اليمن
رؤية لتفعيل الإعلام العام في اليمن
وهيب النصاري
رئيس شبكة الصحفيين الاستقصائيين في اليمن (تقصي)، مدير تحرير صوت الشورى أون لاين
تسيطر السلطات الحاكمة على وسائل الإعلام العام المختلفة وتستخدمها للتعبير عن آرائها ومواقفها، وتحاول استغلالها لتلميع أعمالها وانشطتها السياسية ولا تزال السلطات اليمنية تسيطر على الإعلام العام حتى اللحظة، فهي التي تحدد السياسة التحريرية عن طريق رئاسة الحكومة ممثلة بوزير الإعلام، أو رئيس المؤسسة المعين من قبلها دون الاهتمام بالمجتمع.
وعلى الرغم من إقرار التعددية السياسية والإعلامية وحرية الرأي والتعبير في وسائل الإعلام بعد تحقيق الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990، الا أن الإعلام العام ظل حكرا على الدولة وممولا من خزينتها يستخدمه النظام الحاكم سواء كان النظام حزبيا أو فردا في الترويج لسياساته وممارساته وإقصاء خصومه، رغم وجود بعض التشريعات والقوانين التي تنص على حيادية الإعلام العام وعدم توظيفه من قبل السلطة.
إلا أن الحريات الإعلامية ظلت مرهونة بمدى رضى السلطة عن واقع الصحافة في البلاد.
ومع وصول رياح الربيع العربي الى اليمن شهدت وسائل الإعلام العامة التابعة للدولة نقلة نوعية إيجابية خاصة بعد نجاح ثورة 11 فبراير في إسقاط رأس النظام، لكنها كانت بطيئة نحو مزيد من الانفتاح دون أن تتخلى عن مهمتها الشمولية كونها ظلت صوتا معبرا لها.
وبعد دخول جماعة الحوثي المسلحة في 21 سبتمبر 2014 العاصمة صنعاء وسيطرتهم على كافة المؤسسات الحكومية من ضمنها مؤسسات الإعلام العام مارسوا سياسات لا حيادية أكثر من سابقيهم، حيث قاموا بتغييرات قيادة تلك المؤسسات وتعين الموالين لهم من أشخاص غير إعلاميين وجعله إعلام موجه ومعادي لخصومهم مما تسبب إلى توسيع الشقاق الاجتماعي في المجتمع إضافة إلى قيام –تلك الجماعة المسلحة- بفصل جماعي تعسفي لعدد من العاملين في تلك المؤسسات المعترضين على سياستها.
تشخيص الوضع الراهن:
تقوم وزارة الإعلام بالإشراف على كافة المؤسسات الإعلامية العامة الرسمية وفقا للتشريعات الرسمية خاصة اللائحة التنظيمية للوزارة رقم (95) لسنة 1998، حيث تتولى الوزارة عدد من المهام والاختصاصات أبرزها، اقتراح السياسة الإعلامية للدولة وتحديث وتطوير اساليبها بما يخدم أهداف الدولة، واقتراح الخطط والبرامج الإعلامية الاذاعية والتلفزيونية والصحفية والإشراف على تنفيذها، والإشراف والتوجيه والمتابعة للعمل الإعلامي في كافة المؤسسات والأجهزة الإعلامية الحكومية التابعة لها وتقييم انشطتها واقتراح سبل تطويرها وغيرها من الاختصاصات التي تجعلها مهيمنة على الإعلام العام.
والقانون رقم 22 لسنة 1999 بشأن إعادة تنظيم المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون رغم أنه أكد في مواده على أن المؤسسة تتمتع بالشخصية الاعتبارية ويكون لها ذمة مالية مستقلة، لكنه شدد على ضرورة أن تخضع لإشراف وزير الإعلام الذي يشغل رئيس مجلس الإدارة.
وكانت منظمة برلمانيون يمنيون ضد الفساد (يمن باك) قدمت مشروع قانون الإعلام المرئي والمسموع الذي ينظم عمل الإعلام العام والخاص وهو ما سيساهم في استقلاليته من هيمنة وسيطرة الدولة لكن الحكومة عرقلة خروجه من تحت قبة البرلمان.
