سوريا: زخم التفاعلات العسكرية على خريطة متحركة
رابحة سيف علام
سوريا

Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [587.17 KB]

تربعت سوريا على عرش الإقليم منذ عقود كلاعب رئيسي في المنطقة يمسك أوراقا وملفات كثيرة تبدأ من فلسطين ولا تنتهي عند لبنان. وفي سبيل هذه السياسة الخارجية النشطة شهدت الجبهة الداخلية السورية هدوءا قسريا رعته الأجهزة الأمنية المتعددة التي صادرت الحياة العامة وراقبت كافة أوجه النشاط وجرفت أي محاولة للتغيير الداخلي أولا بأول. لكن منذ اندلاع الثورة السورية في مارس 2011 ثم تحولها سريعا إلى حرب أهلية تبدل الموقف، فصارت سوريا ساحة تتبارز فيها إرادات قوى دولية وإقليمية وتدور حولها مجموعة من الحروب الباردة والساخنة على حد سواء. يتواجه تحالفان رئيسيان على الأراضي السورية، الأول هو تحالف إيران ونظام الأسد وحزب الله والميليشيات الشيعية العراقية التي تخوض معركة بقاء الأسد برعاية روسية، والتحالف الثاني يتضمن الدول الغربية والسعودية وقطر وتركيا ويخوض معركة الإطاحة بالأسد. وإلى جانب هذه المعركة الرئيسية نشأت معارك فرعية خاضها الأكراد لتعزيز وجودهم واستقلالهم وخاضها تنظيم الدولة الإسلامية الذي تمدد عبر الحدود السورية والعراقية ليهدد المنطقة برمتها.

كانت الثورة السورية في جوهرها صرخة سلمية تنادي بالحرية في بلد حكمه العسكريون بالقمع منذ نحو ستة عقود، لكن طبيعة النظام الطائفية التي مكنت العلويين من احتكار مواقع القرار منذ مطلع السبعينيات جعلت للثورة بعدا طائفيا لا يمكن تجاهله. فمن جهة رأت فيها إيران تهديدا وجوديا لأهم حلفائها في المنطقة، والذي يمثل بوابة عبورها للعالم العربي، لا سيما حزب الله في لبنان. ولذا خاضت إيران حربا حقيقية في سوريا لتدعيم عرش الأسد وقتال خصومه بكل الوسائل وخاصة العسكرية. على الجانب الآخر اعتبرت السعودية ومن ورائها المعسكر الخليجي أن الثورة السورية بمثابة تهديد ضمني لنموذج حكمها ولكنها في المقابل قدمت الدعم لرموزها وقيادتها من باب التضامن السُني-السُني في مواجهة التحالف الشيعي العلوي المقابل. دعم إيران للأسد من جانب ودعم الخليج وتركيا لرموز المعارضة السورية من جانب آخر غيّر وجهة وطبيعة الثورة السورية من ثورة سلمية تنادي بالحرية وتحلم ببناء نظام ديمقراطي الى حرب أهلية بالوكالة تستعر على وقع الاستقطاب الطائفي وتعكس التنافس الإقليمي بين السعودية وإيران.

التحالف الأول: معركة البقاء

منذ اليوم الأول للثورة التزمت إيران بدعم الأسد وأيدته في خيار مواجهة المظاهرات الناشئة. وعلى عكس سيناريو الربيع العربي في مصر وتونس، كان سيناريو سحق التظاهرات الذي نفذته إيران إبان الانتخابات الرئاسية عام 2009 هو النموذج الذي يسعى الأسد إلى تطبيقه. فقد أدرك أن تقديم أي تنازل سيؤدي إلى إضعاف موقفه وقد تكر مسبحة التنازلات فيخسر المعركة سريعا. ولذا التزم الأسد نهجا مركبا يقضي أولا بقمع التظاهرات بمنتهى الحسم، وثانيا بالدفع بإصلاحات واهية ليماطل بها دبلوماسيا ضد محاولات التدخل الخارجي في الأزمة، وثالثا باختراق الجسم الفضفاض للمعارضة لإحباط محاولتها للتوحد لتكون بديلا له[1]. وفي سبيل تنفيذ النموذج الإيراني في سحق التظاهرات الشعبية، ابتعثت طهران بعثة خاصة إلى دمشق لتقديم الدعم الفني والمشورة الأمنية لنظام الأسد. ورغم أن اعتراف قائد الحرس الثوري بوجود قوات إيرانية بسوريا قد جاء متأخرا بعد اندلاع الثورة بحوالي عام ونصف، فإن المرجح أن الدعم الإيراني قد بدأ منذ اليوم الأول ثم تعمق مع تطور الأحداث. ففي البداية لم يتجاوز الأمر التنسيق الأمني وتوجيه النصح للأمن السوري حول تتبع النشطاء الإعلاميين الذين تولوا بث صور التظاهرات عبر الإنترنت لتوسيع نطاق تأثيرها. ولكن مع تواصل الحراك الشعبي، توسع الأسد في قمع القرى والمدن الثائرة فازداد احتياجه للدعم العسكري الإيراني كالذخيرة والسلاح انتهاء بقيادة العمليات والعناصر التي تنفذها على الأرض. فبعثة إيران لمؤازرة الأسد تضم قيادات عليا من الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس من الضباط الناشطين في العمليات العسكرية الخارجية وخاصة في العراق عقب الغزو الأمريكي ولبنان بعد حرب 2006، وقيادات من الشرطة وأخرى مخابراتية على دراية بالتتبع والمراقبة عبر الانترنت والاتصالات الحديثة[2]. وإذ يصعب تحديد عدد القوات الإيرانية المشاركة في سوريا بدقة فقد تم توثيق مقتل 60 ضابطا إيرانيا رفيع المستوي في سوريا حتى منتصف 2014[3].

