مصر
كتبت هذه الورقة كنتاج نقاشات أجريت بثلاث ورش عمل تم تنظيمها لممثلين عن 7 حركات شبابية تحت عنوان: الحركات الشبابية بعد ثورة 25 يناير 2011 (قضايا مجتمعية).
نظمت الورشة الأولى بالفيوم على مدار يومي 25 و26 أكتوبر، وتم عمل ندوة ختامية للورشة بالقاهرة بمقر منتدى البدائل العربي للدراسات يوم 27 أكتوبر، ونظمت الثانية على مدار يومي 8 و9 نوفمبر بالإسكندرية، وتم عمل ندوة ختامية بمقر المعهد السويدي بالإسكندرية يوم 10 نوفمبر، والثالثة بالفيوم على مدار يومي 5 و6 ديسمبر 2013.
جاءت انتفاضة قطاع واسع من المجتمع المصري في 25 يناير 2011 لتعبر عن رفضها للقواعد التي حكمت المجالين السياسي والاقتصادي خلال فترة حكم مبارك في محاولة لطرح أفكار بديلة لتلك القواعد. وتجلت تلك الأفكار في شعار ميادين التحرير خلال الـ18 يوما الأولى للثورة: “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” والتي ربطت الحقوق السياسية بالحقوق الاقتصادية. وما أن استطاعت الشرارة الأولى للثورة أن تربك نظام مبارك خلال الأيام الأولى للانتفاضة الشعبية حتى انضمت للقطاعات الثائرة أطيافا أخرى لم تحمل بالضرورة نفس الأفكار عن ضرورة تغيير قواعد اللعبة السياسية خاصة فيما يتعلق بالقواعد الحاكمة لعلاقة الدولة بالمجتمع، ولكن انصب آمالها في الإطاحة بشخص مبارك وليس بالضرورة بالقواعد السياسية التي أرساها خلال فترة حكمه. وعندما رضخ مبارك للضغوط الشعبية والسياسية و”تخلى” عن منصب رئيس الجمهورية، اندفعت تلك القوى وفي مقدمتها المجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين في محاولة لإقناع القطاعات الثائرة في التحرير أن بخروج مبارك من الساحة تكون أهداف الثورة قد تحققت. وقد نجحا في ذلك خلال المرحلة الأولى من المرحلة الانتقالية قبل أن يدرك قطاع كبير من الشباب الثائر في التحرير أن سقوط مبارك لا يعنى بالضرورة سقوط مؤسساته. بل بدا أن إسقاط مبارك جاء في محاولة للإبقاء على تلك المؤسسات دون تغيير. فعرفت المرحلة الانتقالية -المستمرة إلى الان- حالة استثنائية في ظل وجود مجال عام “محرر” صار من الصعب على أي سلطة سياسية إحكام السيطرة عليه بعد 25 يناير 2011 مع بقاء القواعد المؤسسية لنظام مبارك كما هي دون تغيير وهو ما أوجد حالة من التوتر المستمر بين أفكار ثائرة وجدت في المجال العام المحرر فرصة لمحاولة تغيير المجتمع ومؤسسات ما زالت راسخة تحاول أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
وتعد الحركات الشبابية التي نشطت خلال المرحلة الانتقالية أحد أهم تجليات هذه الموجة من الأفكار الجديدة التي تسعى إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية. تسعى هذه الورقة إلى تحليل عمل ونشاط بعض تلك الحركات الشبابية وطبيعة التحديات التي تواجهها في ظل سعيها لتغير قواعد اللعبة السياسية في مصر بعد الثورة ومدى قدرتها على استبدال تلك القواعد بأخرى جديدة.
أولا: أفكار جديدة وتحرير المجال العام
بينما انصب اهتمام قطاع عريض من الباحثين والإعلام على التطورات السياسية التي شهدتها مصر في اعقاب “ثورة” 25 يناير 2011، فإن قطاعا آخر من الشباب رأى في 25 يناير فرصة للعمل العام في إطار حركات مجتمعية وليست بالضرورة حركات أو أحزابا سياسية. فسعى مجموعة من الشباب القبطي والنوبي إلى الدفاع عن قضياهم من خلال العمل في اطار حركات شبابية تعبر عن أفكارهم. كما سعت مجموعة من الناشطات والناشطين المؤمنين بحقوق المرأة بتأسيس “حركة بهية مصر” لتكون معبرة عن مطالب المرأة. وتأسست “اللجان الشعبية لحماية الثورة” والتى ظهرت بعد الثورة في إطار تطوع مجموعات من الشباب لحماية أحيائهم في ظل حالة الانفلات الأمني خلال الأسابيع الأولى للثورة، ثم تطورت بعد ذلك للعمل التنموي والتوعية. بالإضافة إلى الحركات اختار مجموعة من الشباب العمل في اطار مبادرات كحملة “أحياء بالاسم فقط” والتى تسعى للدفاع عن حق السكن لسكان العشوائيات والمقابر و”مبادرة إيدي على كتفك”، وهي تتبع مايسمي بـ”مسرح المقهورين” بهدف التواصل مع المهمشين في المجتمع وتوعيتهم من خلال المسرح التفاعلي. يجمع ما بين كل تلك الحركات والمبادرات -رغم اختلاف أهدافها- سمتان رئيسيتان: السمة الأولى، إيمانها بمبدأ المواطنة وعملها على ترسيخ ذلك المعنى والدفاع عنه ليكون هو أساس تعامل السلطة مع المجتمع، والسمة الثانية، هي أنها تتشكل بالأساس من مجموعة من الشباب الذين دخلوا إلى المجال العام بعد “ثورة 25 يناير” أو معها.
