المرأة، واقعيا ورمزيا، في قلب الصراع السياسي في المجتمعات التي تتنازعها خطابات دينية، وشبه دينية من ناحية وخطابات معلمنة، وشبه معلمنة من ناحية أخرى على نحو يجعلها دائما في منطقة الصيد Catching Area، وهي ملعب الصراع على السلطة بين أطراف عديدة، يجري فيه توظيف فئات اجتماعية أو دينية أو مهنية.
تعامل الإسلام السياسي، على مدار عقود، مع قضايا المرأة في صراعه مع الحكم بشكل ذرائعي مباشر، استدعى خلاله معارك الهوية الثقافية (الحجاب نموذجا)، الجسد والعفة وليس الدور الاجتماعي، الفن والثقافة، وشكل مساحة من الضغط على الحكم دفعته لانتهاج مواقف محافظة أو خجولة تجاه قضايا المرأة[1]. وعندما أصبح الإسلام السياسي طرفا رئيسا في المنظومة السياسية عقب ثورة 25 يناير 2011، استخدم المرأة رقما في معادلة تجميل الصورة، ومغازلة الغرب الذي أراد التزاما شكليا من الإسلاميين مقابل دعمه له، وشكل الحضور الرمزي للمرأة أحد العوامل المهمة في استيفاء الشكل. حدث هذا في الوقت الذي تبنت فيه قوى سلفية مواقف مناهضة لحضور المرأة، ولجأت قوى إسلامية في مقدمتها الإخوان المسلمين للحديث عن “حقوق الأسرة” بدلا من “حقوق المرأة”، وربط المواطنة بالدين، واعتبار المرأة أما وأختا وزوجة، أكثر من كونها مواطنة[2]. وشنت الشعبوية الإسلامية هجوما حادا على بعض المكتسبات القانونية التي حدثت في العقد الأخير من نظام مبارك مثل قانون الخلع، وتعديلات قانون الطفل، وقانون الرؤية، الخ باعتبارها جزءا من نظام ينبغي التخلص من تركته. أما القوى شبه المعلمنة -ليبرالية ويسارية- فهي أقل حضورا على المستوى الشعبي، لكنها الأعلى صوتا في الإعلام، فاتجهت إلى الدفاع عن حقوق المرأة بوصفها أحد الأسلحة الرئيسة في المواجهة مع التيار الإسلامي، لكنها لم تفعل الكثير لتفعيل حضور المرأة سياسيا واجتماعيا على الصعيد العملي، وتمثل انتخابات عام 2011م نموذجا على ذلك.
السؤال المطروح: مع مرور أربعة سنوات على ثورة 25 يناير 2011، وما شهده المجتمع من حراك سياسي، هل تَشكل رأس مال ديني يدعم حقوق وحريات المرأة- أو مواطنة المرأة، أم لا يزال رأس المال الديني السائد “خشنا” و”ذكوريا” “مراوغا” في تناول مواطنة المرأة، يتحايل على الحراك السياسي والاجتماعي شكلا، لغة، بلا مضمون، أو فعالية مستدامة؟
يُقصد بالمواطنة Citizenship ما يتمتع به المواطنون من حقوق وواجبات نتاج حركتهم المستمرة والديناميكية، والتراكمية علي أرض الواقع[3].
المواطنة -مفهوما وممارسة- تعبير عن “المدينة المستقلة” و”الدولة القومية”، التي نشأت في ظل مجتمع سعى إلى تحقيق المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن الاختلاف في اللون أو النوع أو المعتقد الديني[4]. بقول آخر، المواطنة تجسيد لما نسميه “الحياة المدنية” بمعنى أن يصير الأفراد شركاء الجسد السياسي المختلفون، سياسيا وثقافيا واجتماعيا، متساوون في الحقوق والواجبات.
في المواطنة تمرد على العلاقات التي تجعل من الانسان أسيرا لارتباط أضيق، وأقل من سقف الهوية الوطنية الجامعة، وهو ما يُطلق عليه في علم الاجتماع الروابط التقليدية Primordial Ties التي ينتمي إليها الفرد على نحو غير اختياري –في الأغلب الأعم- يعيش في كنفها، ويتعلم خطابا يجعل التقاءه بالمتماثلين (المتشابهين في العرق، المعتقد، الثقافة، الانتماء الجهوي، الخ) هو أساس الهوية، دون أن تكون أمامه مساحة اختيارية عابرة Bridging لعلاقات بين مختلفين حول مصلحة مشتركة.