في الفترة بين مارس ويونيه 2011 كانت مهمة القمع تقع بالأساس على عاتق الأمن يسانده مسلحين من الطائفة العلوية “الشبيحة” حيث تولوا تعقب النشطاء وعقاب المناطق التي تخرج بتظاهرات مطالبة بالحرية. وحينئذ اقتصرت مهمة الجيش على محاصرة المناطق المراد عقابها فيما ينفذ الأمن مهمات القتل والاعتقال داخل هذه المناطق. وكان ذلك لتفادي احتكاك الجيش بالتظاهرات السلمية خشية أن يتعاطف معها خاصة أنه مكون في أغلبه من المسلمين السنة على أساس الخدمة العسكرية الإلزامية. أما القوى الأمنية فتتكون بالأساس من العلويين ولذا يسهل أن تنفذ أوامر القمع دون اعتراض أو انشقاق. وحتى عندما دخل الجيش في المناطق الثائرة كدرعا في إبريل 2011، كانت تلك قوات الفرقة الرابعة التي تتكون من نخبة المقاتلين العلويين بالجيش ويتولى قيادتها شقيق الرئيس ماهر الأسد. لكن مع اتساع نطاق التظاهرات في عدة محافظات سورية تعدت درعا وحمص، اضطر النظام إلى الدفع بالجيش جنبا إلى جنب مع القوى الأمنية لتنفيذ حملات قمع على التوازي في أكثر من محافظة بعد أن كان ينفذ هذه العمليات على التوالي في محافظة تلو الأخرى. هذا التغير في الاستراتيجية التي أملته الحاجة أدى إلى تسارع وتيرة الانشقاقات في الجيش عندما وجد الضباط والجنود أنها مطالبون بإطلاق النار على تظاهرات سلمية عكس الرواية الرسمية التي تروّج لوجود مسلحين إرهابيين.

اتساع نطاق التظاهرات أدى بالأسد إلى تغيير تكتيك حملات القمع حفاظا على تماسك جيش، وبالتالي فقد تم تحييد ألوية بالكامل من المشاركة في القمع. إذ يُرجح أن الأسد قد اعتمد على ثلث جيشه فقط في حملات قمع الثوار[4]، بينما احتفظ بثلثي الجيش في المعسكرات في عزلة شبه تامة كي لا ينفرط عقده. كما اعتمد سياسة ولاء حاسمة سمحت له بالحفاظ على الجيش من الانشقاق الهيكلي، فالضباط والجنود كانوا ينشقون فرادى ولكن الفرق والألوية بقت متماسكة ولم تنشق بكامل عتادها وجنودها وتراتبيتها. ولكن هذه السياسة أثرت بكل تأكيد على كفاءة قمعه للتظاهرات فكان الحل البديل أن يتم استقدام جنود أجانب من الطائفة الشيعية كي يضمن ولائهم لسياسته القمعية. قادت إيران عبر بعثة مستشاريها إلى دمشق مهمة تنسيق الجهود العسكرية بالمزاوجة بين ضباط إيرانيين وسوريين وبين جنود من حزب الله اللبناني وتحالف عسكري شيعي يضم عصائب أهل الحق وجيش المهدي وحزب الله العراقي قبل أن يعلن رسميا في مطلع 2013 تحت اسم لواء أبي الفضل العباس[5]. النقطة الفاصلة في تحول طبيعة عمليات القمع التي يقودها نظام الأسد كان تفجير خلية الأزمة في يوليو 2012 حيث أطاح الانفجار بقيادات عسكرية بارزة[6] كان يعتمد عليها الأسد بشكل حاسم في إدارة معركته ومنها آصف شوكت وعماد راجحة وحسن تركماني، ويعتقد أن ماهر الأسد قد أصيب إصابة بالغة أخرجته مؤقتا من المعادلة قبل أن يعاود نشاطه في القيادة الفرقة الرابعة فيما بعد. ومن هنا تغيرت استراتيجية القمع مرة أخرى من القمع عبر القوات البرية التي تحاصر وتنفذ اعتقالات ومذابح بالمناطق الثائرة إلى استخدام المدفعية الثقيلة بشكل متصاعد وصولا إلى التوسع في استخدام الطيران الحربي في القصف الجوي الذي بدأ بصواريخ ثم انتهى بالبراميل المتفجرة الملقاة من الطائرات فوق المناطق الثائرة. فالمعارضة المسلحة نجحت منذ صيف 2012 في السيطرة على مناطق واسعة من ريف المحافظات الكبرى كحمص وحلب وإدلب بما قطع خطوط الإمداد العسكرية بين النظام في دمشق وجنوده المنتشرين في البلاد. ولذا صار الإمداد يتم جوا عبر المطارات العسكرية التي تنتشر على مشارف معظم المدن السورية الكبرى كحلب وحماة وإدلب وغيرها. هذا الواقع الجديد رفع من كلفة الدعم العسكري الذي تقدمه إيران وحلفاؤها للأسد مما حدا بهم إلى تنسيق الجهود بشكل أكبر من أجل دعم الأسد بقوات برية تفتح طرق الإمداد المقطوعة وتغنيه عن الطيران الحربي توفيرا للنفقات. تزامن مع ذلك أيضا تنامي القدرات العسكرية للكتائب المعارضة وتسلحها بأسلحة متطورة سمحت لها بإسقاط ما لا يقل عن 144 طائرة للأسد خلال النصف الثاني من 2012 منها 41 طائرة في شهر ديسمبر فقط[7].

