فصول الحرب الباردة.

رابعًا: دولة أفغانستان الإسلامية: بداية نفق الظلام
لم ينتظر طويلاً مَن قال فيهم الرئيسُ الأمريكي رونالد ريغن إنهم رجال جديرون بالاحترام وقدّمتهم آلةُ الدعاية الغربية على أنهم فرسان الحرية، كي يتخاصموا حول الحكم خصامًا تحول إلى اقتتالٍ بشعٍ وإبادة جماعية لشعب أفغانستان الهادئ والطيب والمقبل على الحياة، ودمارٍ شاملٍ للعاصمة كابل ولأغلب المدن الأفغانية. ومن خلال شاشات التلفزيون، شاهَد شعبُ الأفغان ملامح بلدهم الجديد، فعوّض الرجالُ الملتحون بلباسهم الأفغاني التقليدي (القميص والسروال) النساءَ الجميلات في تقديم نشرات الأخبار، وعوّضت البرامجُ الدينية البرامجَ الترفيهية والثقافية والأفلام الإيرانية المحببة للأفغان حينها، واستُبدلت الفنونُ والغناء بالمدائح والأذكار الدينية. كان الأفغان في جزء كبير منهم يتوسمون خيرًا في “فرسان الحرية”، وكانوا يعتقدون أنه بمجيئهم سيحلّ السلام والعدل. لكنّ أحلامهم تبخرت سريعًا أغلقت المنازل والمتاجر والمحلات وهرب المواطنون من مناطق القتال هروبًا لا ينتهي وقد حمل الآلافَ منهم إلى خارج البلاد، واستشرت تجارة تهريب الأفغان عبر الحدود واستغل ذلك أمراء الحرب ليراكموا مزيدًا من الثروة والمال.

مباشرةً بعد استقالة محمد نجيب الله وسقوط جمهورية أفغانستان الديمقراطية، تأسست دولة أفغانستان الإسلامية برئاسة صبغت الله مجددي لفترة قصيرة ثم برهان الدين رباني كما نص على ذلك اتفاق بيشاور في نيسان/ أبريل 1992. لم يدُم هذا الاتفاق بعد خرقه من قِبل قلب الدين حكمتيار، المدعوم من المخابرات الباكستانية، وخلاف رباني وحكمتيار الذي تعود أصوله إلى عام 1977 عندما انشق الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار عن الجمعية الإسلامية بقيادة رباني.9 وقد غطّت هذا الخلاف الحربُ مع الحكومة الشيوعية، ولكن سرعان ما طفا على السطح مباشرةً بعد هزيمة الشيوعيين تحالف رباني مع أحمد شاه مسعود الذي عينه وزيرًا للدفاع ثم نائبًا للرئيس وتحالف حكمتيار، رئيس الوزراء حينها، مع عبد الرشيد دستم القائد العسكري السابق في الجيش الوطني الأفغاني والذي انشق عن الشيوعيين والتحق بالمقاتلين الإسلاميين قبيل سقوط كابل، وهو تحول ساهم في السقوط الأخير للنظام الشيوعي في البلد. سقطت آلاف الصواريخ على كابل وحدها ذهب ضحيتها أكثر من عشرين ألف مدني، واضطر عدد كبير من المواطنين إلى الهرب من جحيم النيران المستعرة فانخفض عدد سكان كابل من مليونين خلال الحكم الشيوعي إلى نصف مليون جراء الحرب الأهلية. أغلقت المدارس وجُنّد الأطفال واغتُصبت النساء وتحولت شوارع كابل وحدائقها الفسيحة إلى مدينة أشباح وملاذًا للقطط والكلاب السائبة. حتى الحيوانات الأهلية يتغير مزاجها ولا تعود أليفة أثناء الحرب. لم تكد تبدأ مواقيت الاتفاقيات النادرة لوقف إطلاق النار في بعض المناسبات الدينية بين أمراء الحرب حتى يهرع الناس إلى الشوارع للبحث عن وسيلة للهرب، الهروب من كل شيء إلى اللا شيء. ولم تكن تمضي ساعات حتى يعود القتال من جديد. فقد الأفغان روحهم المرحة وتحولوا إلى وحوش ضارية تحارب من أجل البقاء. وتحولت سماء كابل الصافية التي كانت تزينها طائرات الصبية الورقية الملونة إلى غبار لا ينتهي جراء القصف. واستمر الأفغان على هذه الحال حتى سكت أزيز المدافع ذات يوم خريفي في كابل. ومن خلال شقوق الأبواب، شاهد من بقي من سكان كابل سيارات رباعية الدفع يركبها رجال بلحى كثيفة ولباس متسخ وعود أراكٍ يحكّون به أسنانهم، وكان بعض السيارات تحمل أبواقًا تعلن عن دخول طالبان العاصمة كابل وتطلب من السكان ملازمة منازلهم في انتظار الأوامر والمناشير التي ستصلهم لاحقًا. وتتالت المناشير التي ستمنع كل شيء؛ الموسيقى والتلفاز والصور وخروج النساء من دون البرقع الأزرق.