رأس المال الديني Religious Capital هو المؤسسات والخطابات والرموز الدينية في مجتمع، ويشكل مجالا لاستعارة المفاهيم ما بين العلوم: الاقتصاد يتبنى مفهوم “رأس المال”، والاجتماع يشمل مفهوم “الدين”، وما بين المفهومين ينشأ تزاوج يجعل من تجليات الدين موضوعا للدراسة الاجتماعية، ومساحة يمكن قياس التقدم والتراجع فيها. وكما أن الاستثمار في رأس المال “المادي” أو “النقدي” يجلب عائدا، فإن الاستثمار في “رأس المال الديني” يجلب عائدا، ولكن غايات الاستثمار تحدد العائد. هنا من المتوقع أن نتوصل إلى نتيجتين أساسيتين:
أولا: رأس مال ديني تقليدي يصب في مصلحة “الجماعة الدينية” بمعناه الواسع، ويقدم الخطابات، والممارسات المؤسسية التي تدعم الثقافة المحافظة السائدة.
ثانيا: رأس مال ديني تحديثي يصب في مصلحة “المواطنة” بمعناها الواسع، قانونيا وسياسيا واجتماعيا، ويقدم الخطابات، والهياكل المؤسسية، والرمزية الدينية التي تؤدي في النهاية إلى تغيير ثقافي.
الفارق بين المسارين ليس “حديا”، لكنه يشكل مساحة معتبرة من المراوغة التي تتلبس فيها المنتجات الدينية أردية مختلفة، تبدو حداثية حينا، وتقليدية أحيانا، تتلون في اللغة دون المضمون، وتمتص الصدمات بخطابات التسكين، ولكن ما تلبث أن تعود إلى مربعها التقليدي. وفي قضية المرأة، دورها وحقوقها، تتسع مساحة الرمادية والمراوغة.
رأس المال الديني، كما سبق القول، يشمل عدة مكونات: خطابات، مؤسسات، أدوار، ورموز.
(3-1) الخطابات الدينية، لم تطرأ عليها تحولات كبرى في تناولها لمواطنة المرأة بعد ثورة 25 يناير 2011، وظلت أسيرة المساحات التقليدية التي تقف حيالها. خطابات سكونية، لا تبرح مكانها، ترى في المرأة موضوعا للرعاية والإحسان والبر، وخطابات إنسانية، تذكر المرأة بفضل الأديان عليها في اخراجها من الاحتقار والعبودية إلى الكرامة والمساواة، وخطابات أخرى خجولة مراوغة تتحدث عن حقوق المرأة –إجمالا بما لا يثير خلافات- لكنها تمتنع عن الخوض في تفاصيل القضايا التي تنضح تفرقة ضد المرأة، وتحتاج إلى اشتباك جدي معها، أو تعتبر القصور ناجما عن الثقافة العامة التي انتجت فهما دينيا خاطئا[5]، ودعوة إلى العودة إلى المنابع الأولى للدين، وهي مغامرة محفوفة بالمخاطر في ضوء الصراع على امتلاك الماضي أو إلقاء القضية في متاحة الصراع بين المحافظة والحداثة ثقافيا[6].
وإذا كانت الخطابات الإسلامية تمتلك مساحات التقدم والانحسار في تناول قضايا المرأة، فإن الخطابات المسيحية تعيش في مخاوف الصراع التقليدي بين الإسلام السياسي، ومن خلفه الشعبوية والمحافظة، والاتجاهات شبه المعلمنة سوء في أروقة الدولة، أو القوى السياسية، أو الطبقات الاجتماعية، لا تريد أن تقدم خطابات أكثر تقدمية مما هو سائد بالمجتمع، تلتزم بالمحافظة ليس فقط تماشيا مع خطابات إسلامية تحمل ذات السمات، ولكن حفاظا على هويتها في مواجهة جرعات تحررية مكثفة تتدفق عليها من المسيحية الغربية، وهي حالة سماها البعض “اللاهوت الدفاعي”[7].
