شهدت مصر منذ سقوط نظام مبارك حالة من الاستقطاب التي قسمت المجتمع إلى عدة طوائف: علمانيون وإسلاميون، ثوريون ومحافظون، مسلمون ومسيحيون. فعلى الرغم من حالة التناغم والوحدة داخل ميدان التحرير بين القوى السياسية والمجتمعية المختلفة، فبمجرد تخلى مبارك عن السلطة وبداية المرحلة الانتقالية حتى بدأت الانقسامات السياسية والاجتماعية في الظهور. فشهد استفتاء مارس 2011 استقطابا بين ما سمي بالمعسكر الإسلامي والمعسكر المدني، كما شهدت نفس الفترة عودة إلى التوتر الطائفي بين المسلمين والمسيحيين، كما ظهر في المرحلة التي تلت الانتخابات البرلمانية خلافا بين ما سمى بمعسكر الثورة الذي أصر على أن الشرعية ما زالت للميدان في مقابل الذين رأوا أن الثورة أنهت مهمتها في فبراير 2011 وبات على الجميع الاحتكام إلى آليات العمل السياسي. استمرت حالة الاستقطاب خلال عهد محمد مرسي وإن تمحورت حول الموقف من جماعة الإخوان المسلمين ما بين المؤيدين والمعارضين لها، وهو ما تجلى في المظاهرات الحاشدة التي خرجت في الـ30 من يونيه ضد حكم محمد مرسي. وبينما أمل البعض أن يحمل تدخل الجيش في الثالث من يوليو نهاية لحالة الاستقطاب والانقسام داخل المجتمع المصري، إلا أن حالة الاستقطاب استمرت. حيث شهدت الشهور التي تلت عزل مرسي حالة من الاستقطاب المتعدد الأوجه: فتعمق الاستقطاب بين جماعة الإخوان والقطاعات المتعاطفة معها في مقابل التيارات السياسية التي شاركت في خارطة الطريق التي طرحتها القوات المسلحة. كما بدأ قطاعا من الشباب في الانصراف عن الشأن العام والسياسة بعدما يأس من إمكانية القيام بأي تغيير في أسلوب عمل مؤسسات الدولة، وبخاصة المؤسسة الأمنية. وعلى جانب أخر، تفاقمت في بعض المناطق أحداث العنف الطائفي ضد الأقباط بعد أن اعتبرتهم بعض القطاعات المتعاطفة مع جماعة الإخوان مشاركين في عملية عزله. وعلى الرغم من أن خارطة الطريق نصت على أنها تأتي بهدف “بناء مجتمع مصري قوى ومتماسك لا يقصى أحدا من أبنائه وتياراته وينهى حالة الصراع والانقسام”. كما جاء ضمن بنودها أن “تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية من شخصيات تتمتع بمصداقية وقبول لدى جميع النخب الوطنية وتمثل مختلف التوجهات”. إلا أن حالة الانقسام لم تنته، بل وتجاوز الأمر الاستقطاب السياسي إلى الاستقطاب المجتمعي الذي ازدادت حدته خلال الشهور الأخيرة.
تسعى هذه الورقة إلى تحليل حالة الاستقطاب الحالي في المجتمع المصري، أسبابها، وكيفية الخروج منها لبناء حد أدنى من التوافق ليس فقط بين أطراف اللعبة السياسية ولكن أيضا بين طوائف المجتمع نفسه. وتنقسم الورقة إلى قسمين: الأول يسعى إلى تحليل أسباب فشل تجارب الحوار خلال المرحلة الانتقالية والثاني يسعى الى طرح مجموعة من الأفكار لبناء حد أدنى من التوافق.
على الرغم من الأهمية التي يوليها الباحثون والإعلاميون والسياسيون لكلمة الحوار، فإنها باتت تستخدم للإشارة لعدة معاني طبقا للسياق. فيراها البعض مرادفا للمفاوضات ما بين طرفين أو أكثر من أجل الوصول إلى اتفاق، ويراها آخرون إشارة إلى المحادثات غير الرسمية بهدف التحضير للمفاوضات، ويشير إليها فريق ثالث إلى الحوار باعتباره عملية تهدف إلى بناء الثقة بهدف احتواء الأزمات قبل أن تتفاقم. فتستخدم كلمة “حوار” كمرادف لكلمات: محادثة، نقاش، جدل، مفاوضات، على الرغم من اختلاف ما تحمله كل كلمة منها من معاني.
