جورج ثروت فهمي
مصر
مقدمة
تعد قضية العلاقة ما بين المؤسسة العسكرية والمؤسسات السياسية المنتخبة أحد أهم القضايا التي تواجه النظم السياسية التي تتحول من السلطوية إلى الديمقراطية. يعود هذا الأمر إلى أن المؤسسة العسكرية عادة ما تتمتع بامتيازات كبيرة خلال مراحل الحكم السلطوي، إما لأنها هي نفسها التي تحكم، وإما لأن النظام السلطوي الحاكم يسعى لإرضائها لضمان ولائها. ولهذا، فان مفاوضات الانتقال من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي تتضمن الضرورة مفاوضات حول دور المؤسسة العسكرية في ظل النظام الجديد. بينما تحاول مصر أن تتلمس طريقها من أجل بناء نظام سياسي يتسم بالديمقراطية والتعددية، فسيكون عليها هي الأخرى أن تحدد طبيعة العلاقة المؤسسية ما بين المؤسسة العسكرية والمؤسسات المنتخبة (البرلمان والسلطة التنفيذية). بينما ينصب الجدل في مصر على مخاطر احتفاظ الجيش بحق التدخل في الشأن السياسي (عسكرة السياسة)، فإن تحديا آخر لا يقل أهمية هو أن تقوم بعض القوى السياسية بالتدخل في أمور الجيش بهدف تحقيق مصالح سياسية (تسييس الجيش)، وما بين هذين التحديين، على النخب السياسية المصرية أن ترسم توازنا دقيقا ما بين الجيش والسياسة، يحفظ للسياسة استقلالها ويحفظ للجيش مهنيته، بما يسمح لمصر أن تعبر إلى نظام ديمقراطي حقيقي.
المؤسسة العسكرية والتحول الديمقراطي: رؤية نظرية
تميز الدراسات الأكاديمية ما بين ثلاث مراحل رئيسية للتحول من نظام سلطوي لنظام ديمقراطي وهي: مرحلة إسقاط النظام السلطوي، وهي التي ينهار فيها النظام السلطوي ورموزه. المرحلة الثانية هي مرحلة التحول الديمقراطي، وهي المرحلة التي يتم فيها وضع قواعد سياسية جديدة للنظام السياسي كإجراء انتخابات حرة نزيهة. المرحلة الثالثة هي مرحلة ترسيخ الديمقراطية، وهي عندما تجمع كافة الأطراف السياسية على أنه لا يجوز الخروج على قواعد اللعبة الديمقراطية مهما كانت درجة الخلاف فيما بينها.
تشهد مرحلة التحول الديمقراطي عادة مفاوضات ما بين المؤسسة العسكرية والقوى السياسية المنتخبة حول شكل العلاقة ما بين القوات المسلحة والنظام السياسي. يعد الخروج الكامل للقوات المسلحة من الساحة السياسية شرطا أساسيا للانتقال من مرحلة التحول الديمقراطي لمرحلة ترسيخ الديمقراطية.
يضع صمويل هنتجنتون أربع خصائص للعلاقة ما بين المؤسسة العسكرية والمؤسسات السياسية المنتخبة في النظم الديمقراطية:
- درجة عالية من المهنية في عمل القوات المسلحة.
- خضوع المؤسسة العسكرية للقيادات المدنية المنتخبة التي لها حق تحديد ملامح السياسة الخارجية والعسكرية.
- قبول القيادة السياسية المنتخبة بمهنية المؤسسة العسكرية واستقلالها.
- كخلاصة لكل ما سبق، فمن اجل بناء نظام ديمقراطي حقيقي، يجب تحجيم تدخل الجيش في أمور السياسة، وأيضا تحجيم التدخل السياسي في أمور الجيش ([1])
الحالة المصرية
على مدار العقدين الأخيرين، بدا للعديد من السياسيين والباحثين المصريين أن المؤسسة العسكرية هي الحصن الأخير للدولة المصرية في مواجهة حالة من التحلل لمؤسسات الدولة، ولمواجهة ما اصطلح على تسميته بـ”مشروع التوريث” الهادف إلى نقل السلطة إلى جمال مبارك. وصل الأمر بأحد القضاة المرموقين في أثناء انتخابات مجلس الشعب 2005، بأن هدد بدعوة الجيش لحماية العملية الانتخابية إذا ما استمرت داخلية “العادلي” في انتهاكاتها. وفي ظل هذه الأجواء رحبت جموع المتظاهرين بنزول قوات الجيش إلى الشارع في 28 يناير 211. من جانبها، اعترفت المؤسسة العسكرية في بياناتها المتعاقبة بحق المصريين في التظاهر السلمي، وأكدت على أنها لن تستخدم العنف ضد المتظاهرين، بل أنها قامت بتأمين ميدان التحرير، وشاركت الثوار في التحقق من هويات المتظاهرين عند مداخل الميدان، باستثناء موقعة الجمل، التي اختارت فيها المؤسسة العسكرية أن تلتزم الحياد، وأعطت أوامرها لقواتها بعدم التعامل.
