تحليل مبني على كتاب “من الثورة إلى التحالف.. الأحزاب اليسارية في أوروبا”[1]
مقدمة:
على الرغم من قدم الحياة الحزبية المصرية والتي بدأت منذ مطلع القرن العشرين تقريبا، إلا أن المتغيرات السياسية المصرية أدت إلى تأرجح مواقع الأحزاب في الحياة السياسية وتبديلها صعودا وهبوطا، كما أصابها ما أصاب الحياة السياسية بشكل عام من تجميد وخمول استمر لعقود قبل ثورة 25 يناير، إلا أن الثورة التي كانت بمثابة إحياء للحياة السياسية للمصريين بمختلف توجهاتهم، وبالطبع شمل ذلك الأحزاب، وهو ما جعل التساؤل حول قدرة الأحزاب في قيادة الحياة السياسية والوصول للحكم مطروح بقوة، بل في ظل حالة المجاز الثوري في يناير كانت الفرصة سانحة للأحزاب للعب دورا أساسيا في الحياة السياسية فيما يمكن وصفه بإعادة التأسيس بعد الحالة الثورية، إلا أن واقع الأحزاب المصرية يبدو عليه التشرذم والانقسام، كما أنه لم يحقق النتائج السياسية سواء على مستوى الأطروحات وتقديم البدائل أو التمثيل في المؤسسات السياسية.
فالأحزاب التي وصل عددها إلى ما يقرب من 85 حزبا[2]، أغلبها تأسس بعد الثورة، وتمتد من أقصى يمين إلى أقصى يسار الخارطة السياسية، فشلت في تقديم تصور لتحالف سياسي سواء مبني على التحالف الإيديولوجي أو حتى البراجماتي تحتل به موقعا مؤثرا في المعادلة السياسية المصرية، بل أكثر الأحزاب حصدا للمقاعد البرلمانية الأخيرة وهو حزب المصريين الأحرار حيث حصد 65 مقعدا من 568 مقعدا بالانتخاب[3]، وهي النسبة التي لم تصل إلى 12%، لذلك فإن أحد عوامل فشل الأحزاب في تحقيق مكتسبات سياسية هو عدم قدرتها على إدارة التنوع.
ويمكن الإشارة لإدارة التنوع بأنها “الجهود المبذولة للاعتراف بالفروق الفردية وتقديرها وإدماجها، في ظل حالة من القبول والاحترام للاختلاف، في ظل بيئة إيجابية آمنة تسمح بالحوار والاندماج تعززها منظومة من القوانين والإجراءات تعظم الأبعاد الغنية للاختلاف”.
ويعد التنوع/ التعددية الاجتماعية، ظاهرة ملازمة للمجتمع البشري تعبر عن التمايزات الثقافية والعرقية والدينية بما تفرضه من فروق في الرؤى والمواقف السياسية وهي تمايزات ملازمة لطبيعة المجتمع البشرى ذاته. والتعددية تأكيد وإقرار وتسليم لعالم متنوع ومختلف، وغدت إحدى ثوابت آلية الحياة المعاصرة. وكيفية التعامل والتفاعل معها سيقود بشكل أو بآخر، إلى بلورة الاحترام والتسامح والحوار والمرونة في الحوار والتعايش مع الأخر.
وتعبر الاختلافات أو التعددية عن ذواتهما في الهويات الثقافية والبرامج الاقتصادية والاعتقادات الدينية والتجمعات الإثنية والأنظمة السياسية وغيرها، فلم يعد كافيا تشخيص التعددية وإنما كيفية تجسيدها عمليا باعتبارها حقيقة واقعية حاضرة، ولا تعني الاختلافات أو التعدديات علامات الفشل أو دلائل الخطأ أو عدم القدرة على الوصول إلى جواب واحد كما يرى البعض. فالسياق التعددي الثقافي، على سبيل المثال، هو عنصر ضروري لترجمة القيمة الموضوعية في الواقعين السياسي والأخلاقي.[4]
اليسار الأوروبي:
في الثاني من سبتمبر 1945 انتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار دول الحلفاء على المحور، إلا أن ذلك النصر الذي أعقب سنوات من الدمار شهد تنافسا بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي القوتين العظميين المتحالفتين، ولعل أبرز ملامح ذلك التنافس هو تسارع كلا الجيشين للسيطرة أولا على برلين، معقل النازية والعدو المشترك الأبرز طيلة سنوات الحرب العالمية، وأنتهى ذلك التنافس بسيطرة كل طرف على نصف المدينة، فانقسمت برلين إلى برلين شرقية خاضعة للنفوذ السوفيتي، وأخرى غربية خاضعة للنفوذ الأمريكي، في مشهد عبر مجازيا عن انقسام العالم إلى إيديولوجيتين شرقية شيوعية وأخرى غربية ليبرالية، مما أشعل حربا أخرى كانت إيديولوجية في تلك المرة أطلق عليها اصطلاحا الحرب الباردة، حاول فيها كل طرف بسط نفوذه على أكبر عدد ممكن من الدول لتحقيق رؤيته الإيديولوجية.
