المؤسسات الدينية ودعم ثقافة المواطنة في مصر: إلى أين؟

(نموذج الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في بولندا)

ليديا علي
مصر
Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [482.85 KB]

مقدمة:

تناولت أدبيات العلوم السياسية المختلفة وعلى رأسها دراسات الباحث الفرنسي جي هيرميه مسألة الدور السياسي للمؤسسات الدينية. في هذا الصدد، يعد النموذج البولندي أحد أهم الأمثلة التي تطرح تساؤلات عدة، ليس فقط من حيث ماهية هذا الدور-خاصة في المرحلة الانتقالية التي مرت بها بولندا خلال ثمانينيات القرن الماضي- إنما أيضا من حيث جدوى هذه المهام، بل وتأثيرها على المدى الطويل على الساحة السياسية البولندية تحديدا.

بالانتقال للحالة المصرية، فدائما ما يقترن الحديث عن المواطنة في مصر بتناول دور المؤسسات الدينية في هذا الشأن. وعلى الرغم من وجود العديد من الآراء التي تدفع نحو ضرورة إقصاء المؤسسات الدينية عن الحياة السياسية، إلا أن المعادلة السياسية في مصر على مر العصور فرضت واقعا غير هذا، حيث تلعب فيه المؤسسات الدينية، وتحديدا الأزهر والكنيسة الأرثوذكسية، دورا محوريا ولا سيما فيما يتعلق بدعم ثقافة المواطنة. بيد أن ما خاضته تلك المؤسسات مع الدولة، أو بالأحرى النظام السياسي القائم، من صراعات من أجل الحفاظ على استقلاليتها ومن ثم الحفاظ على مصالحها، أضعف من تأثيرها على المستوى الاجتماعي ومن ثم أدى إلى تراجع دورها المنوط لها أن تلعبه فيما يتعلق بتعزيز ثقافة المواطنة.

على الرغم من المآخذ على دور الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في بولندا في الحياة السياسية خاصة فيما بعد مرحلة التحول الديمقراطي، إلا أنه يمكن استخلاص مجموعة من الدروس للاستعانة بها في الحالة المصرية خاصة فيما يتعلق بالدور الاجتماعي للمؤسسات الدينية في مصر من جانب، وفيما يتعلق بعلاقاتها بالنظام السياسي من جانب آخر وما يطرحه هذا من مصالح يسعى كل من هذين الطرفين للحفاظ عليها. وأخيرا، يدعو النموذج البولندي إلى شيء من التفكير في مدى تأثير المؤسسة الدينية على الحياة السياسية، وما إذا كان نمو دورها اجتماعيا له تأثير على الحريات والحقوق الشخصية.

أولا: خصوصية النموذج البولندي في التحول الديمقراطي:

تتسم تجربة التحول في بولندا من النظام الشيوعي إلى النظام الديمقراطي الرأسمالي بشيء من الخصوصية مقارنة بتجارب التحول الديمقراطي في شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية، بل والربيع العربي فيما بعد. بيد أنه على الرغم من هذا الاختلاف، لا يزال من الممكن استخلاص مجموعة من الدروس من التجربة البولندية للاستفادة منها في موجة التحول الديمقراطي التي تشهده الدول العربية بصفة عامة ومصر على وجه الخصوص.

بدأت مسيرة التحول الديمقراطي في بولندا منذ ثمانينات القرن الماضي، تزامنا مع حالة الانهيار على المستويين الاقتصادي والسياسي التي شهدها الاتحاد السوفيتي تحت قيادة الرئيس السوفيتي الأسبق “جورباتشوف”. وقد كان للنقابات العمالية الدور الأهم في إطلاق شرارة التحول في بولندا، حيث استطاعت -مدعومة بالحركات الاجتماعية والكنيسة الرومانية الكاثوليكية- في تنظيم نفسها في جبهة معارضة، عرفت فيما بعد تحت اسم “حركة تضامن” (Solidarnosc) تحت قيادة أحد رموز الحركة الوطنية في بولندا “ليخ فاونسا” والذي أصبح رئيسا للبلاد فيما بعد.