مع رحيل مبارك في 11 فبراير، وتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد، أعلن الأخير التزامه بإدارة المرحلة الانتقالية حتى تسلمها لسلطة مدنية منتخبة. بدا في هذه اللحظة أن المؤسسة العسكرية ستكون بمثابة طرف محايد يدير المرحلة الانتقالية، إلا انه مع مرور الوقت، واشتعال الجدل حول خارطة طريق المرحلة الانتقالية وتفاصيلها، تخلى المجلس العسكري عن موقعه المحايد وصار طرفا أساسيا في تشكيل نظام ما بعد مبارك. فصار الحديث عن 3 أطراف رئيسية: المجلس العسكري، القوى الإسلامية التي نجحت في حصد الأغلبية البرلمانية، والتيارات الثورية.
التجربة التركية والباكستانية: لماذا نجحت تركيا وتعثرت باكستان؟
تتشابه الحالة المصرية مع كل من الحالتين التركية والباكستانية. ففي الثلاث حالات، يلعب كل من المؤسسة العسكرية والإسلاميين والقوى المدنية دورا محوريا في معادلة التحول الديمقراطي. كما أن في كل من الثلاث حالات: تعد قضيتي العلاقات المدنية العسكرية وأسلمت الدولة هما محورا الجدل السياسي.
لعبت المؤسسة العسكرية في كل من تركيا وباكستان دورا محوريا منذ نشأة كل من الدولتين في النصف الأول من القرن العشرين. وشهد كل من النظامين السياسيين الباكستاني والتركي تدخلات مستمرة من قبل قيادات القوات المسلحة في إدارة الشئون السياسية، بعضها كان من خلال الضغط والبعض الأخر من خلال التدخل العسكري المباشر لإقصاء السلطة المدنية.
فقد شهدت باكستان أربعة انقلابات عسكرية: قام بالانقلاب الأول الجنرال أيوب خان عام 1958، فأزاح الرئيس اسكندر ميرزا وتولى هو مباشرة السلطة السياسية. نتيجة لتزايد الأزمات الاقتصادية والانقسام السياسي في المجتمع، اضطر أيوب خان أن يسلم السلطة للجنرال يحي خان عام 1969، ووعد الأخير بإجراء انتخابات عام 1970، إلا انه استمر حتى 1971، ليسلم السلطة عقب انفصال بنجلادش عن باكستان. في عام 1977، قام الجنرال ضياء الحق بانقلاب عسكري ليزيح رئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو ويحل البرلمان، مستغلا اتهامات أحزاب المعارضة لبوتو بالتلاعب في نتيجة الانتخابات. خلال سنوات حكمه، تبني ضياء الحق مطالب اليمين الديني ليقود مشروع لأسلمت الدولة والمجتمع الباكستاني في محاولة لإضفاء الشرعية على حكمه. أعاد ضياء الحق السلطة للمدنيين شكليا في عام 1985، إلا انه في أعقاب وفاته في 1988، عاد للحكم طابعه المدني مع احتفاظ الجيش باستقلاله المؤسسي. وأخيرا، قام برفيز مشرف بانقلاب عسكري عام 1999، واستمر في السلطة حتى 2008 ([2])
شهدت تركيا 3 انقلابات عسكرية مباشرة عام 1960، 1971، 1980، وانقلابا ناعما 1997، وما سمي بالانقلاب اليكتروني عام 2007 وهو الذي مني بالفشل. في أعقاب الانقلاب العسكري عام 1960، أنشأ مجلس الأمن القومي عام 1962 ليصبح مؤسسة دستورية، ذات شكل استشاري، تسمح لقيادات الجيش بعرض رؤاها في القضايا السياسية. في أعقاب الانقلاب العسكري عام 1971، تحول المجلس إلى هيئة تقدم توجيهات إلى مجلس الوزراء حول تهديدات الأمن القومي. وفي أعقاب الانقلاب العسكري عام 1980 والذي جاء بالجيش إلى سدة الحكم عقب ما يشبه حرب أهلية بين قوى اليسار واليمين، تزايد دور المجلس مع الدستور الجديد الذي أعتمد عام 1982. تزايدت قوة المجلس خلال الثمانينيات حتى أصبح مراقبا على أعمال السلطتين التنفيذية والتشريعية. في عام 1997، أجبر مجلس الامن القومي رئيس الوزراء التركي نجم الدين أربكان، ذو الخلفية الإسلامية على التنحي. بداية من عام 2001، شهد المجلس العديد من الإصلاحات بهدف الحد من تدخل المؤسسة العسكرية في الأمور السياسية ([3])
