تونس: ما وراء أزمة استقالة الحكومة
نصاف براهمي
تونس
Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [1.15 MB]

المقدمة:

تعود الأزمة السياسية في تونس أساسًا إلى التركيبة الفسيفسائية لمجلس نواب الشعب بعد انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر 2019، فقد أسفرت هذه الانتخابات على حصول “حركة النهضة” على ربع المقاعد وهي أغلبية غير مريحة ممّا لم يمكّنها من تمرير الحكومة التي اقترحت رئيسها في كانونا الثاني/يناير 2020.

ويقرّ الدستور التونسي أنه في حال عدم نيل الحكومة، التي يكلّف بتشكيلها الحزبُ الفائز في الانتخابات التشريعية، ثقةَ البرلمان يتولّى رئيس البلاد تعيين شخصية مستقلة يكلّفها بتشكيل حكومة جديدة وهو ما كان بالفعل إذ عيّن رئيس الجمهورية الياس الفخفاخ مكلفًا بتشكيل الحكومة، والذي نال ثقة البرلمان في شباط/ فبراير 2020 أغلبية بسيطة.

كانت هذه الحكومة حزبية بالأساس وضمّت وزراء من حزب “حركة النهضة” و”التيار الديمقراطي” و”حركة الشعب” وبعض الوزراء المستقلين.

على الرغم من نيل الثقة إلا أن هذه الحكومة واجهت مشاكل عدة خاصةً مع الأزمة الصحية إثر تفشي فيروس “كوفيد 19” والتي كانت لها انعكاسات اقتصادية واجتماعية. وبعد تحالف حزب “حركة النهضة” مع حزب “قلب تونس” لرئيسه المترشح السابق للرئاسة نبيل القروي، طلبت “حركة النهضة” من رئيس الحكومة “توسيع حزام الحكومة”، أي الائتلاف مع “قلب تونس” وإدراجه في الحكومة وليس في المعارضة الأمر الذي تمّ رفضه رفضًا قاطعًا من طرف رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية.

هذا فيما يخص الاختلافات حول الحكومة. أما البرلمان فإنه منذ اليوم الأول كان هناك تجاذب وصراع معلن بين كتلة الحزب الدستوري لرئيسته عبير موسي والتي تعلن صراحةً أنها ضد ثورة 14 جانفي/ يناير وما زالت تمجّد النظام السابق من جهة وحزب “حركة النهضة” الإسلامي و”ائتلاف الكرامة”، وهو ائتلاف مكوّن من مستقلّين ذوي توجهات إسلامية تكوّن أثناء الانتخابات التشريعية وحصل على 10 مقاعد في البرلمان، من جهة ثانية.

كان الصراع السياسي ومن خلفه الأيديولوجي على أشدّه، وقد تابعه التونسيون على شاشات التلفزة أثناء جلسات مجلس النواب، وقد تسبب أحيانًا كثيرة في تعطيل عمل البرلمان، ووصل إلى درجة السبّ والشتم بل وحتى العنف الجسدي.

إذًا هي جملة من الأزمات السياسية المترابطة وليست أزمة واحدة، فهناك أزمة برلمانيّة وأزمة استقالة حكومة الياس الفخفاخ وأزمة تعيين حكومة المشيشي، ولكن كلّها تندرج في إطار الصراع بين الرئاسات: رئيس الجمهورية من جهة ورئيس البرلمان ومن ورائه حزبُ “حركة النهضة” والتابعون أو المتوافقون معه من جهة ثانية.

فما هي أهم مظاهر هذه الأزمة؟ وما مدى تأثيرها على المشهد السياسي العام في تونس؟

في الجزء الأول من هذه الورقة سنتطرّق إلى أهم مظاهر الأزمة السياسية في تونس، ثم في الجزء الثاني إلى تأثير هذه الأزمة على المشهد السياسي في البلاد.

 

الجزء الأول: أهم مظاهر الأزمة السياسية في تونس

تتعدد مظاهر الأزمة السياسية التي شهدتها تونس بدايةً من شهر تموز/ يوليو 2020 حتى الآن، وتشمل البرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية. ولا يمكن الحديث عن هذه الأزمة الشاملة من دون تبيان مدى تأثيرها على حياة المواطن التونسي في ظلّ أزمة اقتصادية وصحية واجتماعية خانقة زادتها حدّة جائحة فيروس “كوفيد 19”.