رعت إيران تكوين ما يعرف بجيش الدفاع الشعبي من العلويين بقوام يتراوح بين 100 و150 ألف مقاتل، تمولهم إيران ويتولى حزب الله تدريبهم. إلى جانب ذلك تم التوسع في استقدام المقاتلين الشيعة من العراق وأفغانستان وباكستان إلى جانب الإيرانيين واللبنانيين لدعم القوات البرية والقوات الخاصة العاملة في سوريا مقابل أجر شهري لكل منهم قد يتراوح ما بين 500 وألف دولار بحسب الكفاءة والخبرة والمهام القتالية[8]. وكان هدف إيران من ذلك إعداد وتدريب قوات شيعية موالية لها وخبيرة بالوضع الجغرافي السوري ليكون لها موطأ قدم دائم ضمن الفوضى العسكرية السورية فتساند بها الأسد ليبقى أو تضمن بها مصالحها في سوريا إذا سقط. ذلك بالإضافة الى تكوين لواء أبي الفضل العباس من الشيعة العراقيين واللبنانيين والسوريين تحت ذريعة حماية المراقد الشيعية في سوريا ولكن سُجل تدخله العسكري في عدة مناطق بعيدة جغرافيا عن هذه المراقد. وتتعدد الألوية والميليشيات الشيعية الأجنبية العاملة في سورية ومنها مثلا كتائب حزب الله العراقي وفيلق الوعد الصادق وسرية عمار بن ياسر ولواء ذو الفقار وغيرها. حيث يُعتقد أن هذه الألوية تتوزع على أغلب الجبهات الساخنة فيما يتم يتوزع جيش الدفاع الوطني في المناطق الهادئة نسبيا أو يضطلع بحراسة المناطق ذات الأغلبية العلوية.

وبصفة عامة، كانت إيران وحزب الله ينفون باستمرار وجود جنود لهم في سوريا منذ بدء الثورة لكن مع تتابع الأحداث وخاصة أسر الكتائب المعارضة 48 جنديا إيرانيا في أغسطس 2012 صار تورط إيران وحزب الله أكثر وضوحا. بدوره اعترف حسن نصر الله في مايو 2013 بانخراطه في القتال في سوريا تحت ذريعة حماية النظام الذي يناصر المقاومة[9]. وهو الإعلان الذي كلفه الكثير سواء على مستوى شعبيته في العالم العربي أو في السياسة الداخلية في لبنان. وكانت قد تكاثرت الدلائل على مشاركة حزب الله في القتال في سوريا عبر توالي جنازات جنوده في مختلف البلدات اللبنانية دون أن يفصح عن مكان مقتلهم ويكتفي بالتصريح بأنهم قد قُتلوا أثناء أدائهم “لواجبهم الجهادي”. إذ ترجح التقديرات المخابراتية أن حزب الله قد شارك بقوات تتراوح بين 2500 و4000 مقاتل في معركة القصير وحدها في مايو 2013[10]. بينما قد يبلغ حجم مشاركته الإجمالية في سوريا حوالي 10 آلاف مقاتل فيما سقط له في هذه المعارك حوالي 1500 مقاتلا[11]. وقد بدا ان الهدف من معارك القصير ويبرود والقلمون كان فتح ممر أرضي آمن بين دمشق والساحل السوري وحمص والحدود اللبنانية ليسهل إمداد المعارك بريا وبحريا مما يخفض من كلفة دعم الأسد على المدى الطويل. فضلا عن ضمان بقاء هذه الطرق مفتوحة باعتبارها الطرق الأساسية لإمداد حزب الله نفسه بالسلاح والعتاد الإيراني عبر دمشق. وقد برر حزب الله معركته تلك بأنه يخوض حربا وقائية لصالح لبنان ضد الإرهاب التكفيري قبل أن يتسلل اليه من سوريا، لكن في حقيقة الأمر فإن تورط حزب الله في سوريا قد استجلب الإرهاب إلى لبنان. حيث تسارعت التفجيرات في معاقل حزب الله في الضاحية الجنوبية وبعلبك والهرمل التي نفذتها مجموعات تكفيرية متشددة ومجموعات أخرى أكثر اعتدالا تابعة للجيش الحر. وصولا إلى اندلاع معارك عرسال بين جبهة النصرة من جهة والجيش اللبناني من جهة أخرى ترتب عليها أسر عدد من العسكريين اللبنانيين لدى كل من جبهة النصرة وداعش دون أن تتمكن الدولة اللبنانية من استعادتهم حتى اليوم.

انتصار تحالف إيران-الأسد-حزب الله في القُصير كان أول نصر استراتيجي يحققه الأسد منذ تفجير خلية الأزمة وعكس نجاح وسائل الدفاع الجديدة التي استحدثتها إيران لدعم موقف الأسد العسكري. الأمر الذي فتح شهية هذا التحالف لتنفيذ عمليات مماثلة بحمص وحلب وريفهما وريف دمشق لاستعادة بعضا من الأرض التي كان قد فقدها وفتح طرق الإمداد التي كان قد خسرها، إلى جانب بناء وتأمين طرق بديلة لاستخدامها حصرا للأغراض العسكرية. وبالتالي خاض تحالف النظام معارك طاحنة مع الكتائب المعارضة منذ صيف 2013 مكنته من إحكام سيطرته على مناطقه والتوسع على حساب مناطق المعارضة، لكنه بقي غير قادر على استعادتها كافة مكتفيا ببسط سيطرته على نحو 40% فقط من مساحة سوريا تتوزع بين دمشق والساحل السوري وبعض أجزاء من درعا والسويداء وحمص وحلب فضلا عن حماة.

التحالف الثاني: التنافس على قيادة معركة التغيير

عندما بدأت الثورة تبنت دول الخليج بقيادة السعودية خطابا استيعابيا يزاوج بين الدبلوماسية والاعتراف بحق الشعب السوري. وكان في ذلك موقف متقدم من جانب دول تعرف سياستها عادة بالتقليدية ودعم الوضع القائم، لكن ربما لأن المسألة تمس أغلبية سُنية تُحكم من جانب أقلية علوية متحالفة مع إيران كان للأمر اعتبارات أخرى. فضلا عن ذلك، رأت دول الخليج في الثورة السورية موضوعا للحشد الشعبي في مجتمعاتها يلفت الأنظار عن مشكلاتها الداخلية ويوفر لقادتها ملعبا خارجيا يكسبهم شعبية داخل دولهم. امتدت الجهود الدبلوماسية الخليجية المباشرة مع الأسد حتى أغسطس 2011 حينما ألقى الملك السعودي خطابا يشجب فيه إراقة دماء الأبرياء ويحث القيادة السورية على المضى في إصلاحات شاملة حكيمة أو مواجهة فوضى حقيقية[12]. وهو الخطاب الذي اعتبر رسالة تهديد وإشارة جادة على تغير الموقف السعودي إذ تزامن مع سحب السفير السعودي للتشاور، قبل أن تتبعه بقية الدول الخليجية بسحب سفرائها من دمشق.