مع مجيء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في بداية عام 2003، أجرى الحزب تعديلات جوهرية على شكل المجلس: فأصبح رئيس المجلس من المدنيين، كما وضعت ميزانية المجلس تحت إشراف رئيس الوزراء. لم تعد مهمة تحديد مصادر تهديد الأمن القومي للمجلس وحده، بل صارت بالأساس مهمة السلطة التنفيذية. أضحت توصيات المجلس، بمثابة نصائح لمجلس الوزراء وليست تعليمات كما كان الحال في السابق. كما سحبت الصلاحيات التنفيذية لأمين عام المجلس. بدلا من الاجتماع شهريا، أصبح الاجتماع كل شهرين. تم إلغاء البند الذي كان يلزم الوزرات، المؤسسات العامة والمؤسسات القانونية الخاصة، بأن تضع تحت تصرف المجلس أي معلومات يطلبها أمينه العام. كما تم إلغاء البند الذي يسمح للمجلس بمتابعة تنفيذ توصياته نيابة عن الرئيس ورئيس الوزراء. في أبريل 2007، وعقب ترشيح عبد الله جول، ذي الخلفية الإسلامية، إلى رئاسة الجمهورية، وضعت القوات المسلحة على موقعها الاليكتروني رسالة تحذر فيها من المساس بعلمانية الدولة التركية. إلا أن تلك الضغوط منيت بالفشل، وتولي عبد الله جول رئاسة الجمهورية التركية في أغسطس 2007.
بينما نجحت تركيا خلال السنوات الأخيرة في أن تعيد التوازن إلى علاقة المؤسسة العسكرية بمؤسسات الدولة، ما زالت باكستان تعاني من اختلال مؤسسية في علاقة المؤسسة العسكرية بالمؤسسات السياسية وهو الأمر الذي يعيق بناء نظام سياسي ديمقراطي حقيقي. يكمن الفرق الرئيسي بين الحالة التركية والحالة الباكستانية في نجاح المؤسسات المنتخبة في إحراز تقدم ملحوظ على الصعيد الاقتصادي والسياسي في تركيا تحت حكم العدالة والتنمية وهو ما أعطي للأخير شرعية للتحرك من أجل إعادة التوازن للعلاقات مع المؤسسة العسكرية، بينما فشلت النخب السياسية الباكستانية في إحراز تقدم مماثل، مما سمح للمؤسسة العسكرية بالتدخل بحجة حماية الجبهة الداخلية، محاربة الفساد، حماية أسس الدولة. بالإضافة إلى أن النخب السياسية التركية قد تخلت عن فكرة دعوة الجيش لحسم صراعاتها السياسية سواء كانت رابحة أو خاسرة، واعتمدت بالأساس على الوسائل السياسية لإدارة النزاع السياسي، وهو الأمر الذي ما زالت باكستان تحاول أن تحققه.
توصيات سياسية
- تشير حالات التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط وأوربا وأمريكا اللاتينية إلى أن العلاقات المدنية العسكرية تحسم على المدى الطويل وبشكل تدريجي، ولا تحل بين ليلة وضحاها. بل أنه حتى في الحالة البرتغالية، فبالرغم من الانتخابات الحرة التي شهدتها البرتغال في 1975، 1976 و1980، فإن الجيش ظل يتمتع بصلاحيات استثنائية حتى عام 1982.
- ضرورة أن لا يتضمن الدستور أي مجالات خاصة للمؤسسة العسكرية تسمح لها بالتدخل في عمل المؤسسات السياسية المنتخبة. إن مثل هذه الصلاحيات، تشكل اختلالا مؤسسيا، مما يعيق فرص أي تطور ديمقراطي في مصر، ويهدد بإعادة إنتاج النظام السلطوي. تتميز الدساتير منذ دستور 1923 وإلى دستور 1971، بأنها لم تتضمن في اي منها اي صلاحيات استثنائية للمؤسسة العسكرية.