سنتعرّض في هذا الجزء إلى ثلاثة مظاهر رئيسية للأزمة وهي استقالة الحكومة والصراع داخل البرلمان والتجاذب بين البرلمان ورئيس الجمهورية.

أوّلًا: الصراع داخل البرلمان

لم يتوقف الصراع الأيديولوجي في مجلس نواب الشعب التونسي منذ الجلسة الأولى ولكن ازداد حدةً في الفترة الأخيرة، وتحديدًا إثر الجدال الذي وقع بين “الحزب الدستوري الحر” و”ائتلاف الكرامة” بعد إصرار رئيس الأخير على إدخال زائرٍ متّهمٍ بقضايا إرهابيّة إلى البرلمان. وعلى الرغم من اعتراض الجهاز المكلّف بتأمين المجلس، فقد أصرّ على إدخاله، ممّا حدا بكتلة “الحزب الدستوري الحر “إلى التصوير المباشر للمشادّة الكلامية بينها وبين رئيس كتلة “ائتلاف الكرامة”، ومن ثمّ الاعتصام داخل مقر رئيس ديوان المجلس المنتمي إلى “حركة النهضة “ما دفعه إلى إطفاء الكهرباء والتكييف لإجبارهم على الخروج من مكتبه وفكّ الاعتصام، بالإضافة إلى استدعائه إلى النيابة العمومية لفكّ الاعتصام باستعمال القوة العامة، الأمر الذي زاد تشنّج الأجواء وتعطيل السير العادي لجلسات البرلمان ولجانه. لم يتوقف الخلاف عند هذه الحادثة، بل تواصل بعدها بشكل آخر تمثّل في تقديم لائحة لسحب الثقة من رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي. وقد تقدّم بهذه اللائحة كلٌّ من “الحزب الحر الدستوري” و”الكتلة الديمقراطية”، وتمّ ذلك بشكل منفصل.

وعلى الرغم من محاولات “حركة النهضة” و”حلفائها” إسقاطَ اللائحة لدى ورودها إلى مكتب البرلمان، فقد تمت في نهاية الأمر الموافقة على تحديد موعد جلسة عامة لمناقشتها، وذلك في30 تموز/ يوليو 2020. “1وكما كان متوقعًا، لم تحصل اللائحة على العدد اللازم من الأصوات المؤيدة، إذ صوت 97 نائبًا فقط بسحب الثقة، في حين يتطلّب ذلك 109 أصوات على الأقل. ويبدو أن نبيل القروي وجّه نوابَ حزبه، “قلب تونس”، لدعم الغنوشي، ممّا حسم الأمر لصالح رئيس مجلس النواب.”

من ثمّ، وفي إطار لعبة المحاور داخل مجلس نواب الشعب قدمت كتلة “الحزب الحر الدستوري “لائحةً بعنوان “لائحة تتعلق بإعلان رفض البرلمان للتدخل الخارجي في ليبيا، ومناهضته لتشكيل قاعدة لوجستية داخل التراب التونسي قصد تسهيل تنفيذ هذا التدخل”. وقد دام النقاش حول هذه اللائحة حوالي 14 ساعة وحظيت بمتابعة القنوات المحلية والعربية خاصةً من قبل القنوات التلفزيونية الخليجية. ومن الملاحظ أنّ اللائحة المقدّمة تشير إلى تدخل محور معين في الشأن الداخلي الليبي وتغضّ الطّرْفَ عن المحور الآخر، إذ أصرّ أصحابُها على إدانة التدخل القطري والتركي من دون الحديث عن المحور المصري/ السعودي/ الإماراتي إضافة إلى عدم الإشارة بتاتًا إلى التدخّل الغربي. وقد أدّى هذا إلى رفض هذه اللائحة رفضًا قاطعًا من قِبل “حركة النهضة” و”ائتلاف الكرامة “،”حتى أن رئيس مجلس النواب وزعيم حركة النهضة لم يتردّد في تقديم التهاني لحكومة فائز السراج باستعادة قاعدة “الوطيّة” من قوات المشير حفتر.”2