خامسًا، طالبان“: الظلام الحالك
يعود تأسيس “طالبان” (بالعربية: طلبة العلوم الشرعية) إلى عام 1994 في مدينة قندهار بدعم باكستاني، على الرغم من إنكار باكستان الغاضبة على حليفها حكمتيار ذلك. وتسعى حركة “طالبان”، حسب مؤسسيها، إلى تحرير أفغانستان من الحكام الفاسدين وإنهاء الحرب وإقامة نظام إسلامي نقي.
زحفت الحركة، الأكثر تنظيمًا وعددًا حينها إلى العاصمة كابل التي دخلتها من دون مقاومة في السابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر من عام 1996،10 وأعلنت قيام إمارة أفغانستان الإسلامية. وتحول خوف الأفغان من القنابل والصواريخ إلى الخوف من بطش “طالبان”، وتحولت أفغانستان إلى بلد يُمنع فيه كل شيء وتتحول المدارس، أو ما بقي منها، إلى كتاتيب لتدريس العلوم الشرعية من جهلة لا يفقهون من العلم شيئًا، وتحولت ملاعب كرة القدم التي كانت قبل قدوم “فرسان الحرية” تنضح بالحياة إلى أماكن قتل وذبح تُنفّذ فيها الأحكام الشرعية من الجلد إلى الرجم والذبح وتُغيّر أغلب السكان إلى أجسام بلا أرواح. أرواحهم التي ذهبت بلا عودة من هول ما شاهدوه وعاشوه من محن ومآسي واستمرت رحلة الهرب. سيطرت “طالبان” على أجزاء واسعة من البلاد عدا شماله الذي ظل تحت سيطرة قوات تحالف الشمال بقيادة شاه مسعود في بنجشير وعبد الرشيد دستم في قندز، وقصفت “طالبان” تماثيل بوذا في باميان وذبلت زعفرانة أفغانستان إلى الأبد. لكلّ ذلك فرِح الأفغان بسقوط “طالبان” بعد قصف دام ثلاثة أسابيع شنّته قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على خلفية تفجيرات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2011 والتي اتُّهم بن لادن، الذي تحميه “طالبان”، بالتخطيط لها. فرِح الأفغان بسقوط “طالبان” على الرغم من رفضهم المبدئي والتاريخي للاستعمار (استقلت أفغانستان عن الاستعمار الإنجليزي عام 1919)

سادسًا، سقوط طالبان: نهاية نفق الظلام؟
تحامل الأفغان على أنفسهم وحاولوا إعادة بناء ما تهدم، ولكن لم يعد شيءٌ كما كان. تغير كل شيء. وعلى الرغم من ذلك، استؤنفت مظاهر الحياة العادية وعاد عدد كبير من المهاجرين من كل أنحاء العالم للاستثمار ولإعانة بلدهم، وأعادت المدارس والجامعات فتح أبوابها، لكنّ الجرح ظل غائرًا في نفوس الأفغان على الرغم من لملمة الجراح.

عام 2014 فاز الدكتور والباحث أشرف غني بالرئاسة، وطرح برنامجًا للنهوض الاقتصادي وللإقلاع الحضاري حتى تستعيد أفغانستان مجدها الضائع. أفغانستان، قال مؤرخ، هي مهد الممالك والإمبراطوريات. بالتوازي مع ذلك، كانت هناك مساعٍ لإعادة رسكلة “طالبان” بوجوه جديدة مكشوفة (لا صورة لأمير “طالبان” في نسختها الأولى الملا عمر) وبخطاب أكثر ليونة. هناك في قطر كانت المساعي لإدخال “طالبان” إلى الحكم ربما لتنفيذ أجندة ما. رفض أشرف غني، الرئيس المنتخب في أفغانستان، شروطًا مجحفة، وهو الذي بدأ يدير عنقه إلى الجارة الشرقية إذ من سهول باميان أين يراقب بوذا العالم يمر طريق الحرير تخلى الكل عن أفغانستان وقدموها لقمة سائغة لـ “طالبان” مرة أخرى. أليست سخرية عندما يعيد التاريخ نفسه؟ يحاول الكل الهروب في صور قد تصدم العالم لكنها حتمًا لن تصدم من لديه فكرة عن حقبة حكم “طالبان” لأفغانستان بين 1996 و 2001

الآن “طالبان” لقطع طريق الحرير

الآن “طالبان” شرطي سنّي على الجارة الشيعية إيران

الآن “طالبان” لإعادة تجميع المقاتلين الفارّين من سوريا وسيناء والشعانبي وليبيا تمهيدًا لإعادة نشرهم في وقت ما في مكان ما.

وفي كل هذا شعب أفغانستان، ككل مرة، يدفع الثمن، وكابل لن تعود الحديقة الفسيحة. وبدل الطائرات الورقية، التي كانت تزين سماء كابل، ستحلق قاذفات اللهب.

