تعد قيم المواطنة والمساواة من أبرز القيم والمفاهيم التي أضحت تمتاز بصفة العالمية والكونية، لتحوز قدرا كبيرا من الانتشار والقبول في سياقات كثيرة متنوعة ثقافيا، وحضاريا، واقتصاديا، كأحد أبرز القيم التي يمكن أن تساهم في إحلال قدر كبير من العدالة والسلام الاجتماعي، إلا أن إنسانية وانتشار هذه القيم لم يحل دون أن يواجه تطبيق هذا المفهوم بعقبات هيكلية تطرحها السياقات المختلفة التي تسعي لتبني هذه القيم وفي القلب منها قيمة المواطنة، والسياق العربي والمصري تحديدا مثال لذلك، والذي تتداخل فيه الاعتبارات الحداثية، والتقليدية، مع العوامل الهيكلية الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما أوجد ضرورة تفكيك هذه العلاقة المشتبكة. وقد أنتجت هذه الاعتبارات جملة من الاختلالات فيما يتعلق بقيم المواطنة والحقوق والحريات المرتبطة بها، وفي مقدمتها الحقوق المدنية والسياسية على أكثر من مستوى بما فيها المستوى الإدراكي، والإجرائي. وهي الوضعية التي تزداد وطأتها سوءا في فئات اجتماعية أكثر من غيرها، فيما يمكن تسميته بالفئات الأقل حظا أو الأكثر تهميشا، وفي مقدمة هذه الفئات المرأة، والتي تعاني من تمييز فيما يتعلق بهذه الحقوق على أكثر من مستوى، أولها هو غياب التعامل والمعالجة للمواطنة كقيمة شاملة للجميع ومن ثم رؤية الاختلالات التي تعانى منها وضعية المرأة ضمن مجموع كلي اجتماعي وسياسي، وهو ما يجد سبيله للترجمة في التعامل التقليدي والبسيط من جانب السلطة مع المرأة، باعتبارها فئة مجتمعية منفصلة، كما يتضح في النصوص الدستورية والقانونية المحدودة من الأساس، مصحوب بتبني السلطة لتصورات تقليدية عن المرأة وأدوارها الاجتماعية، وموقعها في النظام السياسي، وهي الرؤية التي تشترك فيها القوى السياسية في مجملها، وهي رؤية تتداخل فيها التصورات التقليدية الدينية مع التقاليد المجتمعية البطريركية السائدة والتي لم تترك انعكاسها فقط على تعاطي السلطة والقوى السياسية معها، بل وعلى ممارسات المواطنين.
تتضح في ضوء حقيقة التركيب السكاني في مصر، والذي تشكل فيه النساء ما يُقارب الـ 49% من المجتمع،[1] وهي كتلة كبيرة تعاني من إشكاليات عدم عدالة ومساواة لحد كبير على أكثر من مستوى أحداها الحقوق المدنية والسياسية، حيث تواجه الكثيرات منهن حرمانا من ممارسة حقوق الترشح، والتصويت، على نحو نزيه وعادل، وحرمان من تولى الوظائف العامة. إلا أن وضعية المرأة تتعقد في ضوء المواجهات التي تلقاها على نحو واضح وصريح فيحال وجود مطالبات للحصول على حقوقها مقارنة بالرجال في هذا المجال، وهي وضعية تحرم المجتمع من إمكانية الاستفادة من كفاءات مهنية للنساء يمكن أن تُسهم بها في هذا الصدد، ومن جهة أخرى تكشف عن حالة من عدم التوازن، فالتغييرات الديموجرافية، ترتبط بها جملة من المتغيرات الاجتماعية، ممثلة في نمو نسب التعليم، والوعي لدي النساء، وما ينتجه ذلك من مزيد من التواجد في المجال العام والسياسي، وتعدد وتعدي للأدوار الاجتماعية للمرأة، والتي يستفيد منها عدد أكبر من المواطنين المرتبطين بها، دون أن يُرافق هذه المتغيرات استيعاب واستجابة لتمكين المرأة سياسيا، على نحو يعبر عن مطالبهن ومصالحهن، وفي جانب آخر لتوفير ضمانات أكثر للحماية والعدالة في السياق العام والسياسي، وهو بدوره ما ينتج إحساس ونوازع دائمة بوجود مظالم اجتماعية للنساء في المجتمع، وتعمد لإقصائهن.
