مصر
مقدمة:
بعد إنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين إثر الإجراءات التي اتخذها المجلس العسكري في 3 يوليو 2013، بناء على تظاهرات ضخمة شهدتها محافظات مصر، تم وضع ما يطلق عليه مجازا خارطة طريق مسار 3 يوليو، هدف إلى إعادة بناء مؤسسات الحكم بداية من دستور جديد بديلا عن دستور 2012 الذي تم تعليق العمل به، وانتخابات رئاسية، وبرلمان جديد.
وقد شهد الربع الأخير من عام 2015 الاستحقاق الثالث والأخير لخارطة الطريق، إلا أنه وعلى الرغم من ارتفاع تقديرات حجم المشاركة في فعاليات 30 يونية التي أضفت الشرعية على ذلك المسار، إلا أن حجم المشاركة في الاستحقاقات السياسية التي اعتمدتها الحكومة الجديدة لإعادة مأسسة أركان الدولة، لم تكن معبرة عن تلك الكتل التي انتفضت ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين والرئيس السابق محمد مرسي، فقد شهدت الانتخابات البرلمانية انخفاضا حادا في حجم المشاركة فجاءت بنسبة 28.2%، ولولا حجم المشاركة في انتخابات مجلس الشعب عام 2005 والذي بلغ 23%، لكانت تلك الانتخابات هي الأقل مشاركة في تاريخ مصر.[1]
وتتعدد الأسباب التي تدفع بجمهور الناخبين إلى الإحجام عن المشاركة، أو العزوف عنها، مثل الاحتجاج على النظام الانتخابي أو أحد مظاهره كوجود احتمالية وقوع تزوير أو شبهة عدم حيادية، أو إصابة الجمهور بحالة من اللامبالاة المصاحبة للإحباطات المرتبطة بالوضع السياسي. ومهما كانت الأسباب الدافعة لذلك، فيجب على أي نظام حاكم أن يستشعر مخاطر انخفاض حجم المشاركة، ومدى تأثير ذلك سياسيا على شرعية ذلك النظام والبدء في العمل على إصلاح الاختلالات التي أدت إلى انخفاض حجم المشاركة.
خمول الزخم الثوري وأثره على حجم المشاركة:
على الرغم من أن الشباب قد لعبوا الدور الرئيسي في الحراك الشعبي ضد نظام الرئيس الأسبق محمد مرسي، إلا أن مسار 3 يوليو قد اصطدم بالشباب والثوار، حيث أصدر قانون التظاهر الذي قوبل بمعارضة شديدة من قبل شباب الثورة، وبأحكامه يقبع عدد كبير منهم في السجون حتى الأن، مستعيضا عن صوت فئة الشباب بصوت الفئات المتضررة اقتصاديا من ثورة يناير، وكذلك الكتلة المطالبة بتحقيق الأمن جراء أعمال العنف التي بدأت عقب إقصاء جماعة الإخوان المسلمين. لذلك جاء الاستحقاق الأول وهو الاستفتاء على الدستور في يناير 2014، بنسبة مشاركة بلغت 38.6% فقط، في غياب واضح للشباب[2].
أما في الاستحقاق الثاني، وهو الانتخابات الرئاسية، التي خاضها كل من الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، وحمدين صباحي، جاءت نسبة المشاركة في تلك الانتخابات لتبلغ 47.13% وهي بذلك تتخطى نسبة المشاركة في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة في 2012، وتقل عن نسبة المشاركة في جولة الإعادة في الانتخابات ذاتها بما يعادل 4.5% تقريبا، وهو الأمر الذي يمكن تفسيره بارتفاع مستوى الاستقطاب السياسي قبيل جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة 2012 حول المرشحين، محمد مرسي وأحمد شفيق، وسعي التيار الإسلامي لحشد أكبر قدر ممكن من مؤيديه خلف مرشحه آنذاك محمد مرسي.
وقد شهدت تلك الانتخابات الرئاسية في 2014 حملة مقاطعة من قبل أنصار جماعة الإخوان المسلمين، إلا أنه قد قاطع الانتخابات فئات أخرى غير الإخوان، وأهم تلك الفئات هم كتلة الشباب والتي قد عزفت أيضا عن المشاركة في استفتاء الدستور 2014، وهي الكتلة غير الراضية عن تطور العملية السياسية في مصر، سواء من منطلق انتقادها للسيسي، ورفعها شعار “لا للحكم العسكري”، أو شعورها بالتهميش، وعدم التمكين من قبل الأنظمة المتعاقبة منذ ثورة 25 يناير 2011، في ظل رؤيتها أنها أصبحت رقما مهما في معادلة الحياة السياسية المصرية، نتيجة دورها المحوري في إسقاط نظام مبارك.
