عمر سمير خلف
السودان
مقدمة
شهد السّودان، عبر تاريخه، انتصار ثورتين، الأولى عام 1964 والثّانية عام 1986، وعاش تجارب تحوّل ديمقراطي لم تكتمل. وفي ظل حكم البشير الممتد لـ30 عامًا، شهد السودان العديد من الهبّات الشعبية رفضًا لسياساته الاقتصادية أو رفضًا لبعض حروبه المسلحة على بعض الأقاليم والتمرّدات الشعبية فيها سواءً في الجنوب أو في دارفور. وتزامنًا مع موجة الربيع العربي، انطلقت تظاهرات طلابية محدودة في 30 يناير/كانون الثاني 2011 احتجاجًا على الفساد وغلاء الأسعار وغموض مستقبل البلاد بعد تقسيمها، وكانت التظاهرات في جامعة الخرطوم وجامعة أم درمان. غير أنّ التعامل الأمني مع تلك التّظاهرات كان عنيفًا، إذ تمّ إلقاء القبض على عشرات الطلاب وإيقاف العديد من الصحافيين الأجانب ومراسلي القنوات التلفزيونية لمنعهم من تغطية تلك الاحتجاجات، وقبلها حذّرت الشرطة السودانية من التظاهر من أجل التغيير الشامل، وإسقاط النظام بطرق غير قانونية في حين وجّه حزب المؤتمر الوطني الحاكم الاتهام لحزب المؤتمر الشعبي وحركات اليسار بالوقوف خلف دعوة التظاهر التي انتشرت عبر الإنترنت.1
وكانت هناك أيضًا احتجاجات سبتمبر/أيلول 2013 التي سقط خلالها نحو 200 قتيل بحسب منظمات حقوقية2، وأفضت إلى دعوة الرئيس البشير مطلع عام 2014 لحوار وطني لم يُسفر عن نتائج إيجابية، إذ رفض النظام تقديم أي تنازلات حقيقية في جلسات الحوار، أو حتى الاستجابة لمطلب المعارضة بتأجيل انتخابات 2015، إلى حين التوافق على دستور جديد وإجراءات انتخابية نزيهة، بل إن بعض أهم المشاركين في الحوار تم اعتقالهم، كما حدث مع رئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي، وقاطعت أحزاب المعارضة والحركات المسلّحة الانتخابات الرئاسية، بل وفي أوجّ أزمة السيولة ونقص السلع الأساسية قبيل عيد الأضحى في عام 2018 قام الحزب الحاكم بتعديل نظامه الأساسي ليسمح للبشير بالترشّح لولاية جديدة في 2020.3 وفي 4 ديسمبر/ كانون الأول الماضي أعلن رئيس البرلمان أنه تلقى خطابًا موقّعًا من أغلبية النواب (294 نائبًا من بين 481) يؤيّد تعديلاً يمدّد الحد الأقصى لفترات الرئاسة.
تتناول هذه الورقة بالتحليل الاحتجاجات التي اندلعت في التاسع عشر من ديسمبر/ كانون أول 2018 وتطورات الحراك مرورا بعزل البشير في 11أبريل/ نيسان 2019 وحتى الوصول إلى التوقيع على الوثيقة الدستورية والإعلان السياسي للفترة الانتقالية 17 أغسطس/ آب 2019.
اندلعت موجة الاحتجاجات الحالية في التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2018، اعتراضًا على موجة التضخّم العالية ورفع الحكومة لسعر الخبز ثلاثة أضعاف وأزمة شحّ الوقود وتدني الرواتب الحكومية، وكذلك احتجاجًا على التعديلات الدستورية التي تسمح للبشير الترشّح لانتخابات العام 2020 والبقاء في السلطة.
عقب كل موجةٍ احتجاجية ينطلق النظام السوداني للترويج لنظرية المؤامرة، ولكن هل يحتاج نظامٌ خاض حروبًا ضد معظم أقاليم بلاده إلى مؤامرة وهو الذي أفقد الميزانية 90% من مواردها منذ انفصال الجنوب وفقًا للبشير نفسه؟4 وفي كل مرة كانت الانتفاضة تنطلق من الخرطوم، لكن الانتفاضة هذه المرة انطلقت من مدينة القضارف في الشرق ودنقلا في الشمال وعطبرة وانتشرت سريعا في كل ولايات السودان لتتّسع إلى مختلف مدن وقرى السودان وتتزايد وتيرتها. ورغم إعلان الأجهزة الأمنية عن إطلاق سراح جميع المعتقلين، إلا أن أحزابًا نفت أن يكون ذلك قد حدث بالفعل، وخرج موكب الزحف الأكبر الذي دعا له “تجمّع المهنيين السودانيين” في 31 يناير/ كانون الثاني 2019 في العديد من الولايات.