يسترعى الانتباه أنه على الرغم من غياب وسائل تكنولوجيا الاتصالات في هذه الحقبة الزمنية، وما قد يتبادر إلى الأذهان من صعوبات تتعلق بتنظيم الجماهير الرافضة للنظام الشيوعي، إلا أن حركة تضامن استطاعت تنظيم سلسلة من الاحتجاجات السلمية التي تراوحت بين المظاهرات الحاشدة في مختلف أنحاء البلاد تارة وبين العصيان المدني تارة أخرى، وعلى الرغم مما لاقته هذه الاحتجاجات في بعض الأحيان من قمع شديد من قبل النظام الشيوعي (على سبيل المثال تم إعلان الأحكام العرفية في البلاد خلال الفترة من ديسمبر 1981 إلى يوليو 1983)، إلا أن استمرارية الطابع الاحتجاجي تحت قيادة “تضامن” أجبر النظام الشيوعي على الدعوة إلى التفاوض مع المعارضة من أجل الخروج بالبلاد من هذا النفق المظلم، ولا سيما في ظل ما خلفه هذا الأمر من خسائر اقتصادية هددت بالفعل أمن واستقرار البلاد، وهو ما عرف باتفاقيات “المائدة المستديرة بين النظام الشيوعي والمعارضة (أو حركة تضامن) في بولندا وذلك في عام 1989.

في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى الدور المحوري الذي لعبته الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في بولندا، فبالإضافة إلى ما اضطلعت به من دور المراقب والضامن لاتفاقيات المائدة المستديرة، إلا أنها أضفت طابع أخلاقي على الثورة البولندية ومسيرة التحول الديمقراطي في هذه الفترة.

ثانيا: نبذة عن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في بولندا تحت النظام الشيوعي:

تجدر الإشارة إلى أن 89.8 % من الشعب البولندي من الكاثوليك، منهم 75% يواظب على التقاليد الدينية (الصلاة/ حضور داس الكنيسة…الخ) (إلا أن هذه النسبة الآن في الانخفاض)، بمعنى أن الكاثوليكية تعد من أهم سمات الهوية البولندية. وعلى الرغم مما تعرضت له الكنيسة في بولندا من تضييق على أنشطتها خلال فترة الحكم الشيوعي للبلاد، إلا أن رجالها استطاعوا فرض أنفسهم على الساحة الاجتماعية والسياسية في البلاد، الأمر الذي مكن الكنيسة بدورها من لعب دور محوري في عملية التحول الديمقراطي في البلاد، فضلا عن ما حصلت عليه من مزاياي نسبية قبل الثمانينات تتعلق بحريات -وإن ظلت ضيقة- في مجال نشر الصحف الخاصة بها، إدخال التعليم الديني في المدارس العامة. وقد ظل رجال الكنيسة ضد الشيوعية وهو ما كان يعبر عنه بعض منهم من خلال منابر الكنيسة في العظات الدينية، الأمر الذي أدى بدوره إلى قيام النظام الشيوعي بفرض مزيد من القيود البيروقراطية على مسألة بناء الكنائس في بولندا، بالإضافة إلى ما عانى منه العديد من الكهنة من تقييد لحرياتهم والتضييق المستمر على حقهم في التعبير عن آرائهم، فضلا عن استخدام الإعلام الرسمي لتشويه صورة الكنيسة.

بيد أن ظهور حركات معارضة منذ سبعينيات القرن الماضي وضع الكنيسة في موقف حرج وباتت بين شقي الرحى، فمن ناحية تلتزم الكنيسة بموقف أخلاقي يتعلق بدورها في نبذ العنف ونشر السلام الاجتماعي، ومن ناحية أخرى كانت هناك بعض الشكوك التي ساورت رجال الكنيسة حول توجهات بعض رموز المعارضة، نظرا لجذورهم الاشتراكية الرافضة لدور الدين في الحياة السياسية، فحتى وإن اتجه العديد منهم إلى صفوف المعارضة، ظلوا على أفكارهم اليسارية. وبالإضافة لما تقدم، احتفظ رجال الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في بولندا بتلك النظرة المحافظة للمجتمع، محذرين من مخاطر انتشار الليبرالية والنزعة الفردية والحرية “المفرطة”. إلا انه مع مرور الوقت وتحديدا منذ أواخر السبعينيات مع تبلور الحركة الاحتجاجية في بولندا أيقنت كل من الكنيسة والمعارضة أن المواجهة المشتركة من جانبهما مع النظام الشيوعي أصبحت حتمية، وبالفعل           فتحت الكنيسة أبوابها لكل معارضي النظام بغض النظر عن انتماءاته الدينية، حتى فتحت الكنائس والمباني الملحقة بها أبوابها كمقر لعقد الاجتماعات السرية لقادة حركة “تضامن”. ومن الملاحظ أنه في هذه المرحلة، بدأ طابع الكنيسة يشهد نوع من التطور الطفيف، وهو ما ظهر على سبيل المثال لا الحصر في عظات بعض رجالها الذين بدءوا الحديث عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان (وعلى رأسهم الكاردينال كارول فوتيلاKarol Wotyla  والذي أصبح فيما بعد بابا الفاتيكان).