ونظرا لأهمية القارة الأوروبية، التي كانت الميدان الرئيسي للحرب العالمية، والتي أضحت بعد ذلك أحد نقاط التماس المباشر بين الشرق والغرب، بالإضافة لما لها من ثقل حضاري وصناعي وعسكري فإنها مثلت الكثير لطرفي النزاع، فبسط النفوذ الإيديولوجي عليها يعني ضمنيا إنهاء الحرب الباردة لصالح تلك الإيديولوجية، تبنت القوى الغربية استراتيجية قائمة على دحض الدعوات الإقصائية، والتي تتمثل في نبذ الدعوة إلى اتجاه ما والعمل على جعله مهيمنا ووضعه في مرتبة فوقية مقارنة بباقي الاتجاهات، مما يجعل من الصراع أمرا حتميا بين الأطراف المكونة للاختلاف، وكان الواقع الأوروبي في فترة ما بعد الحرب العالمية يضم بين ثناياه دولا في الشمال يغلب عليها الطابع الصناعي وأغلبية عمالية، مما يعني بيئة خصبة لانتشار الفكر الشيوعي، أما دول الجنوب فكان الدين يلعب دورا جوهريا في تشكيل الوعي الجمعي لها.
أوجدت تلك الحالة رؤية يسارية مغايرة لتلك الرؤية السوفيتية، تمثلت في اليسار الأوروبي الذي عبرت عنه أحزاب اليسار الاجتماعي أو اليسار الديمقراطي، المنبثق عن رغبة اليسار في أوروبا إلى إيجاد إيديولوجية أقل راديكالية عن مثيلتها في الاتحاد السوفيتي، بل في كثير من الأحيان تناحرت معه، وتعد رومانيا مثالا على ذلك التوجه حيث اتسمت فترة حكم تشاوشيسكو بالطابع السلطاني، وكان اليسار في رومانيا يختلف تماما عن الأنظمة السياسية الاشتراكية في وسط وشرق أوروبا، فعلى الرغم من عدم وجود أي توجهات للتحرر الثقافي أو الاقتصادي أو السياسي، إلا أن رومانيا أتبعت سياسة انفصالية متطرفة عن الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، وفي تلك الفترة كانت قوى اليسار تعتبر بالفعل بمثابة اللاعبين السياسيين الأكثر أهمية على الساحة الرومانية.
ومن ناحية أخرى انتهجت قوى اليمين في أوروبا مبدأ التعاطي مع ذلك اليسار الأوروبي ونبذ الصدام معه مما خلق حالة من التنافس السياسي المتوازن، حيث لم يعط الذريعة لاستقطاب سوفيتي من جهة ومن جهة أخرى لم ينتهك مبادئ التنوع والتعددية الفكرية أحد مبادئ الخطاب الليبرالي.
إدارة التنوع داخل طيف اليسار الأوروبي:
مما سبق ذكره فإن اليسار الأوروبي ذاته كان بمثابة أحد ميادين الحرب الباردة بين الشرق والغرب، فالشرق الذي لم يكف عن محاولاته في استغلال ما تحمله إيديولوجية ذلك اليسار الأوروبي من قيم ومفاهيم يسارية، والغرب الذي كان يدعم وجود تلك الأحزاب من منظور التنوع وإدارته كي لا تتحول تلك الإيديولوجيات إلى أحزاب ذات صبغة راديكالية، وبتأثير واضح للقيم الغربية الديمقراطية، نجد أن اليسار في دول مثل إسبانيا والبرتغال واليونان وفرنسا تبنى نزعة دستورية تحمل تقديم تنازلات إيديولوجية من خلالها حافظ على التقاليد الديمقراطية الغربية وتداول السلطة في تعارض واضح مع الإيديولوجية السوفيتية، إلا أن جهود الكتلة الغربية لم تكن كافية لمنع تأسيس أحزاب يسارية شيوعية راديكالية، بل أن المنع كان من الممكن أن يكون داعم لتحول اليسار الأوروبي إلى يسار راديكالي، حيث في النهاية ظهرت أيضا أحزاب يسارية تتبنى رؤى راديكالية، مما نتج عنه طيف يساري في أوروبا يشهد تنوع بين يسار ديمقراطي ويسار راديكالي.