كما أنه ورغم اعتراف البشير في لقاءٍ مع الصحفيين بأن قانون النظام العام والأوضاع الاقتصادية، أثارت الغضب في صفوف الشباب الذين خرجوا في تظاهرات احتجاجية على الأوضاع المعيشية، ووعده بإطلاق سراح جميع الصحفيين الذين اعتقلوا منذ اندلاع الاحتجاجات5، إلا أن تجمّع المهنيين السودانيين نظّم موكبًا في اليوم التالي تضامنًا مع ضحايا الاعتقال والتعذيب فقد سبق وأعلن مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني قرارًا بإطلاق سراح جميع المعتقلين خلال التظاهرات المناهضة للحكومة، غير أن أحزابًا كثيرةً أعلنت أن عشرات من أعضائها ما زالوا في سجون النظام، بل وجرت موجة اعتقالات جديدة في صفوف قيادات الأحزاب.6
إن التماهي ما بين الحزب الحاكم وجهاز الدولة والإيديولوجية الدينية مثل السمة الأساسية لحكم البشير، حيث أن حكومة الإنقاذ مكثت كل هذه السنوات وفشل معارضوها في إسقاطها، لأنها، بحس البعض، نجحت وبامتياز في خلق شبكات من المصالح مرتبطة جميعها بأجهزة الدولة، وهو ما يطلق عليه ريعُ الدولة، هذه الشبكات أصبحت أركانَ الإنقاذ، لكن حالة السيولة السياسية الحالية يمكن أن تغري أية مجموعة تمتلك قدرًا كافيًا من القوّة يمكّنها من الهيمنة على مجموعة أخرى، لكن يبقى السؤال مفتوحًا حول من الذي يمتلك القدر الكافي من القوّة التي ستطيح بالتوازن الهش والسيولة الماثلة الآن؟7
انقسام القوى المحلية حول الاحتجاجات:
انطلقت الاحتجاجات السودانية في 19 ديسمبر/ كانون الأول تنديدًا بالوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي واحتجاجًا على رفع أسعار الخبز ومعدّل التضخم المرتفع الذي بلغ 66.8% في أغسطس/آب 20188. وآلت الاحتجاجات إلى مطالبة “تجمّع المهنيين السودانيين” بتنحي الرئيس عمر البشير وحكومته. ولم تكن للأحزاب اليد العليا في انطلاق الاحتجاجات وإنما بدأت القوى السياسية التي تريد اللّحاق بركب الشارع في تحديد مواقفها تباعًا. وكان أوّل الأحزاب التي أبدت موقفًا مؤيّدًا للاحتجاجات “الجبهة الوطنية للتغيير وحزب الأمة“ عبر مذكّرة تطالب بتنحي الرئيس البشير، وتشكيل مجلس سيادة انتقالي، لأنهما جزء من الأطراف المشاركة في الحوار الوطني وحكومة الوفاق.
أما “حزب المؤتمر الشعبي“، الذي أسّسه الراحل حسن الترابي، فرغم أنه أيّد التظاهر السلمي وطلب فتح تحقيق في مقتل المحتجين، فإنّ مواقفه تبدو متماهية مع غريمه السابق “المؤتمر الوطني” الحاكم، وهو ما دعا مجموعات شبابية داخله للدفع بمذكّرة إلى قيادة الحزب تطالب بالانسحاب من الحكومة.
كما أيد الاحتجاجات “تحالفُ نداء السودان“، الذي يضم “حزب الأمة القومي” المعارض، و”حركة العدل والمساواة” و”حزب المؤتمر السوداني” و”حركة تحرير السودان” وعددًا آخر من الأحزاب، كما يضم تحالف قوى الإجماع الوطني، وفي مقدمتها “الحزب الشيوعي السوداني” و”حزب البعث” و”التحالف السوداني” وأحزاب أخرى، كما تحاول الجبهة الوطنية للتغيير، التي تشكّلت في الأسابيع الماضية، إيجاد موطئ قدم لها في صف المعارضة.9
وفي 28 يناير/ كانون الثاني انشق عن التحالف الحاكم “حزبُ الأمة الفيدرالي“، وهو أحد الأحزاب التي انشقّت عن حزب الأمة القومي، بزعامة الصادق المهدي. ودخل، منذ تأسيسه في العام 2004، في شراكة سياسية مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم، مُنح بموجبها عددًا من المناصب الوزارية في المركز والولايات، وفي آخر حكومةٍ شكّلها معتز موسى، حصل على منصب وزير الثقافة والتراث، و3 وزراء ولائيين، و8 نواب في البرلمان القومي و15 نائبًا في برلمانات الولايات.10
“تجمّع المهنيين السودانيين” يقود الاحتجاجات
بعيدًا عن اللافتات الحزبية الضيّقة، يبدو أن “تجمّع المهنيين السودانيين” يعبّر بشكل كبير عن مطالب وتطلعات المتظاهرين السودانيين، وتُعدّ صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك هي التجمّع الأكبر للقوى المؤيّدة للحراك وهو يصوغ مطالب المتظاهرين ويحدّد أماكن الاحتجاج ويقدّم الدعم الطبي واللوجيستي لكافة التظاهرات ويوزع البيانات والمنشورات، ويقوم عبر لجانه بتوثيق حالات الإصابات والوفيّات بين المتظاهرين. دعا التجمّع لتنظيم تظاهرة حاشدة يوم 25 ديسمبر/كانون الأول هدفها الوصول للقصر الرئاسي لتسليم مذكّرة تطالب بتنحّي البشير، قوبلت التظاهرة بعنفٍ مفرط وتفرّقت، لكنّه ينظّم العديد من الفعاليات الاحتجاجية يوميًّا منذ ذلك الحين كان آخرها موكب الزحف الأكبر 31 يناير/ كانون الثاني. 11
تتنوّع القوى والحركات غير الحزبية المناوئة للبشير ما بين مظالم فئات مهنية واسعة كالأطباء والمعلمين والمهنيين وتنتشر تظاهرات طلابية ضدّه في العديد من الجامعات كما أطلق أساتذة جامعة الخرطوم مبادرة موقعة من أكثر من 530 أستاذًا تطالب بالانتقال السلمي للسلطة في السودان وتنحّي البشير وإقامة حكومة انتقالية.12
كما تأسست “حركة قرفنا“ في العام 2009، وهي تصف نفسها بأنها حركة مقاومة شعبية سلمية من أجل إسقاط حكم “المؤتمر الوطني” الحاكم، وقد كانت لها دعوات بمقاطعة الانتخابات في 2010 و2015 ولها دور في الاحتجاجات الشعبية والطلابية التي شهدتها الجامعات السودانية منذ انطلاق الحركة.13
تطورت الاحتجاجات إلى تظاهرات أكبر في كافة المدن وصولا للإضراب العام ليوم واحد فيما عرف بـ “إضراب المهن” في 5 مارس/ آذار، وهو الإضراب الذي لبى دعوته قرابة ال60% من السودانيين وفقا لبعض التقارير،14 بناء على هذا الإضراب تزايدت قوة الاحتجاجات وبدى المتظاهرون أكثر تمسكا بمطلب تنحي البشير ضمن المطالب الأخرى للحراك، وبدأ التفكير بالاعتصام الكبير في العاصمة وهو ما حدث في الفترة من 6 أبريل إلى عزل البشير في 11 أبريل.