وتعود ارهاصات نشأة بعض تلك الحركات إلى مرحلة ما قبل 25 يناير 2011، كحركات: اتحاد شباب ماسبيرو واتحاد شباب النوبة الديمقراطي ولجنة وادي القمر بالاسكندرية. فتعود بداية نشأة “اتحاد شباب ماسبيرو” إلى الشهور التي سبقت الثورة وخاصة حوادث الاعتداء المتكرر على الكنائس في نجع حمادي (يناير 2010) والعمرانية (نوفمبر 2010) وكنيسة القديسين (ديسمبر 2010( حيث بدا لقطاع كبير من الشباب القبطي أن مسئولية نظام مبارك عن تلك الجرائم ثابتة سواء من خلال التحريض أو التراخي الأمني. كما شكل أداء قيادات الكنيسة القبطية وتعاملهم مع القضية صدمة للعديد من شباب الأقباط الذي رفضوا اتجاه الكنيسة للمهادنة مع نظام مبارك وطالبوها باتخاذ مواقف أكثر حزما. خلال تلك المرحلة بدأ وعي مجموعة من الشباب القبطي يتشكل في اتجاه ضرورة تغيير النظام الحالي كخطوة لا غنى عنها لتغيير واقع الأقباط. فشارك قطاعا كبيرا من هذا الشباب في ثورة 25 يناير 2011. ومع سقوط مبارك في فبراير ظن هؤلاء الشباب أن الوقت قد حان لتغيير واقع الأقباط. إلا أن في الشهور القليلة التي تلت إسقاط مبارك، شهد الأقباط حوادث عنف ربما تزيد في درجتها ووتيرتها عما اعتادوه خلال حكم مبارك. شهدت قرية صول أول تلك المصادمات الطائفية في مارس 2011، والتى انتهت بهدم الكنيسة بالقرية ومحاولة تهجير الأسر المسيحية عنها. على إثر هذه الحادثة دعا مجموعة من الشباب القبطي الثائر إلى اعتصام للأقباط أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون بماسبيرو. وخلال هذا الاعتصام، تبلورت فكرة إنشاء حركة للدفاع عن حقوق الأقباط تحت اسم اتحاد شباب ماسبيرو. سعى المجلس العسكري إلى احتواء الأزمة وتعهد بإعادة بناء الكنيسة في نفس المكان وعلى نفقة القوات المسلحة. لكن لم يكد يمر شهران على هذه الحادثة حتى اشتعلت الصدامات الطائفية في إمبابة في مايو 2011. فعاد اتحاد شباب ماسبيرو مرة اخرى للاعتصام امام مبنى الإذاعة والتليفزيون. رفض الاتحاد الجلسات العرفية لحل الأزمة وطالب السلطة السياسية بضرورة تفعيل القانون. واستجاب رئيس الوزراء في ذلك الوقت عصام شرف وقرر إنشاء لجنة العدالة الوطنية التي ضمت بين أعضائها ممثلين عن اتحاد شباب ماسبيرو. وكان الاختبار الأول لتلك اللجنة هي فتنة قرية الماريناب بأسوان في سبتمبر 2011 والتى شهدت أيضا اعتداء بعض الأهالي على كنيسة ادعى بعضهم إنها غير مرخصة. شكلت لجنة العدالة الوطنية لجنة تقصى حقائق وانتقلت إلى الماريناب بهدف الوقوف على حقيقة الوضع وعادت إلى القاهرة بمجموعة من التوصيات في مقدمتها إقالة محافظ أسوان والذي ساهمت تصريحاته في تأجيج الأزمة. إلا أن الحكومة ماطلت في تنفيذ التوصيات وهو ما دعى ممثلو اتحاد شباب ماسبيرو إلى الانسحاب والعودة للتظاهر في الشارع. نظم الاتحاد وقفة احتجاجية أمام دار القضاء العالي وهدد بالتصعيد في حال عدم الاستجابة لمطالبه. تسارعت الأحداث بعد أزمة كنيسة الماريناب بشكل مأساوي حيث تعرضت مسيرة اتحاد شباب ماسبيرو لاعتداء من الشرطة العسكرية يوم 4 أكتوبر، فقرر الاتحاد تنظيم مظاهرة حاشدة يوم 9 أكتوبر 2011 للتأكيد على مطالب الأقباط إلا أن قوات الجيش المسئولة عن حماية مبنى الإذاعة والتليفزيون تعاملت بعنف شديد مع المتظاهرين الأقباط وهو ما أسفر عن سقوط أكثر من 27 قتيلا إما دهسا بالمدرعات أو بالرصاص الحي.