وقد شهدت الكثير من التجارب الدولية إشكاليات مماثلة، كانت مواطنة وحقوق المرأة المدنية والسياسية فيها منقوصة، إلا أنها حالات شهدت نضالا كبيرا من جانب النساء والفئات الاجتماعية الداعمة لهن، وهو ما ترافق مع جملة من التطورات الاجتماعية، من أجل المطالبة بالمزيد من العدالة والمواطنة، وقد تعددت الآليات والاستراتيجيات التي اتبعتها الكثير من التجارب في معالجة وضعية الحقوق المدنية والسياسية المختلة للمرأة، فإلى جانب المعالجات التقليدية والبسيطة لهذه المعضلة كما تقترب منه الحالة المصرية من خلال وضع مواد دستورية تقر حقوق للمرأة، إلا أن هناك مقاربات دولية أكثر عمقا وجذرية لتمكين المرأة باعتبارها جزءا من فئات اجتماعية أخرى تعاني من مظالم وتهميش مماثل، وهو الإدراك الذي انعكس في المعالجة، والإجراءات المعتمدة على نحو جماعي للتعامل مع الفئات المهمشة، والأقل حظا عامة، وهنا تظهر بقوة أمثلة لتجارب دولية اعتمدت أنظمة مثل مفوضيات مكافحة التمييز لتعقب أي ممارسات في السياق العام تهدف لإقصاء الفئات الأكثر تهميشا للاعتبارات المرتبطة بالجنس، اللون، اللغة، الدين، الانتماء الطبقي، كما هو الحال في بريطانيا فيما تعرف باسم مفوضية المساواة وحقوق الإنسان.[2] وهناك آليات أخرى متبعة كما هو الحال فيما يعرف ببرامج التمييز الإيجابي (Affirmative action)، كما هو الحالة في السياق الاجتماعي الأمريكي، والذي يسعي بالأساس لتوفر فرص أكبر في مجال التعليم والوظائف للأمريكيين الأفارقة والمرأة.[3] إلا أن هذه الآليات لا تتعارض مع وجود آليات أخرى ممثلة في أطر دستورية تسمح بذلك، بما يعني أنها إما أن تكون أكثر تجريدا وإطلاقا للحقوق والحريات، مع ترك التنظيم التفصيلي والأدق للتشريعات والقوانين على النمط الذي يكشف عنه الدستور الأمريكي، أو من خلال معالجات دستورية وقانونية أخرى تكون أكثر تفصيلا وعمقا في تفكيك الهياكل والعلاقات الاجتماعية، تهدف لتحقيق توازن وعدالة أكبر لهذه الهياكل والعلاقات، والمرأة طرفا وعضوا في كثير من هذه الروابط والعلاقات الاجتماعية، كما تكشف عنه تجارب مثل الحالة البرازيلية.[4] وهناك تجارب أخرى تشريعية وقانونية تهدف لدمج المرأة ضمن هذه الهياكل كما هو الحال في تجربة قانون الأحزاب المغربي الصادر لعام 2011، والذي سعى في إطار معالجته لوضعية الفئات الأقل حظا كالمرأة والشباب، لإلزام الأحزاب قانونا بأن يكون هناك سقف لتواجد المرأة داخل الهياكل التنظيمية الداخلية للحزب، على المستوى الوطني والمحلي حدده القانون في مادته الـ 26 بـالثلث للنساء.[5]
الخبرات السابقة يمكن أنتقدم بعض المسارات الممكنة لعلاج أزمة الدمج السياسي للمرأة في السياق المصري على أكثر من مستوى، أحداها هو المسار الإدماجي الشامل، وهو المسار الذي يعني ضمنا، وعيا بمعالجة أزمات حقوق المرأة المدنية والسياسية باعتبارها جزء من كل مجتمعي. وهناك مسار آخر يفترض أن يتوازى ويترافق مع المسار السابق وهو اعتماد استراتيجية متعددة الأبعاد ومتعدية الآثار والنتائج، وتراعي الأبعاد الزمنية لعلاج هذه الإشكالية.
وهنا يمكن إيراد عدد من الآليات والاقتراحات التي من شأنها تفعيل هذه الاستراتيجيات وخدمة أهداف هذه الاستراتيجيات على النحو التالي:
1محمد العجاتي، “المواطنة وحقوق النساء في مصر بعد الثورات العربية”، منتدى البدائل العربي للدراسات، 2014، ص:14
2Equality and human rights commission- Britain, http://is.gd/4zozT1
3National conference of state legislatures, affirmative action overview, 2 July 2014, http://is.gd/nN2dpD
4أماني فهمي، “دساتير العالم، المجلد الثالث: اليابان، البرازيل”، المركز القومي للترجمة، 2009، ص 68- 71
5قانون تنظيمي رقم 29.11 يتعلق بالأحزاب السياسية – المغرب، الجريدة الرسمية، 24 أكتوبر 2011، http://is.gd/LWc0Sh