موقف الجيش: منذ بداية الاحتجاجات ضد نظام البشير كان قطاع من المتظاهرين يأملون باستمالة الجيش لصالح المتظاهرين لكن كان الأمل في هذا الانحياز محدودا إلى أن بدأ اعتصام المتظاهرين أمام القيادة العامة للجيش في السادس من نيسان/ أبريل، بعدها بيومين في 8 نيسان/ أبريل حاولت قوى الأمن فض الاعتصام لكن عناصر من الجيش اشتبكت معها وأوقفت تلك المحاولة15، منذ هذه اللحظة بدا موقف الجيش أكثر اضطرابا إذ بينما هتف المتظاهرون “الجيش معانا وما همانا” وذلك ابتهاجا بالمواقف الفردية لبعض الضباط والجنود لم يصدر عن الجيش أية بيانات واضحة، لكن توحدت دعوات تجمع المهنيين والأحزاب السياسية السودانية إلى مزيد من الاحتشاد في ساحة الاعتصام أمام مقر وزارة الدفاع للضغط على البشير للتنحي عن السلطة، وهو ما حدث بالفعل بعد أقل من أسبوع من بدء الاعتصام وتوافد أعداد غفيرة من السودانيين إليه في 11 أبريل 2019، واختلفت التحليلات حول موقف الجيش منذ اللحظة الأولي سواء من قبل الثوار ممثلين في التجمع أو المتابعين والمحللين إذ رأى البعض أن ثمة انقلاب عسكري يجري ضد البشير وأن هذه محاولات للالتفاف على الثورة ومطالبات المحتجين بسلطة مدنية انتقالية وهو المطلب الذي جاء في بيان قوى الحرية والتغيير وأطلقوا على ما حدث انقلاب قصر نفذه نائب البشير ووزير دفاعه، الفريق أول عوض بن عوف.16
لم يقابل إعلان بن عوف بعزل البشير وتعطيل العمل بالدستور وفرض حالة الطوارئ وحل مؤسسة الرئاسة والمجلس الوطني ومجالس الولايات، تشكيل مجلس عسكري انتقالي يتولى الحكم لفترة انتقالية مدتها عامان، بالترحيب الكافي من قبل قوى الحرية والتغيير فمن ناحية كانت خطاباته حادة ضد المعتصمين قبل إعلان عزل البشير كما أنه مطلوب دوليا في قضايا تتعلق بدارفور، الأمر الذي زاد من إصرار القوى الاحتجاجية المشكلة لإعلان الحرية والتغيير، على البقاء في ساحات الاعتصام حتى الاستجابة لكافة ما جاء في إعلان الحرية والتغيير وأهمها تسليم كافة السلطات لمجلس سيادة مدني، وإزاء هذا الإصرار وفي محاولة لاستعادة ثقة الشارع وتهدئة الغضب، أعلن بن عوف مساء الجمعة 12 نيسان أبريل عن تخلِّيه عن قيادة المجلس العسكري، وتعيين الفريق عبد الفتاح البرهان، الذي كان يشغل منصب المفتش العام للقوات المسلحة، رئيسًا للمجلس العسكري، بدلاً منه.
من جانب قوي إعلان الحرية والتغيير هناك تطور تنظيمي ملحوظ سواء فيما يتعلق بإدارة الاحتجاجات أو بإدارة التفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي ويقدم نموذجا للقيادة الجماعية لقوى المعارضة بحيث يصعب اغتياله معنويا وتخوينه من قبل الخصوم، فقد قوبل تدخل الجيش بالارتياح المشروط بجدية قيادة الجيش في تسليم السلطة للمدنيين، رغم الارتياح الذي بدى في أوساط المحتجين جراء هذه الخطوة فإن الحذر بدأ يسيطر على قوى إعلان الحرية والتغيير من التصريحات الخاصة بفض الاعتصام وإزالة الحواجز وتسيير الحياة اليومية، بدأ المجلس العسكري الانتقالي إدارته للبلاد بالتأكيد على مقولات التصدي للانفلات وفرض الاستقرار وكان لاجتماعاته مع القوى الإقليمية صدى في ساحة الاعتصام وساحات التظاهر عبر السودان، إذ فهم من دعواته لإزالة الحواجز وفض الاعتصام أن ثمة مساع لاحتواء الثورة السودانية ومحاولة لتضخيم ما تم الإعلان عنه من إجراءات.
شكل المجلس العسكري الانتقالي اللجنة السياسية بقيادة عمر زين العابدين كقناة للتواصل مع قوي إعلان الحرية والتغيير وعقب تشكيله جرى أول لقاء بين المجلس وهذه القوى في 13 نيسان أبريل وقدمت للمجلس ثلاثة مطالب وهي تشكيل مجلس رئاسي مدني يمثل فيه العسكريين، مجلس وزراء مدني يتولى السلطة التنفيذية، مجلس تشريعي يراعى فيه تمثيل كل التنوع الذي يحتشد به السودان، لم تحدد اللجنة موعدا للرد على هذه المقترحات بل وأشار زين العابدين إلى عدة مقترحات أخرى مقدمة من تنظيمات ظلت جزء من النظام حتى تاريخ سقوطه، ثم مضى لأبعد من ذلك في الحديث عن وجودها كشريك في ترتيبات الانتقال الأمر الذي رأته قوى الحرية والتغيير ردة ومحاولة لإعادة انتاج النظام القديم وعليه قررت في بيانها بتاريخ ٢١ أبريل ٢٠١٩ تعليق التفاوض مع اللجنة السياسية للمجلس العسكري.17
يقدم المجلس العسكري الانتقالي بعض الاستجابات البطيئة والاحتوائية لمطالب فرعية للمحتجين مثل إقالة بعض الشخصيات ففي خطابه 13 نيسان / أبريل أعلن رئيس المجلس الانتقالي في السودان الفريق عبد الفتاح البرهان، أنه سيتم تشكيل حكومة مدنية متفق عليها داعياً إلى حوار مع جميع المكونات السودانية وإلغاء حظر التجول وإطلاق سراح المحكوم عليهم بقرار الطوارئ، وتفكيك كل الواجهات الحكومية وغير الحكومية الحزبية، لكنه طلب من السودانيين العودة إلى ممارسة الحياة الطبيعية18، وهي دعوة مستترة لفض الاعتصام والتوقف عن التظاهر، أيضا يحاول المجلس إظهار قوى الحرية والتغيير باعتبارها تطالب بأكثر مما هو متاح بحيث يظهر المجلس للشعب أنه وافق على أغلب مطالب المحتجين واستقال على الفور ثلاثة أعضاء من المجلس العسكري الانتقالي كانوا عرضة لانتقادات المحتجين، تشكيل لجنة مشتركة لحل نقاط الخلاف في 24 نيسان/ أبريل، لكنه في حقيقة الأمر لم يتعرض للمطالب الجوهرية بتسليم السلطة فورا للمدنيين وتشكيل مجلس سيادة مدني بتمثيل للعسكريين، وبدلا من ذلك يثير خلافات حول نسبة تمثيل المدنيين والعسكريين داخل مجلس سيادة مشترك اقترحه المجلس.