أما اتحاد شباب النوبة فقد تأسس في أعقاب تظاهرات 6 أبريل 2008 والتى كانت المرة الأولى التي يحاول فيها بعض الشباب النوبي التمرد على أسلوب إدارة الأزمة النوبية لعقود من خلال محاولة الالتحام بالحركات الشبابية المطالبة بالتغيير السياسي كحركة السادس من أبريل. فقد انقسم الشباب النوبي خلال تلك الفترة إما إلى شباب متقوقع على نفسه وعلى قضايا النوبة دون أي تفاعل مع التطورات السياسية وقطاعا آخر انخرط في النشاط السياسي العام دون تركيز على القضية النوبية. ولهذا سعى اتحاد شباب النوبة إلى ايجاد مساحة وسط بين التيارين. بدأت فكرة الاتحاد من خلال الناشط النوبي مازن علاء الدين والذي قرر المشاركة باسم النوبة في إضراب 6 أبريل 2008. عمل الاتحاد على تعريف المجتمع المصري بالقضية النوبية. كما سعى للتواصل مع القوى السياسية كحركة السادس من أبريل والجمعية الوطنية للتغيير بهدف وضع قضية النوبة على قائمة أولوياتها. وكما هو الحال مع شباب الأقباط فقد شارك قطاع من شباب النوبة في “ثورة” 25 يناير 2011، إيمانا منهم بان “لو سقط نظام مبارك فإن 50% من مشاكل النوبة تكون قد انتهت.”[1]. في أعقاب ثورة 25 يناير، انضمت مجموعات جديدة من الشباب إلى الاتحاد أملا في استغلال المناخ السياسي الجديد بهدف إيجاد حلا عادلا لمشاكل النوبيين في مصر.
كما عرفت منطقة وادي القمر بالإسكندرية نشاطا احتجاجيا منذ 2004 ضد مصنع الأسمنت بالمنطقة لأضراره الخطيرة على البيئة وصحة سكان المنطقة. بدأ التحرك من أمام المسجد الذي سعى إلى توثيق حالات الإصابة بالسرطان للضغط من أجل نقل المصنع خارج المنطقة السكنية. في 2007 انضم مجموعة من الشباب لهذا العمل. وبعد 25 يناير 2011 قررت تلك المجموعة من الشباب تنظيم نفسها في شكل لجنة شعبية بوادي القمر للضغط على السلطة الانتقالية لنقل المصنع.
كما شهد المجال العام بعد الثورة تأسيس العديد من الحركات الشبابية. ففي ظل الظلم الذي أصاب المرأة المصرية خلال المرحلة الانتقالية سواء من خلال التحرش بها في الأماكن العامة أو من خلال تجاهل سلطة المجلس العسكري ومن بعده سلطه الإخوان المسلمين لمطالبها فقد اجتمعت مجموعة من المدافعات والمدافعين عن حقوق المرأة في فبراير 2012 وقرروا إنشاء حركة شعبية للدفاع عن حقوق المرأة تحت اسم بهية يا مصر. تسعى الحركة إلى أن تكون منبرا للدفاع عن حقوق المرأة استنادا إلى مبدأ المواطنة وباستخدام الفن كأداة للوصول بأفكار الحركة للمجتمع المصري. وحددت الحركة أهدافها في متابعة ما تقوم به الحكومة والمجالس التشريعية من قرارات وتشريعات تتعلق بالمرأة وحقوقها والضغط على صانعي القرار بهدف الدفع لتبني سياسات تعلي من أهداف الثورة وتمكين النساء ودعم المشاركة السياسية لهن ورفع الوعي المجتمعي فيما بتعلق بدور المرأة في المجتمع وبأهمية الحفاظ على حقوقها. وتتكون الحركة من عدة مجموعات عمل: الوثائق والأفلام القصيرة، وإدارة الحملات، والجرافيتي، والتصميم، والتواصل الاجتماعي، والتواصل مع الإعلام، والتصوير، والتواصل مع الأحزاب السياسية[2].
