كوفيد 19 وأزمة الديمقراطية:

أصل الأزمة وسبل تجنّبها

شروق الحريري ,محمد العجاتي
Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [1.16 MB]

في أواخر كانون الأول/ ديسمبر 2019 ظهر فيروس كورونا المستجد في مدينة ووهان الصينية. ومطلع العام الحالي، انتقل الفيروس إلى عشرات الدول الأخرى. ومع نهايات شهر نيسان/ أبريل 2020 أصاب الفيروس حوالي ثلاثة ملايين حول العالم وقتل ما يتجاوز المئتي الف.1 وفي مواجهة هذا الوباء العالمي وخاصة بعد إعلان منظمة الصحة العالمية في أواخر كانون الثاني/ يناير حالة الطوارئ بسبب فيروس كورونا المستجد كوفيد 19،2 وتطور الوضع إلى إعلانها تحوله إلى وباء أو جائحة عالمية،3 اتجه العديد من الدول إلى غلق الحدود والمطارات وفرض حظر التجول على المواطنين، إلى جانب العديد من الإجراءات الأخرى التي اتسمت بالمركزية والانغلاق، فتوقفت حركة الطيران الدولية وتوقفت الحركة العالمية.

أدت هذه الحالة إلى ارتباك النظام العالمي؛ ففي ظل عالمٍ مترابط بفعل العولمة، جاءت الأزمة لتكشف لنا عن الازدواجية التي يعيشها العالم في ظل فكرة الاتحادات والتحالفات بين الدول والتي تراجعت مع أزمة كورونا، وهو ما ظهر في محدودية التعاون بين كتل كثيرة عالميًّا مثل الأميركي/الأوروبي، والاتحاد الأوروبي.4

 

المركزية كطرح للخروج من الأزمة

وعلى الرغم من أنّ بدايات المرض كانت سريعة ومدوّية في الصين حيث وصل أعداد المرضى إلى حوالي 82830 حالة، وحالات الوفاة إلى 4633 حالة،5 إلا أنه مع نهاية شهر آذار/ مارس بدأ الحديث عن نجاح الصين في احتواء الوباء،6 إذ اتّخذت الصين العديد من الإجراءات السريعة، من الحجر على حوالي 60 مليون شخص وفرض قيود صارمة على السفر، نتج عنها السيطرة على الأزمة وفق ما أعلنت منظمة الصحة العالمية. وقد أطلقت الصين على هذا الإجراءات نهج القوة الصارمة.7 كما بدأت الصين مساعٍ للترويج لجهودها الناجحة في الداخل والخارج بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية “حيث أظهرت الصين أنه بالإمكان تغيير مسار المرض بالوضع الطبيعي”.8

ويُستشهد هنا بقدرة دول كالصين واليابان وكوريا الجنوبية في مواجهة الوباء والحد من انتشاره حيث كانت لديها خبرات سابقة في التعامل مع وباء سارس بين عامي 2002-2003. أما الحكومات الغربية فقد فشلت في احتواء الأزمة، فعلى سبيل المثال أصر الرئيس الأميركي دونالد ترامب على التهوين من شأن العدوى، والسخرية من دعوات اتخاذ إجراءات أكثر جدية، لأسابيع، ناصحًا المواطنين بغسل الأيدي فقط، بل وحتى مع وصول العدوى إلى البيت الأبيض نفسه، وبعد الإعلان عن إصابة عددٍ من المسؤولين الأميركيين والأجانب الذين التقاهم ترامب. وفي بريطانيا اعتمد رئيس الوزراء بوريس جونسون على فرضية “مناعة القطيع”، داعيًا المواطنين إلى الاستعداد لتوديع أحبائهم، الخطة التي تراجع عنها لاحقًا.9

وهذا الاحتواء للأزمة؛ دعى البعض لطرح فكرة قدرة النظم المغلقة والمركزية على مواجهة الأزمات بشكل أكثر كفاءة، خاصة مع انتقال الوباء وتفشّيه في دول تتّسم نظمها بالديموقراطية مثل فرنسا وإيطاليا، وتعتمد آليات اتخاذ القرار على درجة عالية من اللامركزية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، على أساس قدرة هذه النظم السلطوية على اتخاذ الإجراءات بشكل أسرع وأكثر حزمًا، إضافة لقدرتها على حشد مواردها في اتجاه محدد يمكّنها من التعامل مع الأزمة من دون تعقيدات أو معارضة، وطبعًا يضيف أنصار هذه المقولة حجة أخرى تتعلق بقدرة هذه النظم التحرك من دون إزعاج أو بلبلة من معارضة سياسية تكون في رؤيتهم صاحبة غرض.