بالإضافة إلى هؤلاء، تأتي كتلة الوافدين، حيث فرضت اللجنة العليا للانتخابات على الوافدين الراغبين في المشاركة في الانتخابات ضرورة التسجيل بالشهر العقاري، وهو ما أدى إلى تسجيل 67 ألف ناخب فقط، وذلك في ظل روتينية العمل، وتعقده داخل مقار الشهر العقاري التي تكتظ بالمواطنين في أيام العمل العادية، وهو ما شكل عبئا نفسيا على الوافدين، ماليا أيضا، لتغيبهم عن عملهم، أو مصدر رزقهم[3].
انخفاض غير مسبوق منذ يناير في انتخابات برلمان 2015:
عند قراءة نسبة المشاركة في العمليتين اللتين سبقتا انتخاب برلمان 2015، نجد أن المشاركة في دستور 2014 قد بلغت 38.6% من عدد من لهم حق التصويت البالغ عددهم 53,423,485 ناخبا[4]، أما الاستحقاق الثاني والمتمثل في انتخاب رئيس للجمهورية، فقد بلغت نسبة المشاركة 47.45% من إجمالي عدد الناخبين البالغ 53.909.306 ناخبا[5]، وبذلك يبلغ متوسط نسبة التصويت منذ تم إعلان مسار الثالث من يوليو نسبة 43.025%.
وبالرغم من هذه النسبة، بيد أن نتائج الانتخابات التشريعية التي تمت الدعوة لها في أكتوبر ونوفمبر من العام الجاري 2015، قد جاءت أقل من هذا المتوسط بنسبة كبيرة جدا، حيث بلغت نسبة المشاركين في التصويت في هذه الانتخابات 28.20% تقريبا، وذلك بعد أن بلغت نسبة المشاركة في المرحلة الأولى نسبة 26.56%، وفي المرحلة الثانية 29.83%[6]، وذلك ما يعني انخفاض نسبة المشاركة فيها عن نسبة المشاركة في انتخابات الرئاسة بنسبة 19.25%، أما مقارنة بالاستفتاء على دستور 2014، فتنخفض نسبة المشاركة 9.86%، كما تنخفض نسبة التصويت عن متوسط نسب المشاركة في ظل مسار الثالث من يوليو بنسبة 14.825%، وهي النسبة التي يمكننا أن نشير إليها وفق المعطيات الكمية، واعتبارها نسبة المقاطعة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
الأثر السلبي للأداء الإعلامي:
لا شك في أن لهذا الانخفاض الحاد في نسب المشاركة العديد من المسببات، ففي ظل حاجة النظام المنبثق عن مسار 30 يوليو لتدعيم شرعيته وتثبيتها، خاصة بعد الجدل السياسي والقانوني الذي صاحب نشوئه، والاتهامات التي مسته بأنه ناتج عن انقلابا عسكريا، فقد كان لا بد من وجود أدوات مضادة لدى النظام الجديد لتحض من الفرضيات التي تتهمه بالاستيلاء على السلطة عن طريق الانقلاب العسكري، ويمكننا أن نصنف الإعلام على أنه أحد أكثر تلك الأدوات فاعلية وتحقيقا لمصالح النظام.
وأمام حاجة النظام إلى مشاركة شعبية واسعة في الاستحقاقات الانتخابية كضمان لشرعيته أمام منافسيه، بدأت الألة الإعلامية في بث شحنات من المحفزات للمواطنين، الوطنية تارة والتخوينية الترهيبية تارة أخرى. إلا أن الغلو في التحفيز بالإضافة إلى تخوين المعارضة ومحاولة النيل منها بتشويهها سواء فيما يتعلق بالمجال العام أو حتى الخاص، قد انعكس بالسلب على نظرة قطاعات كبيرة من المواطنين تجاه مصداقية وحرفية تلك الألة الإعلامية، وهو ما انعكس سلبيا على ما يتلقاه المواطن من دعوات من قبل الإعلام، ومنها الدعوة للمشاركة في العملية الانتخابية.