كما نشأت أيضا اللجان الشعبية لحماية الثورة والتى انتشرت في العديد من الأحياء في القاهرة وخارجها. كانت بداية اللجان الشعبية لحماية الثورة من خلال المجموعات التي تشكلت في الكثير من الأحياء المصرية عقب انسحاب الشرطة في 28 يناير 2011 بهدف حماية أحيائها. تطور دور هذه اللجان بعد سقوط نظام مبارك والعودة التدريجية للأمن لتعمل في مجال التوعية السياسية والرقابة الشعبية على المؤسسات المحلية وبخاصة الأحياء. على سبيل المثال بدأت اللجنة الشعبية في منطقة بولاق أبو العلا في العمل من مارس 2011. وانصب عملها بشكل أساسي على توعية أهالي بولاق أبو العلا بحقوقهم السياسية خاصة خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية. كما عملت اللجنة على الضغط على رؤساء الأحياء الذين تعاقبوا على حي بولاق أبو العلا بهدف دفع المحليات للقيام بدورها في إنارة الشوارع وتوصيل المياه الصالحة للشرب[3]. كما نجحت اللجنة الشعبية بالفيوم في دفع السلطات المحلية لإنشاء مستشفى ومارست دورا هاما في الرقابة على المؤسسات التعليمية بالمحافظة. ونجحت اللجنة الشعبية بمنطقة ميت عقبة في الضغط على السلطات المحلية لتشغيل الوحدة الصحية بالمنطقة. كما نجحت اللجنة الشعبية بوادي القمر بالإسكندرية في الوصول بقضية مصنع الأسمنت الملوث للبيئة للإعلام. وما زالت تضغط على محافظة الإسكندرية حتى تقوم بنقل المصنع خارج المنطقة السكانية نظرا لما يسببه المصنع من أضرار صحية للسكان. وتنشط اللجان الشعبية في القاهرة الكبرى في أحياء: ميت عقبة، وبولاق أبو العلا، وإمبابة، وحدائق القبة، وحلوان، والمرج، والعمرانية، وشبرا. كما تعمل اللجان الشعبية في الإسكندرية من خلال اللجنة الشعبية بوادي القمر واللجنة الشعبية للدفاع عن الثورة بالإسكندرية. بالإضافة إلى اللجان الشعبية بالسويس والفيوم. وتتشكل اللجان الشعبية عادة من منسق عام ونائب له ومسئول إعلامي ومسئول عمل جماهيري.
كما نشأت أيضا في يوليو 2012 حملة أحياء بالاسم فقط عقب اشتعال الوضع بمنطقة رملة بولاق، بسبب الصراع بين الدولة وأهالي المنطقة على الأرض التي تسعى الدولة إلى إخلائها من السكان لتحويلها إلى مشروع استثماري. وتسعى الحملة إلى تسليط الضوء على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمهمشين. وقد اتخذت من “ادعم أصحاب الحقوق” شعارا لها في إشارة إلى حق الحياة الكريمة لكل إنسان. وقد حددت الحملة أهدافها في نقل أصوات المهمشين والفقراء إلى المجتمع والسلطة والمساهمة في خلق حالة وعي جماعي بالأهداف الاجتماعية لثورة 25 يناير والتي لا تقل أهمية عن أهدافها السياسية. كما تأخذ الحملة على عاتقها مساعدة المهمشين والكادحين لتنظيم أنفسهم في شكل لجان شعبية للدفاع عن قضاياهم. وقد شملت أنشطة الحملة مناطق: رملة بولاق، وجزيرة القرصاية، ومقابر باب النصر والغفير، ومقابر الإمام الليثي، ومساكن الثورة، ومساكن السلام والنهضة والدويقة. كما قرر أيضا مجموعة من الفنانين إنشاء حركة فنية باسم إيدي على كتفك في نوفمبر 2011، حيث اجتمع مجموعة من الشباب على ضرورة إنشاء حركة تسعى للوصول بأفكار وقيم الثورة إلى المجتمع في شكل مبسط بعيدا عن تعقيدات المصطلحات السياسية من خلال العمل الفني وخاصة مسرح الشارع. وتمثل الهدف الرئيسي للحركة بالوصول بالقضايا الاقتصادية والسياسية للثورة للمناطق الفقيرة ومن خلال استخدام الفن. وقد عملت الحملة على العديد من القضايا منها المجتمعي كالتسرب من التعليم والعنف ضد المرأة والسياسي كتشكيل الجمعية التأسيسية والمحاكمات العسكرية للمدنيين.