بالمثل اتبعت تركيا سياسة مشابهة إذ بعثت بوزير خارجيتها إلى دمشق في زيارات متتالية للتوصل لاتفاق يوقف البطش الأمني ضد التظاهرات، غير أن الأسد قد استهلك المهلة تلو الأخرى دون أن يتعاطى جديا مع جهود الوساطة الإقليمية. فما كان من تركيا إلا أن فكت تحالفها القوي مع دمشق والذي امتد زهاء السنوات العشرة منذ بداية حكم العدالة والتنمية التركي. فهذا الأخير لم يكن ليتحمل تهديد شعبيته داخليا بفعل تحالفه مع نظام يقتل المسلمين السنة بدم بارد، خاصة بالنظر إلى التداخل الكبير بين الشعبين السوري والتركي ولجوء الفارين من جحيم البطش إلى جنوب تركيا.

استنفاد الوسائل الدبلوماسية من الجانب العربي والتركي تكلل بإقرار عقوبات اقتصادية على نظام الأسد في خريف 2011، وصولا إلى تقديم الدعم للمعارضة السورية التي بدأت تتكون بشِق الأنفس في إطار موحد هو المجلس الوطني السوري ثم لاحقا الائتلاف السوري لقوى المعارضة. تزامن ذلك مع ارسال بعثة لتقصي الحقائق تحت مظلة عربية ثم ابتعاث كوفي عنان ومن بعده الأخضر الإبراهيمي بمظلة عربية أممية لبحث تنفيذ هدنة توقف القتال وتسهل ممرات إنسانية لفك الحصار عن المناطق الثائرة. وبفضل حماية الفيتو الروسي والصيني فشل مجلس الأمن في استصدار قرارات دولية عدة تمهد للتدخل لحماية المدنيين على غرار النموذج الليبي.

بصفة عامة كانت التطورات على الأرض أسبق من الجهود الدبلوماسية المتعثرة، فالانشقاق المتوالي عن الجيش السوري أوجد نواة للجيش السوري الحر الذي حاز دعما عسكريا ولوجستيا من الأتراك والقطريين. وهنا بدأت استراتيجية التغيير التي قادتها تركيا وقطر تتناقض مع أهداف السياسة السعودية آنذاك. فالسعودية لم تكن تستهدف الإطاحة الفورية بالأسد بل أرادت حلا تدريجيا يتجاوب مع بعض مطالب المعارضة ولا ينفذها كلها، أولا كي لا توّطن لمكاسب الثورات في المنطقة، وثانيا لأنها تريد استدراج إيران إلى حرب استنزاف طويلة الأجل على الأراضي السورية ليقينها بأن إيران لن تترك حليفها في دمشق. ولذا دفعت قطر وتركيا باتجاه تنظيم المعارضة السورية في كيانات سياسية وعسكرية لتقدم بديلا قادرا على استلام الحكم فور سقوط الأسد، بينما رأت السعودية أن إطالة أمد الحرب يحقق المزيد من المكاسب في حربها ضد إيران. ولذا بدا أن قطر وتركيا يحاولان الدفع باتجاه الحسم بينما السعودية تماطل وتوسع من دائرة المعارضة بدعم وتمويل جماعات جديدة تزيد من صعوبة توحيد المعارضة.

التنافس السعودي من جانب والتركي-القطري من جانب آخر عطل مسار التحالف الأوسع الذي يحاول تنحية الأسد. فتنسيق الدعم صار مستحيلا، بل أصبح الدعم في ذاته وسيلة لشرذمة المعارضة وتفتيتها بدلا من توحيدها. وهو ما انطبق على المعارضة السياسية والعسكرية على حد سواء، ففي ظل تزايد البطش الذي اعتمده الأسد ضد المناطق الثائرة وضعف إمداد السلاح لكتائب الجيش الحر، تكونت كتائب مستقلة بمرجعية إسلامية اعتمدت جمع التبرعات من شبكات إسلامية غير رسمية خاصة في دول الخليج، الأمر الذي خلق تنافسا حقيقيا بين الجيش الحر وتشكيلاته العسكرية المدعومة من قطر وتركيا من جانب، والكتائب الإسلامية المستقلة التي تتمول وتتسلح بشكل لا مركزي من مجموعة من الممولين الأهليين خارج وداخل سوريا. وبين هذا وذاك تقاطر الآلاف من المتطوعين العرب والأجانب للالتحاق بالقتال ضد الأسد، وفيما ظل قوام الجيش الحر والكتائب الإسلامية المستقلة سوريا مئة بالمئة، التحق هؤلاء الجهاديين الأجانب بجبهة النصرة على الأرضية المتشددة لفكر القاعدة.

كانت العلاقة بين الجيش الحر والكتائب الإسلامية مدعاة للشد والجذب، فالجيش الحر يريد فرض سيطرته وقيادته على الكتائب الإسلامية دون أن يمدها بالسلاح لأنه ببساطة لا يملكه، فالدول الغربية قد خشيت أن تدعمه بالسلاح فيتسرب منه الى المتشددين[13]. فيما حاولت هذه الكتائب تحقيق انتصارات في الشمال السوري بمحاذاة الحدود التركية لكي تضمن طريقا آمنا لشراء وتهريب السلاح بعيدا عن قيادة الجيش الحر. وبجانب خلافات كثيرة بين الطرفين نشأت معضلة العلاقة مع جبهة النصرة، حيث رفض الجيش الحر التعاطي مع النصرة لكونه شريك لدول الجوار وخاصة تركيا ومن ورائها الغرب، بينما رأت الكتائب الإسلامية التنسيق مع النصرة في عمليات مشتركة ضد النظام خاصة أن النصرة كانت ذات خبرة عالية في القتال وحازت عبر الدولة الإسلامية بالعراق -آنذاك- عتادا وسلاحا لم تكن الكتائب الأخرى تملكه. غير أن الصراع الذي اندلع بين الدولة الإسلامية بالعراق والشام وجبهة النصرة في ربيع 2013 قد دفع بالكتائب الإسلامية المستقلة إلى محاولة التمايز عن فرعييّ القاعدة المتنازعين. وقد اشتد الجدل بين قادة الكتائب الإسلامية حول هذا الأمر حتى حسمته داعش باستهدافها المتكرر لقادة وجنود الجيش الحر والكتائب الإسلامية على حد سواء مما دفع إلى نوع من التقارب بين الجانبين في مقابل تباعد فيما بينهما وبين النصرة وعدائهما الشديد لداعش.

