المؤسسات القضائية في دول الربيع العربي.. التحديات والعقبات

[اليمن-تونس-مصر]

محمود بيومي
اليمن ,تونس ,مصر
Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [420.02 KB]

فجرت ثورات الربيع العربي العديد من المشكلات المتراكمة على مر عقود من الحكم السلطوي، ووضعت المؤسسات العربية في مختلف المجالات أمام تحدي البقاء، أيضا طرحت سؤال الإصلاح لأول مرة بشكل حقيقي أمام الجماهير وجذري في طريقة العمل والأداء والأسلوب. ولعل هذا التحدي هو الأكثر صعوبة التي تواجهها مؤسسات الدولة كافة. فبقدر ما كان الربيع العربي ثورة على استبداد الدولة وتغول مؤسساتها الأمنية (مصر، تونس) والعسكرية (ليبيا، سوريا)، بقدر ما كانت ثورة لإصلاح الخلل في مؤسسات هذه الدولة وإحداث التوازن المطلوب بينها بحيث لا تطغى إحدى هذه المؤسسات على الأخرى بما يؤدي للاستبداد. كما أن بعض الدول كما اليمن لم تكن الثورة فيها في الحقيقة ثورة على استبداد الدولة، بقدر ما كانت ثورة لدفع الدولة للعب دورها الطبيعي. ولذا فإن الثورات العربية لم تكن إلا ثورات داعية لاستعادة الدولة، وإصلاح مؤسساتها واستعادة دورها في كافة المجالات لكن بتوازن حقيقي لا يسمح بالاستبداد. من هنا فإن المؤسسات أمام تحدي البقاء، فإما الاستجابة لمتطلبات التغيير وإجراء إصلاحات ضرورية ومطلوبة، وإما التعرض لخطر فقدان ثقة الجماهير ومن ثم الاستبدال أو الانهيار. وتنقسم الورقة في تناولها لمشكلات المؤسسات القضائية في الدول الثلاث إلى جزأين، يتناول الأول المشكلات المشتركة بين الدول الثلاث وطبيعتها، والثاني يتناول أبرز نقاط الاختلاف والتشابه بين الدول الثلاث.

تحديات المؤسسات القضائية:

تتعدد التحديات التي تواجه المؤسسة القضائية في البلدان الثلاث، ويمكن بشكل موجز إجمالي هذه التحديات في ثلاثة عناوين رئيسية:

  1. القاضي.
  2. المنظومة القضائية.
  3. البنية التحتية والنظام الإداري للقضاء.

أولا: القاضي

يعد القاضي الركن الأهم في العملية القضائية، لكنه يواجه جملة من التحديات التي تعترض عمله، ويمكن إجمال أبرزها في الآتي:

  1. التعيين: تغيب معايير واضحة يمكن الاعتماد عليها في تعيين القضاة في الدول الثلاث. فعملية التعيين في كل من مصر وتونس لا تشتمل على اختبارات شفوية-تحريرية تمثل الأساس في عملية الاختيار، بل يكون التعيين بناء على اختيارات لجنة قضائية بغض النظر عن كفاءة المتقدم ودرجاته العلمية وخبراته. وتبرز هذه المشكلة بشكل حاد في كل من مصر واليمن، بينما تتميز تونس بمناظرات (اختبارات) شفوية-تحريرية، وليس لجنة كما في مصر واليمن، يتحدد على أساسها نتيجة المتقدمين. على صعيد آخر فإن مصر واليمن تبرزان بقضية “التوارث” في الحقل القضائي للأقارب والعائلة، مما يتناقض مع مبدأ المساواة في الفرص بين المواطنين، وأحيانا ما يكون المتقدمون غير أكفاء، وفي بعض الأحيان فإنها تستخدم كترضية من النظام السياسي لفئات محددة كما يحدث مع ضباط الشرطة مثلا، لكنه في اليمن له وضعية خاصة، وهو طبيعة النظام القضائي تاريخيا، حيث تخصصت عائلات محددة في مهنة القضاء في إطار تقسيم قديم للمجتمع وموروث من العهد الإمامي. وتظهر قضية أخرى هي تعيين فئات بعينها في القضاء، كضباط الشرطة، وهي حالتي مصر واليمن. ففي مصر فإن العديد من ضباط الشرطة يدخلون في سلك القضاء عن طريق النيابة العامة أولا، ثم بعد ذلك للقضاء العادي، ووصل العديد منهم لمناصب رفيعة كالمستشار “محمود مكي” نائب رئيس الجمهورية الأسبق. أما في اليمن فإن العديد من ضباط الشرطة مسجلون على كشف رواتب وزارة العدل، ويكون النائب العام عادة من ضباط الشرطة السابقين. وتنفرد تونس بمشكلة أخرى هي أجور القضاة المنخفضة التي تدفع الكثيرين لعدم الانخراط في سلك القضاء.
  2. الكفاءة: تعد قضية الكفاءة محورية في المنظومة القضائية لكنها تواجه تحديين؛ الأول هو التأهيل العلمي للقضاة، حيث يحتاج القضاة إلى تأهيل في مجالاتهم، وهو ما لا توفره المنظومة القضائية بشكل منتظم وواسع. والتحدي الثاني هو عدم التخصص للقضاة، بما يؤدي لضعف التكوين العلمي، وغياب القدرات والمهارات التخصصية. فغالبا ما يتم نقل القضاة من فرع لآخر (كمحكمة الأحوال الشخصية إلى الجنايات أو العكس) وفق معيار الاحتياج أو التوزيع الجغرافي، وليس الكفاءة، مما يمنع تكوين كادر متخصص في مجال محدد.
  3. أعداد القضاة: تواجه مصر مشكلة ضخمة في أعداد القضاة قياسا لأعداد القضايا. فوفقا لبعض الإحصائيات فإن عدد القضايا يبلغ 20 مليون قضية، بينما يبلغ عدد القضاة ما يقارب من 9 آلاف قاضي، و4 آلاف عضو نيابة فقط. وتطرح هذه الأرقام الكبيرة إشكالية زيادة أعداد القضاة من جهة، والحق في التقاضي من جهة أخرى، وهل يجب تقييدها بضوابط محددة. وتواجه تونس واليمن ذات المشكلة بدرجة أقل، لكنهما تنفردان بقضية الإضراب المتكرر للقضاة لأسباب مختلفة –وهو أمر نادر الحدوث في مصر- مما يؤدي لزيادة تعطيل العملية القضائية. وتتميز اليمن بوجود المشاكل الأمنية التي تجعل عملية التقاضي بطيئة خاصة في المناطق النائية والمضطربة.