ثانيا: أفكار جديدة في مواجهة مؤسسات قديمة
على الرغم من التنوع بين هذه الحركات الست فإن ما يجمعها هو ايمانها بقضية المواطنة وبالحقوق السياسية والاقتصادية للمواطن المصري بعد ثورة 25 يناير 2011، سواء تعلق الأمر بحقوق الأقليات كالأقباط والنوبيين أو بحقوق المرأة أو بالحق في السكن أو بالحق في التنمية والخدمات الأساسية. فترى تلك الحركات أن جوهر ثورة 25 يناير هو المواطنة التي يجب أن تكون الأساس الذي تصاغ على أساسه علاقة الدولة بالمجتمع في مصر بعد الثورة بعيدا عن صيغة “الرعايا” التي حكمت علاقة السلطة السياسية بالمصريين لعقود من الزمن. إلا أن تلك الأفكار التي تعبر عن روح ميدان التحرير خلال الثمانية عشر يوما الأولى للانتفاضة الشعبية تواجه مؤسسات راسخة تحميها شبكات مصالح تكونت على مدار عقود تحت حكم مبارك وربما أيضا من سبقوه. ترفض هذه المؤسسات الاعتراف بالمصريين كمواطنين بل تصر على كونهم رعايا لدى السلطة السياسية. فلا ترى السلطة السياسية في الحقوق الدينية والعرقية والمساواة بين الجنسين والحق في السكن الملائم والحياة الكريمة التزامات على الدولة تجاه المصريين. تبدو تلك الثنائية شديدة الوضوح في حالة اللجان الشعبية، وسعيها المستمر لإلزام السلطات المحلية بتوفير الخدمات الأساسية لأحيائها وهو ما تقاومه السلطات المحلية التي ترفض أن تغير من أسلوبها في العمل والتعامل مع المصريين باعتبارهم مواطنين لهم حقوقا في مياه شرب نظيفة ورعاية صحية وتعليمية لائقة.
لكن المقاومة لا تقتصر فقط على مؤسسات الدولة بل تمتد إلى أطراف أخرى ترى في أفكار تلك الحركات تهديدا لمصالحها وسلطاتها حتى من داخل المجموعات الدينية والاثنية التي تنتمي لها تلك الحركات. على سبيل المثال فان أفكار شباب ماسبيرو فيما يتعلق بعلاقة الدولة بالأقباط والتى يجب أن تحكمها مبادئ المواطنة وليس الجلسات العرفية تواجه معارضة ليس فقط من داخل السلطة السياسية التي اعتادت أسلوب الجلسات العرفية لإنهاء الأزمات الطائفية، ولكن أيضا من داخل الكنيسة القبطية والتي بنى بعض قيادتها سلطتهم استنادا إلى قدرتهم على لعب دور في إنهاء الأزمات الطائفية دون اللجوء للقانون. فإذا ما تغيرت شكل العلاقة وصارت سيادة القانون هي الأساس لفقدت تلك القيادات إحدى مصادر قوتها. ذات الامر ينطبق على اتحاد شباب النوبة والذي لا يواجه فقط الدولة المتعنتة تجاه حقوق النوبيين ولكن أيضا الكيانات النوبية التقليدية كالنادي النوبي العام والتى اعتادت العمل مع الدولة المصرية وباتت ترى في اتحاد شباب النوبة وأفكاره تهديدا لها وللسلطة التي بنتها على مدار عقود. كما أن بعض الحركات تواجه مقاومة من بعض قطاعات المجتمع نفسه، فـحركة بهية مصر وأفكارها عن المساواة وحقوق المرأة تواجه مقاومة من التيارات الدينية المحافظة داخل المجتمع المصري والتى ترى فيما تطالب به بهية يا مصر تهديدا للأسرة المصرية وتماسك المجتمع المصري. وتواجه حركة إيدي على كتفك قطاعا من المجتمع ما زال يحمل أفكارا سلبية عن الفن ودوره في المجتمع. كما تواجه حملة أحياء بالاسم فقط مقاومة من شبكات رجال الاعمال التي ترى فيما تطالب به الحركة تهديدا لمشروعاتها واستثماراتها.