تمثّل هذه المقولات امتدادًا صريحًا لما يمكننا تسميته بحالة الارتداد على الديموقراطية، وهي تلك الحالة التي بدأتها شعوب العالم المتقدم، في أوروبا والولايات المتحدة، في السنوات الأخيرة، احتجاجًا على ما أسفرت عنه الصناديق الانتخابية، وهو ما يعد بمثابة “انقلاب” صريح على القواعد التي طالما أرستها تلك الدول، بينما ظهرت بجلاء في التوجه نحو تيارات اليمين المتطرف بعد ذلك، لتصل إلى مداها في حالة “الحنين” إلى عصور الديكتاتورية.10

وقد جعلت الدعاية الصينية كثيرين يرون أن الوقت حان لتدخل مركزي صارم، يجعل الدول قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة وإلزام الجميع بها، كما أنّ ضعف التضامن بين دول الاتحاد الأوروبي في مواجهة الفيروس روّج لفكرة مركزية الدولة، مقابل عدم نجاعة التكتلات الإقليمية الجماعية، بل هناك حديث عن أن حرية التنقل في الاتحاد الأوروبي من دون تسجيل حركة العبور، كانت عاملاً مهمًّا في انتشار الفيروس.

الكورونا بين النظم السلطوية والدول الديموقراطية

إلا أن البعض يرى أن الاحتفاء بمواجهة الصين للفيروس لا يعني بالضرورة التقليل من شأن النظم الديموقراطية، فالديموقراطية في مفهومها التقليدي تواجه أزمات، أو ربما اختبارات متلاحقة، في إطار نظام عالمي يتغير، وبالتالي يبدو أن بقاءها مرتبط ببقاء النظام التقليدي الذى أرسته الولايات المتحدة الأميركية والغرب الأوروبي في أعقاب الحرب الباردة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، واستئثار الولايات المتحدة بالهيمنة على قمة النظام الدولي، الأمر الذي بات من الصعب استمراره في ظل العديد من المتغيرات السياسية والاقتصادية والمعطيات الدولية الجديدة، بعدما نجحت قوى جديدة في البزوغ لمزاحمة القوى الأميركية، كروسيا والصين.11

بينما يجب علينا هنا أن نتساءل هل طبيعة النظم السلطوية لم تكن واحدة من الأسباب الرئيسية لتفشي هذا الفيروس، فبالنسبة للصين ومن المعروف للجميع أن الحكم في الصين حكمٌ سلطوي؛ عملت السلطات على تأخير انتشار خبر الفيروس الجديد إذ نشرت جريدة لوموند تحليلاً ترصد خلاله مراحل اكتشاف الفيروس وانتشاره. 12 وأشارت إلى أن هناك أخبار عن تأخر السلطات الصينية في الإبلاغ عن الوباء ما أدى إلى زيادة أعداد الإصابات في أنحاء العالم. وعلى الرغم من تداول معلومات بين أطباء صينيين منذ منتصف كانون الأول/ ديسمبر عن ظهور عدوى تنتقل باللمس بين الأفراد، ومن قبل في آذار/ مارس 2019 عندما أشار طبيب صيني إلى وجود فيروسات جديدة مماثلة لفيروس سارس ستظهر في المستقبل، إلا أن السلطات الصينية قررت التكتم على الوباء وعدم إخطار منظمة الصحة العالمية “حيث قررت اللجنة الصحية لمدينة ووهان التحفظ على هذه المعلومات الهامة، وأخطرت الدكتورة “آي فان” في رسالة بأنه لا ينبغي نشر هذه المعلومة للجمهور. وفي حال وقوع أي ذعر، سيتعين عليك العثور على الشخص المسؤول”.13

يتّضح هذا التكتم في عدم معرفة من هي الحالة الأولى للإصابة بفيروس كورونا، ففي حين أشارت المعلومات الرسمية في الصين إلى أن المصاب رقم صفر بفيروس كورونا هو إم شين M.Chen والذي أصيب في 8 كانون الأول/ ديسمبر وتماثل للشفاء، إلا أن يومية “سواث تشينا مورنينج بوست” الصينية الناطقة بالإنكليزية أعلنت أن المصاب رقم صفر شخص عمره 55 عامًا، والحالة ترجع إلى تاريخ 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، مشيرةً إلى أن العدوى بدأت في الانتشار بنسبة 1 إلى 5 إصابات يوميًا، وذلك وفق بيانات رسمية.14