حركة طالبانوالعودة للحكم في أفغانستان..
التداعيات المحتملة

توفيق عبد الصادق
أكاديمي مغربي وباحث في العلاقات الدولية

منتدى البدائل العربي للدراسات(AFA): مؤسسة بحثية تأسست عام 2008 وتسعى لتكريس قيم التفكير العلمي في المجتمعات العربية، وتعمل على معالجة القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية في إطار التقاليد والقواعد العلمية بربط البعدين الأكاديمي والميداني.

ويعمل المنتدى على توفير مساحة لتفاعل الخبراء والنشطاء والباحثين المهتمين بقضايا الإصلاح في المنطقة العربية، تحكمها القواعد العلمية واحترام التنوع، كما يحرص على تقديم البدائل السياسة والاجتماعية الممكنة، وليس فقط المأمولة لصانع القرار وللنخب السياسية المختلفة ومنظمات المجتمع المدني، في إطار احترام قيم العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان.

ومن أجل ذلك يسعى المنتدى لتنمية آليات للتفاعل مع المؤسسات المحلية والإقليمية والدولية المهتمة بمجالات التغيير والإصلاح. ويرتكز المنتدى في عمله في هذه المرحلة على ثالثة محاور: تحليل السياسات والمؤسسات العامة، المراحل الانتقالية والتحول الديمقراطي، الحركات الاجتماعية والمجتمع المدني.

هذه الأوراق نتاج سمينار داخلي وتصدر بصفة غير دورية

وتعبر فقط عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي منتدى البدائل العربي للدراسات أو أي مؤسسة شريكة

كان من أبرز ما قاله الرئيس الأمريكي جو بايدن في خطابه الصادر بشأن انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان وتمكن حركة “طالبان” من السيطرة على البلاد واستعادة السلطة فيها بتاريخ 15 آب/ أغسطس من العام 2021، هو هذه الجملة الكاشفة “إن مهمة الولايات المتحدة لم تكن لها علاقة على الإطلاق ببناء الأمة في ذلك البلاد”، موضحًا أن “مهمة بلاده انتهت بالقضاء على تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن”، والذي حمّلته إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن المسؤولية عن هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، مع اتهام حركة “طالبان” بالمسؤولية غير المباشرة نتيجة إيوائها واحتضانها لمقاتلي التنظيم الجهادي، وما أعقبها حينها من غزو أمريكي للبلاد في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه وإسقاطه لحكم الحركة الذي دام خمس سنوات 1996-2001.11

وفي إطار التفاعل الدولي المكثف مع التطورات السياسية والعسكرية المتسارعة والمربكة للأزمة الأفغانية، بعد عودة سيطرة حركة “طالبان” على البلاد ودخولها المفاجئ للعاصمة كابل، في ضربٍ واضحٍ للمعطيات الاستخباراتية وتوقعات صنّاع القرار ومراكز البحث على الأقل الأمريكية منها والمعلنة، وبطبيعة الحال من دون استبعاد رواية ترجّح العلم الدقيق لأمريكا بتحركات الحركة ووجود صفقة من نوع بين الطرفين، قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في مؤتمر صحافي ببرلين يوم الاثنين 16 آب/ أغسطس 2021 “إنه وبعيدًا عن مكافحة الإرهاب، فإن كل شيء لم ينجح ولم يتم إنجازه على النحو الذي كنا نريده، وهذا استنتاج مرير”. 12

تعليق قيادة الولايات المتحدة الأمريكية والمستشارة الألمانية على مستجدات الوضع في أفغانستان يُعتبر، من وجهة نظرنا، الأبرز لمحاولة فهم واستيعاب هذا المشهد الدراماتيكي، الذي أذهل أغلب المتابعين والمهتمين، مع أخذنا بعين الاعتبار لباقي الموافق والتصريحات والتي عبّر عنها أكثر من رئيس دولة وحكومة في الإقليم والعالم (باكستان، إيران، تركيا، الصين، روسيا، بريطانيا، فرنسا، إلخ). ذلك أن التأمل جيدًا في تصريحات بايدن وميركل يفكك جزءًا كبيرًا من المعادلة، أو في الحقيقة تراجيديا هذه البلاد المسماة أفغانستان…

توصيف الوضع في أفغانستان من قِبل المستشارة الألمانية بدا أكثر صدقية وواقعية من غيرها من التصريحات والمواقف الدولية، لاسيما تلك المحسوبة على منظومة القيم الغربية والخط الأمريكي، فحصيلة عشرين سنة من الوعود بمستقبل أفضل للأفغان والمنطقة، بما يتضمنه هذا المستقبل من وعود بالتنمية والديمقراطية والحكم المدني الرشيد، انتهت بمناشدة هذه القوى للحركة المتشددة والمسلحة والساعية إلى إقامة دولة دينية، أو ما تسمّيه بإمارة إسلامية، بالسماح لها بإجلاء رعاياها وبعض المتعاونين من الأفغان البؤساء والتعساء، بعد أن اختفى أي أثر لوجود ما كان يطلَق عليه مؤسسات دولة أفغانستان وجيشها الوطني، وفرار ما كان يوصف برئيس البلاد المنتخب.