ثانيا: المنظومة القضائية

  • استقلال القضاء: وذلك كإحدى السلطات الثلاث. فقد هيمنت السلطة التنفيذية على القضائية في مدخلاتها ومخرجاتها. وتبرز هنا عدة قضايا أولها الاستقلال المالي للقضاء والقضاة، ففي مصر فإن السلطة التنفيذية تدخلت من خلال النقل والندب والإعارة للقضاة، وتحديد الميزانية للقضاء. لكن الدساتير الجديدة أدت لوضع جديد بالنسبة للقضاء المصري واليمني وهو الاستقلالية الزائدة للقضاء. فأصبح المجلس الأعلى للقضاء يعد موازنة السلطة القضائية ويرسلها رقما موحدا للبرلمان لإقرارها، بينما في تونس يوجد قدر أكبر من الرقابة المتبادلة في الموازنة وفق الدستور الجديد الذي تم إقراره. وثاني القضايا التداخل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، فقد كان رئيس الجمهورية في اليمن هو رئيس مجلس القضاء الأعلى في الوقت ذاته حتى عام 2006، بينما في مصر يتمتع وزير العدل بسلطة تعيين رؤساء المحاكم الابتدائية، رغم أنها من المفترض أن تكون من صلاحيات مجلس القضاء الأعلى. أما في تونس فإن مجلس القضاء الأعلى كان يترأسه رئيس الجمهورية منذ عم 1967، ولم يتعد دوره مجرد أداة في يد السلطة التنفيذية. وجاء مشروع الدستور الجديد ليؤكد على استقلالية واسعة للمجلس. لكن هذه الاستقلالية “المفترضة” واجهت اختبارا عند الحركة القضائية الأخيرة التي جوبهت بمعارضة واسعة نتيجة استمرار نفس الأسلوب القديم في تدخل السلطة التنفيذية في التعيين. وأنشأ الدستور الجديد مجلس قضاء أعلى جديد من حيث التكوين يتنظر تمتعه بسلطات واسعة. وثالث هذه القضايا هو التفتيش القضائي والذي كثيرا ما تدخلت فيه السلطة التنفيذية للحد من استقلالية القضاة والتحكم في قرارتهم، لكن الدساتير الجديدة في مصر وتونس ووثيقة الحوار الوطني أكدت على أنها حق حصري لمجلس القضاء الأعلى بعيدا عن وزارة العدل التي كانت مسئولة عن هذا الجهاز فيما سبق.
  • تسييس القضاء: وهي المعضلة الأبرز التي تواجه القضاء في مصر تحديدا بعد الثورة، حيث عملت القوى السياسية على نقل صراعتها للقضاء وتصديرها له بما أدخل القضاء في حلبة السياسة بشكل مباشر، وجعله طرفا أصيلا فيها. كما دخلت بعض الأطراف القضائية في العملية السياسية، مما يعرض الثقة العامة بالقضاء كسلطة للاهتزاز، وجعل أحكامه في نظر الرأي العام جزءا من الصراع السياسي وليس تعبيرا عن منظومة العدالة.
  • تداخل القوانين: وهي مشكلة تعاني منها كافة البلدان العربية، ففي مصر يوجد أكثر من 20 ألف تشريع مختلف ومتعدد بعضها قديم للغاية ويرجع لمرحلة الأحكام العرفية في الحرب العالمية الأولى كما استند قانون التظاهر الذي أصدرته الحكومة الانتقالية في نوفمبر 2013. ويعاني اليمن من ذات المشكلة بتداخل أنواع مختلفة ومتضاربة من القوانين والمرجعيات القانونية المصرية والعثمانية والإنجليزية وحتى القبلية والعرفية أيضا.
  • القضاء الموازي: أي وجود أنظمة قضائية غير تابعة للدولة تقوم بمهمتها بعيدا عن الأطر الرسمية للدولة. وهذه المشكلة تعاني منها اليمن بشكل كبير للغاية، إذ تغيب الدولة عن معظم المناطق خارج المدن والحواضر الرئيسية، التي أيضا تنحسر فيها سلطتها لحد كبير، بل إنه يمكن الاعتداد بأحكام القضاء القبلي أمام محاكم الاستئناف في بعض الحالات. أما في مصر وتونس فإن القضاء الموازي يوجد بشكل محدود في الأطراف لكنه لا يمثل تهديدا كبيرا لمنظومة العدالة.
  • انقسام الجهات القضائية: وهي المشكلة التي تعد مزمنة في مصر واليمن، وكلنها تعرضت لعملية اعادة تنظيم واسعة في الدستور التونسي الجديد. فالدستور المصري اعترف بـ6 جهات قضائية بالإضافة لمنظومة القضاء العادي، وفي اليمن فإن وثيقة الحوار الوطني رغم أنها نصت على قانون توحيد المنظومة القضائية، لكنها أتاحت إنشاء محاكم خاصة بالقضايا المتنوعة [الإرهاب- الاقتصاد.. الخ] بدون موافقة أو إقرار من مجلس النواب وهي محاكم استثنائية في طابعها.

ثالثا: البنية التحتية والنظام الإداري للقضاء

  • بطء عملية التقاضي: والتي تعد معضلة كبيرة إذ تتأخر القضايا لمدد قد تصل للسنوات. ويعود ذلك لبعض العوامل منها ضعف البنية التحتية للقضاء، وكثرة أعداد القضايا. وهي مشكلة تتشارك فيها الدول الثلاث ولكن بدرجة حادة في مصر.
  • الجهات المساعدة: تعاني البلدان الثلاث من تدهور حاد من حيث المحاكم والمباني وأوضاع الكتبة وموظفو السجل العقاري وغيرهم. ويعود ذلك لضعف الميزانية من جهة، والعدد الكبير من القضايا من جهة أخرى.
  • تنفيذ الأحكام القضائية: تعاني الدول الثلاث من مشكلة حقيقية في تنفيذ الأحكام لعدة أسباب يأتي على رأسها غياب الشرطة القضائية المنوط بها عموما تنفيذ القرارات القضائية وإيكال هذه المهمة لأجهزة الدولة، حتى أن ثلثي الأحكام في اليمن لا يتم تنفيذها. والمشكلة الثانية تتمثل في حالة وجود الدولة ذاتها طرفا مختصما مما يجعلها ترفض تنفيذ قرارات بحقها مع غياب إمكانية الإجبار. وأخيرا فإن المشكلة الأمنية المتفاقمة في البلدان الثلاث جراء تراجع قبضة الدولة عقب الثورات أدت لازدياد ومفاقمة المشكلة خاصة في المناطق الطرفية.