أما في ما يخص الممارسات الداخلية للصين؛ فمن المتعارف على الصين ممارساتها غير الديموقراطية على مواطنيها، إذ تعَدّ أكبر دولة تمارس الرقابة في العالم. زادت هذه الممارسات وتشعبت أثناء مواجهة فيروس كورونا المستجد، فمنذ إعلان الوباء ضاعفت الصين من عمليات مراقبة السكان والتجسس عليهم وحتى اعتقالهم، بل إن أول طبيب جاهر بخطورة الوباء، اعتقل بتهمة نشر أخبار كاذبة قبل أن يتوفى بسبب المرض.15 وهو ما زاد من حالة الغموض بل يمكن القول التضليل بخصوص وضع الوباء وتبعاته.

والسؤال الآن “ماذا لو كان الوباء قد بدأ في دول تتسم بالشفافية وحرية تداول المعلومات، والمحاسبة”؟ فعلى الجانب الآخر من التجربة الصينية للسيطرة على الوباء نجد تايوان وهي تجربة ناجحة جدًّا، فعلى الرغم من أنّ لتايوان حدود مع الصين، إلا أن أعداد الإصابات فيها حتى يوم 25 نيسان/ أبريل كانت لا تزال 429 حالة إصابة، 6 حالات وفاة و275 متعافي.16 فعلى الرغم من هذا التقارب الجغرافي بين البلدين إلا أن تايوان استطاعت أن تستبق الأزمة. ويرجع ذلك إلى قوة النظام الصحي والخدمات المقدمة إلى جانب مؤشر الديموقراطية إذ تعد تايوان من الديموقراطيات القوية في شرق آسيا. ولحظة اندلاع الأزمة وتفشي الفيروس في الصين أرسلت السلطات التايوانية فريقًا طبيًّا إلى الصين لدراسة المرض والتعرف عليه إلى جانب إنشائها مركزًا للقيادة الصحية لمواجهة أي وباء بعد انتشار فيروس سارس 2002-2003، ودمج بيانات التأمين الصحي مع بيانات الهجرة بهدف التعرف إلى المرضى المحتملين، واستخدام التكنولوجيا من أجل تشجيع المسافرين على الإبلاغ عن سفرهم. وقامت السلطات مستخدمةً التكنولوجيا بخلق منصات تواصل إلكترونية مع المواطنين لتمكينهم من معرفة أماكن وجود الأقنعة الطبية، ومكّنت مقدمي الخدمات الصحية من العودة إلى تاريخ سفر الراغبين في العلاج لأسبوعين على الأقل.17

بالعودة إلى التجربة التايوانية لمواجهة فيروس كورونا نجد أن السلطات التايوانية فور إعلان السلطات الصينية عن أول حالة لمرضى فيروس كورونا أرسلت لمنظمة الصحة العالمية تطلب منها بعض الإيضاحات بشأن الفيروس الجديد، كما صعدت على الرحلات الآتية من الصين وفحص المسافرين والعودة إلى ملفات الرحلات خلال 15 يومًا لفحص العائدين. وحين لم تتلقَّ أيَّ بيانات من منظمة الصحة العالمية، أرسلت فريقًا طبيًّا إلى ووهان لدراسة الفيروس والتعرف إليه بشكل أسرع، وأعلنت حالة الطوارئ قبل إعلانها في ووهان، كما نفّذت تايوان 127 خطوة وإجراءً احترازيًّا تميزت بالسرعة والاستباق عن طريق استخدام التكنولوجيا وقواعد البيانات لديها.18

وظهر أيضًا أن ليس هناك بالضرورة من داعٍ لتبنّي قيم السلطوية لمواجهة مثل هذه الجائحة، فمع تصاعد وانتشار الفيروس أشار الكثير إلى أنه من الصعب على الدول الديموقراطية تبنّي مثل هذه الإجراءات وخصوصًا الخاص بمنع تنقل المواطنين، فالأمر لا يتعلق على الإطلاق بمدى تبنّي النظام للقيم السلطوية، ففي أوروبا على سبيل المثال تُعتبر إيطاليا أكثر الدول استخدامًا لإجراءات سلطوية لمواجهة فيروس كورونا؛ إذ وضعت السلطات البلد بأسره رهن الحجر الصحي وأغلقت جميع المتاجر ما عدا متاجر الأغذية والصيدليات، كما حظرت التجمعات العامة، وأُصدرت تعليمات للسكان بالبقاء في منازلهم، وأغلقت الجامعات والمدارس. ومع ذلك كانت إيطاليا، لأكثر من شهر، أكثر الدول انتشارًا للفيروس، وهي الآن في المركز الثالث بعد الولايات المتحدة وإسبانيا. أما كوريا الجنوبية، فنجد أنها بعد أن كانت في المرتبة الثالثة بعد الصين وإيطاليا أصبحت في المرتبة الـ30 عالميًّا. وحصل النجاح في انخفاض أعداد الحالات من دون غلق الحدود أو تطبيق حجر صحي للبلد بأسره. وتُجري الحكومة فحوصات لمئات الآلاف في الطرقات وللسائقين في سياراتهم، كما تتابع الحاملين المحتملين للفيروس باستخدام الهواتف المحمولة وتكنولوجيا الأقمار الصناعية. وهو ما يبين أن الأمر لا يتعلق بمدى تبني الدول لنظم شمولية أو أفكار وقيم سلطوية.19