في خريف 2013 خاب رهان تحالف التغيير على تدخل عسكري خارجي يحسم المعركة، عندما عدلت واشنطن عن توجيه ضربة عقابية للأسد لاستخدامه الأسلحة الكيماوية واستبدلتها بصفقة برعاية روسية للتخلص من ترسانة سوريا الكيماوية. حيث عكست هذه الصفقة توجها أمريكيا للتفاهم مع الروس بعد أن كانت الأزمة السورية محلا لتصاعد حرب باردة جديدة بينهما. ولكنها بينت في الوقت ذاته أن اهتمام الغرب بأزمة سوريا لم يكن بغرض حلها بقدر ما هو محاولة لتحجيم تداعياتها كي لا تصيب بلدان أخرى في المنطقة.

وقد تزامن ذلك مع تبلور تحالفات جديدة بين الكتائب الإسلامية لتصبح على أساس العداء الصريح لكل من النظام وداعش على حد سواء. وذلك في محاولة لتكوين كيان عسكري متجانس بعيدا عن فوضى المجموعات المتشددة كي يتلقى السلاح والدعم من المعسكر الغربي برعاية سعودية. إذ تكون في خريف 2013 جيش الإسلام ثم الجبهة الإسلامية تلاها تكوين حركة حزم التابعة للجيش الحر وجيش المجاهدين ثم فيلق الشام في يناير ومارس 2014 على التوالي. شكلت هذه التحالفات الجديدة إعادة هيكلة المعارضة المسلحة من أجل تصحيح بوصلة الثورة ضد تمدد داعش على حساب الأراضي المحررة. ولذا شرعت هذه الكتائب في حرب ضروس ضد داعش منذ مطلع 2014 سقط فيها نحو 7 آلاف مقاتل من الجانبين[14]. ثم تم الإعلان عن الجبهة الشامية في ديسمبر 2014 لتضم كتائب الجبهة الإسلامية وجيش المجاهدين والتي نشطت بشكل ملحوظ جبهة القتال مع قوات الأسد في إدلب وحلب[15].

ترافقت هذه الجهود أو ربما تحفزت بفعل تزايد المخاوف الدولية من هجرة الجهاديين من عدة دول غربية وخليجية للقتال في سوريا ضمن صفوف القاعدة بفرعييها المتنازعين وما يترتب على ذلك من مخاطر أمنية لدى عودتهم إلى بلادهم. وهو ما حدا بالسعودية في فبراير 2014 لإصدار قانون يجرم سفر مواطنيها للقتال في سوريا في محاولة منها للتبرؤ من تجنيد الجهاديين في سوريا، بعد انتشار تقارير تحمل المخابرات السعودية مسئولية تشجيع المقاتلين المتشددين لمواجهة النفوذ الإيراني في سوريا[16]. هذا التطور في السياسة السعودية تمثل بالأساس بنقل إدارة الملف السوري من رئيس المخابرات المقال بندر بن سلطان إلى وزير الداخلية محمد بن نايف الذي سبق وخاض معركة ناجحة ضد القاعدة بالمملكة وهو ما يعكس حرص السعودية على تصويب سياستها السابقة. منذ مطلع 2014 هدأ التنافس السعودي-القطري-التركي، ربما بفعل التحضير لتنحي أمير قطر لصالح ولي عهده الأمير تميم في صيف 2014 وانشغال إردوغان بمعاركه السياسية الداخلية على وقع الانتخابات. مما أفسح المجال للسعودية في قيادة تحالف التغيير لكن هذه المرة ضد كل من النظام السوري وداعش وبتنسيق أكبر مع الإدارة الأمريكية.

معارك خارج التحالفات: داعش والأكراد

على هامش المعركة الرئيسية بين الأسد وخصومه، كانت سوريا ساحة لمعارك أخرى خاضها أصحابها لإثبات وجودهم بالاستفادة من الفراغ الذي خلقه تراجع سلطة الأسد. المعركة الأولى خاضها الإسلاميون المتشددون وفق فكر القاعدة، حيث تقاطروا إلى سوريا كساحة جديدة للقتال بدلا من أفغانستان والعراق. الهدف الظاهر كان قتال الطاغية الذي ينتهك الحرمات ولكن من وراء ذلك حمل المتشددون أجندة أخرى هي إقامة خلافة إسلامية وتنفيذ الفهم المتشدد للشريعة. نشأت جبهة النصرة في مطلع 2013 وخاضت معارك هامة بالتعاون مع الكتائب الإسلامية الأخرى ضد معاقل الأسد. لكن الفارق الأساسي بين النصرة والكتائب الإسلامية هو غلبة المكون الأجنبي على الأولى وغلبة المكون السوري على الثانية. فضلا عن أن الكتائب الإسلامية كانت تعتبر نفسها وسيلة للإطاحة بالأسد دون أن تفرض رؤية معينة على مرحلة ما بعد الأسد، بينما كان للنصرة رؤية واضحة لإقامة خلافة على أرض سوريا. تعاون الكتائب الإسلامية عسكريا مع جبهة النصرة كان طلبا للخبرة العسكرية والسلاح الذي يتوفر بسهولة للنصرة، ولكن هذا التعاون كان محل خلاف بين الكتائب الإسلامية من جانب وبين الجيش الحر والأكراد من جانب آخر. ورغم ذلك فإن هذا التحالف العسكري لم يهتز إلا في مايو 2014 عندما أعلنت الكتائب الإسلامية ميثاق الشرف الثوري الذي يعطي الأولوية للسوريين في تقرير مصير بلدهم ويعتبر عودة للمبادئ الثورية في مقابل الفكرة الإسلامية التي طغت على مسار العمل المسلح منذ مطلع 2013[17]. ولكن هذا التوجه لم يتم تأكيده لاحقا، مع تصاعد العمليات المشتركة بين جبهة النصرة وبين الكتائب الإسلامية التي انصهرت فيما بينها تحت مسمى جديد وهو الجبهة الشامية في ديسمبر 2014 [18].