الخلاصة:

يتضح لنا من التحليل السابق أن هناك عدد من الأمور المشتركة بين تحديات المؤسسة القضائية في الدول الثلاث. ففيما يخص القضاة فإن مصر واليمن تشتركان بوجود مشكلة ضخمة في أسلوب التعيين الذي يتسم بالمحاباة وتوارث المهن القضائية وحصص بعض الفئات فيها، بينما يساهم نظام “المناظرات” في تونس في تحقيق المساواة في فرص التعيين بشكل أفضل. كما تشترك الدول الثلاث في ضعف الكفاءة للكادر القضائي نتيجة غياب التخصص من جهة، وضعف التأهيل العلمي من جهة أخرى. وتنفرد مصر بقضية أعداد القضاة القليلة التي تنوء بأعداد ضخمة وغير مسبوقة من القضايا والمتقاضين بما يهدد سير العملية القضائية برمتها ويوجب طرح حلول غير تقليدية على رأسها [تقييد حق التقاضي].

أما فيما يخص المنظومة القضائية نفسها، فإنها تواجه تحديات كبيرة يأتي على رأسها استقلال القضاء والذي شهد تحسنا واضحا منذ الثورات، حيث تقلص تدخل السلطة التنفيذية بشكل مباشر في القضاء من خلال توسيع دور مجلس القضاء الأعلى وصلاحياته في التفتيش القضائي وإقرار ميزانية القضاء. وفي هذا السياق فإن المؤسسة القضائية في مصر قد حصلت على استقلالية كبيرة بما يجعلها شبه منفصلة عن باقي مؤسسات الدولة الأخرى، وهو ما يهدد التوازن المفترض بين سلطات الدولة الثلاث. أما في تونس فإن الدستور الجديد أكد على التوزان بين السلطات الثلاث، بالإضافة لغياب دور سياسي للقضاء. ويبقى استقلال المؤسسة القضائية نظريا لحد كبير ليس بسبب ضعف الصلاحيات أو تدخل السلطة التنفيذية، بل بسبب غياب الدولة من الأساس، وضعف الأجهزة التنفيذية، وعجز القضاة في معظم الأحيان عن ممارسة أعمالهم لتردي الأوضاع الأمنية، بالإضافة لوجود قضاء موازي (التحكيم القبلي). وقد أدت ثورة 25 يناير إلى بروز ظاهرة [تسييس القضاء]، وهي وإن كانت ظاهرة ملازمة لمراحل الانتقال، لكنها في مصر أصبحت تهدد الثقة بالقضاء كمنظومة، وباستقلاليته كسلطة.

أما البنية التحتية للقضاء في البلدان الثلاث فهي تعاني بشكل حاد من انعدام الكفاءة وتدني الخدمات وسوء حالة الأبنية وانتشار ممارسات عليها علامات استفهام بين الجهات المساعدة. وهذه المشكلة تتنوع أسبابها فبينما في تونس تنبع من نقص الاعتمادات المالية، تأتي في مصر نتيجة الضغط الهائل لأعداد القضايا والمتقاضين، وفي اليمن نتيجة ضعف الموارد المالية للدولة عموما بالإضافة لتردي الوضع الأمني.

وإجمالا يمكن القول إن التحدي المشترك للدول الثلاث هو انخفاض الكفاءة المهنية وضعف البنية التحتية وعجز وفساد الجهات المساعدة وقلة أعداد القضاة، بالإضافة لبطء عملية التقاضي. وتنفرد مصر بمعضلة تسييس القضاء التي تهدد ثقة الرأي العام به و”الانفصالية”” المتزايدة للقضاء في مواجهة باقي السلطات الثلاث، بينما اليمن من غياب دور الدولة الأمر الذي لا يمكن القضاء من ممارسة دوره، وهو ما يفسح المجال لدور القضاء الموازي. وتشترك مصر واليمن في مشكلة التعيين في السلك القضائي وانتشار ظاهرة المحسوبية أحيانا.

Start typing and press Enter to search