توضح تجارب النجاح في التعامل مع الأزمة حتى الآن أن السلطويين أو الشعبويين ليسوا أفضل في التعامل مع الوباء، فالدول التي استجابت في وقت مبكر وبنجاح مثل كوريا الجنوبية وتايوان كانت ديموقراطية، على عكس ما حدث في الصين والتي يديرها سلطويون.20

وبناء على معطيات وطبيعة هذه الأزمة، لا يمكن تقييم الأخيرة على المستوى المحلي، بل يجب تقييمها على المستوى الدولي، فإذا كان يمكن أن يصل بنا التقييمُ المحلي إلى قدرة السلطوية على مواجهة الأزمات بشكل أكثر كفاءة، فالتقييم على المستوى الدولي يؤكد أن قيم الديمقراطية أكثر فاعلية في التعامل مع الأزمات واحتوائها في لحظات مبكرة. ومن منظور عالمي أيضًا يجب أن ننظر إلى النظام المسيطر دوليًّا، فلا يمكن أن نقتصر النظر على الطبيعة السياسية المتنوعة والمختلفة ونتجاهل النظام الجامع للعالم اليوم عندما تكون الأزمة بهذا الاتساع، والمقصود هنا النظام الاقتصادي الرأسمالي، وفي هذا الإطار يجب أن نعترف أنه ليس ذا طبيعة واحدة، إنما متعدد الطبعات والأوجه والتدرج من نظام أقرب لدول الرفاه في شمال أوروبا لنظم نيوليبرالية في الدول التي تطبق أجندات مؤسسات التمويل الدولية. كما تختلف طبيعة النظم من حيث انغلاقها وانفتاحها سياسيًّا، وكذلك من حيث قيادتها، فعلى الرغم من الصعود الكبير لليمين المتطرف إلا أنه ما زال هناك نظم تميل ليمين الوسط، بل يُعتبر بعضها من يسار الوسط. إلا أنه على الرغم من تعدد الوجوه، فكلها تعمل في إطار منظومة واحدة هي منظومة النظام الرأسمالي بدعم ومساندة من مؤسسات التمويل الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد. فعلى حد تعبير الباحث عمرو عبد الرحمن21 في أحد منشوراته على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك “الولايات المتحدة تلعب دور المستثمر والصين تلعب دور الصانع”، وهو ما يمكن أن نجد موقعًا فيه لدول العالم المختلفة ما بين مورد للمواد الخام إلى أسواق للمنتجات، كما أثبتت هذه الأزمة مدى ترابط النظام المالي العالمي مما يؤكد أنه مهما تعدد النسخ أو الأوجه يظل النظام الرأسمالي هو النظام الحاكم للعالم في المرحلة الراهنة.22