وظل المجلس يماطل لثلاثة أشهر في التوصل لاتفاق في محاولة لخلخلة الشارع لمصلحته في تعزيز موقعه في أي اتفاق ورغم الاحتجاجات الصريحة ضد حكم العسكر إلا أنه حافظ على توازان قوي يميل لصالحه نظريا على الأقل.
إذ نص الاتفاق الذي تم التوصل إليه على أن يتكون مجلس السيادة من 11 عضوا، خمسة مدنيين ترشحهم قوى الحرية التغيير، وخمسة من العسكريين والعضو الحادي عشر مدني بالتوافق بين المدنيين والعسكريين، في حين تختار قوى “الحرية والتغيير” رئيس مجلس الوزراء. وينص الاتفاق على أن يعين العسكر وزيري الداخلية والدفاع.19
وقد أثارت بعض النقاط في الاتفاق حفيظة كلا من الحزب الشيوعي السوداني والحركات المسلحة وأهمها الاحتفاظ بالثقل السياسي والأمني للعسكريين حيث يحتفظون بتعيين وزيري الدفاع والداخلية ويتوافقون مع المدنيين حول بقية الوزراء وبقية الترتيبات كما أن الاتفاقات الأساسية لم تشمل تفاصيل عملية السلام وقضايا اللجوء والنزوح ولا تعطي للحكومة صلاحيات حقيقية، وتحتفظ بسلطة قوات الدعم السريع وتحافظ على شبكة مصالح النظام السابق بدا هذا واضحا في انتقادات قيادات الحزب للاتفاق في العديد من المقالات والتصريحات.20
المواقف الإقليمية والدولية من الاحتجاجات
استطاع البشير أن ينجو من موجة الربيع العربي، لكنّ نجاته لم تكن إنجازًا شخصيًّا له بقدر ما هي تخوّفات الشعوب من انتكاسات بعض دول الربيع العربي بعد العام 2013 وتحوّل بعضها مبكّرًا إلى صراعٍ مسلّحٍ كما في اليمن وسوريا، وهو الأمر الذي يستخدمه البشير ورموز نظامه للتخويف من الانجرار إلى المصير السوري أو الليبي أو اليمني وأن بقاء نظامه هو الضمانة لهذا الاستقرار.
كان البعض يحاجج بالقول إن معظم التحليلات بشأن الأوضاع في السودان، والتي تشير إلى احتمالية سقوط البشير هذه المرة، تعكس رؤية قاصرة لأصحابها، كما أنّها أسيرة الأمنيات وتغلب عليها الأهواء، فالبشير باقٍ في السلطة لأبعد مدى زمني ممكن، هو لا يزال الطرف الأقوى في المعادلة الداخلية بتركيبتها المعقدة، ونجح في جعل كافة الخيوط بيده. في نفس الوقت، لا يمثّل العامل الخارجي ورقة ضغط كبيرة عليه، بعد نجاحه في اللعب على المتناقضات الإقليمية والدولية، فالنظرة إزاء السودان تغيرت مع تغير الاستراتيجية الأميركية والأوروبية في المنطقة التي أضحت تركّز على مواجهة كافة التّهديدات لمصالحها في المنطقة ولأمنها القومي، وهو ما يجعل السودان في قلب الأحداث وجزءًا مهمًّا في المعادلة الإقليمية والدولية، ومن ثم فإنّ استقراره مطلبٌ إقليميٌّ ودوليّ أكثر منه تحمل تكلفة تبعات سقوط البشير على المنطقة برمتها من سيناريوهات كارثية قد تواجهها، في سبيل البحث عن مكاسب زائفة باسم الديمقراطية، كما أن البشير قدّم تعهدات اقتصادية بتوفير حياة كريمة للمواطنين والالتزام بعدم رفع الدعم عن الدقيق والوقود مستقبلا وهو ما يعزّز سيناريو احتواء التظاهرات دون الاستجابة لمطلبها بالتغيير.21
بينما رأى آخرون أن الاحتجاجات هذه المرة أكثر انتشارًا وكثافةً واستمرارًا، والتحالف الحاكم أقل تماسكًا وأكثر انفراطًا، العامل الخارجي لا يمثل ضغطًا عليه لكنه ليس مساندًا قويًّا له، وحتى مصر داخلها قطاع رسمي وغير رسمي قوي يرى البشير امتداد لحركة الإخوان.22 كما أنّ مصر لم تكن لاعبًا مهمًّا في قضايا دول جوارها، وكذلك فإن ردّات فعل قوى الأمن بعنفٍ شديد على التظاهرات هي المحرّك لكثيرٍ من التظاهرات وهي التي جعلت دائرة معارضي بقاء البشير داخليًّا تتسع حتى عزله، كما أن الإقليم لم يكن مستعدا لدفع كلفة بقاء البشير لا اقتصاديًّا ولا سياسيًّا رغم ما يبدو من لعبه على كل الحبال.