كما كانت هناك خطوات ولكنها بطيئة تسير نحو تحرير الإعلام واستقلاله في اليمن، خاصة وثيقة مخرجات الحوار الوطني حيث خصصت مساحة جيدة للإعلام من ضمنها الغاء وزارة الإعلام وتشكيل هيئة مستقلة للإشراف على الإعلام العام والخاص بما يضمن تقديم خدمة اجتماعية واستقلاليته من هيمنة الدولة التي تفرض عليه قيود لخدمة سياسات الحكومة.
وكان فريق استقلال الهيئات المنبثق من مؤتمر الحوار الوطني، قد حدد آلية عمل الهيئات المستقلة من بينها المجلس الأعلى للصحافة والإعلام الذي مهمته رسم سياسات الإعلام العام والمرئي المسموع والإلكتروني والتي من مهامه ستكون تعزيز جوانب الشفافية في السياسيات الحكومية والإجراءات الإدارية خاصة فيما يتعلق بالقضايا المالية إضافة إلى منح استقلالية مهنية كاملة لإدارات المؤسسات والأجهزة الإعلامية العامة.
وسيتولى المجلس عدد من المهام التي ستساهم في استقلالية الإعلام العام أهمها، رسم السياسة الإعلامية بالتعاون مع أجهزة الإعلام المختلفة بما يدعم تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما يحافظ على الديمقراطية وحقوق الإنسان والقيم الوطنية والدينية المكفولة دستوريا، وإعادة هيكلة مؤسسات الصحافة والإعلام العام وإصلاح أوضاعها ووضع لائحة قانونية تنظيمية تعنى بتوصيف وتصنيف المهنة الصحفية والإعلامية ووضع آليات ومعايير الاختيار لرؤساء الأجهزة الصحفية والإعلامية تراعي الكفاءة والنزاهة والخبرة، وتجريم استغلال الإعلام العام وغيرها من المهام التي ستعمل على استقلاله.
لدينا مشكلة تتمثل في حاجتنا لاستقلال الإعلام، وهناك معالجات أقرها اليمنيون لحلهامن خلال مخرجات مؤتمر الحوار الوطني التي أكدت استقلاليته، وذلك بتشكيل هيئة مستقلة للإشراف على الإعلام العام مكونة من ممثلي المؤسسات الإعلامية والأكاديميين ذوي الاختصاص ومنظمات المجتمع المدني ذات العلاقة ويطلق على تلك الهيئة بالمجلس الأعلى للصحافة والإعلام وهو ما سيضمن تحقيق استقلالية للإعلام العام في اليمن.
مقارنة مع تجربة ناجحة:
كما أنه من الممكن أن تكون التجربة البريطانية أقرب لتنفيذها في اليمن، هيئة الإذاعة البريطانية الـ”بي بي سي” التي تأسست عام 1927 وتضم شبكة من القنوات، ومؤسسات الإنتاج، وتتسّم سياسة المؤسسة بتناول وتقديم الأخبار بشكل محايد، حيث أنها تعتمد على مواردها المالية من الضرائب التي يدفعها المواطنين للدولة مقابل تقديمها إعلام مهني مستقل محايد لهم.
وتعتبر هيئة الإذاعة البريطانية: “أن حيادها كمؤسسة إعلامية هو نتيجة لعدم تلقيها أي دعم حكومي لا من الحكومة البريطانية ولا من حكومة أخرى، بل إن تمويلها الضخم بشبكة قنواتها التلفزيونية الفضائية والمحلية والإذاعات التي تديرها يأتي بشكل مباشر من المواطن البريطاني ومن خلال الضرائب التي تضعها الدولة على كل جهاز تلفاز في بريطانيا..”.
وتتمتع هيئة الاذاعة البريطانية الـ”بي بي سي” باستقلالية تتيح لها حرية تناول السياسة الإعلامية وفق ما يريده منها دافع الضرائب البريطاني مما يجعلها مؤسسة تحظى بثقة مشاهديها ومستمعيها في أنحاء العالم كونها تنقل الحدث كما هو وبشكل محايد ومهني.
ويعتقد بعض الخبراء في مجال الإعلام أن هذه التجربة ممكن تطبق في اليمن لكنها تحتاج إلى خطوات تدريجية قبلها لتحرير وسائل الإعلام الممولة من الخزينة العامة، من خلال تنفيذ إصلاحات إدارية ومهنية مصاحبة لإعادة هيكلتها بما يجعلها مستقلة ماليا وإدارية عن الدولة وتصبح معتمدة على مبيعاتها وسوق الإعلان وهو ما سيساهم على الارتقاء بدوره ومحاولة جعله إعلاما مستقلا ومحايدا وغير تابع لأي سلطة في اليمن.