وفي معركتها ضد تلك المؤسسات القديمة تعتمد تلك الحركات في عملها لتغيير شكل علاقة الدولة بالمجتمع على إستراتيجيتين: التغيير من أعلى لأسفل ومن اسفل لأعلى. الإستراتيجية الأولى تقوم على الوصول بأفكار تلك الحركات لصانع القرار ليقتنع بها ويتبناها ويتخذ قرارا بتطبيقها فتصير الأفكار قواعد سياسية جديدة. أما الإستراتيجية الثانية فهي العمل على نشر تلك الأفكار بين قطاعات المجتمع المختلفة حتى يقتنع بها المجتمع ويتبناها فتصير قيما له فلا يستطع صانع القرار أن يتجاهلها. وتتجه الكثير من الحركات الشبابية إلى العمل بهاتين الاستراتجيتين على التوازي. فحركة بهية مصر على سبيل المثال تسعى إلى الوصول بأفكارها حول حقوق المرأة إلى المجتمع المصري من خلال حملاتها وأنشطتها المختلفة، لكنها في ذات الوقت تعمل على الضغط على صناع القرار بهدف تبني قوانين وتشريعات تعيد للمرأة حقوقها. على سبيل المثال في قضية تشكيل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، نظمت بهية يا مصر حملة “حق المرأة 50% في لجنة الدستور” التي هدفت لأن تكون للمرأة المصرية حصة مساوية للرجال في الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور. إلا أن الحركة لم تكتف فقط بالحملة بل قامت بإعداد قائمة من 100 شخصية لتكون ضمن أعضاء الجمعية التأسيسية. وقد ضمت القائمة ناشطات حقوقيات وسياسيات وبرلمانيات سابقات ووزيرات سابقات وصحفيات وعاملات ونقابيات. وقامت الحركة بتقديم القائمة في مارس 2012 للبرلمان والنقابات والأحزاب السياسية والحركات والجمعيات المدافعات عن حقوق النساء بهدف الوصول بها لصناع القرار والمؤثرين فيه. وعلى مستوى العمل المجتمعي، نظمت الحركة العديد من الحملات بهدف توعية المجتمع بحقوق المرأة منها على سبيل المثال حملة “دستورنا حقنا وهنكتبه كلنا” والتى هدفت إلى تمثيل جميع فئات المجتمع المصري في اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور. كما نظمت الحركة أيضا حملة “ماتصنفيش” والتى هدفت إلى تحدى الأفكار السائدة عن حول قطاعات من المجتمع المصري استنادا إلى النوع أو الدين أو العرق. كما عملت بهية يا مصر مع المناطق المهمشة من خلال حملة “أنا من حقي” والتي سعت للتوعية بحقوق المصريين طبقا للدستور في التعليم والصحة. كما انشأت الحركة أيضا صالونا ثقافيا وناديا للسينما.
وكذلك الحال مع اتحاد شباب النوبة الديمقراطي حيث عمل الاتحاد بالتوازي مع المجتمع في محاولة لتعريف المجتمع المصري بالقضية النوبية من خلال العديد من العديد من الحملات والمبادرات مثل حملة “ابن النوبة” والتى سعت إلى التعريف بالقضية النوبية من خلال التذكير برموز نوبيين يعرفهم المصريون مثل زكي مراد وأحمد منيب. كما أحيا الاتحاد ذكرى التهجير في أبريل 2012 باحتفاليتين لتعريف المجتمع بقضية التهجير وما صاحبها من مشكلات. كما أطلق الاتحاد في أبريل 2013 مبادرة يوم التدوين عن النوبة. لكن بالإضافة إلى العمل مع المجتمع المصري، سعى الاتحاد أيضا للتواصل مع الحركات والأحزاب السياسية للضغط من أجل إدراج قضية النوبة ضمن أولوياتهم. كما سعى الاتحاد إلى دعم ممثل النوبة في اللجنة التأسيسية لتعديل دستور 2012 حجاج أدول من خلال إنشاء لجنة استشارية شارك فيها الكثير من شباب الاتحاد من تخصصات مختلفة بهدف الوصول بحقوق النوبة لتكون مواد دستورية.
كما تعمل اللجان الشعبية لحماية الثورة على توعية قاطني احيائها بحقوقهم السياسية إلا أنها تضغط في نفس الوقت من خلال التظاهرات والوقفات الاحتجاجية على السلطات المحلية بهدف تحسين مستوى الخدمات. على سبيل المثال، فقد نظمت اللجنة الشعبية ببولاق أبو العلا حملة “صحتنا أهم” خلال النصف الأول من 2013 بهدف تعريف سكان الحي بحقوقهم في الرعاية الصحية، كما أنها قامت في ذات الوقت بالضغط على حي بولاق أبو العلا من أجل تطوير مستشفى بولاق أبو العلا العام وذلك من خلال التواصل مع المسئولين في وزارة الصحة والحي والمحافظة، وتنظيم الوقفات الاحتجاجية أمام وزارة الصحة ومبنى التليفزيون والمستشفى للضغط على كل من الحي ووزارة الصحة. كما قامت اللجنة بتنظيم حملة “بولاق نظيفة” في نهاية 2011، والتى قام خلالها أعضاء اللجنة بإزالة الملصقات الانتخابية وكتابة عبارات للتوعية بأهمية نظافة الشوارع، كما تواصل أعضاء اللجنة الشعبية خلالها مع رئيس الحي للتنسيق فيما يتعلق بعمل عربات إزالة القمامة. بالإضافة إلى حملات التوعية السياسية بداية من استفتاء مارس 2011 مرورا بالانتخابات التشريعية في نوفمبر 2011 والرئاسية في مايو 2012 دون دعم لأي فصيل سياسي.