مما لا شك فيه أن المغامرة الفاشلة لأقوى دولة في العالم ومعها قوات حلف الناتو في أفغانستان ستعيد طرح تلك الأسئلة المتعلقة بمزاعم تصدير الديمقراطية وسياسة محاربة الإرهاب، بالإضافة إلى نهج وسلوك القوى الكبرى في الساحة الدولية ولكيفية التلاعب بقواعد القانون الدولي، عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن مصالحها وحين تسعى إلى تبرير تدخلاتها في الشأن الداخلي للدول الأخرى.13

ومهما كانت الإجابات على هاته الأسئلة ومحاججة أصحاب الطروحات التفسيرية، فإن قيمتها تبقى عاجزة عن تبرير المعطيات الموجودة وفهم الواقع على الأرض، بالنظر إلى هول المآسي والتضحيات التي دفعها الشعب الأفغاني من دماء أبنائه، سواءً كان ذلك من جانب الخسائر البشرية للقوات الأفغانية وللمقاتلين من حركة “طالبان” أو لعدد الضحايا الأفغان من الأهالي المدنيين (من 2001 وإلى حدود شهر نيسان/ أبريل 2021 تم تسجيل حوالي 69 ألف قتيل من قوات الجيش والشرطة/ ما يقرب من 50 ألف من الحركة، القتلى المدنيين أكثر من 50 ألفًا.14 وأيضًا قياسًا لحجم الخسائر المادية والبشرية التي تكبّدَتها أمريكا وحلفاؤها (حتى تاريخ نيسان/ أبريل 2020 تم إنفاق أكثر من 1000 مليار دولار/ مقتل ما يقرب من 2500 جندي أمريكي و4000 مدني متعاقد مع الجيش، مقتل حوالي 1000 جندي آخر ينتمون إلى قوات الدول الأخرى من حلف الناتو).15

وبعيدًا من السياق التاريخي للأزمة في أفغانستان وشرح أسباب التدخل الأجنبي المتواصل منذ عقود،16 سنحاول في هذه الورقة أن نقدم قراءة لمستقبل الوضع وما يمكن أن يحمله من تطورات سياسية على مستوى الداخل الأفغاني (أولًا). وعلى مستوى الخارج وما يعكسه من تداعيات جيوسياسية بالنسبة لدول الإقليم والقوى الدولية الكبرى (ثانيًا).

أولًا: على مستوى الداخل الأفغاني

تخبرنا التجارب السياسية عبر تاريخ الأمم والشعوب أن الوصول إلى السلطة يكون أهون من متطلبات ممارستها والمحافظة عليها، وبأن مفعول الشعارات والخطابات مهما بدى جاذبًا للمناصرين والأتباع، يتآكل مع مرور الزمن والفعل على أرض الواقع، لا سيما أن حركة “طالبان” فشلت في تجربتها السابقة في الحكم 1996-2001، بعدما جرّت البلاد إلى عزلة دولية، وجعلتها تعيش في مستنقع مظلم وبيئة يسودها التطرف والإرهاب. هذه الحال وصيرورة الأشياء لن تنفك حركة طالبان من مواجهتها والخوض فيها مجددًا، فهل تكون تجربتها السياسية مختلفة عن السابق؟ في الحقيقة، تصعب الإجابة عن هذا السؤال، لكن مهما اختلفنا أو حاولنا وضع تصنيفات إيديولوجية للحركة وتنميطات نظرية لما يجري من فعل مجتمعي في أفغانستان، فهذا لا يعني تجاوز أن حركة “طالبان” تحظى بقبول شعبي وازن، وهي حركة مقاومة وطنية مسلحة ذات توجه جذري وانتماء ديني عقائدي، ومن ضمن ما تسعى إليه وضع أسس جديدة للسلطة ولبنية العلاقات السياسية والاجتماعية، تكون مغايرة لما هو سائد في فترة نظام الحكم السابق.