- ضرورة أن يتم إنشاء إطار مؤسسي واضح المعالم والصلاحيات، يسمح لقيادات المؤسسة العسكرية الالتقاء بشكل دوري مع ممثلي المؤسسات السياسية (رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، رئيس البرلمان) قد يكون شكل هذا الإطار المؤسسي هو مجلس للأمن القومي، كما هو الحال في تركيا، على أن تكون أغلبية أعضاء هذا المجلس من المدنيين وليس العسكريين وأن تظل قرارات المجلس استشارية، دون أن يتغول ليفرض قراراته على المؤسسات المنتخبة (الحكومة أو البرلمان) وقراراتها.
- فيما يتعلق بتفاصيل موازنة المؤسسة العسكرية، فإنه من المهم أن تكون الموازنة تحت رقابة مجلس الشعب، لتأكيد مبدأ رقابة المؤسسات السياسية المنتخبة على الموازنة، إلا أن ذلك يمكن أن يتم من خلال لجنة الدفاع والأمن القومي داخل مجلس الشعب بهدف الحفاظ على سرية تفاصيل موازنة المؤسسة العسكرية.
- من المهم الإشارة إلى أن تدخل الجيش في السياسة لا يتم دائما بمبادرة من القوات المسلحة، بل أن في الكثير في الحالات فان بعض النخب السياسية هي التي تحاول الاستعانة بالقوات المسلحة من أجل حسم صراعاتها السياسية مع قوى سياسية أخرى. تتشابه الحالة الباكستانية مع الحالة المصرية في أن النخب السياسية التي دخلت إلى عالم السياسة بعد سقوط نظام مبارك في فبراير2011 تفتقر إلى حس العمل السياسي القائم على التحالفات و التوازنات. ففي باكستان بعد وفاة ضياء الحق، و خروج الجيش من الحكم، دخلت ساحة العمل السياسي نخبا ظلت بعيدة لعقود عن الحكم، فسعى بعضهم إلى الاستعانة بالمؤسسة العسكرية لدعم مواقفهم السياسية. حالة الانقسام التي تعيشها الساحة السياسية المصرية، بالإضافة إلى عدم خبرة كل من القوى السياسية بمختلف انتماءاتها تحمل مخاطر أن تسعى بعض القوى إلى الاستقواء بالمؤسسة العسكرية لحسم بعض القضايا السياسية وهو ما قد يخرق التوازن المدني العسكري.
- كما انه من الخطورة بمكان أن يتدخل الجيش في الأمور السياسية، فان تدخل السياسيين في أمور الجيش أمر لا يقل خطورة، كأن يقوم الحزب الحاكم بتعيين قيادات الجيش الموالية له بصرف النظر عن كفاءتها، وهو ما يهدد بتسييس الجيش، وخلق انقسامات بداخله.
- سواء في الشرق الأوسط أو خارجه، فان المؤسسة العسكرية لا تستطيع أن تتدخل في السياسة في ظل وجود حكومات ناجحة سياسيا واقتصاديا، أما في ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية فإنها توفر مناخا مواتيا للتدخل المؤسسة العسكرية في السياسة. من المهم هنا الإشارة إلى أن دستور 1973 في باكستان قد نص في مادته رقم 273 قد وضع المؤسسة العسكرية تحت قيادة وسيطرة الحكومة الفيدرالية، كما أن القسم العسكري تضمن عبارة تمنع ضباط الجيش من التدخل في السياسة، إلا أن هذا لم يمنع الجنرال ضياء الحق من القيام بانقلاب عام 1977. فمن المهم إذن التذكير فان النصوص الدستورية على أهميتها، لم تمنع أبدا الجيوش من التدخل في السياسة، لكن ما يمنعها هو مدى نجاح وشرعية النخب السياسية.
ـــــــــــــــــــــــ
[1]() Diamond, Larry, Plattner, Marc. (Ed.) 1996. Civil-Military Relations and Democracy.Baltimore: The Johns Hopkins University Press.
[2]() Aqil Shah, the transition to guided democracy in Pakistan, in Jim Rolfe, the Asia pacific a region in transition, Asia Pacific center for strategic studies, 2004.
[3]() ŞULE TOKTAŞ & ÜMİT KURT, The Impact of EU Reform Process on Civil-Military Relations in Turkey, SETA foundation for political, economic and social research, November 2008, 26.