بيسان طي
الأشياء الجميلة يجب ألا تموت، هذا باختصار عنوان السعي وراء مقترحات، والتفكير في حلول لمنع انتهاء الصحافة الورقية، والقضية لا تقتصر على جانب عاطفي نوستالجي، الصحافة الورقية كانت الميدان والماكينة التي احتضنت أبناء مهنة الصحافة كما احتضنت كتابا وتيارات ثقافية وفنية وسياسية مهمة. بهذا المعنى فإن الفراغ الذي تخلفه هذه الصحافة، إن انتهت بشكل نهائي، لا يمكن ردمه بوسائل الإعلام والتواصل الجديدة، خاصة أن العالم اليوم أشد حاجة إلى استعادة توازن فكري وسياسي يتخطى أو يتوازى مع النمط المعولم المتسارع والموحد، نمط يعيد الاعتبار لقيمة الفرد ككائن مثقف يتمتع بكافة الحقوق الاقتصادية، ويواجه أنماطا ثقافيا وفكرية متعددة، غير تلك التي تسيطر على اللغة الواحدة التي تنتجها وسائط الاتصال الحديث ومعها النيو ميديا.
أزمة الصحافة الورقية أزمة عالمية، لكنها تحتاج في العالم العربي تحديدا إلى تفكير مكثّف في إطار البحث عن حلول لها، خاصة أن عددا من المناطق البعيدة عن المركز في بلداننا تعاني من أزمة ضعف في خدمات الإنترنت، أو أن ثمة قطاعات كبيرة من الفقراء الذين لا يمتلكون الوسائل التكنولوجية الحديثة كالكمبيوتر أو الهاتف الذكي. التفكير في مقترحات لإعادة إنعاش أو منع موت الصحافة الورقية يتمحور حول عدة عناوين أو مفاصل تلتقي حتما مع مقتضيات العصر وروحه.
الصحيفة الخبر
البداية تكمن في أن تستعيد الصحافة الورقية موقعها المتقدم في حيز “الخبر”، صناعة الخبر وليس نقله أو أن تتحول الصحيفة الورقية بما تنتجه بشكل دوري إلى خبر. استعادة الدور في كونها مصدرا للمعلومات. هذا بُعد مرجعي، يمكن أن يقوم على عدة مجهودات وأشكال من العمل الصحافي كالتحقيقات الاستقصائية المعمّقة، وفتح ملفات حيوية لا تندرج في اهتمامات “النيو ميديا” ولا محطات التلفزة، أو أن الإعلام الجديد أبعدها عن دائرة اهتمامه لكن إعادة إحياء الاهتمام بها سيعيدها إلى دائرة اهتمام القرّاء، وتوضيحا لاقتراحنا يمكننا أن نستعيد مثلا زاوية ناجحة من صحيفة “النهار” اللبنانية حتى نهايات الحرب الأهلية حيث كانت شكاوى جدية ترد من القراء فيقوم صحافيون بإجراء تحقيقات ميدانية حولها حتى كشف كافة ملابساتها.
المطلوب إذن هو أن تنتج الصحيفة أو الصحف الورقية موادا تشكل خبرا تتداوله وسائل الإعلام الأخرى، أن تكون بما تكشف هي الحدث، وأن تتحول إلى مصدر معلومات، لكنه مصدر غني في مضمونه وفي صياغته، لا يمكن للصحيفة الورقية أن تنجر كما وسائل الإعلام القائمة إلى اللغات الركيكة في الكتابة، بل أن الصياغة يجب أن تكون جذابة وغنية، في مقابل الصياغات الضعيفة التي لا تراعي قواعد النحو والصرف، ثمة حاجة ملحة لإعادة الاعتبار في الصحافة إلى قضية الصياغة والتركيبة، إذا كانت عملية الإطالة أمرا مكروها في الصحافة عامة منذ تأسيسها، فهو بسبب روح العصر المتزايدة التسارع بات أمرا مرفوضا. لكن الابتعاد عن الإطالة لا يعني الغرق في الاستهتار باللغة العربية، أو تجاوز أمر مهم ألا وهو أن المادة الصحافية –أيا كان الوسيط الذي تُنشر عبره- هي مادة تغرف من اللغة كمعين للتعبير وهذا المعين له قواعد وجماليات يجب أن تُحترم. ثمة دعوة ثانية في هذا الإطار، تتمثل أيضا بضرورة الابتعاد عن النمط الخبري الجاف للتحول نحو النمط المتأثر بالكتابة القصصية القصيرة، أو بأسلوب التشويق الممتع، ولكن التشويق في هذا الإطار لا يعني أبدا الالتصاق بالصحافة الصفراء أسلوبا للكتابة والمعالجة، كما هو حال عناوين عدد كبير من المواقع الإلكترونية الإخبارية.