لم تحظَ هذه العريضة بالموافقة، وصوّت الإسلاميون ضدّها وبالتالي سقطت. تواصل التجاذب بين أطراف الصراع داخل البرلمان بتقديم لائحة جديدة من قِبل “ائتلاف الكرامة” لمطالبة فرنسا بالاعتذار عن جرائمها الاستعماريّة. وعلى الرغم من أهمية هذه اللائحة وشرعية المطالب التي تهدف إليها إلا أنها سقطت أيضًا. والجدير بالذكر أنّ تقديم هذه اللائحة طُرحَ في إطار المزايدة السياسية، وبالتالي فإنّ إسقاطَها أيضًا كان ضمن الصراع بين مختلف الكتل، فعديد الأحزاب والنواب يدافعون عن السيادة الوطنية ويساندون ضرورة اعتذار فرنسا عن جرائمها في تونس، ولكنهم صوّتوا ضدّ اللائحة لأنّ “ائتلاف الكرامة” هو من قدّمها.

لا يمكن عزل كلّ هذه التجاذبات عن حالة الاحتقان والعنف الاجتماعي والسياسي، إذ أظهر بعض الدراسات ارتفاع معدلات الجريمة وخاصةً قضايا النشل والسرقة في تونس،” وبيّنت نتائج الدراسة التي أجريت عن الجريمة في تونس أنّ عدد الجرائم منذ كانون الثاني/ يناير 2019، إلى شهر تموز/ يوليو من نفس السنة بلغ 150 ألف جريمة، حيث تسجّل ما بين 20 و25 جريمة في كل ساعة”.3 وارتفاع الجريمة مرتبطٌ حتمًا بتنامي ظواهر الفقر والبطالة وزيادة تهميش الفئات الأضعف.

ثانيًا: استقالة الحكومة

رفض رئيسُ الحكومة الياس الفخفاخ إدخال حزب “قلب تونس “إلى الحكومة مثلما طالبت “حركة النهضة”. وإثر هذا القرار قدّم حزب “حركة النهضة”، بمعيّة شركائه “قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة “، لائحةَ سحب الثقة من الحكومة إلى مكتب مجلس النواب، وهو ما يدعو إلى الاستغراب باعتبار “حركة النهضة” طرفًا في هذه الحكومة. وكان السبب المعلن عنه خلف هذا القرار شبهةَ الفساد وتضارب المصالح في حقّ رئيس الحكومة باعتباره مالكًا لأسهم في شركة حصلت على مناقصات مع الدولة التونسية بقيمة 40 مليارًا. ولكن، وفي حركة استباقية من رئيس الحكومة وبدعوة من رئيس الجمهورية بعد لقائهما، قدّم الياس الفخفاخ استقالتَه يوم 15 تموز/ يوليو قبل دعوته للمساءلة من قِبل مجلس النواب. وفي إطار صلاحياته كرئيس حكومة تصريف الأعمال، قام الفخفاخ بإعفاء وزراء حركة النهضة من مهامهم ووصفت حركةُ النهضة هذا القرار بـ”المتشنّج والعابث بالمؤسسات”4.

باستقالة الحكومة، عادت مهمة تعيين الشخصية الأقدر على تشكيل الحكومة إلى رئيس الجمهورية الأمر الذي لم يكن ممكنًا لو أنّ مجلس النواب سحب الثقة من الحكومة، ففي هذه الحالة تعود مهمة تعيين المكلّف بتشكيل الحكومة إلى الحزب الفائز بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية، أي حزب “حركة النهضة”.

ثالثًا: التجاذب بين البرلمان ورئيس الجمهورية

لم يبقَ رئيس الجمهورية في قصر قرطاج بمنأى عن تجاذبات قصر باردو، أي مقر البرلمان. فحين اشتدّ الصراع وتوقّف السير الطبيعي لعمل السلطة التشريعية في الدولة، استدعى رئيسُ الجمهورية رئيسَ البرلمان ونائبيه في20 تموز/ يوليو، وأثناء هذا اللقاء عبّر رئيس الجمهورية عن إمكانية تدخّله لتحقيق حُسن سير عمل البرلمان، وصرّح بالآتي “الوسائل القانونية المتاحة في الدستور موجودة لديّ اليوم، بل هي كالصواريخ على منصات إطلاقها، ولكن لا أريد اللجوء إليها في هذا الظرف بالذات”5. وفي الليلة نفسها، قام رئيس الجمهورية، ومنذ الساعة الثالثة صباحًا، بزيارات إلى ثكنات عسكرية وأمنية، وعبّر عن جاهزيّته للتصدي لأي مؤامرات تُحاك ضد البلاد التونسية، وهي تصريحات أثارت ردود فعل التونسيين على مواقع التواصل الاجتماعي، الذين طالبوا رئيس الجمهورية بكشف هذه المؤامرات ومن يحيكها ضد الدولة.