رصد دعوات المقاطعة لانتخابات برلمان 2015:
بادئ ذي بدء، تجدر الإشارة إلى ضرورة التفرقة بين المقاطعة، والعزوف كموقفين ينتج عنهما نفس الفعل السياسي مع اختلاف تام في الرؤى، ولعل أبرز المقاطعون لتلك الانتخابات، هم أتباع تيارات الإسلام السياسي، نظرا لإقصاء أحزابهم عن السلطة، باستثناء حزب النور الذي تعرض إلى صدمات فقهية نتيجة مواقفة السياسية، جعلت من أتباعه ينفضون عنه، ومن تلك الصدمات الفقهية ضم الحزب لمسيحيين إلى قوائمه، في موقف لا يتسق مع ما تطلقه قياداته من تصريحات معادية للمسيحيين، وهو ما انعكس على الكثير من أعضاءه الذين قرروا مقاطعة الانتخابات[7].
وبالتالي غاب عن المشهد السياسي أحد أكبر التيارات جماهيرية وتنظيما للمرة الأولى منذ انتخابات 1984، وبكل تأكيد ساهم ذلك الغياب في انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات، ليس في الانتخابات البرلمانية فقط، بل في انتخابات الرئاسة واستفتاء الدستور الأخيرين.
وتعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة أداة لقياس مدى مشاركة الشباب في العملية السياسية، وقد بلغت نسبة المشاركة التصويتية في تلك الانتخابات في مرحلتيها الأولى[8] والثانية ما يقرب من 22% فقط من نسب التصويت، مما يشير إلى عزوفا شبابا من المشاركة، وقد أشارت بعض الإحصاءات إلى أن نسبة مشاركة الشباب بلغت 29% فقط من الشباب في الانتخابات بمرحلتيها[9].
فلا شك أن هناك إشكالية حقيقية بينهم وبين مسار 30 يونية بشكل عام، ذلك المسار الذي لم يتوانى من اللحظة الأولى له على محاولة فك الارتباط بينه وبين يناير، فمنذ الأيام الأولى لتدشين مسار 30 يونية لم تكف رموزه عن التنكيل المعنوي بكل ما يمت لثورة يناير بصلة، وإن كان النظام نفسه يبجل على استحياء تلك الثورة وشبابها، وكان الصدام الأكبر بين مسار 30 يونية والشباب بوجه عام وشباب الثورة على الأخص، حين تم اصدار قانون التظاهر الذي قوبل بمعارضة شديدة من شباب الثورة، وبأحكامه يقبع عدد كبير منهم في السجون حتى الأن، والذي كان له انعكاسات سلبية جمة عليهم، فالشباب الذي خرج من العالم الافتراضي إلى ميادين الواقع في 25 يناير 2011، ثم نظم نفسه في حراك ثوري يهدف إلى تحقيق مطالب الثورة، في مجتمع وصف بالمجتمع الشاب، حيث بلغت نسبة الشباب في المجتمع المصري حوالي 67% من السكان أقل من 35 سنة[10]، عاد إلى التقوقع داخل العالم الافتراضي مرة أخرى في عملية قد تكون إعادة استنساخ لتجربته الأولى قبيل يناير 2011.
وأمام تلك المعطيات، عاد الشباب مرة أخرى ليستخدم وسائله الجديدة للمشاركة السياسية للشباب؛ وهي وسائل غير تقليدية فمع تطور المجتمعات السياسية ظهرت وسائل حديثة لمحاكة هذا التطور، ولحاجة الجيل الجديد إلى أسلوب وآليات جديدة ابتكر وسائل جديدة للمشاركة والتعبير عن الرأي[11]. فبفضل تطور وسائط تكنولوجيا الاتصالات، أضحى الفضاء الاليكتروني يستخدم كأداة للتعبير، وبمرور الوقت أصبح الانترنت في أشكاله ومحطاته بمثابة مسرح للذات بالنسبة للشباب، الذي وجد في ذلك الفضاء مساحه من الحرية تتيح له الإفصاح عن أفكاره ومعتقداته وتبادل الجدل والنقاش مع شباب التيارات الأخرى التي تختلف معه أيديولوجيا، في ظل وجود حدا من القبول المشترك، مما جعل الشباب ينزوي بعزلته لتترجم فيما بعد إلى حالة احتجاجية ينطلق بها إلى أرض الواقع في الميادين المختلفة، متجاوزا النخب التي لم تتمكن أن تجاري التطور والسرعة والإنجاز للشباب، ولعل ذلك من أسباب جعل الثورات العربية بلا رأس[12].