الكتابة الجذابة تترافق حتما مع تفكير غني في طرح كل أبواب المطبوعة، إن عامل التنويع في الأبواب وأقسام الصحيفة الورقية بما يواكب حيوية هذا العصر ومتطلباته، أمر يسهم في جذب انتباه واهتمام المزيد من القراء. هنا نعود إلى المزج بين تيارين قديم وعصري، لا يمكن تقديم أي مشروع إعلامي في عصرنا الحالي بالتشبث بلغة أو إيقاع زمن آخر، التسارع في نمط الحياة الاجتماعية وفي عملية التواصل يفرض إيقاعا سريعا في القراءة، لكن “دفن” مدارس الماضي أمر غير صحيح في الوقت عينه، ثمة أبواب حيوية عرفتها الصحافة العالمية والعربية، منها مثلا أبواب المحاكم وما ينتج عنها، أو الأبواب المتعلقة بالأسرة، إضافة إلى أبواب عن التكنولوجيا، وعن الصحة وأبواب أخرى عن الإعلام الجديد.
اللعب مع الوقت المتسارع
القضية الأساس التي رمت الصحافة الورقية في المأزق الذي تعاني منه، والتي جعلت قصة حياتها نفسها محل تساؤل، هي قضية الوقت المتسارع، فالوقت عنصر مهم لتحليل دينامية العالم الاجتماعي، ومن ضمنه الإنتاج الثقافي، من هنا فإن مناقشة العلاقة مع الوقت تبدو في صلب أي تفكير بأزمة الصحافة الورقية. إيقاع الحياة المتسارعة بفعل التطور التكنولوجي وتطور وسائل الاتصال وقدرتها على هدم الحدود المانعة لانتقال المعلومات جعل المتلقي في وضعية القادر على متابعة الإعلام الجديد في كل لحظة، عملية انتظار الإصدارات في وقت معين، وبعد مرور بعض الوقت على الأحداث أمر لم يعد ينتمي إلى نمط الحياة المتسارع. في المقابل، لا تزال الصحافة الورقية تحتاج إلى بعض الوقت الذي تستغرقه عملية إنتاجها، وتحديدا طباعتها. هذه الإشكالية يمكن التعامل معها عبر التأسيس على علاقة مع الوقت مزدوجة التوجه، بمعنى البناء على تحرر الصحافة الورقية من ضغط الوقت المتسارع مقارنة بمحطات التلفزة والميديا الرقمية، ما يسمح للصحافة الورقية بالتعمق في العمل على المادة التي تقدمها، كما أوردنا سابقا، فالانصياع الإعلامي الكامل لشروط التسريع جعل المادة المنتجة سريعة الاستهلاك، لأنها لا تحمل في ذاتها مضمونا قادرا على الرسوخ في ذهن المتلقي ووفقا لمتطلباته المعرفية العميقة.
أما التوجه الثاني في العلاقة مع الوقت، فيمكن تلخيصه كالآتي، إنه يكمن في الاستفادة من تعود القراء الجدد على نمط الاطلاع على مضامين “الميديا الرقمية” في أوقات مختلفة من النهار، ما يسمح بالخروج من أطر الإصدار الصباحي فقط. يمكن للصحف الورقية أن تصدر في أوقات متنوعة من النهار، ربما عند الظهيرة، أو مع انتهاء دوام عمل الموظفين، مسألة التوقيت هذه يجب أن تخضع لدراسة ميدانية عميقة تلتقط توجهات القراء، وعاداتهم الحياتية، واستعداداتهم الذهنية لعملية قراءة أكثر عمقا مما يجدونه على الإنترنت.
اللعب مع الوقت يعني أبعادا متنوعة في البحث عن حلول وآفاق للصحافة الورقية، ففي مواجهة القيمة المتسارعة الاستهلاك للمادة المقدمة في النيو ميديا، ما يجعل “حياتها” قصيرة الأمد، تبرز أهمية المراهنة على القيمة الأرشيفية للمادة المقدمة، مرجعيتها في الحاضر والمستقبل البعيد. الصحافة الورقية قادرة على تضمن مواد صالحة للتحول إلى مرجع دائم وثابت، وذلك بفضل تحررها إلى حد ما من ضغوط الوقت، الأرشيف مرتبط بالمضمون المرجعي الموثق، المعمق في بحثه عن وجوه وخفايا وأسماء وتحليلات صائبة.
الصورة راهن بجمالية الأمس
إن أي باحث متخصص، حين يبحر في أرشيف قديم بحثا عن صور تساند بحثه، سيفاجئ بالجمالية العالية التي تتمتع بها الصور التي كانت تنشر في الصحف أو حتى في أرشيفات مجلات مؤسسات جامعية أو بحثية. هذه الجمالية الراقية بتنا نفتقدها في إعلامنا الجديد، وهي بمضمونها القيّم إضافة إلى البعد الجمالي ذات قيمة مضافة من ناحية لجذب عين القارئ الذي تجتاحه يوميا عشرات بل ربما مئات الصور، فنحن بتنا في عصر تسيطر فيه الصورة عبر مختلف وسائط حياتنا، الشكل والإخراج، في عصرنا هذا تفتقد الصورة الصحافية بعدها الفني الراقي، الصورة لوحة متشكلة بالضوء والألوان وبالكادر الجمالي، إضافة إلى مضمونها، وهي ليست مجرد “شاهد” يوثق حدث ما. الصحافة الورقية يجب أن تعيد للصورة وظيفتيها الرئيسيتين: وظيفة الشاهد الموثِّق ووظيفة اللوحة الفنية الجميلة الصالحة للأرشفة وللاستخدام لاحقا في بحث أو في فيلم وثائقي.