إثر ذلك، أجرى الرئيس مشاورات مع الأحزاب لاختيار الشخصية الأقدر على تشكيل الحكومة، ولكنّه لم يُعِر أيّ اهتمام لاقتراحات كل الأحزاب، بل اختار وزير الداخلية في الحكومة المستقيلة هشام المشيشي الذي شغل خطة مستشار الديوان الرئاسي قبل أن يصبح وزير الداخلية، وهو شخص قريب من رئيس الجمهورية، ومن الواضح أنّ معيار اختياره كان ثقة رئيس الجمهورية فيه وليس كفاءته.

تجدر الإشارة إلى أنّ مختلف فصول هذه التجاذبات والصراعات شغلت الرأي العام التونسي فاصطفّ جزءٌ مع رئيس البرلمان وجزءٌ آخر مع رئيس الجمهورية، كما ظهرت حملة على مواقع التواصل الاجتماعي وهاشتاج “لست وحدك” لمساندة قيس سعيد ضد من يحيك المؤامرات خاصةً بعد انتشار خبر يفيد بأنّ هناك من وضع السم ّفي الخبز لرئيس الجمهورية، ما دفع الرئيس إلى الذهاب بنفسه لاقتناء الخبز من المخبزة في حركة “عفوية أو شعبوية” حازت على اهتمام الشارع التونسي. وبحسب شركات سبر (استطلاع) الآراء فإن قيس سعيد يحتل دومًا المرتبة الأولى بفارق بعيد عن كلّ منافسيه في صورة انتخابات رئاسية اليوم، وهو ما يؤهله للفوز من الدور الأول، ولم تتراجع شعبيته أبدًا.

الجزء الثاني: تأثير هذه الأزمة على المشهد السياسي في تونس

بعد استقالة حكومة الياس الفخفاخ وذلك بعد خمسة أشهر من تشكّلها، ازدادت ضبابية المشهد السياسي في تونس خاصةً في ظل التوتر بين البرلمان من جهة ورئيس الدولة من جهة ثانية، والتوتر داخل البرلمان نفسه بين مختلف الكتل البرلمانية، ولكن بشكلٍ خاصّ بين حزب “حركة النهضة” والكتل المساندة له و”الحزب الحر الدستوري”. سنتعرّض في القسم الأول من هذا الجزء إلى إمكانية حلّ البرلمان واللجوء إلى انتخابات تشريعية مبكرة، وفي القسم الثاني إلى التحالفات السياسية في ظلّ هذه الأزمة.

أوّلًا: إمكانية حلّ البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية

على الرغم من أنّ إمكانية حلّ البرلمان واردة وممكنة في صورة عدم نيل حكومة هشام المشيشي ثقة نواب الشعب، إلا أنه من المستبعد الوصول إلى هذا “السيناريو” رغم دعوة عديد التونسيين رئيسَ الجمهورية إلى استعمال صلاحياته وحلّ البرلمان في صورة إسقاط الحكومة.

يبدو هذا الحل صعبًا لأسباب عدّة أهمّها عدم استعداد النواب للتخلّي عن مقاعدهم في البرلمان، خاصةً أنّ “أغلبية نتائج سبر (استطلاع)الآراء تشير إلى أن حركة النهضة لن تكون القوة الأولى في البرلمان القادم إذا أجريت انتخابات تشريعية الآن، وأنّ قلب تونس قد يندثر نهائيًّا من المشهد النيابي على غرار كتل وأحزاب مثل تحيا تونس والمستقبل والإصلاح”،6 في مقابل تقدم “الطرف العدو” لـ”حركة النهضة”، أي “الحزب الدستوري الحر” وحفاظ كلّ من “التيار الديمقراطي” و”حركة الشعب” على موقعهما في الخارطة السياسية في تونس.

الأكيد أنّ مختلف هذه التحليلات لا تغيب عن الفاعلين السياسيين، لذلك فمن المرجّح أن تصوّت “حركة النهضة” وأيضًا “قلب تونس” لصالح الحكومة وذلك لمنع أي فرصة قد تسنح لرئيس الجمهورية استعمال صلاحياته الدستورية في حل البرلمان.