يحيلنا هذا الأمر إلى أزمة جوهرية تعاني منها الديموقراطيات التمثيلية المرتبطة بالنظام الرأسمالي، حيث انتهى تطور النظام الرأسمالي بخلق كيانات احتكارية كبيرة بعدما كان يعني بتحقيق الصالح العام لكل مكونات المجتمع من خلال سعي الأفراد لتحقيق مصالحهم ممثلا في قانون المنافسة الحرة، وانتهى الأمر لتمكين وسيطرة أقلية على المجال العام، والغالبية تعاني من الحرمان، والمجال أمامهم أصبح مقفولاً بشكل لا يمكنهم من الحراك الاجتماعي. وعلى مستوى الممارسة، فإن الليبرالية كمنهج سياسي والرأسمالية كنظام اقتصادي، اتضح أنهما لم يقدما أي ضمانات لحماية الحريات إذ تحوّلت هذه الحريات إلى امتيازات يتمتع بها قلة من الرأسماليين والسياسيين لتحقيق مصالحهم. كما أن الإفراط في الإدارة والتحكم من جانب السلطة التنفيذية، وسوء الإدارة البارز في القطاعين العام والخاص، دفع للتساؤل حول مدى كفاءة التمثيل السياسي التقليدي. وهناك أزمات أخرى تم تناولها أيضًا من قبل بعض المحللين والمفكرين كأزمة الثقة من جانب الجماهير تجاه السياسيين والتي تعمّقت في أعقاب الفضائح السياسية والأخلاقية، وأيضًا قضية اختزال الديموقراطية في صورتها التمثيلية التقليدية في الإجراء الانتخابي أو التصويتي الذي يتم كفترة زمنية، لا يضمن رقابة جادة وقوية على أداء السياسيين، حيث اتّضح أن خلال هذه الفترات التي تفصل بين كل انتخابات وأخرى قد يتم اتخاذ قرارات على قدر كبير من الأهمية والخطورة دون الرجوع للجماهير. 23 جعلت هذه الحالة هناك إعادة تدوير للنخبة والسياسات من دون فروق جوهرية بين التيارات السياسية المختلفة، وهو ما جعل المواطنين في حالة بحث دائم عن بديل جذري لما يعيشونه من دون أن يجدوا ذلك في ظل النظام القائم، الأمر الذي انتهى في آخر خمس سنوات بانتخاب وجوه كثيرة حول العالم من خارج المؤسسات السياسية التقليدية، وقد أدى هذا الأمر إلى صعود تيار اليمين الذي يعادي الديموقراطية بطبعه، أي أنه في هذه السنوات الأخيرة دخلت أزمة الديموقراطية التمثيلية مرحلة جديدة تعادي الديموقراطية التي أتت بها، وتمثل خطرًا عليها.

وهو ما يظهر منه مثلا في مظاهر مقاومة اليمين لإجراءات الوقاية من الوباء، إذ شهدت الولايات المتحدة الأميركية موجة من الاحتجاجات نتيجة سياسات لمواجهة فيروس كورونا، خصوصًا سياسة التباعد الاجتماعي والحظر، في العديد من الولايات كاستجابة لدعوات الرئيس الأميركي بعدم جدوى الحظر وضرورة الخروج من حالة الانغلاق، وحمل المتظاهرون لافتات كتب عليها الحرية الآن وحقائق لا خوف وكونوا مثل السويد، وعرقلت الاحتجاجات عمل المستشفيات في بعض الأحيان كما حدث في ولاية ميشيجان من قبل المتظاهرين الجمهوريين، واستخدمت الاحتجاجات موقع إلكتروني والمملوك لرجل الأعمال ومرشح مجلس الشيوخ الجمهوري دييجو رودريجيز، وهناك الكثير من مؤيدي الحركات المتطرفة في الولايات المتحدة الأميركية يشجعون على الاحتجاج والتظاهر ضد قرارات الحظر في جميع الولايات.24

الجائحة وأزمة النظام الدولي

وتشتد هذه الأزمة في ظل الحاجة الملحة إلى مؤسسة دولية تلعب دورًا عالميًّا في مواجهة تداعيات الأزمة. وفي ظل أن منظمة الصحة العالمية تلعب دورًا فنيًّا فقط يتعلق بالصحة ودورًا بالفعل يمكن وصفه بالارتباك بسبب سيطرة الموظفين على حركة العمل فيها كما هو الحال في معظم المؤسسات الدولية من جانب، ورغبتها في عدم الاصطدام بأي دولة من جانب آخر، لا يجعل على الساحة سوى مؤسسات التمويل الدولية. يضع صندوق النقد الدولي استراتيجياته بناءً على انخفاض النمو العالمي لعام 2020 نتيجة لحالة الركود العالمية وانخفاض الطلب. ويعمل الصندوق من خلال وضع أولويتين هما ضمان الإنفاق المتصل بالإجراءات الصحية لحماية رفاهة الناس ورعاية المرضى وإبطاء انتشار الفيروس، واتخاذ بعض الإجراءات لتخفيف أثار الأزمة الاقتصادي. وترى كريستالينا جورجيفا25 أن دور البنك وصندوق النقد الدوليين هو تسريع وتيرة نشر الممارسات الجيدة حتى يتمكن المجتمع الدولي من التحرك بسرعة أكبر وبمزيد من الفعالية. أما البنك الدولي؛ فأعلن عن حزمة من المساعدات تبلغ قيمتها 12 مليار دولار، 6 مليارات للإنشاء والتعمير والتنمية و6 مليارات من مؤسسة التمويل الدولية للقطاع الخاص لتمويل التجارة ورأس المال العامل، وتعَد هذه الحزم استجابة سريعة ومرنة على أساس احتياجات البلدان النامية من خلال تقديم المساعدات الفنية والسلع26 والخدمات للدول الأكثر ضررًا.27