ومع تطور الحركة الاحتجاجية في بولندا، وخروج العديد من المظاهرات المطالبة بإصلاحات ديمقراطية، كانت الشعارات الدينية من أهم مظاهرها، فكان من الطبيعي وجود صلبان وصور للسيدة العذراء، فضلا عن خروج رجال الكنيسة لمشاركة الشعب في احتجاجه ضد النظام الحاكم. وبعد تنصيب البابا يوحنا بولس الثاني (الكاردينال كارول فوتيلا وهو بولندي الجنسية) بابا للفاتيكان في 1978 نقطة تحول ليس فقط بالنسبة لتاريخ الكنيسة البولندية، إنما أيضا بالنسبة للبلاد ومسيرة التحول الديمقراطي بصفة عامة، حيث حمل البابا يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان على عاتقه مسألة الدفاع عن حق الشعب البولندي في الحرية وقيم الديمقراطية، وعمل على الدفاع عن هذه القضية والترويج للوجه القبيح للنظام الشيوعي في البلاد على المستوى الدولي. ولعل قيامه بتنظيم قداسا في أكبر ميادين وارسو على مدار أسبوع كامل عام 1979 بعد أن تم تنصيبه بابا للفاتيكان، كان بمثابة رسالة قوية من الكنيسة إلى الشعب حول توجهاتها الداعمة لإسقاط النظام الشيوعي، حيث يرى البعض أن هذا الحدث الديني الجلل مثل قمة المقاومة السلمية للاستبداد والطغيان وقتها، كما نظر إليه وقتها على أنه تحد صارخ لهيمنة الدولة.

في إطار ما تقدم، يرى البعض أن هذا الحدث كان له أثره عند انطلاق العصيان المدني والمظاهرات تحت قيادة حركة “تضامن” منذ أوائل الثمانينيات حيث كان الرمز الديني حاضر بقوة في هذه الاحتجاجات، وتمادى رجال الكنيسة في نبذ النظام الشيوعي حتى وصل الأمر إلى اغتيال أحدهما عام 1984 (القس جيرزي بوبيلوسكو Father Jerzy Popiełuszko). وبالوصول إلى أواخر الثمانينيات كانت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في بولندا في قمة مجدها، الأمر الذي عكسته الأعداد الغفيرة من الشعب البولندي التي واظبت على حضور القداس في الكنائس والذي كان يعد وقتها دربا من دروب التظاهر أو الاحتجاج السلمي ضد استبداد النظام الشيوعي، حتى وإن ظلت الموضوعات الخلافية بين بعض رموز المعارضة ذوي التوجهات العلمانية الرافضة لدور الدين في السياسة من جانب والكنيسة من جانب آخر محل جدل.

ثالثا: الكنيسة والتحول الديمقراطي في بولندا، هل من مكاسب؟:

عندما دعا النظام الشيوعي قوى المعارضة وعلى رأسهم حركة “تضامن” إلى مائدة المفاوضات، شاركت الكنيسة في هذا الحدث كوسيط بين الطرفين، مشددة على أنها ليست طرفا في المفاوضات، حيث حرصت على لعب دور محوري في نشر السلام الاجتماعي والحيلولة دون تطور الحركة الاحتجاجية، حال فشل المفاوضات بين الطرفين، إلى أعمال عنف وشغب. من ناحية أخرى، قام رجالها بمهمة توعية المواطنين بحقوقهم السياسية والاقتصادية وحشدهم في مظاهرات سلمية للضغط على طرفي المفاوضات للخروج بنتائج مرضية، جملة القول، أن الكنيسة نجحت في إضفاء الطابع الأخلاقي للثورة البولندية.