لكن في مقابل هذا الرأي، هناك من يعتقد أن السبيل الوحيد للخروج من الأزمة هو إجراء انتخابات جديدة، وخروجها ببرلمان أكثر تجانسًا يمكن أن يتفق على حكومة مستقرة قادرة على إقرار التشريعات ومواجهة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تسبّب فيروس “كوفيد19” في تعميقها.

وقد قال عبد الكريم الهاروني، رئيس “مجلس شورى النهضة”، إنّ الحركة مستعدّة إلى انتخابات برلمانية سابقة لأوانها في حال لم يقع تمرير حكومة هشام المشيشي.7 لكن بحسب جلّ المحللين القانونيين والسياسيين، فإنّ الأزمة الحالية لن تنتهي ولن تمرّ بمجرد إعطاء ثقة البرلمان للحكومة المشكّلة، فالمشهد السياسي الذي يتميّز بالتشتت على مستوى تمثيلية الأحزاب داخل البرلمان سيؤدي بالضرورة إلى المشاكل نفسها التي أدّت بالبلاد إلى الأزمة السياسية الحالية، والمطلوب إذًا هو تغيير المشهد السياسي ككل. “فالمنظومة الانتخابية بعد العام 2011، أنتجت حكومات غير قابلة للحكم، من دون أن تفرز أغلبيات قوية، ما جعلها منظومة ولاّدة للأزمات”.8

“لكنّ المشكلة أنّ النظام الانتخابي الحالي والذي اتُّهم دائمًا بقصوره وعدم قدرته على ضمان الاستقرار السياسي، قد يقود إلى نفس النتائج ويأتي بأحزاب ذات تمثيليات برلمانية محدودة ومشتتة وعاجزة عن توفير الأغلبية القادرة على تشكيل الحكومة وبالتالي تواصل الأزمة،”9 وهذا ما جعل البعض ينادي بضرورة تغيير القانون الانتخابي.

ثانيًا: التحالفات السياسية

على الرغم من ضبابية المشهد السياسي التونسي في ظلّ الأزمة الحالية، يبقى الأكيد أنّ التوافق الذي كان سائدًا بعد عام 2014 انهار تمامًا، وهو ما عبّر عنه عديد السياسيين في تونس مثل الوزير محمد عبو، أنّ التوافق الهش السابق بين أحزاب «النظام القديم» بزعامة قائد السبسي وتلامذته و«حركة النهضة وحلفائها» قد انهار بصفة نهائية بسبب أخطاء الطرفين.10

إن الخارطة السياسية اليوم في تونس تتّسم بالتنافر بين طرفين أساسيين هما حزب “حركة النهضة” و”قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة” من جهة، و”الحزب الدستوري الحر” الذي يعلن عداءه الدائم للإسلاميين ومن لفّ لفيفهم من جهة ثانية.

هناك طرف ثالث في المشهد السياسي التونسي اليوم تمثّله “الكتلة الديمقراطية” أي “التيار الديمقراطي” و”حركة الشعب”، ولم تنخرط الكتلة الديمقراطية في صراع المحورين أي “الإسلاميون” و”التجمعيون” بل حافظت هذه الكتلة على حيادها من طرفي الصراع.

في ظل هذا المشهد المشتت لا يمكن تغافل دور رئيس الجمهورية الذي رغم الصلاحيات المحدودة التي خولها له الدستور التونسي إلا أنه يحتلّ المكانة الأهم لدى التونسيين، فهو يعبّر عنهم فيما يتعلق برفضهم للنخبة ورفضهم للأحزاب وما فتئ رئيس الجمهورية يكرر هذه الفكرة التي كانت شعار حملته الانتخابية بالإضافة الى شعار “الشعب يريد” وهو ما وضعهم وضعَ مواجَهة لكل الأحزاب وللعمل الحزبي ككل.