ولهذا فمن المهم تشكيل لجنة مكونة من الجهات ذات العلاقة هي (أعضاء من البرلمان، ونقابة الصحفيين اليمنيين، ووزارة الإعلام، وخبراء في مجال الإعلام لتنظيم ندوات ومؤتمرات وفعاليات وحلقات نقاشية) للخروج برؤية واضحة تعمل على تحرر الإعلام العام.
الرؤية المستقبلية:
ويجب إعادة النظر في آليات العمل الحالية والانتقال بالإعلام الحكومي من إعلام محتكر تسلطي قائم على الخطاب الواحد والصورة الواحدة والتوظيف الشخصي والسياسي لإمكانياته، إلى إعلام مجتمعي ديمقراطي، متعدد ومتنوع في الخطاب يرتكز على التفاوض والحوار واحترام حق الجميع في التفكير والتعبير، يشترك فيه جميع أطراف المجتمع اليمني، وهو أساس الديمقراطية الحقيقية. فالإعلام له دور هام في تنظيم النقاش العام وهذه من أهم وظائفه.
وهذا التمهيد مهم بغرض التحضير للانتقال من نموذج الإعلام الحكومي الأحادي الاتجاه إلى نموذج الإعلام المجتمعي الديمقراطي وتحويل المؤسسات الإعلامية الحكومية إلى مؤسسات عمومية تشاركيه بناء على دارسة علمية للواقع اليمني والاستفادة من تجارب الآخرين الذين سبقونا في هذا المجال، وهو ما يستوجب على الحكومة أن تستوعب المتغيرات الراهنة في العالم من أجل تحرير وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة من احتكارها لها، والاستفادة من تجارب أخرى كتجربة هيئة الإذاعة البريطانية BBC التي تمتلك استقلالية من النظام السياسي.
الاستراتيجية:
تشكيل شبكة من نقابة الصحفيين ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالحقوق والحريات الصحفية والمهتمة بقضايا حرية الرأي والتعبير للعمل على عدة خطوات أبرزها:
– تقديم مسودة قوانين متوافقة تساعد على تحرير الإعلام العام في اليمن والعمل مع الجانب الحكومي ومجلس النواب لتبني مشاريع القوانين وإقرارها.
– تنفيذ حملات توعية للتعريف بأهمية تحرير وسائل الإعلام العامة من سيطرة الدولة من خلال إقامة عدة فعاليات وأنشطة بهدف الضغط على الحكومة بالعمل على تحرير الإعلام العام.
– الحشد والضغط لإقرار قانون الإعلام المرئي والمسموع من قبل مجلس النواب من خلال تبني عدد من البرلمانيين المشروع.
– العمل على وضع تشريع باستقلالية وسائل الإعلام العامة من خلال نص في الدستور اليمني القادم يضمن الاستقلالية لتصبح وسيلة تقدم خدمة تنموية مجتمعية.
– تقديم قانون بديل ينظم عمل مؤسسات وسائل الإعلام العام ويحررها من سيطرة الدولة وفقا لمخرجات الحوار الوطني الخاص بالإعلام بما يضمن معايير حرية الرأي والتعبير واستقلالية الإعلام العام.
المراجع:
– وثيقة مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل 2014
– دراسة عن تاريخ الإعلام اليمني (البنية والبيئة والأداء) مركز التدريب الإعلامي والتنمية 2015
– قانون رقم (95) لسنة 1998 بشأن اللائحة التنظيمية لوزارة الإعلام
– قانون رقم (22) لسنة 1999 بشأن إعادة تنظيم المؤسسة العامة اليمنية للإذاعة والتلفزيون
– موقع هيئة الإذاعة البريطانية الـ(بي بي سي)
إصلاح قطاع المؤسسات الدينية في اليمن
إعداد: بليغ أحمد المخلافي
إعلامي وباحث سياسي يمني، ورئيس منظمة التنمية الشبابية
مراجعة: لبيب شائف محمد اسماعيل
ديسمبر 2015
أين تكمن المشكلة؟
تعنى المؤسسات الدينية في اليمن كغيره من البلدان بإدارة وتنظيم الشئون الدينية -الإفتاء، الوقف، شئون الشعائر، دور العبادة، الوعظ والإرشاد الديني، الزكاة- وفي إطار هذه المجالات تتنوع الانشطة والخدمات التي تقدمها ما بين شئون دينية صرفة إلى شئون اجتماعية[i].