وإن لم يكن لهذه القوي دور في عزل البشير إلا أنها سارعت للعب دور أكبر في ترتيبات ما بعد البشير فالسعودية سارعت وأعربت عن دعمها للمجلس العسكري الانتقالي السوداني والإجراءات التي أعلنها دون التطرق لمصير البشير، ولم تكتف بهذا الإعلان بل وعدت بتقديم حزمة مساعدات تشمل القمح والمنتجات النفطية للسودان بل يبدو أن الموقف السعودي مرحبا بتولي منسق العمليات العسكرية السودانية في اليمن عبد الفتاح البرهان رئاسة المجلس العسكري الانتقالي.23كما تبين المواقف الإماراتية ترحيبا بعزل البشير باعتبار أن هذا إرباك لحركات الإسلام السياسي، وترى أن السخط السياسي الحالي في السودان، يأتي في المقام الأول بسبب رفض الشعب حكم جماعة الإخوان المسلمين العسكري الطويل.24
فعلاقة السودان مع الولايات ظلّت متوترة معظم فترة حكم البشير، إذ أعلنت الولايات المتحدة حالة الطوارئ في السودان للمرة الأولى في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1997، ما سمح للرئيس بل كلينتون بفرض عقوبات اقتصادية على السودان بتهمة رعاية الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 1997. واستنادًا إلى ذلك الإعلان، أصدر الرئيس جورج بوش الأمر التنفيذي رقم 13400 بتاريخ 26 أبريل/ نيسان 2006، الذي يحظر التعامل في ممتلكات الأشخاص المتورطين في النزاع في إقليم دارفور. وعزّزت سياسات البشير هذا التوتر بما في ذلك وجود زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن في البلاد في التسعينيات وحملة عسكرية في منطقة دارفور غرب السودان وصفتها واشنطن بأنها إبادة جماعية، وعلى إثرها أحيل الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية في 2005 والتي أصدرت أمرين بالقبض على البشير في جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في دارفور في 2009 و201025. وظلّت هذه العقوبات الاقتصادية سارية ولم تتحسّن حتى وصول الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة، إذ تجري الولايات المتحدة تحسينًا بطيئًا لعلاقتها مع السودان بعد عقودٍ من التّوتّر، ففي 6 أكتوبر/تشرين الأول 2017، قرر ترامب إلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان منذ 1997 ومع ذلك، فإن العقوبات الفردية التي فرضها بوش في 2006 لا تزال سارية.26
وبالنسبة للموقف الروسي، ورغم ضعف الأهمية النسبية للسودان عن نظيرتها في سوريا التي تحوي قاعدة طرطوس البحرية الروسية، إلا أن البشير يستعين ببعض الخبرات الأمنية الروسية في التصدي للاحتجاجات.27 وقد حاول البشير جذب مزيد من الدعم الروسي والإيراني لنظامه عبر زيارته سوريا كأول زعيم عربي يحاول أن يقود موجة التصالح مع النظام السوري بعد تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية.
لكن نظامًا يستعين بقوات أجنبية لمساعدته على مواجهة الاحتجاجات هو نظامٌ هش ويخشى من تصدّع تحالفه الحاكم، كما أن طلب التدخل الأجنبي في مثل هذه الحالات يقود القوى الاحتجاجية للتشكيك في وطنية النظام وكسب المزيد من التعاطف من قبل بعض أركانه، وبالتالي فإن هذه الأخبار عن التدخل الأمني الروسي قد عززت موقف المحتجّين، بالإضافة إلى أن نظام البشير ولا المجلس العسكري الانتقالي ليس لديه ما يدفعه لروسيا.
أما بالنسبة للصين، فالعلاقات التاريخية القوية بين الصين والسودان تتجاوز مرحلة حكم البشير لكن في عهده عرفت العلاقات ازدهارًا، إذ تحتل بكين موقعًا متميزًا كشريك تجاري واقتصادي للسودان. وتُعد شركات البترول الصينية والماليزية مساعدًا قويًّا للبشير في اكتشاف واستخراج وتصدير نفط الجنوب قبل انفصاله في تحدٍّ للولايات المتحدة والشركات الغربية، وتشير بعض التقارير إلى أن الصينيين من أبرز مورّدي السلاح للخرطوم، كما أن الصين أعفت مؤخرًا الخرطوم من ديونها الحكومية.28 لكن الصين تعاملت بحذر وبراغماتية شديدة مع موجة الربيع العربي فهي دائمًا ما تتعامل مع الرابح ولا تتدخّل في دعم الأنظمة وإنما تسعى للتأكيد على مصالحها الاقتصادية حتى في ظل الحروب كما هو الحال في استمرار تدفق استثماراتها النفطية لجنوب السودان رغم الحرب الأهلية الدائرة.
بالنسبة للمواقف الإقليمية، فمن ناحية، بدا أن إعلان قطر مساندتها مبكرًا للبشير وتقديمها مليار دولار وديعة للتخفيف من الأزمة الاقتصادية، حجب عنه الدعم الإماراتي السعودي، إذ أنه طيلة الأزمة الخليجية كانت الدولتان تحسبانه على المحور القطري – التركي وتنظران إليه باعتباره ممثّلاً لتيار الإسلام السياسي الذي تعيد الدولتان بناء تحالفات المنطقة على أساس مواجهته وهو ما جعل الموقف السعودي الإماراتي مترقبًا لتطورات المشهد السياسي الداخلي. وفي هذا الإطار فإن هناك سابقة لدعم قطر لنظام الرئيس مرسي في مصر، وهو الدعم الذي لم يبقه في مواجهة نظام مدعوم إماراتيًّا وسعوديًّا في ظل موجة احتجاجات محلية واسعة.
ومن ناحية أخرى، فإن تعويل نظام البشير ومن بعده المجلس العسكري الانتقالي على مساندة دول الخليج لإبقائه لم يكن لينتج صيغةً أكثر تفاؤلاً من الوضع في اليمن حيث تقود دول الخليج تحالفًا عسكريًّا للإبقاء على شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي منذ عام 2015. ورغم إلقاء الحكومة اليمنية الشرعية بثقلها العسكري لم تستطع فرض سيطرتها على معظم مدن اليمن. ولعل انهماك دول الخليج في حرب اليمن وعدم توافقها حول حل للقضية اليمنية وتزايد النقد الدولي والأممي لها سواءً لتدميرها البنية التحتية اليمنية أو لتأزيمها للأوضاع الإنسانية، يعطي مؤشّرًا لعدم قدرتها على تقديم أكثر من الدعم الاقتصادي للمجلس العسكري، وهو الدعم الذي لم تلح بوادره في الأفق رغم مرور قرابة شهر على استمرار الاحتجاجات ضد مماطلة المجلس الانتقالي في تنفيذ مطال المحتجين.