الخاتمة:

التقى رئيس الجمهورية قيس سعيد بممثلين عن الأحزاب قبل يوم واحد من جلسة منح التصويت على منح الثقة لحكومة هشام، وبحسب الحاضرين في اللقاء وجّه الرئيس رسالة ًإلى الأحزاب مفادها أنه لن يقوم بحل البرلمان في صورة عدم منح الثقة للحكومة في خطوة اعتبرها البعض بداية تصدع العلاقة بين رئيس الجمهورية من جهة ورئيس الحكومة من جهة أخرى خاصة بعد تداول أخبار تقول إنه وقع خلاف حول بعض الأسماء المقترحة مثل وزير الشؤون الثقافية، إذ عبّر رئيس الحكومة عن نيّته استبداله بعد ما اعتذر بتدوينة على صفحته على موقع فيسبوك، وفي حركة فجائية قام قيس سعيد بدعوته إلى قصر قرطاج وقدّم دعمه له لتولّي حقيبة وزارة الثقافة. بعد جلسة مطولة استغرقت نحو 17 ساعة، صوّت مجلس نواب الشعب، يوم 02 أيلول/ سبتمبر على منح الثقة لحكومة المشيشي بأغلبية 134 صوتًا مقابل 67 صوّتوا ضدها، في حين لم يمتنع أي نائب عن التصويت. علمًا بأن البرلمان يضم 217 نائبًا.

الامتحان المقبل والأهم للحكومة الجديدة هو إدارة الأزمة الاجتماعية في البلاد التي ازدادت حدّةً بسبب الأزمة الصحية وتفشّي فيروس “كوفيد19” في موجة ثانية تبدو خطيرة مقارنةً بالموجة الأولى بفريق من الإداريين عديمي الخبرة السياسية. فقد أكّد “المعهد الوطني للإحصاء” انكماشَ الاقتصاد التونسي بنسبة 21.6٪ خلال الثلاثي الثاني من عام 2020 باحتساب الانزلاق السنوي وبنسبة 20.4٪ مقارنة بالثلاثي الأول من نفس السنة. كما أن معدل البطالة ارتفع خلال الثلاثي الثاني ليبلغ 18٪ حيث انخفض عدد السكان النشيطين بـ 161 ألفًا خلال هذا الثلاثي11.

انشغلت الطبقة السياسية بالتجاذبات والصراعات الأيديولوجية ولم تضع في الحسبان أن البلاد تعيش أزمة اجتماعية واقتصادية حادة، مع ما يميز المناخ العام من اليأس والإحباط الاجتماعي وتراجع الثقة في الأحزاب السياسية وفي مؤسسات الدولة. إذًا ستواجه هذه الحكومة، بالإضافة إلى الوضع السياسي غير المستقر والمحتقن، جملةً من التحديات الاقتصادية والاجتماعية.

 

 

1محمد رامي عبد المولى، تونس: برلمان لا يوحي بالأمان، موقع “السفير العربي”، 30/ 7/ 2020،

https://bit.ly/2ZnYrBp

2المرجع السابق

3ناجي البغوري، “حزب اللوائح في البرلمان صراع سياسي يدفع تونس نحو العنف والإفلاس، موقع “نواة”، 15/ 6/ 2020،
https://bit.ly/2GRTBXa

4 مقال بعنوان “رهانات قانونية في المشهد السياسي التونسي.. ماذا بعد استقالة الفخفاخ؟، موقع “الجزيرة”، 16/ 7/ 2020،

https://bit.ly/2Fe6lGO

5 مقال بعنوان “سعيّد عن الوضع بالبرلمان: لن أبقى مكتوف الأيدي، موقع “الشارع المغاربي”، 20/ 7/ 2020

https://acharaa.com/ar/512669

6ناجي البغوري، السيناريوهات القادمة لتونس: هل حلّ البرلمان هو الحلّ؟، 20/ 7/ 2020 https://bit.ly/3bH7nH7

7الموقع الرسمي لحزب حركة النهضة http://www.ennahdha.tn/

8وليد التليلي، “تونس أكبر من أزمة حكومة”، العربي الجديد، 15/ 7/ 2020 https://bit.ly/32c1kHw

9ناجي البغوري السيناريوهات القادمة لتونس: هل حلّ البرلمان هو الحلّ؟

10 كمال بن يونس، تونس.. المشهد السياسي بعد سقوط الفخفاخ، نظام برأسين تصدّع.. فهل تنجح محاولات ترميمه؟، الشرق الأوسط، 25/ 7/ 2020 https://bit.ly/2FeTd4b

11تقرير المعهد الوطني للإحصاء، https://bit.ly/3m9OYYb

Start typing and press Enter to search