على الرغم من ذلك، ما زالت هذه المؤسسات تصرّ حتى في ظل الأزمة الراهنة على فرض سياسات تقشفية على الدول التي تقدم لها الدعم، وهي سياسات بطبيعتها تتعارض مع احتياجات العالم لمواجهة هذه الأزمة، والتي تفترض توسعًا من الدول في الإنفاق على المجال الخدمي بشكل عام والاستثمار العام في مجال الصحة والدواء بشكل خاص، سواء لمجابهة الأزمة الراهنة أو الاستعداد لموجات أخرى أو أزمات أخرى شبيهة. كما تضع شروطًا بخصوص القطاع الحكومي والعام يحجم من قدراته وينقلها لصالح القطاع الخاص، في ظل أزمة تحتاج لحشد الموارد وتفعيل طاقات الدول. وعليه، فسياسات هذه المؤسسات والتي أودت إليه هي جزء أصيل مما يعانيه العالم اليوم، ذلك على الرغم من الخطب الرنانة والتقارير البليغة التي تصدر عنها وتتناول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

كما كشفت هذه الأزمة عن مشكلة تواجهه المنظمات الدولية ليست فقط ذاتية إنما ذات بعد موضوعي أيضًا، فمنذ إنشائها تطالبها الدول القيام بوظائف معينة، وفي الوقت نفسه لا تمنحها الصلاحيات اللازمة للقيام بهذه المهام، فتظل رهينة لإرادة الدول. فعلى سبيل المثال لم يستطع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المكلف بحفظ السلم والأمن الدوليين الاجتماعَ بشأن كورونا إلا يوم 9 نيسان/ أبريل، بعد شهر من إعلانه وباءً عالميًّا بسبب أن هناك بعض الدول الأعضاء التي اعتبرته من غير اختصاص المجلس وأنه لا يهدد السلم والأمن الدوليين وأخرى وجدت في كورونا فرصة للنيل من الصين.28

منظومة دولية بقيادة تيارات سياسية ومؤسسات دولية تروّج لتوجه محدد هي المسؤول الأساسي عن تفاقم الأزمة، والنظم السلطوية المغلقة هي طرف أصيل في انفجارها، ولا يمكننا في هذا الإطار التوقف عند من كانت لديه قدرة أكبر على مواجهة الأزمة وتجنب السؤال عن مسؤوليتها عن تفاقم الأزمة.

خاتمة

من المؤكد أن شكل وبنية النظام الدولي والنظام السائد سيتأثران بشكل كبير بهذه الأزمة، فيطرح الكثيرون أن النظام الدولي سيشهد تراجع للهيمنة والولايات المتحدة الأميركية مع هذه الأزمة، ففي أعقاب الأزمات الكبرى في التاريخ تغير شكل النظام العالمي والقوى المهيمنة والمسيطرة. أما بالنسبة للتأثير على الديموقراطية وحرية تداول المعلومات والشفافية فيرى الكثير من المحللين والمفكرين السياسيين وفقًا لمقال في مجلة فورن بوليسي29 أن الدول ستكون أكثر قمعًا بعد انتهاء فيروس كورونا، فعلى سبيل المثال يرى استفين والت وجون أكنبيري أن العالم سيكون أقل انفتاحًا وحرية، كما سيعمل على تقوية الدولة وتعزيز القوميات، فمع تبني الحكومات إجراءات طارئة لتلافي أضرار الأزمة سيجعل من الصعب على تلك الحكومات التخلي عن هذه السلطات الجديدة عند انتهاء الأزمة. وهو ما ظهر في منطقتنا من خلال انتهاز بعض الحكومات للأزمة لتشديد قبضتها قانون الأنترنت التي طرحته الحكومة المغربية، أو الحملة التي تقوم بها الحكومة المصرية في مواجهة المجتمع المدني، والعنف الذي أظهرته السلطة اللبنانية في مواجهة تظاهرات نيسان/ إبريل 2020.

