النظام الإقليمي العربي وقضاياه الأساسية رغم كثافة الدراسات التي ناقشتها على امتداد العقود الأربعة الماضية ما يزال في حاجة الى مناقشات أعمق وأشمل. الاجتهادات لا يجوز أن تتوقف بحجة أن التغيرات الاجتماعية والسياسية والخرائط الاستراتيجية تجاوزت صفة التغيير الى صفات التحول، بعضها بالفعل جذري وأكثرها شامل ومتشعب متعدد الأوجه والأبعاد، فلعل هذه التحولات نفسها تكون دافعا لإعادة النظر في مفاهيم هيمنت طويلا في الساحات الاكاديمية جنى بعد أن فقدت جدواها ومعانيها، لعلها أيضا تثير في عقولنا أسئلة لم تطرح من قبل.
ثم أننا عشنا في ظل اقتناع له ما يبرره، اقتناع بأن الإقليم بلونيه العربي والشرق أوسطي يمارس حياته في ظل حالة شبه دائمة من التوتر والسخونة. لذلك فأننا عندما دخلنا مرحلة التحولات الواسعة لم يخطر على بال باحثينا أن الإقليم استبدل دون أن ندري نمط معيشة في حال درجة معقولة من التوتر والسخونة ليعيش فوق صفيح ساخن، مستعيرا تعبيرا سينمائيا شائعا. باحثونا اكتسبوا خبرة جيدة في توصيف الحال في لحظة تاريخية معينة وخبرة لا بأس بها في تصوير مستقبلات بديلة تنشأ وتستمر في ظل الحالة شبه الدائمة من التوتر والسخونة، ولكننا لم نكتسب خبرة مناسبة في التوصيف أو في استقراء مستقبلات وبدائل اوضاع الأمن والاستقرار في منطقة تعيش وتمارس نزاعاتها وعلاقاتها الطبقية والدولية وهي تغلي فوق صفيح ساخن.
تكونت اللحظة الراهنة في تطور الإقليم العربي – الشرق أوسطي نتيجة تداخل تطورات بالغة الأهمية، بل لا أخجل أو أتردد في نعتها بالثورية. أختار من هذه لتطورات ما أعتقد أنها صاحبة فضل كبير على النظام الدولي بمعناه الشامل والنظام الإقليمي بمعانيه المتغيرة وعلى البنى الداخلية والعلاقات بين الدول. أختار أولا مرحلة السبعينات والثمانينات، وتحديدا اختار البذور التي غرستها العولمة وهي في ذروتها في المجتمعات العربية والشرق أوسطية. هناك في تلك المرحلة وفي مشتقاتها خلال السنين اللاحقة نمت بذرة الهوية الأولية بأسرع مما نمت بذور الهويات الأحدث مثل القومية والوطنية بل لعلها كما اتضح لنا فيما بعد نمت على حسابها.
أختار ثانيا ثورات الربيع العربي. أعترف اننا لم نتفق بعد على معنى وجوهر هذه الظاهرة. ثورات تنتقل من بلد إلى بلد. تتوقف قليلا لتهدأ ثم تشتعل مرة أخرى، او تتغير مواصفاتها ولكن تبقى مستمرة. كانت رد الفعل الإقليمي المناسب للعولمة. العولمة لعبت أدوارا هامة ليس فقط في إثارة الوعي بالهويات الأولية في أقاليم عديدة مثلما حدث في يوغوسلافيا وشرق أوروبا وأمريكا اللاتينية، ولكن خلفت أقوى التأثير في الشرق الأوسط. كانت العولمة وراء تمكين الصين من تحقيق معجزة الانتقال من دولة نامية قريبة جدا من التخلف الى مصاف الدول العظمي في سنوات معدودة. هذا الانتقال أضعه اختيارا رابعا من بين اختيارات أساسية تقوم عليها دراسة بدائل مستقبلات النظام العربي والنظام الشرق الأوسطي. الاختيار الخامس وهو أيضا من ثمرات مرحلة العولمة يجب أن يناقشه الباحثون تحت عنوان الذكاء الاصطناعي كمكون من مكونات منظومة العلاقات الإقليمية.
هذه العناصر هي الأساس الذي سوف ينبني فوقه النظام الإقليمي الجديد. أتصور أن قيمة أي بحث جديد في موضوع النظام الإقليمي الجديد، أو الاستمرار لفترة بدون نظام، سوف تكون في خلق أفكار حول مرحلة نشهد فيها عالما يتشكل في ظل أساليب وقواعد مبتكرة، وبعضها قد يتجاوز قدرات العقل البشري.