وتكمن مشكلة هذه المؤسسات في ضعف فاعلية دورها وعدم قدرتها على التأثير في المجتمع وترهلها وغياب أي مبادرات لإصلاحها لتؤدي وظائفها على النحو الذي وجدت من أجله بل وتجاوز الأمر إلى استغلالها سياسيا لخدمة السلطة، كما أدى ضعف دورها إلى وجود فجوة تستغلها الجمعات المتطرفة في التأثير السلبي على المجتمعات باستخدام الدين وتحويلها لحاضن اجتماعي لها[ii].
ويبدو واضحا ضعف قدرة هذه المؤسسات في تطوير سياسات محايدة وفعالة (سواء سياسات التنظيم المؤسسي أو سياسات تقديم الخدمات أو سياسات إدارة الموارد) نتيجة استحواذ السلطة السياسة على قرارها، مما يبرز فجوة تأثير الصراعات المذهبية والسياسية عبر استغلال الدين نتيجة غياب السياسات والأدوار المحايدة لهذه المؤسسات خاصة ظل في بيئة اجتماعية وسياسية أصلا تسمح بذلك الصراع وتشجعه.[iii]
وعلى الرغم أن هذه المؤسسات تمتلك موارد مالية ضخمة (27.2 مليار ريال فقط في عام 2013)[iv]، ولديها سلطة دينية على وجدان المجتمع يمكنها أن تؤثر بقوة فيه وتحسن من واقعة وتخلق مناخ اجتماعي وثقافي وديني مستنير يرتكز على التسامح ونبذ العنف والقبول بالأخر وفقا لما لمضامين الدين الاسلامي الحنيف وبالتالي تسد الطريق أمام الفكر الديني المتطرف[v]، إلا أن كل ذلك لم يستغل ويدار بصورة غير رشيدة تجعل تأثير هذه المؤسسات في المجتمع يكاد يكون معدوما.
مدى توفر القواعد والتشريعات المحلية والدولية لعمل مثل هذه المؤسسات:
المتابع للتشريعات والسياسات المنظمة لعمل المؤسسات الدينية في اليمن يلاحظ أنها قاصرة ولا ترقى لمستوى الدور الذي يجب أن تضطلع به تلك المؤسسات، وما يوجد من تشريعات يركز بدرجة أساسية على الأبعاد التنظيمية وبالتالي لا توجد سياسات وتشريعات تتيح لهذه المؤسسات فرصا للعب أدوار فاعلة خارج تلك الأطر التشريعية الجامدة التي تعمل من خلالها، كما أن تلك التشريعات لا تعطي المؤسسات الدينية درجة الاستقلالية اللازمة للتحرك للعب أدوار مؤثرة بل وتربط قراراتها بالسلطة بالحكومة مما يجعلها مقيدة ومحدودة الفاعلية، فنلاحظ أن وزارة الاوقاف مثلا لديها فقط لائحة تنظيمية ولا تمتلك تشريعات تنظم عملياتها الفنية ومواردها بشكل دقيق[vi]. اما فيما يتعلق بالزكاة فإنه تم إلغاء مصلحة الزكاة وأسند دورها للسلطة المحلية وغاب تأثيرها من المشهد الاجتماعي[vii]، وفيما يتعلق بالإفتاء فإنه سياساتها تقتصر على قرارين يتمين الأول خاص بإنشاء دار الإفتاء والثاني خاص بتعيين هيئة الإفتاء ولا توجد أي سياسات تنظم عملية الإفتاء وآلياتها أو عمل نظيم دار الإفتاء وغيرها من الجوانب، حيث تركت للرأي الشخصي لهيئة الإفتاء[viii] وبدرجة أكبر لشخص مفتي الجمهورية.