حتى ربيع 2013 كانت النصرة ظهير لتنظيم الدولة الإسلامية بالعراق، لكن إعلان أبو بكر البغدادي عن تبعية النصرة له تحت مسمى جديد هو الدولة الإسلامية بالعراق والشام -داعش- كان مناسبة لاندلاع الصراع بين الطرفين. إذ رفضت النصرة هذه التبعية وتمسكت باستقلالها في الإطار السوري وموالاة تنظيم القاعدة العالمي بقيادة الظواهري. وهو ما فتح المجال لتنفيذ داعش لعمليات انتقامية بحق عناصر جبهة النصرة والجيش الحر والكتائب الإسلامية على حد سواء، بينما ندر استهدافها لعناصر نظام الأسد. وفي مقابل القصف الجوي اليومي على معاقل المعارضة المسلحة في الشمال السوري، لم يكن الأسد يستهدف المساحات الشاسعة التي سيطرت عليها داعش في شرق سوريا إلا في صيف 2014 عندما توسعت داعش ولاقت اهتماما إعلاميا كبيرا. وهو ما أثار تساؤلات عديدة حول طبيعة التفاهم الضمني بين داعش والأسد والذي بموجبه سمح الأسد بتمدد داعش كي يستفيد من ذلك لاحقا عبر تأكيد روايته حول الإرهابيين المسلحين وتأكيد شرعيته الدولية كقائد يكافح الإرهاب[19].

وفيما حافظت الكتائب الإسلامية على علاقات جيدة مع الأهالي في مناطق سيطرتها ونسقت مع المجالس المدنية للإدارة المحلية، كانت داعش تحارب هذه المجالس وتسعى لإخضاعها وصنع هياكل بديلة بالقوة. غضب الأهالي على داعش جاء بالأساس بسبب فرض الفهم المتشدد للشريعة على مناطق سيطرتها وعدائها المستمر للمجالس المحلية التي تحاول أن توفر خدمات للأهالي المحاصرين وهو ما أدى إلى تصاعد حراك شعبي مواز ضد داعش خاصة في الرقة منذ ربيع 2013. فحال تحرير الرقة بالكامل من جانب الكتائب الإسلامية وجبهة النصرة في مارس 2013، تفرغت الكتائب الإسلامية لاستكمال تحرير أطراف الرقة، فيما تفرغت النصرة لمباشرة الحكم حيث جعلت مقرها بمبنى المحافظة. وعندما أُعلنت داعش في أبريل 2013 سارعت النصرة بالرقة بالانضمام اليها، وفرضت الضرائب على المتاجر والنقاب على النساء وفصلت الذكور عن الإناث في المعاهد التعليمية. لكن الأهم أنها نفذت حملات اعتقال وتعذيب واغتيال بحق النشطاء المدنيين في المدينة حتى أفرغتها من الزخم الثوري المدني[20]. وبالتزامن مع انشغال الكتائب الإسلامية في قتال جيوب قوات الأسد كانت داعش تمهد لحكمها بمناطق تمتد من شرق سوريا إلى داخل العمق العراقي مستفيدة من سيطرتها على أراضٍ شاسعة تستثمر مواردها وتقيم عليها معسكرات تدريب للجهاديين الجدد الملتحقين بها. وفي خريف 2013 كانت داعش قد وطدت سلطتها في الرقة وعقدت تحالف مع القوى القبلية المحلية التي كانت توالي نظام الأسد سابقا وقد أثمر هذا التحالف استقرار الأمر لداعش في الرقة وبعض دير الزور والأجزاء الشرقية من حلب وحمص. فولاء هذه العشائر لداعش ليس عقائديا بل مصلحيا بحتا رغبة في التمكين وخوفا من عواقب مواجهتها. فهذه العشائر تتحالف دوما مع الأقوي حيث كانت فيما سبق الحليف المحلي للنظام وتولت قمع التظاهرات نيابة عنه في [21]2011، لكن اليوم داعش هي الأقوى ولذا بدا هذا التحالف الجديد منطقيا. ولكن يُستثنى من ذلك عشيرة الشعيطات التي يبلغ تعدادها حوالي 150 ألفا يتركزون بالأساس بدير الزور، حيث دخلت في صراع مفتوح مع داعش بسبب التنازع على إيرادات نحو 21 من آبار النفط والغاز التي خسرتها لصالح داعش[22]. وهنا عمدت داعش إلى التنكيل بأبناء الشعيطات حيث أعدمت نحو 950 منهم خلال أشهر قليلة من سيطرتها على المنطقة بعد صدور فتوى من شرعيي داعش بقتل كل ذكر من الشعيطات يزيد عمره عن 14 سنة[23].