واختارت حركات أخرى أن تعمل فقط على مستوى المجتمع، كمبادرة إيدي على كتفك وحملة أحياء بالاسم فقط، حيث ارتكز عملهما بالأساس على التواصل مع الشارع ومحاولة تعريفه بحقوقه ومساعدته على المطالبة بها. فعملت حملة أحياء بالاسم فقط مع سكان رملة بولاق على تكوين لجنة شعبية تتولى الدفاع عن قضيتهم والتواصل مع الإعلام. كما سعت الحملة بالتعاون مع المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى تحريك دعاوى قضائية لصالح سكان تلك المناطق[4]. أما مبادرة إيدي على كتفك فقد اختارت التعاون مع الحركات ومنظمات المجتمع المدني لمساعدتها في تحقيق أهدافها. واعتمدت إستراتيجية المبادرة على أولا: عمل مسح بمنظمات المجتمع المدنى التي تعمل في المناطق التي تود العمل بها ومن ثم معرفة أهم القضايا التي تعمل عليها تلك الجمعيات للعمل معهم عليها. فتعاونت الحركة مع جمعية “بناتي بنات الغد” بدار السلام على توعية فتيات الجمعية بمخاطر الانقياد وراء التحريض من أجل بيع المخدارت أو ممارسة البغاء، كما عملت الحركة مع اللجنة الشعبية بشبرا “شبرا حلم بكرة” على قضيتي التسرب من التعليم والعنف ضد المرأة[5].
واختارت حركات أخرى أن توجه اهتمامها فقط للضغط على السلطة الحاكمة، كـاتحاد شباب ماسبيرو والذي فضل العمل على الضغط على السلطة الانتقالية من خلال التظاهرات والوقفات الاحتجاجية حتى تستجيب لمطالبه. كما سعى الاتحاد إلى التواصل مع الحركات السياسية بهدف ضمان دعمها لمطالبه. فشارك الاتحاد في العديد من الميلونيات في التحرير، كما حرص على إصدار بيانات توضح موقفه من التقلبات السياسية المختلفة خلال المرحلة الانتقالية. إلا أن الاتحاد يعمل خلال تلك المرحلة على مراجعة استراتجيته بهدف العمل أيضا مع المجتمع من أجل توعيته بأهداف الاتحاد وبمشاكل الأقباط في مصر[6].
بجانب صراعها مع المؤسسات القديمة وشبكات المصالح التي تمثلها فان تلك الحركات تواجه مجموعة أخرى من التحديات:
- التحدي الأمني-القانوني: يأتي الوضع الأمني والقانوني في مقدمة تلك التحديات حيث أن كل هذه الحركات نشأت خلال المرحلة الثورية دون أي إطار قانوني ينظم وجودها أو يضمن حقوقها وعلاقتها بسلطات الدولة. وبينما لا تزال السلطة السياسية في مصر غير قادرة على استعادة سيطرتها على المجال العام، فإن بقاء تلك الحركات دون إطار قانوني قد يجعلها هدفا سهلا حال استعادت السلطة السياسية قدرتها على التنكيل والبطش. وتدرس بعض تلك الحركات حاليا كـاتحاد شباب النوبة واتحاد شباب ماسبيرو امكانية تحولها إلى منظمات مجتمع مدني بهدف التغلب على هذا العائق القانوني.
- التمويل: كما تواجه تلك الحركات أيضا تحدي تمويل أنشطتها. فكل تلك الحركات تعتمد على التمويل الذاتي من خلال مساهمات أعضائها وهو ما يعيقها عن تنفيذ الكثير من مشروعاتها وخططها نتيجة لضعف الموارد. ويأمل البعض داخل تلك الحركات في توفير مصادر تمويل ثابتة من خلال شكلا من أشكال الوقف.
- التنظيم: كما تعاني تلك الحركات أيضا من مشاكل تنظيمية. فما زالت تفتقر آليات وقيم العمل الجماعي وهو ما يفسر الانشقاقات داخلها نتيجة الاختلاف في الرأي وعدم قدرتها على تطوير آليه تنظيمية لحل مشاكلها الداخلية تضمن التوازن بين حق الاختلاف في الرأي والتماسك التنظيمي داخل الحركة.