ولذا فإن القصور في الدور المجتمعي لتلك المؤسسات يعزى للقصور في توفر تشريعات وسياسات فعالة تنظم دورها وتمكنها من تحقيق التأثير اللازم في المجتمع. كما يمكن الجزم أنه لا توجد تشريعات محلية أو دولية تلتزم بها المؤسسات الدينية[ix]. وأن ما هو متاح من سياسات وتشريعات لا يرقى إلى مستوى الدور المطلوب من هذه المؤسسات، كما أن إطار عمل هذه المؤسسات بعيدا عن أي استقلالية أو دور مجتمعي محايد فهي تتبع الحكومة وتدار وفقا لآليات نمطية حكومية تفتقر إلى أدنى أسس الحوكمة أو قواعد العمل المؤسسي الحديث.
تتوفر بعض الخبرات لدى وزارة الأوقاف والإرشاد جرى تأهيلهم في مجالات عمل الوزارة إلا أن هذه لخبرات غير مُمُكنة ولا يتم السماع لآرائها[x]، وينطبق الأمر فيما يتعلق بمؤسسة الزكاة فهناك مقترحات متكاملة من خبراء محليين لإعادة ترتيب وضع مؤسسة الزكاة وتم تقديم مشروع قانون لمؤسسة الزكاة من قبل وزارة الإدارة المحلية إلا أنه لم يتم التجاوب معه وظل حبيس الأدراج[xi]. كما أن طبيعة الدور الحساس لهذه المؤسسات ساعد على عدم حدوث أي تغيير في أدوارها منذ أكثر من خمسة عقود، فسلطة ورأي رجال الدين القائمين عليها ينحاز للأدوار التقليدية التي تمارسها هذه المؤسسات ويرفض وجود أي تجديد لممارسة حديثة ولو كانت تصب في المقاصد الدينية والشرعية من وجودها، ومع أن هناك توجهات لبرنامج إصلاح الخدمة المدنية في إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية عموما بما فيها المؤسسات الدينية على أسس حديثة إلا أن هذا المشروع أيضا توقف في العام 2008 ولم يستطع المضي في تحقيق أي من أهدافه في الإصلاح المؤسسي[xii].
أما دار الإفتاء على أهميتها الكبيرة فلا توجد لديها أية خبرات متخصصة يمكنها أن تلعب دورا في الإصلاح المؤسسي لها، حيث أن المعنيين بالإفتاء [xiii]يغلب على تخصصاتهم ومعارفهم الطابع التشريعي والفقهي المحض ولا يندرج في اهتماماتهم البعد المؤسسي أو أي اهتمام بتشريعات وسياسات الإفتاء وتطوير خدماتها[xiv].
ومع ذلك يمكن الجزم أنه توجد في اليمن خبرات كثيرة متمكنة يمكن الاستعانة بها في إصلاح قطاع المؤسسات الدينية، فمقترحات إصلاح هذا القطاع التي جرى إعدادها وتقديمها كدراسات او كمشروعات تطويرية كثيرة إلا أنه لم يتم الالتفات لها[xv].
استراتيجيات إصلاح قطاع المؤسسات الدينية في اليمن:
نخلص مما سبق إلى أن المؤسسات الدينية في اليمن واقعة في مأزق ضعف الأداء ومحدودية فاعلية دورها المجتمعي وهذا نتيجة اختلالات في ثلاثة جوانب أساسية كل منهما يرتبط بالأخر هي: اختلال في سياسات التنظيم والأداء المؤسسي، اختلال في آليات تقديم خدماتها، قصور في كفاءة إدارة وتوجيه مواردها المتاحة.
وارتباطا بذلك فإن معالجة هذه الاختلالات يكون من خلال معالجة عناصر القصور الثلاثة في أداء ودور هذه المؤسسات والتي تمثل حلقات مفرغة كل منها تؤدي للأخرى من خلال الاستراتيجيات الثلاث التالية:
- استراتيجية التطوير المؤسسي الداخلي:
وفي إطارها يتم إصلاح الوضع المؤسسي الداخلي للمؤسسات الدينية (وزارة الأوقاف وهيئة الإفتاء ومؤسسة الزكاة) وإعادة هيكلتها وتطويرها وفقا لأهداف جديدة تحقق لها امتلاك رؤية استراتيجية واضحة والعمل باستقلالية وكفاءة وفاعلية في أداء مهامها وتأثيرها المجتمعي على أسس الحوكمة، وتمتلك القدرة على وضع وتطوير سياساتها ووفقا لإدارة مؤسسية جماعية وديمقراطية (يتم صنع القرار فيها بصورة جماعية والتعيين في المستويات القيادية عبر آليات انتخاب مقننة) تسمح بالمشاركة المجتمعية بعيدا عن تدخل السلطة التنفيذية أو أي تأثيرات سياسية عليها.