كما ستؤدي أزمة فيروس كورونا إلى تركيز الحكومات على الداخل وعدم الاهتمام بالمشكلات الإقليمية والدولية كتغير المناخ، كما سيكون هناك الكثير من البلدان التي ستعاني على الأمد الطويل من عواقب الأزمة، لذلك ستزيد عدد الدول الفاشلة، كما سيشهد العالم ضعفًا في التكامل الأوروبي وتوترات أكبر في ما يخص العلاقات الأميركية الصينية.30

كما يرى الكثير من الاقتصادين أن الأزمة سينتج عنها الكثير من التغيرات؛ إذ ستؤثر الأزمة على العلاقة المالية بين الدولة والقطاع الخاص، والعلاقات بين الدول وبعضها، فالدَّين سيزيد بالتأكيد الأمر الذي سيؤثر على مستويات النمو، في حين ستتأثر الكثير من الشركات بدرجات متفاوتة، لذلك نجد البنوك طرحت في هذه الأزمة الحد الأدنى من السيولة، التي مكّنت بعض الشركات من الاستمرارية، وهو ما يمكن أن تعتمد عليه الدولة للخروج من الأزمة في ما بعد. أما في ما يخص تحمل تكاليف الأزمة فالجميع قلق من البطالة وضعف الرعاية الصحية، فالجميع في خطر والجميع معرّض للعواقب نفسها ولكن ليس بالدرجة نفسها، ولذلك فمن المتوقع في أعقاب الأزمة أن يطالب المواطنون بتحسين الدعم الاجتماعي والرعاية الصحية والاهتمام بالبحث العلمي.31

في هذا الإطار يجب النظر إلى المستقبل بشكل مختلف، فعلى العالم الآن محاولة بناء منظومة أكثر إنسانية وعدالة تقوم على الشفافية وحرية تداول المعلومات والمحاسبة ليس على المستوى المحلي فقط إنما على المستوى العالمي، فبعد الأزمة المالية الكبرى جاءت أزمة كورونا لتنبهنا إلى الإخفاقات المتكررة للنظام المؤسسي العالمي السائد، خصوصًا الإخفاقات التي تم ذكرها أعلاه، فعلى العالم الآن التفكير في منظومة أكثر إنسانيّة تتماشى مع متطلبات العصر الحالي، إذ هناك من يرى أن صائغي ميثاق الأمم المتحدة عندما تناولوا حفظ السلم والأمن الدوليين عام 1945 كانوا يفكرون في مصادر تهديده النابعة من الصراعات بين الدول على غرار الحرب العالمية الثانية وما قبلها من حروب، ولكن لم يتناولوا ما يهدد النظام العالمي خارج المجتمع الدولي من أوبئة وتغيرات مناخية ومهددات غير الدول والحروب.32 وهو ما لا يتحقق من دون نظم ديموقراطية منفتحة، ومنظمات دولية تعبر عن احتياجات الشعوب وتطلعاتها، فعلى الجميع، وليس الأكثر تضررًا من الأزمة، أن يشارك في الضغط من أجل إرساء قواعد أكثر إنسانية وعدالة من خلال بناء منظومة دولية تقوم على الشفافية وحرية تداول المعلومات والمحاسبة. ويطلب لذلك تعبئة الرأي العام العالمي (معاهد البحث والتفكير ومنظمات المجتمع المدني والجامعات والاتحادات والنقابات المهنية والأحزاب)، على مستوى العالم كله، للضغط والمطالبة بدور للمنظمات الدولية لتشمل في مقدمة أولوياتها شؤون الصحة العامة إلى جانب شؤون الأمن الدولي والتنمية.33

 

1 COVID-19 CORONAVIRUS PANDEMIC, worldometers, 27 April 2020, https://www.worldometers.info/coronavirus/

2 فيروس كورونا: منظمة الصحة العالمية تعلن حالة طوارئ صحية عالمية، UN news، 30/ 1/ 2020، https://cutt.ly/3ytEWVI

3 ماذا يعني إعلان منظمة الصحة كورونا “وباءً عالميًّا”؟، سكاي نيوز عربية، 12/ 3/2020، https://cutt.ly/tytQAyi

4 وليد عبد الله، مقالة حصرية: عالم ينتهي، وآخر يتشكل…العالم والصين ما بعد كورونا، صحيفة الشعب اليومية أونلاين، 5 / 4/ 2020، https://cutt.ly/GyoTLpv

5 COVID-19 CORONAVIRUS PANDEMIC, ibid.

6 كورونا: الصين تجربة فريدة في مواجهة المرض واحتوائه، فكيف يمكن لبقية دول العالم استقاء الدروس؟،UN News، 14 / 3/ 2020، https://cutt.ly/0yoPnU6

7 بندر الدوشي، هذه وصفة الصين لاحتواء كورونا.. وهذه آثارها الجانبية، العربية نت، 8 آذار/ مارس 2020، https://cutt.ly/TyoATjX

8 كورونا: الصين تجربة فريدة في مواجهة المرض واحتوائه، فكيف يمكن لبقية دول العالم استقاء الدروس؟، UN News، مرجع سابق.