تتبنى هذه الورقة تعريفا للحوار يتجاوز مجرد المفاوضات الرسمية أو غير الرسمية التي تهدف إلى احتواء أزمة بعينها، بل تنظر هذه الورقة للحوار باعتباره عملية مستمرة تهدف إلى بناء الثقة بين مجموعة من الأطراف. وطبقا لهذا المعنى فان هدف الحوار هو: أن يسمع كل طرف من الأخر، أن يتعلم كل طرف من الأخر، وأخيرا أن يدفع الحوار المشاركين فيه لتغير معتقداتهم وصورهم الذهنية عن الأخر. فطبقا لهذا الاقتراب، فان هدف الحوار لا يتمحور بالضرورة حول الوصول إلى اتفاق ولكن إلى فهم أفضل لأسباب المشكلة.
طبقا لشتينر بيرن، صاحب الباع الطويل في مبادرات الحوار بين الطوائف المختلفة في البلقان، فان الحوار يدفع المشاركين فيه للتساؤل حول تصوراتهم عن ما يعتبروه حقيقة، ويعطيهم فرصة للتجربة والاكتشاف. ويؤكد بيرن استنادا إلى تجربته في البلقان على عدة نقاط أساسية تتعلق بطبيعة الحوار
-الحوار عملية مستمرة، وليست مشروعا يسعى إلى تحقيق هدف بعينه خلال فترة زمنية بعينها.
-فارق كبير بين الحوار الذي يسعى لفهم الأخر والجدل من أجل إقناع الأخر بوجهة نظرك.
-لا يعد الحوار في ذاته حلا للأزمات، لكنه إطار يسمح بفهم الأسباب الكامنة وراء تلك الأزمات.
ويظهر هذا الجدول الفرق مابين الحوار والجدل طبقا لشتينر بيرن.
الحوار | الجدل |
يقوم على التعاون: طرفان أو أكثر يعملون من أجل الوصول لهدف مشترك. | يقوم على معارضة طرفين كل منهما للأخر. ويسعى كل طرف لإثبات خطأ الطرف الأخر. |
الهدف: إيجاد أرضية مشتركة. | الهدف: الفوز. |
يستمع كل طرف للأخر بهدف: الفهم، وإيجاد المعنى وإيجاد الاتفاق. | يستمع كل طرف للأخر بهدف: إيجاد خطأ يسمع له بتفنيد حجته. |
تتسع خلاله، بل وقد تتغير وجهة نظر كل طرف. | يؤكد وجهة نظر كل طرف. |
يعرض المسلمات لإعادة النظر فيها. | يدافع عن المسلمات كحقائق. |
يؤدي إلى مراجعة كل طرف لمواقفه. | يؤدي إلى نقد مواقف الطرف الأخر. |
يفتح الطريق أمام تبني حلا جديدا أفضل من الحلول التي بدأ بها الحوار. | يدافع كل طرف عن حله باعتباره أفضل الحلول دون النظر إلى أية حلول أخرى. |
شهدت المرحلة الانتقالية عدة مبادرات للحوار بين الأطراف السياسية والمجتمعية المختلفة، بعضها تبنتها السلطة السياسية سواء المجلس العسكري، أو الرئيس السابق محمد مرسي، وأخرى بمبادرات من خارج السلطة السياسية. تشكل تجربة الحوار الوطني أحد أهم تلك المبادرات وأكثرها جدية. ظهرت فكرة الحوار الوطني في أعقاب الإطاحة بحسني مبارك بهدف إيجاد إطار يسمح للمواطنين من كافة فئات المجتمع بوضع تصوراتهم عن شكل الدولة المصرية التي يريدونها بهدف بناء توافق وطني حول شكل العقد الاجتماعي الجديد بين الحاكم والمحكوم. وسعى الحوار إلى إيجاد توافق وطني بشأن كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وخاصة قضايا التحول الديمقراطي والحكم الرشيد والمواطنة والمصالحة السياسية والعدالة الاجتماعية. وبعد عدة جلسات تحضيرية، بدأت جلسات الحوار الوطني بحضور عصام شرف رئيس الوزراء ائنذاك وأكثر من 500 شخصية من ممثلي كافية التيارات والتوجهات السياسية والأحزاب القائمة والتي ما زالت تحت التأسيس وشباب الثورة، بالإضافة إلى مشاركة عدد من الشخصيات العامة، وتولى إدارة الحوار الدكتور عبد العزيز حجازي. وانقسم الحوار إلى خمسة محاور: الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتنمية البشرية والاجتماعية، والتنمية الاقتصادية والمالية، والثقافة وحوار الأديان، والإعلام، وعلاقة مصر بالخارج بعد ثورة 25 يناير.
إلا أن تلك التجربة على ما حملته من إيجابيات تتعلق بالأساس بإتاحة مجال للنقاش بين الأطراف السياسية المختلفة حول قضايا التحول الديمقراطي، فقد انتهت بالفشل. إذا لم تستطع الأطراف السياسية والمجتمعية المختلفة ترجمة ما توصلت إليه إلى برامج وسياسات قابلة للتطبيق. ويمكن إرجاع فشل تجربة الحوار الوطني إلى أربعة أسباب رئيسية:
بالإضافة إلى تجربة الحوار الوطني، عرفت المرحلة الانتقالية عدة مبادرات للحوار بين الأطراف السياسية المختلفة إلا أنها انتهت كلها إلى الفشل نتيجة لذات الأسباب.