(3-2) تنوع التمثيل في تشكيل المؤسسات يحافظ على قدرتها على فهم أفضل للبيئة المحيطة، وتنفيذ الأدوار المنوطة بها. يٌطلق على ذلك Bureaucratic Representation أي التمثيل البيروقراطي، وتُعد البيروقراطية الدينية في مصر من أعظم وأعرق البيروقراطيات في العالم، لا تقل أهمية عن البيروقراطية المدنية والأمنية من حيث قدرتها على تحقيق الضبط الاجتماعي، وتماسك المجتمع.
المؤسسات الدينية لا تزال “ذكورية”، أي يتولى الرجال مسئولية إدارتها وسط حضور رمزي للمرأة سواء في الخبرة الإسلامية في بعض كليات جامعة الأزهر، وفي الخبرة المسيحية في بعض اللجان على مستوى الكنيسة، أو في مجالس إدارة الكنائس. تغييب الحضور النوعي للمرأة في بنية مؤسسات دينية يتخذ أحيانا من الجوانب العقيدية تبرير له، في حين أن المطالبة بحضور المرأة ليست في الجوانب العقدية أو أداء الشعائر، ولكن بالمعنى التعليمي، والثقافي، والاجتماعي.
(3-3) الممارسات الشعبوية، ويُقصد بها السلوك الذي يتخذ الدين عنوانا له حيال المرأة، ما بين خطابات سلفية تتنافس مع خطابات رسمية، وانماط ذهنية خاطئة بناء على تأويلات دينية، تشكل في ذاتها معوقات للمرأة ذاتها، وخطابات وتفاعلات نسوية/جندرية لا تصل لقطاعات عريضة من النساء أسرى الشعبوية الدينية، واللاتي ينظرن إلى هذه الخطابات والممارسات- بما تنطوي عليه من لغة، بوصفها اغتربا وعداء للواقع الذي يعيشونه.
مواطنة المرأة ليست قضية واحدة في ذاتها Single Issue حتى نضع لها هندسة قانونية وثقافية واجتماعية لحلها، لكنها قضية -بدلالاتها السوسيولوجية والسياسية والثقافية- تقع في قلب قضايا أخرى منها: الحداثة والتحول الاجتماعي Social Transformation، المشاركة السياسية Political Participation والعدالة الثقافية Cultural Justice، التنمية والديمقراطية Development and Democracy، وبالتالي فإن تمتع المرأة بحقوق المواطنة كاملة يرتهن، جزئيا، بالتقدم في هذه القضايا جميعا، ولكن العمل على بناء الدولة الديمقراطية التنموية الحديثة، التي تحقق تقدما على هذا المسار، ينبغي أن يرافقه رأس مال ديني داعم لحقوق المواطنة للمرأة من ناحية، ولا يعط حصانة دينية لخطابات المحافظة، والتقليدية، والتراجع الاجتماعي.
)4-1) توصيات لصانع القرار
(4-2) توصيات للمؤسسات الدينية
(4-3) توصيات للمنظمات المدنية، القوى النسائية
[1] Saud Joseph, Gender and Citizenship in Middle Eastern States, Middle East Report, January-March 1996, p.8.
[2] لمزيد من التفاصيل راجع:
Bryan, S. Turner, Religion and Modern Society, Citizenship, Secularization and the State, Cambridge: Cambridge University Press, 2011.
[3] سامح فوزي، المواطنة، القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2007.
[4] Bryan S, Tuner (ed.), Citizenship and Social Theory, London: SAGE Publications, 1993, p. 15.
[5] د. زينب رضوان، المرأة ومبدأ المساواة بين التشريع والتطبيق، القاهرة: المجلس القومي لحقوق الإنسان، 2009، ص 50-52.
[6] Saneya Saleh, Women in Islam, Their Role in Religious and Traditional Culture, International Journal of Sociology and Family, Vol.2, No.2, September 1972, p.2000.
[7] د. فيفيان فؤاد، الجندر في المسيحية، قراءة في خطاب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المعاصر، ورقة غير منشورة قدمت إلى الدورة الإقليمية التعليمية لدراسات النوع الاجتماعي، مؤسسة المرأة والذاكرة، يوليو 2011.