- استراتيجية تطوير الخدمات:
ومن خلالها يتم تطوير سياسات وآليات تقديم الخدمات لهذه المؤسسات، بحيث تتسم بالجودة والشمولية وتركز على الأولويات وتحقق سرعة الاستجابة وتقوم على مساءلة المعنيين بالخدمات واشراك متلقي الخدمة والمجتمع المدني في تقييمها وبصورة اكبر في خدمات الزكاة والأوقاف، أما في جانب الإرشاد فإن وجود سياسات واضحة لتعميم خطاب ديني وقيم دينية معتدلة وتعزيز وعي المجتمع للقبول بالآخر والابتعاد عن التعصب المذهبي هو المعيار الذي يجب أن يخدم أداء هذه المؤسسات وعلى أساسه تسأل، ومن أبرز الأليات المنظمة لذلك وجود دليل تقديم وتقييم الخدمات لكل مؤسسة بصورة تسمح مشاركة المجتمع في مرحلة تصميم الخدمة ومرحلة تقييمها عبر ما يعرف بالمساءلة المجتمعية لمؤسسات تقديم الخدمات.
- استراتيجية تطوير إدارة الموارد المالية:
تمتلك المؤسسات الدينية موارد ضخمة وتستطيع كذلك توسيع حجم هذه الموارد من المجتمع الذي يمنحها بسخاء انطلاقا من دوافعه الدينية، خاصة إذا تبنت هذه المؤسسات مشروعات ناجحة للمجتمع. وبالتالي يجب أن تتوفر سياسات وتشريعات تحقق كفاءة إدارة هذه الموارد وتوجيهها لخدمة المجتمع وتحقيق تأثيرات ملموسة من خلال مشروعات تخدم المجتمع وتوجه وعيه نحو التكامل والاعتدال والتنمية وتسد فجوة الفراغ التي تستغلها الجماعات الدينية المتطرفة، وهنا يتوقع للحكومة ووزارة المالية اتخاذ مواقف متحفظة من عملية تطوير إدارة موارد هذه المؤسسات إلا أن وجود سياسات فعالة تضمن كفاءة هذه الموارد وبشفافية بعيدا عن سوء استغلالها (كقانون تحصيل وإدارة موارد الزكاة، وقانون إدارة واستثمار موارد الوقف وهو إلى الأن غير موجود، وقانون إنشاء مؤسسة استثمارات الاوقاف… وغيرها) سيشجع على القبول بهذه السياسات إضافة إلى ضرورة تعزيز الدور الرقابي لمجلس النواب ووزارة المالية مما يعني تشجيع وضع وتطبيق استراتيجية الحل هذه ودعمها من قبل هذه الجهات.
إن تحقيق هذه الاستراتيجيات يجب أن يرتبط بوجود ادوارا هامة لكل من الحكومة ومجلس النواب ووزارة المالية والمؤسسات الدينية في اقرار وتنفيذ هذه الاستراتيجية ويتعين على المؤسسات الدينية أن يكون لديها أفق واسع للعمل من خلال أسس إدارية ومالية حديثة ووفقا لمبادئ الحوكمة، كما سيتعين على مجلس النواب والحكومة القبول بتخفيف السيطرة على المؤسسات الدينية ومنحها الاستقلالية اللازمة لأداء مهامها بفاعلية أكبر والاكتفاء بالرقابة والتقييم لها.
آليات تطبيق الاستراتيجيات المقترحة:
لنقل هذه الاستراتيجيات للتطبيق على الواقع العمل يستلزم الأمر اتباع آليات محددة تبين دور كل طرف من الأطراف المعنية بتطبيق هذا الاستراتيجيات ويمكن إيجاز هذه الآليات والأدوار على النحو التالي:
سيتعين على كل مؤسسة بناء وتطوير قدرات فريق للتطوير المؤسسي وإصلاح السياسات من جميع أصحاب المصلحة (حكومة ومؤسسات دينية ومجتمع مدني وقطاع أعمال… وغيرهم) وسيتعين على كل مؤسسة وضع رؤية استراتيجية واضحة لها خلال مدى زمني ملائم.