يبدوا أن ثمة تنسيق في الموقف السعودي الإماراتي المصري ومحاولة احتواء الحراك بعد سقوط البشير، قد يكون صحيحا أن هذه النظم العربية لم تكن لتستثمر أكثر في بقاء البشير نفسه لكنها بدت مستعدة لإبقاء دعائم نظام البشير من سيطرة للقوى المحافظة العسكرية والأمنية على دفة الأمور ومحاولة تقديم مساعدة عاجلة للمجلس العسكري فكانت اجتماعاته الأولى مع مسئولين سعوديين وإماراتيين، كما سارعت مصر بإرسال وفد أمني رفيع المستوى للاجتماع بالمجلس العسكري الانتقالي29 وكانت ردود الفعل الاحتجاجية على التدخل المصري أكثر وضوحا إذ حوت تحذيرات من المسار المصري الذي قاد تعثر الثورة فيه لإعادة إنتاج السلطوية عبر حكم عسكري فسرعان ما ترددت شعارات مناهضة للتدخلات المصرية سواء بالاحتجاجات أمام مقر السفارة المصرية بالخرطوم أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي.
وتظهر محاولة السياق الإقليمي العربي إطالة أمد بقاء المجلس العسكري في السلطة وإعادة ترتيب أوراقه واضحة في محاولة إطالة المهلة المحددة من قبل مجلس السلم والأمن الأفريقي للمجلس العسكري الانتقالي لتسليم السلطة لمدنيين من 15 يوما وإلا فسيعلق الاتحاد الأفريقي مشاركة السودان في كافة أنشطته إلى حين عودة النظام الدستوري، ومحاولة مصر تمديد هذه المهلة لثلاثة أشهر قابلة للتمديد لثلاثة أشهر أخرى، وهو الأمر الذي شكر رئيس المجلس عليه كلا من السعودية ومصر،30 لكن الاتحاد استقر على مهلة 60 يوما، فيما يبدو أن هناك تنسيقا مصريا سعوديا حول هذه المسألة.
وتبقى تناقضات المصالح العربية في السودان عقبة أمام هذا التنسيق، فمن ناحية يريد النظام المصري دعم المجلس العسكري الانتقالي لفرض سيطرته على المرحلة الانتقالية لكنه يظل قلقا من التحالف بين المجلس العسكري وبقايا تيار الإسلام السياسي المحسوب على نظام البشير، عبر تصدير صورة أن ما يجري في السودان ثورة على الإسلام السياسي فقط في حين أن الشارع السوداني ثائر ضد تحالف من قوى الإسلام السياسي والسيطرة العسكرية على الحياة السياسية في آن واحد وتجلي التأثير المصري في الأحداث باجتماع بعض الرموز العسكرية مع الأئمة والدعاة والذي تبعته دعوة لمليونية نصرة الشريعة، فيما يعتبره الشارع السوداني محاولة لتغيير معركته من معركة ضد الاستبداد باسم الدين والوطنية معا للسيطرة على مقدرات السودان إلى معركة على الهوية والإسلام، وأن الهدف من هذه المليونيات هو خلق اضطراب يتيح للجيش التدخل بفض الاعتصامات والاشتباكات المحتملة بين الطرفين والقضاء على الانفلات الأمني للحصول على شرعية أمنية جديدة تتيح له البقاء حتى نهاية السنتين التي حددهما في إعلانه الأول.
ومن ناحية أخرى تظل المصالح التي تريد دول الخليج تأمينها وهي استمرار مشاركة السودان بقوات برية في حرب اليمن، والتي كان لافتا إعلان رئيس المجلس العسكري التزامه باتفاقية مشاركة الجنود السودانيين في حرب اليمن، رغم المعارضة الشعبية المتزايدة لهذا الأمر، وتأمين مصالحها واستثماراتها بالسودان، وهي المصالح التي تبدو الحركة الاحتجاجية أكثر معارضة لها من ذي قبل إذ طردت سيارات مساعدات إماراتية من ساحة الاعتصام في الخرطوم كما تتزايد مظاهر الاحتجاج ضد التدخلات الإماراتية السعودية.
لكن باعتراف مراكز البحث الإماراتية تبقي التطورات المتسارعة التي تشهدها البلاد تثير العديد من الأسئلة عن مستقبل الوضع في السودان، فما تم التوصل إليه قد لا ينهي المشكلة، والسبب هو إدراك المحتجين قدرتهم على إحداث التغيير المطلوب.31
وفي التحليل الأخير فإن هذه القوى جميعها قبلت بما فرضته الحركة الاحتجاجية السودانية وما توصل إليه الفرقاء السودانيون بوساطة إثيوبية أفريقية، واتضح هذا في محاولات الحضور الدولي لحفل التوقيع على الوثائق الانتقالية إذ حضر رؤساء دول جنوب السودان سيلفا كير، وتشاد إدريس ديبي، وأفريقيا الوسطى فوستن أرشانج تواديرا، إلى جانب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي ونظيره الإثيوبي أبي أحمد، ووزير الدولة للشؤون الخارجية القطرية سلطان بن سعد المريخي، ووزراء خارجية تركيا والبحرين والعديد من الدول، وبحضور تمثيل عن الأمم المتحدة والأمين العام للجامعة العربية ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي.32
خاتمة
يمكن القول إن الداخل كان هو المحدّد الأقوى لتطورات الأوضاع في السودان حتى سقوط البشير، تتوقّف فعالية الدور الإقليمي في الإبقاء على ركائز نظام البشير من بعده على عوامل ليست بيد البشير نفسه، إذ تقتضي توافقًا خليجيًّا حول دعمه بحزم مساعدات مالية قوية وهو ما يصعُب توقعه خصوصًا بعد الموقفين القطري والتركي منه، وفي ضوء عدم وجود بوادر لتجاوز الأزمة الخليجية وحلها بعد فشل كافة الجهود الكويتية والدولية لرأب الصدع الخليجي.