وبالإضافة إلى ما حققته قوى المعارضة من انتصار خلال هذه المفاوضات أدى إلى توقيع اتفاق المائدة المستديرة والتي مهدت بدورها لأول انتخابات -برلمانية ورئاسية- حرة ديمقراطية في البلاد، وتقنين اتحادات ونقابات العمال في بولندا، وتمكين المعارضة من الوصول إلى الإعلام الرسمي وقتها، مهدت الكنيسة بدورها من خلال مساندتها لحركة “تضامن” لتحقيق مكاسب خاصة بها من هذا النظام السياسي الوليد. وقد تمثلت تلك المكاسب في استعادة أوقافها والحصول على الحق في إدارتها، فضلا عن حصولها على مخصصات مالية من ميزانية الدولة، كذلك الحال بالنسبة لكليات اللاهوت والمدارس الكاثوليكية التي باتت تحصل بدورها على دعم من الدولة، بالإضافة إلى إدراج الديانة الكاثوليكية كمادة دراسية في المدارس العامة البولندية منذ عام 1990 (بمعدل 12 ساعة أسبوعيا)، كما تم إلغاء قانون الإجهاض (الذي كان ساريا تحت الحكم الشيوعي) في عام 1993. أدى ما سبق إلى ازدياد نفوذ الكنيسة الرومانية الكاثوليكية على المستويين السياسي والاجتماعي بعد انتهاء الحقبة الشيوعية حتى يومنا هذا. في هذا السياق، ومع انتهاء مرحلة بناء النظام السياسي واستقرار الأوضاع ومن ثم ظهور التعددية السياسية والفكرية، عاودت الخلافات في الظهور بين الكنيسة والقوى العلمانية، وهو ما أشرنا له بعاليه، خاصة مع ازدياد نفوذ الكنيسة فور سقوط الشيوعية حتى بات المزاج العام للشعب يميل إلى المحافظة والنزعة الدينية، وهو ما مهد الطريق للكنيسة بدورها إلى لعب دور في مسألة تقييد الحريات الشخصية بدعوى الحفاظ على عادات وتقاليد المجتمع، خاصة مع تعدد القنوات الإعلامية التابعة للكنيسة أو حتى المساندة لتوجهاتها والتي تمثل في بعض الأحيان شيء من التطرف والتعصب ضد الآخر، ويعد “راديو ماريا” مثال واضح على ما تقدم.

وعلى الرغم من هذا، تحاول قيادات الكنيسة البولندية العمل على نبذ صور التعصب الطائفي ونشر ثقافة التسامح بين الأديان، وذلك من خلال الحوار المستمر ومبادرات مشتركة بين مختلف قيادات أتباع الديانات الأخرى، وخاصة اليهود. ففي إطار مساعيها لتحسين صورتها دوليا ومكافحة معاداة السامية، بدأت الكنيسة البولندية منذ عام 2002 في حوار مع رموز الطائفة اليهودية في البلاد، وقد نجم عن هذا جلسات حوار مستمرة بينهما، فضلا عن إقرار منظومة للتعاون الثقافي بينهما نتج عنها تنظيم مهرجانات ثقافية في مدينة “بوزنان” بصورة دورية.

وهنا، تجدر الإشارة إلى أن مسيرة التحول الديمقراطي في بولندا وتطور المجتمع لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، ولعل من أهم محطاتها كانت انضمام بولندا للاتحاد الأوروبي عام 2004، الأمر الذي أدى بدوره إلى المطالبة بمزيد من الحريات العامة والفردية على غرار كبرى الدول الأوروبية، وبات المجتمع أكثر انفتاحا عن ذي قبل. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ظهرت مؤخرا حركات اجتماعية تدين غياب المساواة بين الرجل والمرأة، خاصة فيما يتعلق بالأجور، فضلا عن مطالباتها بإقرار قوانين لصالح المرأة وعلى رأسها مثلا قانون الإجهاض وهو ما ترفضه الكنيسة بشدة حتى يومنا هذا ومن ثم عجز البرلمان عن تمرير تلك القوانين حتى الآن.

رابعا: الربيع المصري والتحول البولندي، هل من أرضيات مشتركة؟:

لا تزال التجربة المصرية، على الرغم مما تمر به من صعوبات هي الأكثر ثراء والأقدر على تقديم نموذج للتحول الديمقراطي. فحتى وإن وجدت العديد من النقاط المشتركة بين بولندا في 1989 ومصر في 2011 كالحالة الاقتصادية التي أدت إلى تدهور الأوضاع والاستبداد السياسي، فضلا عن الطابع السلمي – وإن تفاوت- بين الثورتين، إلا أن التجربة المصرية تتسم بتشابك مكوناتها السياسية وتنوعها الثقافي والديني، كما تعد أحد أهم خصوصياتها الدور البارز للجيش في الحياة السياسية حتى يومنا هذا، بالإضافة إلى دور الدين في الحياة السياسية وتعدد أشكاله وصوره التي تتداخل في بعض الأحيان بين المجالين العام والخاص.