كما سيتعين على كل مؤسسة أن تبادر لوضع سياسات وتشريعات قانونية لها تقوم على الأسس التالية:
- إدارة المؤسسة يجب أن يكون عبر مجلس يشترك فيها مختلف أصحاب المصلحة بما فيهم ممثلين للمذاهب والطوائف الدينية بتنوعاتها المختلفة لضمان مشاركة فاعلة وحيادية وقبول لقراراتها وهذه المجالس مهمتها وضع السياسات والخطط واقرار التوجهات العامة للمؤسسة الدينية وتكون المؤسسات بمثابة أجهزة فنية وإدارية لتنفيذ تلك السياسات والخطط وتقديم الخدمات.
- يجب أن يكون هناك محددات أساسية لإدارة هذه المؤسسات تضمنها أطر تشريعية بمستوى قانون وبعضها توضع في الدستور ومن هذه المحددات استقلالية وحيادية المؤسسات الدينية، مسئوليتها عن الإشراف والمراقبة لأي أنشطة فردية أو مجتمعية توعوي دينية وفقا لما تمخضت عنه مخرجات الحوار الوطني، تطبيق مبادئ الإدارة الديمقراطية والحوكمة إدارة في هذه المؤسسات وتقديم خدماتها.
- الالتزام بتطوير خطط مالية بعيدة المدى تعكس كفاءة إدارة واستغلال الموارد المتاحة لخدمة التنمية وتوجيهها نحو ممارسة أنشطة وخدمات توفير مناخ اجتماعي يقوم على التسامح الديني والاعتدال.
- مساعدة تلك المؤسسات على إعادة تطوير دورها عبر لجان وطنية يمثل فيها مختلف اصحاب المصالحة وبصورة تخدم التنمية في أوساط المجتمعات المحرومة وتعزيز القدرات الاقتصادية والاجتماعية لهذه المناطق ولفئات الشباب والمرأة والعاطلين، بحيث تقطع الطريق أمام الجماعات المتطرفة من استخدام تلك المجتمعات كبيئات حاضنة ومصدر لاستقطاب شبابها.
كما سيتطلب من كل مؤسسة دينية الاطلاع على نماذج وتجارب متميزة لإصلاح المؤسسات الدينية للاستفادة منه. وأن تعمل على تطبيق هذه الاستراتيجيات من خلال خلق شراكة مع أصحاب المصالح وتكوين ضغط مجتمعي على الحكومة ومجلس النواب للقبول بإصلاح هذه المؤسسات.
كما سيتعين على المؤسسات الدينية أن تكون شركات مع المنظمات الدولية (في العالم الإسلامي) لتسهم في تقديم دعم فني والضغط على الحكومات ولذا يجب أن تتوفر وثائق مشروعات جاهزة للتطوير والإصلاح المؤسسي لهذه المؤسسات لتقديمها للأطراف المعنية المحلية والدولية.
الخاتمة:
تكمن أهمية الاستراتيجيات المقترحة وآلياتها التنفيذية من كونها ستنقل المؤسسات الدينية من حالة الجمود وضعف التأثير إلى حالة من الفعالية والتأثير المجتمعي وتمكنها من أداء مهامها وتحقيق أهدافها بصورة أكثر فعالية وستؤدي إلى امتلاكها مقومات مؤسسية وتشريعات وسياسات تمكنها من التأثير على المجتمعات وتحقيق رسالتها التي وجدت من أجله، وبالتأكيد فإن تحقيق الاستقلالية مع وجود الرقابة العامة سواء من مجلس النواب أو الحكومة أو المجتمع سيضمن فعالة أداء هذه المؤسسات.
كما أن إعادة تخصيص وتوزيع موارد هذه المؤسسات بكفاءة عالية وتوجيهها نحو تحقيق أهداف تنموية ومجتمعية سيعزز من دور وتأثير هذه المؤسسات وسد الفجوة القائمة التي تستغلها الجماعات الدينية المتطرفة. كما سيؤدي تطبيق هذه الاستراتيجيات إلى بناء القدرات المؤسسية لهذه المؤسسات وسينعكس في تحسين مستوى تقديم خدماتها.