نزاع بين التيار العقائدي والإصلاحي:
أما العلاقة بين أحزاب طيف اليسار في أوروبا فقد شهدت تباينات عدة، فالعديد من الأحزاب اليسارية في أوروبا هي نتيجة انشقاقات داخلية نتيجة خلافات إيديولوجية، مثل الحزب الشيوعي اليوناني الذي تأسس عام 1968 من مجموعة المنشقين عن الحزب الشيوعي ذو الإيديولوجية الراديكالية، وفي مؤتمر الحزب الشيوعي اليوناني عام 1991 في ظل أجواء يخيم عليها انهيار الاتحاد السوفيتي، تم طرد جميع الأعضاء الإصلاحيين، في انتصار للتيار العقائدي، حتى أن التحالف الحاكم الأن في اليونان، وهو تحالف سيريزا، هو في الأساس تحالف من 12 حزبا وحركة يسارية راديكالية، أي التي تحتل موقع اليسار في الطيف اليساري اليوناني.
وفي ألمانيا كانت الفرصة سانحة لوجود ائتلاف يساري من الحزب الاشتراكي وحزب اليسار وحزب الخضر للوصول إلى النسبة الحاكمة في البرلمان، بيد أن ذلك التوجه دائما ما يصطدم برفض حاد من الحزب الاشتراكي لأي مشاركة لحزب اليسار، بل يصل الأمر لرفضه المشاركة في أية حكومة تتسامح مع حزب اليسار، إذا يبدو جليا وجود حالة من تغليب الإيديولوجية الضيقة في العلاقة بين حزب اليسار والحزب الاشتراكي داعمها خلافات قديمة بين التيارين الإصلاحي الذي يتبناه الحزب الاشتراكي والثوري الذي يتبناه حزب اليسار، رغم الكثير من النقاط التي تجمع الحزبين من المنظور الأوسع. إلا أن قضايا مثل تحليل الرأسمالية، وصف خطوط الصدع الاجتماعي، مسألة الملكية، ومسألة المشاركة اليسارية في الحكومة، تمثل قضايا الخلاف والتي لا تزال موضع جدل حتى الأن.
ويتخذ الصراع في بريطانيا منحى آخر، حيث يصطدم حزب العمال الاشتراكي ذو التاريخ العريق باليسار الراديكالي، الذي يتسم بالتفكك، ويغلب عليه زمرة من الطوائف التروتسكية الصغيرة أمضت سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين في “صنع الثورة”، وأحيانا في محاولات التسلل إلى حزب العمال، وهما نشاطان اعتبرهما كثيرون متطابقين، وكان الممارس الأكثر أهمية في النشاط الأخير هو “الاتجاه المناضل” الذي ضم عدة آلاف من الأعضاء، من بينهم ثلاثة نواب، وسيطر لبعض الوقت على مجلس مدينة ليفربول، إلا أن حزب العمال في أثناء قيادة تاتشر طرد أعضاء المجموعة، وانتهى من تبقى منها إلى تأليف الحزب الاشتراكي لإنجلترا وويلز عام 1977، وقد تم تشكيل الحزب الاشتراكي الاسكتلندي بصورة منفصلة في الوقت نفسه، استنادا إلى عدد من المجموعات المحلية هناك.
وحدة الطيف الإيديولوجي:
أما في رومانيا، فقبيل اندلاع الثورة على حكم تشاوشيسكو عام 1989، تشكل ما يعرف باسم جبهة الإنقاذ الوطني، والتي تزعمها “ايون إيليسكو”، وهي الجبهة التي انبثقت عن الحزب الشيوعي الروماني الحاكم في مؤتمره الرابع عشر، ومن غير المعلوم ملابسات نشأتها، إلا أنها طرحت نفسها كحركة ثورية باعتبارها السلطة الجديدة.
أثناء مرحلة الاضطراب السياسي تلك لم يكن هناك أي حركات أو تنظيمات معارضة في رومانيا، يمكنها أن تساعد سياسيا على تشكيل بداية جديدة، في ظل تلك الظروف أُعيد تأسيس بعض الأحزاب التاريخية مثل الحزب الديمقراطي الاجتماعي، والحزب الليبرالي الوطني، وحزب الفلاحيين الوطني الديمقراطي المسيحي، والتي لم يكتب لها نجاح واضح في ظل التجربة الجديدة.