وبالتالي هذا ما يعكس حالة الترقب والانتظار التي تشغل الداخل الأفغاني والمدافعين عن الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في العالم، اتجاه الحركة وممارستها في ما يخص تعاطيها مع قضايا الحكم والمشاركة السياسية، وتعاملها مع مسألة الحريات وحقوق المرأة، وكيف ستكون علاقتها مع مختلف العرقيات والطوائف الدينية المشكلة للمجتمع الأهلي الأفغاني، إضافةً إلى قدرتها على مجابهة التحديات التي تفرضها معضلة التنمية ومتطلبات العيش للناس، في بلاد مزقتها الحروب، وبلاد منكوبة على مستوى البنية التحتية وتعاني أزمات لا حدود لها على المستوى الاقتصادي وتوفر الخدمات الاجتماعية الأساسية. (اقتصاد أفغانستان أساسه الفلاحة وتحويلات المهاجرين، وميزانية البلاد تستند بشكل كبير إلى المساعدات الدولية، كما أن ربع السكان البالغ عددهم حوالي 40 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر، أي أن دخلهم اليومي ما بين دولار و1,25 دولار في اليوم، على الرغم من حديث عديد الدراسات والتقارير عن توفر البلاد على مخزونات طاقة ومعدنية هائلة غير مستغلة أو خاضعة لسيطرة أمراء الحرب وشركائهم الخارجيين).17


ثانيًا: على المستوى الخارجي

إن تداعيات سيطرة حركة “طالبان” على بلاد تقع في وسط منطقة استراتيجية، يمكن ملاحظة مؤشراتها من خلال زخم التصريحات والمواقف التي سارعت الأطراف في الخارج للإعلان عنها، سواءً من قِبل دول الإقليم المحيطة والفاعلة (باكستان، إيران، تركيا) أو من قِبل القوى الكبرى المعنية بالجغرافيا الأفغانية وبمنطقة آسيا الوسطى (أمريكا، الصين وروسيا).

دول الإقليم

باكستان: تُعتبر دولة باكستان الجار الجنوبي والشرقي من أهم اللاعبين الإقليمين في مسار الأحداث السياسية الكبرى التي تشهدها دولة أفغانستان الحديثة، فهي الامتداد القومي لمجموعة عرقية هي البشتون والمشكلة لنسبة%42 من سكان البلاد، وإليها ينتمي أغلب أعضاء حركة “طالبان” ومناصريها، بل إن فكرة تأسيس الحركة وتبلور توجهاتها الأيديولوجية ساهمت بها بشكل كبير باكستان عبر تعلم أعضاء الحركة وسط مدارسها الدينية ودعم أجهزتها الاستخباراتية، في ظل الصراع الذي انخرطت فيه إسلام أباد إبان الغزو السوفياتي لأفغانستان 1979-1989، وقيام أمريكا ودول العالم الإسلامي بتشكيل ودعم التنظيمات الجهادية والحركات المسلحة، بهدف مواجهة ما سموه وقتها بخطر الزحف الشيوعي.

لذلك، إن تداعيات صعود “طالبان” إلى السلطة بالنسبة للدولة في باكستان تتجاوز مسألة الحدود الجغرافية والروابط التاريخية والهوياتية إلى ما هو أبعد، لتشكل الأهدافُ الجيوسياسية والمصالحُ الاقتصادية واستراتيجيةُ الدفاع عن الأمن القومي العناوينَ الرئيسة لمستقبل العلاقات بين البلدين، لا سيما أمام التحالفات التي تقيمها باكستان والصين في مواجهة الهند، عدوتهما الاستراتيجية في المنطقة. وتأكيدًا لهذا الاهتمام بالموضوع الأفغاني وعمق الارتباطات، فمن المرجح أن تكون أول زيارة دبلوماسية لطرف خارجي لأفغانستان، هي التي سيقوم بها وزير خارجية باكستان، بهدف عقد محادثات مع قادة الحركة في العاصمة كابل.18

إيران: دولة إقليمية أخرى معنية بتداعيات صعود الحركة إلى السلطة هي إيران. تقع الأخيرة على الحدود الغربية لأفغانستان، وتجمعها بفئات واسعة من الشعب الافغاني روابط قومية ودينية، خاصةً بالنسبة لطائفة الهزارة المعتنقة للإسلام الشيعي ونسبتها 9%. كما أن إيران من أهم مورّدي السلع التجارية والخدماتية لأفغانستان إلى جانب باكستان، عبر المعابر الحدودية التي تقع بين البلدين.

العلاقات الاقتصادية والسياسية مع إيران لم تنقطع يومًا سواءً مع الحكومات الأفغانية خلال العشرين عامًا من الوجود الأمريكي، أو حتى في زمن حكم حركة “طالبان” السابق، بالرغم من بعض التوترات التي تحصل بين الفينة والأخرى والاتهامات المتبادلة بين الطرفين، والمتعلقة بطموح التموضع والنفوذ لإيران كقوة لها وزنها في الإقليم، أو لتلك المرتبطة بصراع التمدد المذهبي ومبررات حماية حقوق الشيعة الأفغان، خاصةً أمام حالة الارتياح التي بدت واضحة في مواقف وتصريحات المسؤولين في إيران من هزيمة أمريكا وخروجها من المنطقة، وقولهم باستعداد إيران في المساهمة باستقرار ودعم أفغانستان والتعامل مع حركة “طالبان”.19

تركيا: تبقى تركيا من القوى الإقليمية المتنافسة والمعنية بمجريات الوضع في أفغانستان بالرغم من أنها لا تقع على حدودها. ويأتي هذا الاهتمام من الروابط التاريخية والدينية المشتركة مع المجتمعات الإسلامية في المنطقة وضمنها أفغانستان، كما أن العلاقة السياسية والتقاء التصورات الفكرية، وإن لم تكن مطابقة بين حركة “طالبان” والقادة الأتراك من خلال “حزب العدالة والتنمية” الحاكم، ستكون من النقاط الفاصلة والمعززة للدور التركي في المستقبل.