وباستخدام تكنولوجيا التواصل الاجتماعي تلك، تم تدشين حملة إليكترونية تدعو لمقاطعة الانتخابات، وهي حملة “مصر تحيا”، وهو ما استجابت له حملة “مصر تحيا” الإليكترونية بإنشائها لقائمة أطلقت عليها “المجد للشهداء” والتي ضمت شهداء ثورة يناير، واتخذت الحملة شعارا لها هو “صوتي للشهداء”. وقد وجدت تلك الحملة أصداء واسعة في العالم الافتراضي[13].
وبالإضافة إلى الإسلاميين والقوى الشبابية، أعلنت بعض الأحزاب والحركات السياسية مقاطعتها للانتخابات، كل باختلافات أسبابه، فحزب مصر القوية، قد أعلن مقاطعته للانتخابات مؤكدا أن القرار مبني على محورين، الأول هو المناخ الذي تجرى فيه الانتخابات والثاني القوانين التي يصدرها النظام، إضافة إلى إصدار قوانين تقيد الحريات منها قانون التظاهر، ومد الحبس الاحتياطي، والذي أدى لوجود عشرات الآلاف من المحبوسين احتياطيا، كل هذا لا يؤدي لإجراء انتخابات في جو ملائم وحرية، بالإضافة إلى حزب الوسط، الذي قاطع الانتخابات نتيجة لعدم تهيئة الأجواء للانتخابات، بالإضافة إلى اعتراضه على سجن عدد من أعضاءه، وحزب البناء والتنمية الذي علل انسحابه بأن المال السياسي سوف يلعب دورا كبيرا في تحديد الاعضاء الجدد، بالإضافة إلى عودة رجال مبارك ورموز الحزب الوطني إلى المشهد السياسي مرة أخرى[14].
وقد أعلن حزب الدستور أحد أعضاء تحالف التيار الديمقراطي، في بيان له مقاطعة الانتخابات، مؤكدا أن “قرار الحزب السابق بالمقاطعة لم يتغير. وذكر الحزب، أن “الأوضاع التي رفض أغلبية الحزب المشاركة في الانتخابات بسببها لم تتغير، وهي عدم دستورية قانون الانتخابات، وتقسيم الدوائر، وقبل ذلك كله اعتقال شباب الثورة الذي يشكل العامل الرئيس في التشكك في جدية الدولة في تحقيق عملية تحول ديمقراطي حقيقي”. وقد قاطعت قائمة “صحوة مصر” بشكل نهائي، بعد رفض محكمة القضاء الإداري الطعون المقدمة على قرار إعادة إجراء الكشوف الطبي لمرشحي البرلمان. بالإضافة إلى حركة 6 أبريل التي أعلنت مقاطعة الانتخابات البرلمانية[15]. وفي الفضاء الإلكتروني، دشن عدد من النشطاء عدد من الحملات التي هدفت إلى المقاطعة، ولعل حملة “صوتي للشهداء والمعتقلين” أحد الحركات التي حققت انتشارا سريعا جدا.
كما انسحبت قائمة “صحوة مصر” هي الأخرى من السباق الانتخابي، وهي القائمة التي ضمت على حد وصفها مرشحين لم ينتموا لجماعة الإخوان المسلمين أو الحزب الوطني، من أحزاب مدنية مختلفة ومن تحالف التيار الديمقراطي وتكنوقراط وضباط متقاعدين، وقد سببت القائمة انسحابها من السباق الانتخابي إلى تعنت الدولة تجاهها لصالح قائمة “في حب مصر” التي وصفت بأنها قائمة أجهزة الدولة[16].
المقاطعة الصامتة:
بتحليل الأرقام المعبرة عن نسب المشاركة في العمليات الانتخابية منذ ثورة 25 يناير، يتضح أن هناك علاقة طردية بين نسب المشاركة واحتمالية الدمقرطة، يتضح منها مدى أهمية التأثير النفسي في كتل الجماهير، وقد شارك 41.2% ممن لهم الحق في التصويت في استفتاء 19 مارس، اول عملية تصويتية بعد الثورة، كما وصلت نسبة المشاركة في انتخاب أول برلمان بعد الثورة إلى 54%[17]. فالأمل في التغيير، والتعددية الحزبية الناشئة كان أحد المحركات الرئيسية للناس في المشاركة.
وبوصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم، بدأت ورقة المقاطعة تلوح في الأفق مرة أخرى كأحد أدوات مناهضة الجماعة، وذلك في ظل المخاوف المتنامية من أن تستأثر منفردة بالحكم، وإقصاء المعارضة، ويتضح ذلك من نسبة التصويت على الدستور في 2012، والتي بلغت 32.9% من إجمالي عدد من لهم حق التصويت، وهي النسبة القليلة مقارنة بالنتائج السابقة لها.
وبدأ التصويت يرتفع مرة أخرى، بعد تنحية نظام الإخوان المسلمين عن الحكم، فقد شهد الاستفتاء على برلمان 2014، نسبة مشاركة بلغت 38.6%، وهي النسبة الي ارتفعت إلى 47.46%[18].
وهي الأرقام التي انخفضت بشكل ملحوظ في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فقاطع قطاع غير قليل من الناخبين غير المسيسين حيث شعروا أنها تأتى في سياق سياسي لا يعبر عنهم أو يرحبوا به. خاصة أمام غياب حاجتهم المجتمعية وتردي الأوضاع الاقتصادية، فـأحلام الديمقراطية لم تكن أبدا أولوية لمن يعاني في الحصول على قوت يومه، فذهب لاختيار من يلبى له احتياجاته. كما أن دولة القانون أو تعديل إدارة الدولة غير الديمقراطية وغير الكفؤة، لم تكن من الأصل هدف الكثيرين من أبناء الطبقة الوسطى خاصة من الجيل الأكبر. فقد سعوا رغم مستوى تعليمهم المرتفع ليس إلى انتخاب من يرفع راية الإصلاح[19]. بل من يلبي حاجتهم الاجتماعية والاقتصادية في المقام الأول.
خاتمة:
أعادت ثورة يناير الزخم مرة أخرى للحياة السياسية بعد غياب لعقود من الزمن، وقصورها على نخب بعينها إما محسوبة على النظام الحاكم أو معارضة له إلا أنه لا تخرج بعيدا عن مداره السياسي، إلى أن أحيت الثورة المشاركة السياسية وأنهت احتكارها لفئات معينة، وأصبح لدى المصريين تطلعا نحو حياة سياسية ديمقراطية تعددية، وتجلى ذلك في حجم المشاركة في المناسبات التصويتية بداية من استفتاء 19 مارس 2011، وحتى الانتخابات الرئاسية في 2012، مرورا بانتخابات البرلمان نهاية 2011 والتي شهدت أعلى معدلات تصويت حتى الأن.
وبعد عام من الشد والجذب السياسي الذي صاحب صعود جماعة الإخوان المسلمين لسدة الحكم في مصر، وإثر احتجاجات غاضبة عبر عنها ملايين من المواطنين في ميادين المحافظات المصرية المختلفة، تدخلت القوات المسلحة، وأنهت حكم الجماعة لمصر، إثر تعنت الأخيرة في تلبية مطالب المحتجين في إصلاح سياسي مضاد لسياسات أظهرت رغبة الحكام الجدد في الاستحواذ على السلطة منفردين. وقد تم تدشين مسارا سياسيا جديدا في الثالث من يوليو 2013، قضى بوجود 3 استحقاقات جديدة لاستكمال مؤسسات الدولة، تبدأ بوضع دستور جديد، ثم انتخاب رئيس، ثم البرلمان.
إلا أن الانتخابات البرلمانية التي مثلت الاستحقاق الأخير في خارطة طريق مسار 3 يوليو، شهدت انخفاض حاد في مستوى المشاركة التصويتية، لم تصل إلى 29% ممن لهم حق التصويت، وهي النسبة التي أزعجت النظام السياسي الذي لا يزال حتى الأن يواجه صراعات سياسية تتمحور حول شرعيته، خاصة من أنصار جماعة الإخوان المسلمين.
ولعل انخفاض تلك النسبة يعود إلى عدد من الأسباب، منها أداء جماعات المصالح المرتبطة بالنظام، خاصة الأداة الإعلامية، التي لم تكف عن تشويه أي معارضة للنظام، سواء بالتخوين واتهامات العمالة أو بالتعرض للحياة الشخصية، وهي الممارسات التي انعكست على الرغبة في المشاركة لدى بعض المواطنين وانخفاض ثقتهم في النظام الحاكم.