ولم يشهد اليسار الروماني تنوعا يذكر، فالصراع بين القوى السياسية المعادية للشيوعية وقوى ما بعد الشيوعية، لم يكن عنصرا أساسيا في التنافس الحزبي في رومانيا، وذلك على خلاف الدول الأخرى في المنطقة. كما أن استقرار المشهد الحزبي في رومانيا بدرجة كبيرة، فمنذ اسقاط نظام تشاوشيسكو وحتى الأن لم تحدث انتخابات مبكرة واحدة، هو في واقع الأمر يشير إلى وجود استقرار سياسي عادة لا يصاحب مراحل التحول، وبالتالي يشير إلى عدم تنوع إيديولوجي يقود إلى تنافس على السلطة، بالإضافة إلى وجود حالة من السيولة الشديدة في المنافسة بين الأحزاب، فمشاهد مثل التغيير المستمر في التحالفات، أو انتقال الأعضاء أو الأنصار أو حتى النواب المنتخبين بين الأحزاب بسهولة، أو الانشقاقات وتأسيس أحزاب جديدة، وهي مشاهدات لا يمكن أن تعبر عن تنافس حزبي قائم على توجهات وإيديولوجيات سياسية مختلفة.
وفي قبرص يتمثل اليسار بحزب أكيل، إلا أن الحزب أثبت مرونة وقدرة عالية على التنوع، بل ساهمت إدارة التنوع الداخلي في جعله أكبر حزب في قبرص ويحظى بمكانة خاصة في أواسط اليسار الأوروبي، فداخل اليسار القبرصي، يعتبر الحزب نفسه المرشد السياسي، ومن ثم يحدد الحزب خطوات التحرك للحركة الشعبية، وللروابط والمنظمات المتحدة داخلها، وذلك لكونه يتضمن اتحاد العمل القبرصي، وهو اتحاد النقابات الذي تم تأسيسه سنة 1941، ويعتبر أكبر منظمة عمالية. كما أن منظمة الشباب الديمقراطي المتحد القريبة من الحزب هي أكبر جماعة شبابية سياسية في قبرص.
ويعد حزب أكيل نموذجا مميزا في إدارته للتنوع مع الأطياف الأخرى، فعلى سبيل المثال، علاقة الحزب بالكنيسة، وهي المؤسسة ذات الثقل الكبير في قبرص، فيها كسر “تابو” العداء بين الشيوعية ومؤسسات الدين، فهناك فعليا ممثلون للحزب أو الروابط القريبة منه في المنظمات الكنسية المحلية، التي تتولى مسئولية إدارة أصول الكنيسة المحلية، ويقدم الحزب توصياته في انتخابات المناصب الكنسية، كما أن هناك بعض القساوسة يترأسون فروع الحزب في بعض المناطق. كما أن الحزب ومنذ تسعينيات القرن الماضي، لا ينظر للتطور الحالي للرأسمالية من زاوية نظرية لينين للإمبريالية، علاوة على ذلك لا يطلب من الأعضاء الخضوع لأي تثقيف إيديولوجي، كما يقدم نفسه تحت شعار “الحزب التقدمي للشعب العامل ـــــــ اليسار ــــــ قوى جديدة” بهدف التوجه للأشخاص غير الشيوعيين وكسبهم لصفوف الحزب.
وفي إيطاليا ومنذ إنشائه، كان حزب إعادة التأسيس الشيوعي حزبا موحدا ورغم ذلك كان فيدراليا في جوهره، فقد كان يتكون من التحام عائلات سياسية قائمة بالفعل على المستوى الوطني، كل منها له ثقافته الخاصة وأشكاله التنظيمية التقليدية والعلاقات الشخصية بداخله، في ترجمة فعليه لاحترام التنوع واحتواءه داخل الحزب الواحد مع وجود قاعدة إيديولوجية جامعة، وكانت القيادة في هذا النموذج تأتي إما للتوازن القلق بين تلك المكونات، أو غياب مثل تلك القيادة أساسا كما حدث بعد مؤتمر الحزب في فينيسيا مارس 2005. إلا أن هذا النموذج جلب أيضا صعوبات في تأسيس خط سياسي واضح، بل وصعوبة خلق شرعية شيوعية جديدة قائمة على مبادئ توجهية ثقافية واضحة.
وبعد مؤتمر الحزب، عرض الائتلاف الناجح الذي انتخب باولو فيريرو رئيسا للحزب على الأقلية التي يقودها نيكي فيندولا، والتي حصلت على 47% من الأصوات، قيادة مشتركة على المستوى المركزي والإقليمي، لكن هذا العرض تم رفضه، فكانت الخطوة الأولى من عملية طويلة لانشقاق تم على مراحل وانتهت بالانسحاب النهائي لتلك الأقلية من الحزب. وقد خلق التحالف الناجح أسلوب عمل به قدرا معقولا من الاتساق الفعلي رغم طبيعته المتنوعة.