ولعل ما يسند هذه الرؤية هو تنامي تزايد النفوذ التركي في الخارج ومع دول تعتبرها أنقرة تدخل ضمن مجالها الحضاري وتاريخها العثماني. ضمن هذا السياق يجب قراءة عديد المواقف والرسائل التي ما فتئت أنقرة عبر رئيسها رجب طيب أردوغان ترسلها، والداعية إلى مساعدة أفغانستان في الخروج من الأزمة وبضرورة التعامل مع حركة “طالبان” وعدم عزلها، لأنها تعبّر عن جزء كبير من الشعب الأفغاني، محذرًا من تداعيات عدم التعاون الدولي في استقرار البلاد على تزايد موجات هجرة الأفغان.20


القوى الدولية الكبرى

الولايات المتحدة الأمريكية: سقوط حكومة أفغانستان في غضون أسبوع من انسحاب القوات الأمريكية لا يشبهه من حيث قوة الهزيمة ووقعها المدوي على جميع النواحي السياسية والعسكرية وربما الأخلاقية سوى بعض دروس التجربة الفيتنامية واستيلاء الشيوعيين وقوات جيش الشمال الفيتنامي على الجنوب وعاصمته سايغون في نيسان/ أبريل 1975، نتيجة تخلّي أمريكا المنهزمة عن حلفائها من قوات حكومة الفيتنام الجنوبي، في واحدة من أشهر وأقسى حروب المقاومة والتحرير في التاريخ الحديث.

من الطبيعي إذًا أن تكون تداعيات عودة حكم حركة “طالبان” أشد تأثيرًا على الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها تتحمل المسؤولية الأولى والمباشرة عن الوضع الحالي في أفغانستان، ولأنها خرجت بخسائر تهمّ عناصر قوّتها وتمسّ مكانتها وهيبتها لدى حلفائها وشركائها، وبما يرجح من فقدان لهيمنتها على مستقبل صناعة السياسة الدولية والتفرد بالقرار من داخل النظام العالمي أمام منافسيها الاستراتيجيين من القوى الدولية الأخرى الكبرى كالصين وروسيا.21

الصين: يذهب عديد القراءات إلى أن الصين ستكون من أكبر المستفيدين من خروج الولايات المتحدة الأمريكية وسيطرة حركة “طالبان” على السلطة في أفغانستان. ومردّ ذلك إلى أن الصين جارة لأفغانستان وتتقاسم معها شريطًا حدوديًّا بمسافة صغيرة في منطقة جبلية بأقصى الشمال الشرقي، إضافةً إلى ارتكاز السياسة الخارجية للصين على عدم التدخل في الشأن الداخلي للدول الأخرى ووضع الشروط السياسية في ربط العلاقات وإقامة التحالفات البينية، مرجحة أهمية الجانب الاقتصادي والتنموي في تقاطع المصالح بين البلدين، خاصةً وأن أفغانستان تدخل في نطاق المشروع الاقتصادي الضخم للصين والمعروف باسم “الحزام والطريق”، وتقع في الخط الواصل جغرافيًّا بينها وبين باكستان، أكبر حلفائها الإقليميين والمهمين في المنطقة.

لا تعني العلاقةُ بين الصين وحركة “طالبان” تجاوزَ المخاوف من التداعيات المحتملة لانتصار الحركة الإسلامية على البيئة الداخلية لإقليم “شينجيانج Xinjiang” ذي السكان المسلمين من عرقية الأويجور، وما يشكله هذا المعطى من تنامي للنزعة الدينية والتوجهات المتطرفة والانفصالية، لكن من المستبعد أن تنحو حركة “طالبان” في مسار إغضاب الصين، أو بالأحرى معاداة جارها العملاق، وإلا ستكون أمام سيناريو مكلف لحكمها وتصرّف ينمّ عن كثير من الغباء السياسي. المواقف المعلنة والرسمية لبكين وقادة الحركة حتى اللحظة تتسم بالود والتقارب، فبحسب الناطقة باسم وزارة الخارجية الصينية “هوا شينج Hua Chunying” بتاريخ 16 آب/ أغسطس 2021، فإن الصين تعبّر عن احترامها لخيارات الشعب الأفغاني داعيةً إلى انتقال سلمي للسلطة، ومبديةً في الوقت نفسه استعداد بلادها لإقامة علاقة تعاون مع طالبان.22 بدورها، ترى الحركةُ، وعبر مسؤوليها، أن الصين ستلعب دورًا بارزًا إلى جانب دول صديقة أخرى في تنمية وإعادة إعمار البلاد.23