كما أن ردات فعل المجلس الانتقالي على التظاهرات والاعتصام ودعوات الاضراب كانت محدّدًا قويًّا لتطورات الأوضاع في المرحلة الانتقالية، إذ تشير تجربة الربيع العربي الماثلة في الأذهان أن ردات الفعل الأمنية العنيفة في وجه التظاهرات السلمية تولّد تضامنًا شعبيًّا أوسع، ما قد يخلق تخلخلات أوسع في صفوف الجيش وبالتالي تعزيز فرصة التغيير، أو على النقيض تحويل التظاهرات السلمية الممتدة للطابع العنيف وتخلخل مواقف كافة الأطراف مما يؤدي إلى تغييرٍ غير سلسٍ للسلطة، كما حدث في حالات ليبيا وسوريا واليمن وهو سيناريو غاية في التعقيد في سياق قبلي مسلّح. ما لم تتطور آليات الحوار إلى الحد الذي يجعل الأحزاب والتحالفات السياسية والتجمعات المدنية وسيطًا قويًّا للتفاوض مع الجيش، لكن هذا السيناريو يتوقف على الدور القوي الذي يلعبه “تجمّع المهنيين السودانيين” كوسيطٍ ذي ظهير شعبي يمكن أن يلعب الدور الذي لعبه “الاتحاد التونسي للشغل” في الثورة التونسية على أقل تقدير أو أن يقود تغييرات جذرية في حدها الأقصى.
إن الوضع الاقتصادي الهش الذي تركه البشير بالإضافة لتعنت المجلس العسكري ومماطلته في تسليم السلطة لمدنيين أو سلطة انتقالية حقيقية مشتركة يعقدان المشهد السياسي السوداني ويجعلان كافة المسارات مفتوحة، فإما ان يستطيع الطرفان الفاعلان قوى الحرية والتغيير من ناحية والمجلس العسكري الانتقالي من ناحية أخرى، التوصل لحلول سياسية واضحة حول خارطة الطريق، أو أن تسلك السودان مسارات متعرجة غير محمودة العواقب.
ربما لم تنجح المحاولة الأولى للإسلاميين في تنظيم مليونية نصرة الشريعة التي كان مقررا لها الإثنين 29 نيسان/ أبريل، لكن هناك رهان من قوى الثورة المضادة على استمرار سيطرة المجلس العسكري على السلطة سواء داخل مجلس السيادة أو مجلس الوزراء، ورغم الإصرار والتحدي الكبير الذي تبديه قوى الحرية والتغيير واستعمالها عديد الأدوات الثورية من تظاهرات واعتصامات وإضرابات وسيطرة مباشرة على النقابات ومحاولة للسيطرة على مجالس المدن والبلديات، إلا أن المخاوف من تعثر مسار الثورة لا تزال جدية، إذ يمكن أن يتم تحميل قوى الثورة وحدها أي تعثرات للمسار السياسي الذي اتفق عليه باعتبارها تتولى السلطة التنفيذية شكليا وفقا للاتفاق، ومن ثم تغيير المزاج العام وتيئيس السودانيين من الثورة وتغيير موقفهم منها.
تبقى المشكلة القائمة هي الفترة الزمنية للمرحلة الانتقالية؛ ورغبة المجلس في الاحتفاظ بالسلطة السيادية، فهناك مخاوف من أن يتمكن المجلس العسكري خلال هذه الفترة من تكريس نفسه كقوة مسيطرة؛ وربما يستطيع فيها عناصر من النظام السابق إعادة تنظيم صفوفهم، ومن ثم العودة مجدداً بصور أخرى، لكن الموضوع الرئيسي للخلاف الآن حول من يدير ترتيبات المرحلة الانتقالية ومن يحوز على التمثيل الأكبر في هذه الإدارة هل قوى إعلان الحرية والتغيير أم المجلس العسكري الانتقالي؟ وتبقى الإجابة على هذا السؤال المحدد الأكبر للمستقبل السوداني، وإلى حين الإجابة عن هذا السؤال تبقى الخلافات حول إعادة هيكلة الاقتصاد ليعمل باتجاه حلول لأزمات البطالة والتضخم والفقر والاستجابة للتحديات الآنية من نقص الوقود والخبز والسيولة، وترتيبات المرحلة الانتقالية كموضوعات الدستور والبرلمان والتعامل مع النظام السابق ووضع المؤسسة العسكرية وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والبيروقراطية وإصلاح نظام الإدارة موضوعات مؤجلة.
يظل الاتفاق ليس الأفضل لكافة الأطراف المحسوبة على الثورة لكنهم مضطرين للقبول به للحفاظ على نقطة توازن أقرب لتحقيق أهداف الثورة، حيث لا يمكن لقوى الثورة القضاء على نفوذ العسكر بالضربة القاضية، ولم يتمكن العسكريون من القضاء على الثورة رغم المدة لزمنية التي استنفذوها للوصول للاتفاق، لكن يمكن للسودان على الأقل أن يفرز نموذجا أشبه بالنموذج التونسي في الحفاظ على توافق لتوسيع مناخ الحريات والحقوق المدنية والسياسية، وتهذيب أدوار الأجهزة الأمنية دون أن يعني ذلك تغييرا كبيرا في شبكة المصالح الاقتصادية والاجتماعية للنظام السابق.