هذا الصراع الفرعي الذي قادته داعش شهد تحولا هاما عندما قررت الكتائب الإسلامية والجيش الحر في مطلع 2014 شن هجمات ضد داعش لطردها من حمص وحلب وإدلب وريف دمشق، إذ مهدت لهذه المعارك بعقد تحالفات مع القوى المحلية التي سأمت من تجاوزات داعش في مناطقها مما أدى إلى تراجع داعش إلى العمق العراقي[24]. لكن الانتصار الذي حققته داعش بالعراق على حساب جيش حكومة المالكي عاد ومكنها من ترتيب أوراقها وشن هجوم مضاد إلى داخل سوريا استعادت به الأرض التي فقدتها من قبل. ثم أدى إعلان الخلافة الإسلامية في صيف 2014 الى انضواء عدد مهم من مقاتلي جبهة النصرة ضمن صفوف داعش، كما انشقت عدة ألوية متشددة عن الكتائب الإسلامية والتحقت بداعش أيضا. الصعود الكبير لداعش في العراق وسوريا في نفس الوقت وتحركها السريع ضمن مساحات شاسعة وتزايد مواردها المالية سواء من جباية الضرائب أو السيطرة على بعض البنوك العراقية والآبار النفطية، جعل منها خطرا محققا يستدعي اصطفافا إقليميا ودوليا لمواجهته. ورغم توافر الإرادة الدولية لمواجهة داعش، كان لا بد من توفير الأدوات العملية على الأرض لدحرها. وهنا برزت أهمية الأكراد في كل من سوريا والعراق كقوة عسكرية منظمة لوقف الزحف الداعشي.

منذ اليوم الأول للثورة انقسم الأكراد السوريون فريقين، فريق يرى في الثورة ترجمة لمطالبهم بالحرية وفريق آخر يرى أن الثورة خارج أجندتهم القومية ومن ثم لابد من عقد تسوية منفصلة مع النظام تضمن حقوقهم المنفردة. على هذا الأساس التحق الفريق الأول بركب المعارضة السورية وكوّن المجلس الوطني الكردي الذي انضم للمجلس الوطني ثم الائتلاف السوري. ورغم هذا فإن تحالف المجلس الوطني السوري مع الكتلة الرئيسية للمعارضة لم يكن سلسا نظرا لهيمنة الأتراك على خيارات المجلس الوطني ومن بعده الائتلاف مما همش الحضور الكردي بالمعارضة السورية. أما الفريق الثاني فهو برلمان غرب كردستان المكوّن في معظمه من حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو أصلا مقرب من حزب العمال الكردستاني في تركيا الذي قد وجد ملاذا آمنا لدى النظام السوري حيث استخدمه هذا الأخير ضد تركيا عندما استعرت الخصومة بين البلدين خلال التسعينيات. ولذا اختار الاتحاد الديمقراطي أن يعقد تفاهما ضمنيا مع نظام الأسد يتولى بموجبه إدارة المناطق الكردية بالحسكة مقابل بعض التعاون الأمني كقمع التظاهرات المناوئة للنظام واعتقال وتسليم نشطاء الثورة. وفي الواقع، فقد اعتبر هذا الخيار مكسبا جوهريا للأكراد حيث انحسر نفوذ النظام من مناطقهم وحل محله مسلحي وحدات حماية الشعب. مما مكنهم في نوفمبر 2013 من إعلان اعتزامهم تشكيل إدارة مدنية تتولى الحكم في مناطقهم لحين إجراء انتخابات تفرز حكومة لإقليم غرب كردستان[25]. وهو ما رفضه المجلس الوطني الكردي معتبرا أن حل القضية الكردية يجب أن يكون ضمن ترتيبات المعارضة السورية ككل وليس بإعلان إدارة منفردة من جانب واحد. غير أن التنافس السياسي الكردي-الكردي ليس له أدنى انعكاس على الأرض، إذ يسيطر حزب الاتحاد الوطني عسكريا على مناطق الأكراد في سوريا دون منافسة تذكر. باستثناء بعض المعارك مع مجموعات معارضة مسلحة تحظى على الأرجح بدعم تركي لإفساد استقلال الأكراد في سوريا.

ولكن الصعود الأخير لداعش من شرق حلب إلى الموصل جدد أهمية الكيان العسكري الكردي سواء البشمرجة في العراق أو قوات حماية الشعب في سوريا، وخلط أوراق التحالفات الكردية، إذ كان يُعول عليهم كقوة عسكرية يمكنها أن توقف الزحف الداعشي إذا ما تلقت الدعم اللازم. وهنا نجد أن التحالف الدولي الذي كان متشككا في مصير الدعم العسكري الذي يمكن أن يقدمه للمعارضة السورية، لم يجد غضاضة في تقديمه لمسلحي الأكراد من أجل المساهمة في دحر قوات داعش على مشارف كوباني/عين العرب. حيث حظيت قوات حماية الشعب الكردية بحوالي 28 شحنة من المساعدات العسكرية التي أُلقيت جوا لدعم جهودها في معارك كوباني[26]. وهنا يمكن التساؤل عن مصير تحالف مسلحي الأكراد وحزب الاتحاد الديمقراطي مع النظام السوري الذي مكنهم من المضي في ممارسة الإدارة الذاتية في مناطقهم مقابل وقف تمدد الثورة بها. وهل سيؤدي التعاون بين مسلحي الأكراد والغرب خاصة الأمريكيين إلى تغيير موقف مسلحي حماية الشعب من التحالف مع الأسد إلى التحاف مع خصومه؟ إذ سُجلت مشاركة كتيبة من الجيش الحر -ألوية فجر الحرية- جنبا إلى جنب مع وحدات حماية الشعب في صد الهجوم على كوباني[27]، في مقابل نفي وحدات الحماية تلقيها أي دعم عسكري من النظام السوري كما ادعى أحد وزراء حكومة الأسد في بداية المعارك[28]. ثم تكللت هذه المؤشرات باشتباك بين وحدات حماية الشعب وقوات النظام في بعض مناطق مدينة الحسكة للمرة الأولى منذ بداية الثورة. الأمر الذي قد يشي بأن تحولا ما على وشك أن يحدث في تموضع مسلحي الأكراد إزاء الثورة السورية، مما قد يؤدي إلى تغيير ميزان القوى بشكل ملحوظ لغير صالح النظام. بينما يدفع البعض بأن هذه المؤشرات ليست كافية للجزم بتحول تحالف مسلحي الأكراد، وأن هذا الاشتباك ليس إلا مناورة من النظام نفسه لتقديم حلفائه -مسلحي الأكراد- باعتبارهم من المعارضة عشية المشاركة في مؤتمر المعارضة بموسكو[29].