كل ذلك سينعكس في لعب دور استراتيجي أكبر لهذه المؤسسات في التنمية وتحسين وعي المجتمع وترسيخ فهم وممارسة التدين بصورة معتدلة وعلى أسس القبول بالآخر والتعايش معه، مما سيعزز الأمن والسلم الاجتماعي وسيحقق ترسيخ سيادة القانون الذي تنتهكه الجماعات الدينية المسلحة باسم الدين وبغطاء اجتماعي غير واع.
وارتباطا بذلك كله فإن التركيز على إصلاح السياسات بمستوياتها المختلفة التشريعية والتنفيذية والإدارية الإجرائية أولا هو الأمر المهم لتحقيق تلك الاستراتيجيات ويتطلب معه وجود فريق تطوير مؤسسي مؤهل لكل مؤسسة يشترك فيه فاعليين من مختلف أصحاب المصلحة وبرعاية رسمية من قيادة المؤسسة المعنية والجهات ذات المصلحة مما سيسرع ويفعل من عملية الإصلاح المؤسسي المنشودة ويحقق الإجماع اللازم لقبولها ويقلل من تأثيرات مقاومة التغيير اثناء الشروع بإصلاح تلك المؤسسات، وهي التوصية الأساسية التي يجب الأخذ بها لإصلاح هذه المؤسسات وتفعيل دورها.
الهوامش:
[i] من اعداد الباحث عبر مراجعة للمواقع الرسمية لعدد عشر دول عربية هي: اليمن، مصر، السعودية، الأردن، سوريا، المغرب، عمان، الكويت، الإمارات، السودان.
[ii] محمد سيف حيدر وبليغ المخلافي، إصلاح المؤسسات الدينية في اليمن، ورقة بحثية ضمن كتاب: إصلاح المؤسسات في المنطقة العربية (إعلامية، قضائية، دينية) “مصر – تونس – اليمن” منتدى البدائل العربي للدراسات، 2015.
[iii] المرجع السابق ص27
[iv] وزارة المالية، الحساب الختامي للموازنة العامة للدولة 2013.
[v] القرار الجمهوري رقم 210 لسنة 2005 بشأن اللائحة التنظيمية لوزارة الأوقاف والإرشاد، الصادر بتاريخ 18 سبتمبر 2005.
[vi] المرجع السابق.
[vii] الغيت مصلحة الزكاة وتم ضم مكاتب الزكاة في المحافظات إلى السلطة المحلية وتم إنشاء إدارة عامة بوزارة الإدارة المحلية خاصة بمورد الزكاة المركزي بموجب قانون السلطة المحلية رقم 3 لسنة 2000.
[viii] «قرار رئيس الجمهورية رقم 15 لسنة 1997 بشأن إنشاء دار الإفتاء الشرعية اليمنية»، منشور في: الجريدة الرسمية، العدد 10، 24 محرم 1418 الموافق 31 مايو 1997. و«قرار جمهوري رقم 259 لسنة 2000 بتعيين هيئة الإفتاء الشرعية اليمنية»، منشور في: الجريدة الرسمية، العدد 16، 1 جمادى الثانية 1421 الموافق 31 أغسطس 2000.
[ix] نتائج مقابلات مع عدد القيادات الوسطية في وزارة الأوقاف والإرشاد.
[x] نتائج مقابلات مع عدد من المعنيين في وزارة الأوقاف.
[xi] مسودة قانون إنشاء مؤسسة عامة للزكاة اليمنية، وزارة الإدارة المحلية 2013.
[xii] لبيب شائف محمد، تقييم برنامج إصلاح الخدمة المدنية، مركز الدراسات الاستراتيجية، ص30.
[xiii] في اليمن هناك هيئة إفتاء برئاسة مفتي الجمهورية وليس مفتي وحيد وفي كل محافظة مفتي ومع ذلك تطغى شخصية مفتي الجمهورية على دور هيئة الإفتاء.
[xiv] نتائج مقابلات الباحث مع المعنيين.
[xv] أحصى الباحث (6) دراسات ومشروعات للتطوير المؤسسي ومقترحات سياسات وتشريعات في قطاع المؤسسات الدينية لم يتم الالتفات لها خلال الفترة 2004- 2015.