كما يسترعى الانتباه أحد أهم المشكلات التي تواجه الحالة المصرية والمتعلقة بالمواطنة ودور المؤسسات الدينية في نشر ثقافة المواطنة وعلى رأسها الأزهر الشريف والكنيسة الأرثوذكسية. وإن كانت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في بولندا تقدم بعض الدروس التي من الممكن الاستفادة منها في الحالة المصرية، إلا أن الحالة المصرية على المدى الطويل لا تزال هي الأجدر على الاستمرار بل والتطور. في إطار ما سبق، تجدر الإشارة إلى أن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية تمثل حالة مشابهة للأزهر الشريف في مصر، أخذا في الاعتبار المكانة الدينية والسياسية لكل منهما وما استطاعا الحصول عليه كمكاسب خلال مرحلة التحول.

يعد الأزهر الشريف أحد أهم المؤسسات الدينية ليس في مصر فقط إنما في العالم أجمع، بيد أن هذا الصرح العالمي عاني على مر العصور من محاولات السلطة الحاكمة في السيطرة عليه وطمس أي ملامح لاستقلاليته، الأمر الذي أدى بدوره إلى التزام قادة الأزهر بمواقف السلطة الحاكمة في مصر، وأدل مثال على ذلك الموقف الرافض لشيخ الأزهر الإمام/ أحمد الطيب من مظاهرات يناير 2011، وهو ما حدا بأحد مستشاريه إلى الاستقالة خلال هذه الفترة.

بيد أنه بعد سقوط نظام مبارك بدأ الأزهر الشريف تحت قيادة الشيخ/ أحمد الطيب بلعب دور سياسي بارز، قد يتشابه إلى حد كبير مع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية خلال الثورة في بولندا. ولعل وثيقة الأزهر من أهم المواثيق التي ظهرت خلال الفترة الانتقالية تحت قيادة المجلس العسكري ولاقت استحسانا كبيرا من مختلف القوى السياسية في مصر، حتى رآها بعض المحللين السياسيين أن ما جاءت به بمثابة مبادئ فوق دستورية. بيد أن المتأمل لبعض نصوصها -والتي تم إدراج معظمها في مسودة الدستور المنتظر إقراره خلال شهر ديسمبر 2012- يجد أنها تضع قيم المواطنة على المحك على المدى الطويل، ولا سيما فيما يتعلق ليس فقط بتمسكها “بالمبادئ الكلية للشريعة الإسلامية” كالمصدر الأساسي للتشريع، إنما أيضا نصها على حق أتباع الديانات السماوية الثلاثة الاحتكام لشرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية، وهو ما تم بالفعل النص عليه في مشروع الدستور. من ناحية أخرى، فإنه على الرغم من عدم ضمان استقلالية الأزهر في مسودة الدستور الجديد (مادة 4)، إلا أنه تم النص على أن يأخذ رأي هيئة كبار علماء الأزهر فيما يتعلق بأمور الشريعة الإسلامية، فيما يعد سابقة من نوعها، لحصول مؤسسة دينية على اختصاص شبه تشريعي.

في سياق متصل، وبنظرة أكثر شمولية على المؤسسات الدينية في مصر، فإنه من الصعب إغفال الكنيسة الأرثوذكسية وما تعرضت له من تطورات خلال الفترة الماضية أدى إلى شيء من التغير في توجهاتها التي باتت أكثر ميلا للدفاع عن قيم المواطنة، وهو ما بدى واضحا من خلال انسحابها من الجمعية التأسيسية وما تلاه من مذكرة أرسلتها الكنيسة إلى الرئاسة لتبرير إعتراضاتها على مشروع الدستور والتي يمكن اعتبار نقاطها في المجمل جيدة ووافية، حتى وإن غلب عليها في بعض الفقرات النزعة الطائفية. كما تبنت الكنيسة الأرثوذكسية خطابا مساندا لقوى المعارضة في مصر، وذلك تحديدا منذ صعود الإخوان المسلمين إلى الحكم والذي تزامن مع وفاة البابا شنودة وتنصيب البابا تواضرس الثاني خلفا له، وهو ما يمكن تفسيره في إطار المخاوف التقليدية من صعود التيار الإسلامي وما قد يمثله من تهديد على أتباع الديانات الأخرى.