9 شادي لويس، كورونا والصين: من يهدد الديمقراطية؟، قنطرة، 26 مارس 2020، https://cutt.ly/8ypoGyP

10 بيشوى رمزي، ثورة “كورونا” على الديمقراطية العالمية، اليوم السابع، 25 مارس 2020، https://cutt.ly/Hypo2uD

11 المرجع السابق.

12 Frédéric Lemaître, « Il ne faut pas diffuser cette information au pub lhvs lic » : l’échec du système de détection chinois face au coronavirus, le monde, 6 April 2020, https://cutt.ly/VypsnfK

13 Ibid.

14 أمين زرواطي، هل أخفت الصين معلومات كانت كفيلة بإنقاذ البشرية من مأساة وباء كورونا؟، France 24، 7/ 4/ 2020، https://cutt.ly/TypTYoJ

15 إسماعيل عزام، الصين أم تايوان.. أي تجربة يمكن الاقتداء بها لمكافحة كورونا؟، DW، 26/ 3/ 2020، https://cutt.ly/eypYdGm

16 إحصائيات انتشار فيروس كورونا في العالم، وكالة نبض، 25/ 4/ 2020، https://nabd.com/corona

17 إسماعيل عزام، مرجع سابق.

18 دولة تجاور الصين لكنها سيطرت على كورونا بسرعة.. فما قصتها؟، سكاى نيوز عربية، 5/ 4/ 2020، https://cutt.ly/aypY1Ej

19 يبابلو أوشلو، كيف تكافح الدول الديمقراطية فيروس كورونا مستفيدة من الصين السلطوية؟، BBC NEWS، 13/ 3/ 2020، https://cutt.ly/RypUOF6

20 JOHN ALLEN and others, How the World Will Look After the Coronavirus Pandemic: The pandemic will change the world forever. We asked 12 leading global thinkers for their predictions., foreign policy, march , https://cutt.ly/1yajryr

21 عمرو عبد الرحمن باحث مصري مهتم بإشكاليات حقوق الإنسان والإصلاح القضائي والتحول الديمقراطي في العالم العربي. انتهى من إعداد أطروحة الدكتوراة بجامعة إسكس ببريطانيا عن تحولات الخطاب الحقوقي المصري في العقد الماضي.

22 للمزيد عن تقسيم العمل الدولي في ظل النظام الرأسمالي يمكن مراجعة:

Chris Harman, Zombie Capitalism: Global Crisis and the Relevance of Marx, Haymarket book, 2009.

23 محمد العجاتي؛ أخرون، من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية التشاركية “نماذج وتوصيات”، منتدى البدائل العربي ومبادرة الإصلاح العربي، 2012، ص5، https://cutt.ly/ZypJhj7

24 Jason Wilson, The right wing groups behind wave of protests against Covid-19 restrictions, the guardian, 17 April 2020, https://cutt.ly/zyaKkeq

25 المدير العام لصندوق النقد الدولي.

26 يقصد بالسلع هنا القفازات والأقنعة وأجهزة التنفس الصناعي المنقولة، وأيضا الهياكل الصحية مثل تخزين مستلزمات غرف الطوارئ، والرعاية السريرية، ومنشآت الحجر الصحي.

27 استجابة مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في مواجهة فيروس كورونا (COVID-19)، البنك الدولي، 4/ 3/ 2020، https://cutt.ly/1yaips1

28 إبراهيم عوض، أي عالم بعد كورونا، الشروق، 18 أبريل 2020، https://cutt.ly/eyakdtq

29 JOHN ALLEN and others, How the World Will Look After the Coronavirus Pandemic: The pandemic will change the world forever. We asked 12 leading global thinkers for their predictions., foreign policy, march , https://cutt.ly/1yajryr

30 JOHN ALLEN and others, How the World Will Look After the Coronavirus Pandemic: The pandemic will change the world forever. We asked 12 leading global thinkers for their predictions., foreign policy, march , https://cutt.ly/1yajryr

31 MARK CARNEY, the world after corona crisis, the economist, 16 April 2020, https://cutt.ly/4ya7eI1

32 إبراهيم عوض، أي عالم بعد كورونا، الشروق، 18/ 4/ 2020، https://cutt.ly/eyakdtq

33 عمرو موسي، وماذا بعد؟، أوساط، 16/ 4/ 2020، https://cutt.ly/4yalUyE

Start typing and press Enter to search