إلا أنه تجدر الإشارة في ذات الوقت أن على مستوى أخر، شهدت التفاعلات بين قطاعات من الشباب، الذي انخرط في العمل العام بعد الثورة، حالة من الحوار غير المقصود، حيث سمحت الاجتماعات والفعاليات المختلفة لهؤلاء الشباب بالتعرف على أفكار ومعتقدات المجموعات الأخرى. إلا انه في ظل غياب إطار يسمح لهذا الحوار بالاستمرار، وما شهدته المرحلة الانتقالية من أزمات سياسية طاحنة ساهمت في تأجيج الاستقطاب، فان هؤلاء الشباب لم يستطيعوا ترجمة هذه التفاعلات الإيجابية ما بينهم إلى مشروع سياسي، واقتصرت نتائجها على مشاعر من الود والاحترام بين هؤلاء المجموعات، دون أن تؤدي إلى عمل مشترك.
إن تأمل تجارب الحوار خلال المرحلة الانتقالية يكشف أن أيا منها لم يكن تعبيرا عن حوار بالمعنى الذي تتبناه هذه الورقة، بل كانت اقرب إلى نقاش أو جدل سعى فيه كل طرف إلى إقناع الأخر، وفي بعض الأحيان الضغط عليه، للقبول أفكاره وتصوراته. فصارت تلك التجارب “للحوار” هي نفسها أحد مصادر التوتر والاستقطاب مع اتهام كل طرف خلالها الأطراف الآخرين بمحاولة الضغط أو الالتفاف لتمرير وجهة نظره.
لا شك أن حالة الاستقطاب الحالية لن تنته بين ليلة وضحاها، وقد تحتاج إلى سنوات قبل أن تستطيع مصر إدارة خلافاتها السياسية والدينية دون أن تصل إلى حدود الاستقطاب الحاد كما هو الحال الآن. إلا أن حزمة من الإجراءات القصيرة والطويلة الأمد ستساهم في تهدئة وطأة هذا الاستقطاب والمساهمة في إيجاد توافق وطني حول المبادئ الأساسية التي يجب ان تحكم العلاقة بين الدولة ومواطنيها وبين المواطنين بعضهم بعضا. تأتي على قائمة تلك الإجراءات ضرورة البدء في حوار بين طوائف المجتمع المختلفة بهدف تهدئة حدة التوتر ومعرفة أسباب هذا الاستقطاب المجتمعي للعمل على علاجها في المستقبل. إلا أن تلك المبادرة يجب أن تستفيد من الأخطاء التي وقعت فيها مبادرات الحوار السابقة خلال المرحلة الانتقالية ومنها:
1-حوار وليس نقاش: يجب آن تسعى تلك المبادرة إلى إقامة حوار بالمعنى الذي صاغته هذه الورقة وليس نقاش كما جرى في مصر خلال المرحلة الانتقالية.
2-اعتماد اللامركزية: يجب على هذه التجربة أن لا تقتصر فقط على العاصمة، وأن تمتد إلى كافة المحافظات المصرية.
3-عدم اقتصارها على النخبة: بنفس المنطق السابق فلا يجب أن يقتصر الحوار على النخبة، سواء السياسية أو الثقافية، ويجب أن تمتد إلى قطاعات أخرى داخل المجتمع المصري. وبخاصة القطاعات التي تملك قدرا من التأثير في تشكيل قيم وتوجهات المصريين كالمعلمين ورجال الدين. فيجب أن تكون ملكية الحوار للأطراف الفاعلة على الأرض وليس للسياسيين كما جرى خلال المرحلة الانتقالية.
4- برنامج تثقيفي: يجب أن يتضمن برنامج الحوار محاضرات حول التيارات السياسية المختلفة، والمجتمع المصري ومكوناته، وأهم التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه مصر. وذلك بهدف رفع وعي المشاركين في الحوار بطبيعة الدولة والمجتمع المصري وأهم التحديات التي تواجههم.
5-عدم الالتزام بسقف زمني محدد: تسعى المبادرة إلى إيجاد إطار يسمح لطوائف المجتمع المصري بالحوار بهدف التعرف على المشكلات والعمل على صياغة أفكار للحلول المحتملة.
6-من الأفكار للتغيير المؤسسي: تعمل مجموعة من الباحثين على صياغة ما يطرحه النقاش من أفكار في شكل سياسات واضحة بهدف الضغط على السلطة السياسية من أجل تبنيها.