1 الجزيرة نت، الشرطة تفرق مظاهرات بالخرطوم، بتاريخ 30/1/2011، https://bit.ly/2HB3vMv
2 سودارس، تقرير لجنة التضامن حول انتهاكات حقوق الإنسان في السودان، بتاريخ 16/9/2014، https://www.sudaress.com/sudanile/72313
3 قناة فرانس 24، السودان: الحزب الحاكم يعدل نظامه الأساسي للسماح بترشيح البشير لولاية ثالثة عام 2020، بتاريخ 10/8/2018، https://bit.ly/2MN5g82
4 الرئيس السوداني: فقدنا 90% من ميزانية البلاد بعد انفصال الجنوب، جريدة الشروق المصرية، 28/1/2019، https://bit.ly/2B4fZX1
5 سكاي نيوز عربية، البشير: الاقتصاد وقانون “النظام العام” سبب المظاهرات، بتاريخ 9/2/2019، https://bit.ly/2GtcKMp
6 موقع قناة روسيا اليوم بالعربي، السودان.. اعتقال قيادات في المعارضة بينها ابنة الصادق المهدي، بتاريخ 5/2/2019، https://bit.ly/2DgDKeU
7 شمائل النور، بروفيسور عطا الحسن البطحاني: استهلك النظام فترة حكمه في الجهاد و(الأممية الإسلامية).. لماذا لا يوجد نصف (غورباتشوف) سوداني؟، موقع صحيفة الراكوبة، بتاريخ 2/12/2017، https://bit.ly/2RtYDbG
8 سي إن إن بالعربية، التضخم في السودان يقفز لمستوى قياسي خلال أغسطس، بتاريخ 16/9/2018، https://cnn.it/2HLIcHX
9 مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، البشير محاصر سياسيًّا واجتماعيًّا: أحزاب تسحب دعمها واحتجاجات تتسع، بتاريخ 28/1/2019، https://rawabetcenter.com/archives/82710
10 موقع صحيفة الشرق الأوسط، انشقاقات في التحالف الداعم لحكومة البشير، بتاريخ 28/1/2019، http://bit.ly/2V1Pm10
11 حتى 31 يناير/ كانون الثّاني 2019 كان عدد المتابعين لصفحة “تجمّع المهنيين السودانيين” يزيد على 240 ألف شخص ووصل هذا العدد لأكثر من 640 ألف عقب عزل البشير، وهو رقم كبير بالنسبة لبلدٍ تسيطر عليه الأجهزة الأمنية. يمكن متابعة أخبار الحراك لحظة بلحظة من خلال صفحة التجمّع عبر صفحته على الرابط: https://www.facebook.com/SdnProAssociation/
12 موقع الخليج، تظاهرة لأساتذة جامعة الخرطوم ومبادرة لحكومة انتقالية، بتاريخ 31/1/2019، https://bit.ly/2Bi4hIK
13 لمزيد من التفصيل حول “حركة قرفنا” يمكن الاطلاع على موقع الحركة، https://girifna.com/
14 مدى مصر، http://bit.ly/2vqmq3I
15 موقع أخبار السودان، بالفيديو : قوات الجيش السوداني تمنع الامن من فض اعتصام وزارة الدفاع في الخرطوم اليوم، بتاريخ 8/4/2019، http://bit.ly/2WfIs4L
16 المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، انتفاضة السودان: تعقيدات داخلية واستقطاب خارجي، تقدير موقف بتاريخ 17/4/2019، http://bit.ly/2GKcfw9
17 للاطلاع على نص بيان قوى الحرية والتغيير في 21 نيسان/ أبريل يمكن زيارة صفحة تجمع المهنيين السودانيين على موقع فيس بوك، http://bit.ly/2WkJ0Xr
18 السودان اليوم، عاجل: قرارات هامة من عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس الانتقالي، بتاريخ 13/4/2019، http://bit.ly/2GSR2kM
19 للاطلاع على نص الوثيقة الدستورية والإعلان السياسي للفترة الانتقالي، يمكن مراجعة موقع تجمع المهنيين السودانيين، http://bit.ly/30ECzk1
20 انظر مقال تاج السر عثمان، بعنوان الثورة تُولد من جديد، 24/8/2019، على موقع الحزب الشيوعي السوداني، http://bit.ly/30GKQUo
21 أحمد عسكر، سيناريوهات محتملة: كيف يدير النظام السوداني الاحتجاجات الشعبية؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، بتاريخ 26/12/2018، https://bit.ly/2Uyys5B
22 حيث وقع العديد من الكتاب والمفكرين والسياسيين المصريين عريضة تضامنية مع مطالب الاحتجاجات السودانية، كما أطلق نشطاء هاشتاغ مدن السودان تنتفض.
23 قناة دويتشه فيلله بالعربية، بتاريخ 13/4/2019، http://bit.ly/2VkDlny
24 وكالة الأنباء الروسية سبوتنيك، أنور قرقاش بعد عزل البشير… الإمارات تكشف السبب الرئيسي للأزمة في السودان، 5/5/2019، http://bit.ly/2ZRTWxE
25 لمزيد من التفصيل حول إحالة قضية دارفور للجنائية الدولية وأحكامها يمكن مراجعة ورقة معلومات أساسية نشرتها المحكمة على موقعها في 23 مارس/ آذار 2012، https://bit.ly/2GaNrhZ
26 وكالة الأنباء الروسية سبوتنيك، قرار أمريكي جديد ضد السودان، بتاريخ 1/11/2017، https://bit.ly/2HItKAr
27 العربية نت، احتجاجات السودان.. مدربون روس يعاونون القوات الحكومية، بتاريخ 28/1/2019، https://bit.ly/2FTygdL
28 سكاي نيوز عربية، الصين تعفى السودان من ديونها حتى 2015، بتاريخ 14/9/2018، https://bit.ly/2RvZdFH
29 موقع جريدة الأهرام المصرية، وفد مصري رفيع المستوى يزور السودان لتأكيد الدعم الكامل لخيارات الشعب السوداني، بتاريخ 17/4/2019، http://bit.ly/2JbvG3V
30 يمكن مشاهدة اول لقاء تلفزيوني مع رئيس المجلس العسكري الانتقالي للسودان عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن ٢١ ابريل، على قناة السودان على يوتيوب، http://bit.ly/2WdnqUt
31 مركز الإمارات للدراسات والبحوث، السودان بعد التوافق بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، بتاريخ 27/4/2019، http://bit.ly/2XPWmuM
32 فرانس 24، توقيع اتفاق المرحلة الانتقالية بين المجلس العسكري وقادة حركة الاحتجاج في السودان، بتاريخ 17/8/2019، http://bit.ly/2ZxFhum