الخاتمة: التوصيات:

جملة القول، فإنه على الرغم مما لعبته الكنيسة البولندية من دور نشط خلال المرحلة الانتقالية ولا سيما في إطار رعايتها ودخولها كوسيط في اتفاقيات المائدة المستديرة، فضلا عما أضفته من طابع أخلاقي على المعارضة السياسية وتحديدا حركة تضامن، إلا أن ما حققته من مكاسب سياسية على المدى الطويل، كان له تأثير سلبي على الحقوق والحريات الفردية للمواطنين في بولندا. فاستقلال المؤسسة الدينية ماديا ومؤسسيا عن الدولة (أو النظام الحاكم) يجب أن يكون له انعكاساته الإيجابية على تطور المؤسسة بصفة عامة، فضلا عن تعزيز دورها في النواحي التعليمية والتنويرية، دون محاولة الولوج إلى الساحة السياسية ولعب دور مناهض لإطلاق الحقوق والحريات الفردية، والتي من المفترض أن تكون مجالا خاضع تنظيمه للقانون والدستور، دون تدخل من المؤسسات الدينية، إعمالا لمبادئ المساواة والمواطنة.

بيد أنه على ضوء ما تقدم، يمكن استخلاص مجموعة من التوصيات من الحالة البولندية للاستفادة منها في التجربة المصرية:

  1. 1. تطوير الخطاب الديني للأزهر والكنيسة: من خلال العمل على تطويعه بصورة مبسطة ليواكب التحديات السياسية والثقافية والاجتماعية الراهنة، والعمل تدريجيا على فرض قيم المواطنة، ومن ثم تطوير المبادرات التقليدية بين المؤسسات الدينية وعلى رأسها مبادرة بيت العائلة. فقد يرى النظر في أهمية توسيع مجال المشاركة فيها بحيث لا تقتصر فقط على القيادات الدينية، إنما أيضا تتضمن مشاركة على مستوى مجتمعي من خلال الأنشطة الرياضية أو الثقافية أو الفنية في مختلف المدن المصرية، خاصة تلك التي تنتشر فيها الأزمات الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، الأمر الذي سيساهم في نشر قيم التسامح بين أبناء الوطن الواحد. من ناحية أخرى، فقد يرى النظر في اضطلاع الأزهر بدور في إدارة المساجد وتعيين أئمتها وذلك تمهيدا لانسحاب الدولة تدريجيا من هذا المجال.
  2. 2. تطوير دور المؤسسات الدينية في مصر في مجال توعية المواطنين: وذلك من خلال لعب دور فيما يتعلق بتوعية المواطنين بحقوقهم وواجباتهم السياسية، والتعريف بتعاليم الديانات السمحة التي تدعو في مجملها إلى قبول الآخر، فضلا عن التوعية بخصوصية مسألة الربط بين الدين والسياسة، فالسياسة مفسدة للدين، بيد أن ما تدعو إليه الأديان من قيم التسامح ونشر السلام الاجتماعي من شأنه إحراز تقدم في العملية السياسية في مصر.
  3. 3. المساواة بين المؤسسات الدينية في مصر والعمل على تحقيق استقلاليتها المؤسسية والمالية: تعد هذه التوصية موجهه بالأساس إلى صانع القرار. فمن الأهمية بمكان قيام الدولة بدورها في هذا المجال وذلك لتفادي الدخول في صراعات مع تلك المؤسسات، يؤثر بالضرورة سلبا على الحياة السياسية بصفة عامة. في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن نموذج الكنيسة الرومانية الأرثوذكسية فيما يتعلق بإدارة أوقافها يتوافق إلى حد كبير مع نموذج الكنيسة الأرثوذكسية في مصر والتي تقوم على إدارة أوقافها “هيئة الأوقاف القبطية” (أنشأت بقرار جمهوري رقم 562 لسنة 1972 وهي تتكون من قداسة البابا رئيساً وستة من الآباء المطارنة والأساقفة وستة من الأراخنة). ومن ثم، فإنه تحقيقا لمبدأ المساواة وحتى يتمكن الأزهر من الاضطلاع بدوره على أكمل وجه، فقد يرى النظر في ضرورة قيامه بإدارة أوقافه بصورة مباشرة ومستقلة عن الدولة من ناحية، من ناحية أخرى فإنه على الدولة البت في مسألة إقرار قانون موحد لدور العبادة والذي من شأنه تحقيق أحد أهم الخطوات المؤسسية اللازمة فيما يتعلق بنشر ثقافة المواطنة.

Start typing and press Enter to search