روسيا: علاقة بلدان آسيا الوسطى، ومن ضمنها أفغانستان، بروسيا لم تنشأ فقط مع النظام الاشتراكي وضم الدولة للعديد من دول المنطقة في إطار اتحاد جمهوريات الاتحاد السوفياتي، وما حصل وقتها من غزو لأفغانستان من قِبل روسيا السوفياتية في خضمّ أطوار الحرب الباردة، بل تمتد إلى زمن القياصرة وسيطرة الامبراطورية الروسية على المنطقة، أثناء حروبها التوسعية مع العثمانيين والأوربيين بداية القرن 16. تجددت بشكل واضح الرغبة في توسيع النفوذ بالنسبة للقوة الروسية في المنطقة في ظل حكم الرئيس فلاديمير بوتين، وسعيها للعودة إلى ما تعتبره النطاق الجغرافي المجاور لحدودها، والذي يدخل ضمن فضاء مصالحها الجيوسياسية، وما تفرضه متطلبات الصراع المفتوح مع الغرب وحلف الناتو من أجل حماية أمنها القومي. وإذا كانت أفغانستان لا تقع على حدود التّماس مع الجغرافية الروسية الشاسعة، إلا أنها تمتلك حدودًا طويلة مع الدول السوفياتية السابقة وحلفائها الحاليين في الشمال (أوزباكستان وطاجيكستان وتركمنستان)، حيث تربط موسكو مع أنظمتها علاقة سياسية واقتصادية متينة وتعاون أمني كبير، كما أنها تقيم على أراضي بعضها قواعد عسكرية، وقامت مؤخرًا، أيام 5-10 آب/ أغسطس 2021 بإجراء تدريبات عسكرية مشتركة مع طاجيكستان وأوزباكستان على الحدود الأفغانية.24

غداة سقوط كابل في يد حركة “طالبان”، وبينما هرعت الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى إجلاء موظفي سفاراتها من أفغانستان، كانت روسيا تتعاطى مع الأمر بهدوء مبرزةً عدم قلقها من سيطرة الحركة، وبأن سفارتها ستبقى مفتوحة في كابل بسبب عدم وجود خطر على أمن البعثة الروسية، وذلك حسب ما أكده دميتري جيرنوف، سفيرها في أفغانستان والذي عقد لقاءً مع ممثلي حركة “طالبان” في العاصمة كابل يوم 17 آب/ أغسطس 2021.25 تصريحات السفير الروسي، إلى جانب حرص الرئيس بوتين ومبعوثه الخاص إلى أفغانستان، بتحميل المسؤولية للولايات المتحدة الأمريكية والغرب عن عدم استقرار الوضع في البلاد والمنطقة وتفجر الأزمات السياسية والأمنية نتيجة فرض نماذجهم السياسية على الشعوب الأخرى المختلفة، ودعم ما تعتبره روسيا فوضى ومزاعم القيم الديمقراطية الغربية، يوضح أن العلاقة المستقبلية بين روسيا وأفغانستان والتداعيات المحتملة لوجود طالبان في السلطة ستكون مبنيّة على تقييم توجه الحركة الأمني والعسكري، وبأنها ستظل رهينة عدم تورط الحركة في تهديد المصالح الروسية ودعم الجماعات المسلحة على حدود الدول الحليفة لها،26 من دون استبعاد، وبطبيعة الحال، محاولة موسكو الرامية إلى استغلال الانسحاب الأمريكي، لعقد شراكات اقتصادية وعسكرية، سواءً مع الحركة أو أطراف أخرى في البلاد، أو بغية التعاون مع قوى دولية وإقليمية أخرى مثل الصين وتركيا وإيران.

لا ينفي التركيز على هذه الدول والقوى السالفة الذكر غيابَ الاهتمام بالموضوع الأفغاني وتأثير سيطرة حركة “طالبان” بالنسبة لدول وقوى خارجية أخرى كالهند وبلدان الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، لكننا لم نتطرق إليها لاعتقادنا بانكفاء أدوارها مستقبلًا وانحسار انشغالاتها، فبالنسبة للدولة الهندية فهي لن تخرج عن مراقبة تحركات باكستان، وبالنسبة للدول الأوروبية وبريطانيا فستبقى متعلقة بمسألة التعامل الدبلوماسي والتعاطي مع التهديدات الإرهابية وملف الهجرة، كما أن تحركاتها تظل رهينة بتوجهات الحليف الأمريكي بالدرجة الأولى.