النتيجة الأكثر أهمية لهذا التجديد، هي أن وحدة المجموعة القيادية بالأخص جعلت السعي لعمليات تجديد أخرى أمرا ممكنا حيث كان الصراع داخل الحزب يجعلها مستحيلة، ويؤكد هذا أن الأحزاب التي تملؤها الفرق والتنوعات يمكن أن تتكيف مع السياق الآني لبيئتها، لكن الأحزاب المتحدة المركزية قدرتها أكبر على إحداث تجديد واع.
خاتمة:
إدراك الأحزاب للخصوصية المرحلية والمكانية والمرونة في التوافق مع معطياتها تعد أحد العوامل التي قد تشكل الفارق في الأداء والنتائج، وهو ما أدركه اليسار الأوروبي الذي خضع لاعتبارات القيم الديمقراطية الغربية، فأسس منهج اليسار الديمقراطي، وأتضح تأثير ذلك التماهي في نجاحات حققها اليسار في العديد من الدول الأوروبية، أما محاولة نقل التجارب السياسية من دون ذلك الاعتبار قد تكون سببا في وضع حاجز بين الأحزاب والمواطنين، حيث أنها تدعوا لما لا يتوافق مع مصالحهم ورؤاهم.
كما أن تلك المرونة مطلوبة أيضا على المستوى الإجرائي، فاليسار الإيطالي الذي اتبع نهج يوصف بالفيدرالي على مستوى الفروع في الحزب الشيوعي الإيطالي، وهو الإجراء الذي أدى إلى الحفاظ على وحدة الحزب وتماسكه، نظرا لطبيعة الحزب القائمة على العصبيات العائلية، فتجنب بذلك “شخصنة” الحزب أو سعي عائلة ما في السيطرة عليه، حيث أن الأحزاب القائمة على الشخصنة، تستمد انتماء قواعدها وأنصارها من الانتماء والتأييد لهؤلاء الأشخاص.
كما أن القدرة على مواجهة المتغيرات الكبيرة، أو المرونة السياسية هي أحد السمات التي تعد من مؤشرات قوة الكيان السياسي بشكل عام، وهي السمة التي تميز بها اليسار في بعض دول أوروبا، ولعل المثال الروماني في جبهة الإنقاذ الوطني التي خرجت من الحزب الشيوعي إبان الثورة وطرحت نفسها بديلا عن الحزب في السلطة، وعلى الرغم من أن الحزب الشيوعي لم يتم حله، إلا أنه اختفى تدريجيا عن المشهد السياسي.
وبالنظر إلى تحالف سيريزا في اليونان، الذي يتكون من 12 حزبا وحركة يسارية، والذي وصل إلى سدة الحكم في البلاد عام 2015، فإن العامل الأول والذي كان بمثابة نقطة الانطلاق لسيريزا، تمثل في عملية الوحدة تلك، والتي تغاطت عن الاعتبارات الإيديولوجية الصغيرة، وظللت نفسها بمظلة أوسع في الطيف اليساري، أي التحالف وفق معيار إيديولوجي، والذي أدى إلى تجميع الأصوات المؤيدة لذلك الطيف بدلا من تفتيتها.
إذا فإدراك الخصوصية، والمرونة في التعاطي مع المتغيرات الكبيرة، والتجديد وفق الحاجة المجتمعية والسياسية وما يفرضه الواقع، والتغاضي عن الخلافات الإيديولوجية الضيقة والتحالف في تكتلات وائتلافات موسعة، تعد من أبرز الأساليب التي أتبعتها الأحزاب الأوروبية، والتي أدت إلى وجود حزبي قوي في الحياة السياسية.
[1]كتاب: من الثورة إلى التحالف.. الأحزاب اليسارية في أوروبا، مؤسسة روزا لوكسمبورج، الطبعة الأولى، ديسمبر 2014.
[2] الأحزاب الحالية، الهيئة العامة للاستعلامات، http://goo.gl/KVLoER
[3] الخريطة النهائية للأحزاب والمستقلين تحت القبة: «المصريين الأحرار» الأول بـ65 مقعدا، الوطن نيوز، 4 ديسمبر 2015، http://goo.gl/Tcuvyx
[4]وفاء لطفي، التعددية المجتمعية، مركز الشرق العربي للدراسات، 23 يونية 2014، http://goo.gl/y6FniU