كما أن سياسات النظام تجاه الشباب بشكل عام، وشباب ثورة يناير بشكل خاص، والتي تمثلت في إصدار قانون التظاهر الذي ينظر له الشباب على أنه أداة لتكميم الأفواه، وتضييق للحريات، وتحجيم لدورهم السياسي، أدت إلى عزوف ملحوظ لكتل شبابية كبيرة في العمليات التصويتية، منذ دستور 2014 حتى برلمان 2015.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الإجراءات التي صاحبت تأسيس القوائم وبناء التحالفات الانتخابية، أوجدت حالة من القناعة لدى الرأي العام بأن قائمة معينة، ومرشحين بأعينهم هم مدعومين من الدولة، ولا ريب في ضمان نجاحهم في تلك الانتخابات، أدى ذلك إلى عزوف قطاعات كبيرة من الناخبين عن المشاركة، نظرا لوجود شعور بعدم جدوى المشاركة في مثل تلك المعطيات السياسية.
وبكل تأكيد فإن انخفاض نسب المشاركة له آثار سياسية على البرلمان والحياة السياسية بشكل عام، ولا تعدو تلك الآثار أن تتجاوز احتمالين اثنين، الأول هو أن تستغل المعارضة خارج البرلمان تلك النسبة وتعيد تشكيل ذاتها في مسار سياسي موازي مدعوم بأغلبية لم تحسم صوتها بعد، أما الاحتمال الثاني، هو أن تشكل الكتل البرلمانية كتلة واحدة داعمة للدولة، تحقق من خلاله السلطة كل ما تستهدفه في الإطار التشريعي لتدعيم حكمها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخطاء قادت إلى ضعف التصويت، موقع برلماني، 31 أكتوبر 2015، http://goo.gl/EStWDv
[2] نائب الوزير: 3 أسباب وراء مقاطعة الشباب للاستفتاء، جريدة الدستور، 18 فبراير 2014، http://goo.gl/DLNLwH
[3] محمد محمود السيد، خرائط التصويت في انتخابات رئاسة مصر 2014، السياسة الدولية، http://goo.gl/OgNgTz
[4] الموقع الرسمي للهيئة العليا للانتخابات، نتيجة الاستفتاء على دستور 2014، https://goo.gl/2WXZ9v
[5] الموقع السابق، نتيجة الانتخابات الرئاسية في 2014، https://goo.gl/7QWpvE
[6] المؤتمر الصحفي للجنة العليا للانتخابات، إعلان نتيجة المرحلة الثانية للانتخابات، موقع يوتيوب، https://goo.gl/o59TnJ
[7] ثورة غضب ضد “النور” بعد تصريحات رئيسه حول الأقباط، اليوم السابع، أكتوبر 2015، http://goo.gl/HlZvc3
[8] الانتخابات البرلمانية في مصر: إقبال ضعيف على التصويت في اليوم الثاني رغم مساعي الحكومة لتشجيع الإقبال، بي بي سي عربي، 19 أكتوبر 2015، http://goo.gl/vS3lPU
[9] «بصيرة»: انخفاض مشاركة الشباب في المرحلة الثانية للانتخابات مقارنة بـ«الأولى»، الشروق، 27 نوفمبر 2015، http://goo.gl/3yyBx7
[10] الإحصاء.. نصف سكان مصر أقل من 25 سنة، اليوم السابع، 3 إبريل 2015، http://goo.gl/wGWr2B
[11] “جيل الشباب في الوطن العربي ووسائل المشاركة غير التقليدية من المجال الافتراضي إلى الثورة”، متاح على: http://is.gd/EUiL3f
[12] الأنماط غير التقليدية للمشاركة السياسية للشباب في مصر.. قبل وأثناء وبعد الثورة، منتدى البدائل العربي، 2012، ص169.
[13] النشطاء يدشنون هشتاج “قائمة المجد للشهداء” ويطالبون بمقاطعة انتخابات العسكر، جريدة الشعب، 16 أكتوبر 2015، http://goo.gl/fos2ug
[14] سمر سامي، أحزاب وحركات ثورية تقاطع انتخابات «النواب» القادمة، موقع يناير، http://goo.gl/fzP74m
[15] المرجع السابق.
[16] أحد مرشحي قائمة صحوة مصر يروي أسباب مقاطعة الانتخابات البرلمانية، موقع مصر العربية، 18 أكتوبر 2015، http://goo.gl/Y6X1uS
[17] الهيئة العليا للانتخابات، مرجع سابق.
[18] المرجع السابق.
[19] نادين عبد الله، ماذا تعكس اختيارات المشاركين والمقاطعين، المصري اليوم، 8 ديسمبر 2015، http://goo.gl/XaDmXh