من جهة ثانية، فإن أي حديث عن صحافة ورقية باللغة العربية يجب أن يحيلنا إلى ضرورة تخطي الصحيفة إطارها المحلي لتشمل دائرة مواضيعها واهتماماتها كل العالم العربي، وذلك ممكن من خلال بناء شبكة كتاب ومراسلين من مختلف الدول. الاهتمام المطلوب لا يقتصر على صفحة للأخبار العربية كما هو الحال في معظم وسائل الإعلام المحلية في كل بلد عربي، بل اهتمام يمتد إلى مواضيع تخص الشؤون الاقتصادية وكواليس السياسة والفن والثقافة، إضافة إلى التحقيقات غير السياسية، أي أن تشكّل الصحيفة الورقية وسيط معرفة بمجتمعات العالم العربي بكافة فئاتها الاقتصادية وأطيافها. هذا المقترح لا يفرض بالضرورة أن تفقد الصحيفة صيغتها المحلية المصرية أو السورية أو المغربية أو العُمانية أو إلخ…، بل ألا تفقد بُعدها العربي.
هل تستوي اقتراحات الحلول إن لم تُقارب العناوين الأبرز أي أزمتي التمويل والوصول إلى القارئ؟ الإجابة على السؤال بالنفي أمر بديهي. من هنا فإن التفكير بمضمون وآليات النشر في الصحف الورقية يجب أن يترافق مع تفكير بآليات التمويل، وإن كان الدعم “السياسي” أو التمويلي من جهة ما أمر لا تستغني عنه بعض وسائل الإعلام لتثبت إمكانية استمرارها، فإن هذه الآلية تفقد الكثير من رصيدها في الوقت الحالي، خاصة أننا نشهد إغلاقا لعدد من المؤسسات الإعلامية العربية ليس الورقية فقط، وإنما أيضا التلفزيونية أو الإلكترونية، من هنا الدعوة فيما يخص الصحف الورقية تحديدا إلى بناء شبكة إعلانات مستقلة وحيوية، يمكن أن تعتمد على خطة خاصة بكل مؤسسة، إعلانات لمؤسسات متوسطة أو صغيرة، يتم التواصل معها من قبل مندوبين من الصحيفة على صلة بهيئة التحرير، ويفهمون توجهاتها ومواضيعها ومدى قدرتها على لفت الاهتمام ونوعية وأعمار قرائها.
إلى قضية التمويل، ثمة نقطة ثانية في الأزمة تتمثل بقضية التوزيع، توزيع الصحيفة الورقية يجدر أن يقوم مجددا على مبدأ أن القارئ ملك والذهاب إليه ضرورة، كمثال عملي يمكن تقديم اقتراح باعتماد موزعين أفراد يوزعون (أو يبيعونها) في الأماكن العامة ومكتبات الرصيف. والأمثلة في هذا الشأن كثيرة، يمكن تلخيص ما اقترحنا بتجارب شبان متحمسين في دول عربية مختلفة، قاموا بصناعة مجلاتهم الخاصة وتمكنوا من توزيعها بشكل مباشر في الجامعات أو عبر أكشاك الصحف المستقلة. قضية الذهاب إلى القارئ تفرضها آليات العصر الحالي، فوسائل الإعلام المسيطرة، الإلكترونية بشكل خاص، هي آليات لإعلام يصاحب القارئ أينما توجه، إنه إعلام ملتصق به، هذا الالتصاق ليس من المنطقي منافسته عبر آليات التوزيع القائمة حاليا، ولنتذكر أن الصحف كانت توزع عبر موزعين ينادون بأسمائها وعناوينها في الأماكن العامة، واستعادة هذا التقليد قد تكون أمرا مفيدا، خاصة لما يتضمنه من علاقة إنسانية حيوية بين البائع/الموزّع والقارئ/الزبون.
عود على بدء، انطلقت هذه الورقة من الرغبة في المشاركة بالتفكير بآليات تمنع نهاية الصحافة الورقية، المقترحات حاولت التأسيس على وجوه من الأزمة المعلنة لهذا القطاع الإعلامي عالميا وعربيا بالطبع. الصحافة الورقية يجب أن تجمع مقتضيات زمنين، زمن عزها وانتشارها الذي أثراها به تراث طويل من الممارسة المهنية، كانت الصحف (أو المجلات الورقية) ساحات من ورق تنتشر عليها الأخبار والتحقيقات الكاشفة لجوانب مختلفة من الحياة، وكانت ميادين لنهضة ثقافية وحاضنة لتيارات أدبية وفنية، والدفاع عن بقائها هو دفاع عن هذا المعنى الذي مثلته.
_______________________
عن الكاتبة: صحفيّة ومعدّة أفلام وثائقيّة. حاصلة على ليسانس في الإعلام، وماجستير في المسرح. تعدّ أطروحة دكتوراه في المسرح السياسيّ في جامعة باريس الثامنة.