خاتمة
كتب الأديب الفرنسي فيكتور هوجو “لا تستطيع كل جيوش العالم أن تقف في وجه فكرة آن أوانها”، في إشارة إلى قوة الأفكار في مواجهة المؤسسات. وبينما اعترفت العلوم السياسية مؤخرا بأهمية الأفكار ودورها في التغيير إلا أن السؤال الذي ما زال باحثو العلوم السياسية يسعون للإجابة عليه يتعلق بالجزء الأخير من جملة هوجو عن الأوان المناسب لفكرة بعينها في محاولة لمعرفة متى يمكن للأفكار أن تطيح بمؤسسات قديمة لتحل مكانها.
يرى أستاذ العلوم السياسية سفين شتينمو أن دور الأفكار أساسي في التغيير المؤسسي. فالأفكار بالأساس هي تصور مغاير لما يجب أن يكون عليه شكل تلك القواعد المؤسسية. فإذا ما نجح دعاة الأفكار في التبشير بأفكارهم كبديل للمؤسسات القائمة صارت تلك الأفكار هي نفسها قواعد اللعبة الجديدة، وهي العملية التي يسميها شتينمو بـ”مأسسة الأفكار”[7] أي تحول الأفكار إلى مؤسسات. ويرى شتينمو أن الأفكار تستمد قوتها من فشل المؤسسات القديمة في الوفاء بوظائفها مما يخلق أزمة مؤسسية، فتظهر الأفكار الجديدة كبديل لتلك المؤسسات القديمة.
لقد فشلت مؤسسات مبارك في إدارة العلاقة بين المجتمع والسلطة في مصر إلا أنها ما زالت تقاوم السقوط. في المقابل فإن أفكار التحرير، وإن استطاعت أن توجه ضربة قوية لمؤسسات مبارك وأن تنزع حق العمل في المجال العام فإنها تواجه مقاومة عنيفة ليس فقط من السلطة السياسية التي تحاول الحفاظ على مكاسبها ولكن أيضا من عدة أطراف ترى في تغيير قواعد اللعبة السياسية تهديدا لمصالحها كالقوى التقليدية النوبية والمسيحية. لقد نجحت الموجة الثورية الأولى في يناير 2011 في الإطاحة بمبارك وفي تحرير المجال العام وحرية الحركة فيه إلا أن معركة الحركات الشبابية من أجل “مأسسة أفكارها” ليست سهلة في ظل مقاومة شبكات المصالح. ولا سبيل لتلك الحركات لمواصلة تلك المعركة إلا:
أولا: بالعمل بإستراتجيتي التغيير من أعلى ومن أسفل على التوازي من خلال توعية المجتمع بأفكارها وأيضا بمواصلة الضغط على مؤسسات الدولة والقوى السياسية.
ثانيا: بمحاولة التشبيك والعمل على قضايا مشتركة تسمح لها بقدر أكبر من الفاعلية والانتشار. فجوهر أفكار تلك الحركات واحد، وهو إعادة هيكلة علاقة السلطة بالمجتمع استنادا إلى مفهوم المواطنة، وهو ما يجعل من السهل عليها التنسيق والعمل المشترك.
لا تستطيع كل جيوش العالم مواجهة فكرة آن أوانها طبقا لهوجو، لكنها بالتأكيد ستحاول أن تقاوم السقوط كما هو الحال في مصر ما بعد مبارك، فالأفكار لا تحمل قوة في حد ذاتها، بل هي تحتاج أن تصل من خلال الجهد والعمل إلى المجتمع والسلطة حتى تتم مأسستها في شكل قواعد جديدة لإدارة العلاقة بين الدولة والمجتمع
ــــــــــ
[1] مقابلة شخصية مع يحي زايد، عضو “اتحاد شباب النوبة الديمقراطي”، الفيوم، 7 ديسمبر 2013.
[2] مقابلة شخصية مع سالي ذهني ومنة عصام عضوتي “حركة بهية يا مصر”، القاهرة، 9 أكتوبر 2013.
[3] مقابلة شخصية مع مروة المصري، عضو “اللجنة الشعبية ببولاق ابو العلا”، القاهرة 29 أكتوبر 2013.
[4] مقابلة شخصية مع مصعب شحرور، عضو “حملة أحياء بالاسم فقط”، القاهرة، 26 سبتمبر 2013.
[5] مقابلة شخصية مع أسماء نور عضو “حركة إيدي على كتفك”، القاهرة، 5 ديسمبر 2013.
[6] مقابلة شخصية مع مينا سمير وبيشوي تمري، عضوي “اتحاد شباب ماسبيرو”، القاهرة، 16 نوفمبر 2013.
[7] Steinmo S (2008) Historical institutionalism. In: Della Porta D and Keating M (eds) Approaches and Methods
in the Social Sciences. Cambridge: Cambridge University Press, 113–138.