ولذا تبقى الأسئلة مطروحة بانتظار المزيد من المؤشرات العملية لتأكيدها أو لدحضها: فهل سيقبل الاتحاد الديمقراطي الكردي التحالف العسكري الوثيق مع قوى دولية وإقليمية تعمل على إسقاط نظام الأسد لوقف تقدم داعش؟ أم سيخشى على مكتسباته التي أثمرها تحالفه مع النظام السوري فيخسر دوره كوكيل محلي عن القوى الدولية في الحرب على إرهاب في سوريا؟ وكيف ستكون العلاقة بين مسلحي الأكراد ونواة الجيش السوري ذي المرجعية المعتدلة التي تعمل الولايات المتحدة على تدريبه وإعداده خلال السنوات القادمة بالتنسيق مع السعوديين والأتراك؟ وكيف سيتعامل الأكراد مع مسلحين سوريين متحالفين مع الأتراك وإن كان هذا التحالف تحت مظلة أمريكية؟.

الهوامش:

[1] بسام برابندي، ترجمة ماندي فهمي، “قواعد لعبة الأسد السياسية: رؤية من الداخل”، موقع مصر العربية، 5 أغسطس 2014، http://is.gd/OFTxY8

[2] Will Fulton, Joseph Holliday, & Sam Wyer, “Iranian Strategy in Syria”, Institute for the Study of War & AEI’s critical threats project, May 2013, pp. 8-11

[3] Nabih Bulos, “Commander’s death in Syria points to Iranian role in civil war”, Los Angeles Times, 1-6-2014

http://www.latimes.com/world/middleeast/la-fg-syria-iran-commander-20140601-story.html

[4] Joseph Holliday, “The Assad Regime from counterinsurgency to civil war”, Institute for the study of war, March 2013, pp. 12-15, www.understandingwar.org

[5] “لواء أبو الفضل العباس.. عنوان طائفي في المأساة السورية”، الجزيرة. نت، 19 نوفمبر 2013، http://is.gd/VZSq3v

[6] “مقتل كبار القادة الأمنيين في سوريا في تفجير انتحاري”، بي بي سي العربية، 18 يوليو 2012، http://is.gd/kgnWqA

[7] تقرير إخباري لقناة العربية، 1 يناير 2013، http://is.gd/5tDKIS

[8] “الجبهة الشامية تأسر عنصرين من قوات الأسد بالبريج”، موقع وكالة الشهبا برس، 7 يناير 2015، http://is.gd/65Qn6u

[9] “حزب الله يعترف لأول مرة بالقتال ضد الثوار في سوريا”، العربية. نت، 29 مايو 2013، http://is.gd/OKmuhA

[10] Linda Lavender, ” Blowback: The unintended Consequences of Hezbollah’s Role in Syria”, the Civil Military Fusion Center CFC- Comprehensive information on Complex Crises, September 2013, pp. 2-5

[11] “قوات حزب الله تهلك بعيدا عن الأنظار”، ميدل أيست أونلاين، 30 مايو 2014، http://is.gd/Y0NmIe

[12] “الملك عبد الله في خطاب تاريخي: مستقبل سوريا بين خيارين إما الحكمة أو الفوضى”، موقع العربية. نت، 8 أغسطس 2011، http://is.gd/HeYD6L

[13] Bassma Kodmani & Felix Legrand, “Empowering the Democratic Resistance in Syria”, ARI, September 2013

[14] رابحة سيف علام، “المسلحون في سوريا: من قتال الأسد إلى القتال البيني”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 23 يوليو 2014، http://is.gd/h43PUV

[15] “الجبهة الإسلامية: اندماج تجريبي لأكبر الفصائل العسكرية في سوريا”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 26 نوفمبر 2013، http://is.gd/e95YGe

[16] محمد بلوط، “السعودية وقطر تستبدلان خطة بندر السورية”، السفير، 25 أبريل 2014، http://is.gd/eZ235O

[17] عبد الله سليمان علي، “فصائل توقع ميثاق الشرف الثوري وبروز الخلافات بين النصرة والإسلامية”، السفير، 19 مايو 2014،  http://is.gd/nEbgqM

[18] “الجبهة الإسلامية: اندماج تجريبي لأكبر الفصائل العسكرية في سوريا”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 26 نوفمبر 2013،  http://is.gd/e95YGe

[19] فيليكس لغراند، “استراتيجية داعش الاستعمارية في سوريا”، مبادرة الإصلاح العربي، يوليو 2014، ص 4-7

[20] “How did Raqqa fall to the Islamic State of Iraq and Syria”, in Syria Untold, 8-1-2014, http://is.gd/XppuUY

[21] فيليكس لغراند، “استراتيجية داعش الاستعمارية في سوريا”، مرجع سابق، ص 4-7

[22] زياد غصن، “داعش والشعيطات: صراع على النفط والحياة”، الأخبار اللبنانية، 3 سبتمبر 2014، http://is.gd/dBtEmy

[23] الشرق الأوسط، 15 أغسطس 2014، http://is.gd/hL5DL8

[24] فيليكس لغراند، “استراتيجية داعش الاستعمارية في سوريا”، مرجع سابق، ص 3-4

[25] “أكراد سوريا يشكلون إدارة انتقالية”، الجزيرة نت، 13 نوفمبر 2013، http://is.gd/LdlFUX

[26] “الولايات المتحدة تعلن استعدادها لتكرار تسليح كوباني”، موقع وكالة نبض الشمال، 23 أكتوبر 2014، http://is.gd/ydoWUG

[27] “الجيش الحر يدحر مقاتلي داعش من شرق كوباني”، سكاي نيوز العربية، 19 أكتوبر 2014، http://is.gd/BRLJkY

[28] “YPG تنفي تلقي الدعم من النظام السوري”، موقع وكالة نبض الشمال، 23 أكتوبر 2014، http://is.gd/VRgRvy

[29] “قوات الأسد تنقلب على حلفائها بالحسكة، الجزيرة.نت، 19 يناير 2015، http://is.gd/x7PUkG

Start typing and press Enter to search