 

خاتمة:
في ختام الورقة، وبعد أن حاولنا تناول التداعيات الممكنة لعودة حركة “طالبان” إلى السلطة في بلاد مزقتها الحروب اللامتناهية والتدخلات الأجنبية المتوالية منذ أكثر من أربعة عقود، سواءً تمثل ذلك على الصعيد الداخلي أو الخارجي، فإننا نتوقع أن تكون توجهات حركة “طالبان” في المرحلة المقبلة أكثر براغماتية في السياسة والبناء البيروقراطي لأجهزة ومؤسسات الدولة. وسيميل تطبيق رؤيتها الدينية المتشددة للحكم وشؤون المجتمع نحو الاعتدال لأنها محكومة ببيئة داخلية قبلية وعرقية متعددة ولديها من الخبرة الحربية والإمكانات العسكرية ما يهدد سلطة ونفوذ الحركة، كما أنه من المحتمل أن تصبح مستقبلًا بيئة مفجرة للصراعات الأهلية والمناطقية وساحة مواتية للتنظيمات والحركات الإرهابية (كداعش والقاعدة وغيرهما). أما على الصعيد الخارجي فالحركة مجبرة على ضبط سلوكها في تعاطيها وتعاملها مع المنتظم الدولي، حتى تستطيع مجابهة تحدي الرهانات الاقتصادية والتنموية وتتجنب تكرار تجربة العزل والسقوط السابقة.

1 : Kabul était un vaste Jardin صفحة 33

2 : روبين بارنات واحسان يارشاطر موقع واي باك مشين

3 : أنطوني أرنولد ، أفغانستان حزبان شيوعيان بارشام وخلق

4 : Pajhwork Afghan News. 17 تموز/ يوليو 2011.

5 : “محمد داوود خان” روبين بارنات وإحسان يارشاطر

6 : Barnett R Robin “The fragmentation of Afghanistan” Foreign Affairs Magazine winter 89/90

7 : انظر مرجع 5

8 : كابول سجن الموت، قناة بي بي سي 27 شباط/ فبراير 2006

9 : Barnett R Robin “The fragmentation of Afghanistan” Foreign Affairs Magazine winter 89/90

10 : The Jakarta post 07-02-2017

11– طالبان: جو بايدن يدافع عن الانسحاب الأمريكي “الفوضوي” من أفغانستان، BBC عربي، 17 آب/ اغسطس 2021. https://bbc.in/2W2Sz1S

12– ميركل: الوضع في أفغانستان يعد سيطرة طالبان “مؤلم وفظيع”، DW عربي، 16 آب/ أغسطس 2021. https://bit.ly/3snyLCl

13– فيونوالا ني أولاين، الاتجاهات العالمية والعواقب الإقليمية للتوسع في مكافحة الإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر، مجلة رواق عربي، 18 آب/ أغسطس 2021. https://bit.ly/3gdZKeP

14 Civilian casualties in the war in Afghanistan (2001–2021) en.ikipedia.org. https://bit.ly/3z1K8SX

15Carter Malkasian, How the Good War Went Bad America’s Slow-Motion Failure in Afghanistan. Foreign Affairs, March/April 2020. https://fam.ag/2W6ZFCf

16– ألان جريش، “أفغانستان من هزيمة لأخرى”، ترجم هذا المقال من الفرنسية من قبل حميد العربي. موقع جدلية، 19 آب/ أغسطس 2021. https://bit.ly/3z7ODLY

17-Economy_of_Afghanistan, 2017. https://bit.ly/3sWDyuV

18Visit of the Delegation from Afghanistan, 15-18 August 2021 – Ministry of Foreign Affairs Government of Pakistan. (mofa.gov.pk) https://bit.ly/3t2J2nJ

19-محمد رحمن بور، علاقة متوترة تاريخيا. لهذه الأسباب إيران حذرة من سيطرة طالبان على أفغانستان، 19 آب/ أغسطس 2021. https://bit.ly/3sONOoY

20-أردوغان وميركل يبحثان العلاقات وملفي أفغانستان والهجرة، وكالة الأناضول للأنباء بالعربي، 21 آب/ أغسطس 2021. https://bit.ly/3D55fpT

21– مسؤول سابق في “السي آي إي” الانسحاب من أفغانستان يعكس الحدود الجديدة للقوة الأمريكية، قناة الميادين، 18 آب/ أغسطس 2021. https://bit.ly/3j7D5Td

22 -Agence Xinghua News En Version Français, 16-08-2021. https://bit.ly/3gmlg0S

23https://bit.ly/3yto8PR عربي 18-08-2021. DW الصين وطالبان. هل تفوز الأيديولوجيا أم المصالح الاقتصادية؟ 

24– انطلاق تدريبات عسكرية مشتركة بين روسيا وطاجيكستان وأوزبكستان على الحدود مع أفغانستان، روسيا اليوم بالعربي، 5 آب/ أغسطس 2021. https://bit.ly/3AXhTFE

25-السفير الروسي في أفغانستان يتحدث عن نتائج لقائه مع ممثلي طالبان، روسيا اليوم بالعربي 17 آب/ أغسطس 2021. https://bit.ly/2UEq6Pp

26– بوتين: الوضع في أفغانستان له علاقة مباشرة بأمن روسيا، وكالة الأناضول للأنباء بالعربي، 22 آب/ أغسطس 2021. https://bit.ly/3DabkkN

Start typing and press Enter to search