تحديات بناء نظام ديمقراطي في مصر ..

نحو ديمقراطية أكثر تشاركية

حبيبة محسن
مصر
Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [815.96 KB]

مقدمة

في المرحلة الدقيقة التي تمر بها مصر الآن بالانتقال من النظام السلطوي إلى نظام أكثر ديمقراطية وانفتاحا، وخاصة بعد انتخاب رئيس مدني للجمهورية، والبدء في كتابة الدستور الدائم للبلاد، هناك الكثير من الملفات والمشكلات التي تفرض نفسها على الساحة، والكثير منها ملفات شائكة قد يتحول إلى مشكلات حقيقية متفجرة إذا لم يتم التعامل معها بشكل سليم وسريع، نظرا لارتباط الكثير من هذه المشكلات بميراث النظام السابق الثقيل.

وهذه المشكلات والتحديات المرتبطة بقضية التحول الديمقراطي، هي أيضا ترتبط -بصورة مباشرة- بقضايا العدالة الاجتماعية، نظرا لأنها ترتبط بصورة مباشرة إما بآليات صناعة القرار في النظام السياسي، وبالتالي تجعله أكثر قربا من مشكلات المواطنين الحقيقية على الأرض، أو لارتباطها بشكل أساسي بالحقوق الأساسية للمواطنين، التي لا يمكن أن نتخيل دولة تحقق العدالة الاجتماعية لمواطنيها دون أن تحترمها وتحميها. خاصة وأن النظام السابق لم يكن لديه نظاما حقيقيا يحقق العدالة الاجتماعية للمواطنين، سوى من خلال الهياكل المتهالكة التي خلفها نظام يوليو 1952، والتي –خاصة في الأعوام الأخيرة ـــ فقدت كل قدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية للمواطنين، أو حتى تحقيق قدر أدنى من الخدمات الأساسية الجيدة لهم.

الحقيقة أن هذه المشكلات المرتبطة بالتحول الديمقراطي والعدالة الاجتماعية متعددة، وجميعها قضايا ملحة تفرض نفسها على الساحة، ولكن اخترت التركيز على ثلاثة ملفات أساسية يمكن ربطها بعمل اللجنة التأسيسية للدستور. وهذه القضايا يمكن أن تنقسم إلى نوعين: القضية الأولى، المرتبطة بعملية صنع القرار، وهي تحدي إدماج الحراك الشبابي والشعبي المتفجر الآن في الشارع في عملية صنع القرار بصورة خلاقة تستوعبه في بنية النظام القائم دون أن تقمعه، وهو ما يمكن أن يطلق عليه “الديمقراطية التشاركية”. والنوع الثاني من القضايا، وهو المرتبط بملفات ذات صلة بحماية قطاعات أساسية من المواطنين في الدولة، ومنها حماية حقوق الأقليات، وحماية حقوق النساء.

وهاتين القضيتين تم اختيارهما بالتحديد، على الرغم من وجود ملفات أخرى مهمة ومتفجرة على الساحة وتمس عمل اللجنة التأسيسية للدستور أيضا مثل حرية العقيدة أو الرأي والتعبير وغيرها، لأنهما الأكثر إثارة للجدل والنقاش العام، خاصة بعد وصول الرئيس محمد مرسي، المنتمي لتيار الإخوان المسلمين، إلى الرئاسة؛ الأمر الذي جعل هاتين القضيتين تحديدا أكثر إثارة للنقاش والجدل العام في اللحظة الراهنة.

أولا: تحدي بناء آليات جديدة تكفل مشاركة شعبية أوسع في صنع القرارات:

من المؤكد أن ثورة 25 يناير، التي خرجت بالأساس من قطاع من المواطنين -معظمهم من الشباب- غير المنتمين إلى مؤسسات حزبية أو أية تنظيمات رسمية كالنقابات مثلا. بل كانت في المجمل سلسلة من الاحتجاجات المتوالية دعا إليها ناشطين من حركات شبابية غير حزبية (مثل حركة 6 أبريل أو حركة شباب من أجل العدالة والحرية أو الجبهة الوطنية للتغيير..). وفي أعقاب تنحي مبارك عن السلطة، خرج من ميدان التحرير انفجارا من الحركات الشبابية غير الحزبية (أبرزها ائتلاف شباب الثورة مثلا)، والتي فضلت عدم الانضواء تحت أي أطر حزبية أو مؤسسية، لأنه لم يحدث أي تعديل حقيقي في بنية المؤسسات القائمة يكفل دمج هذا الزخم القوي من الحراك السياسي المطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية داخل القنوات المؤسسية القائمة دون قمعه أو تقييده بشكل من الأشكال.

من ناحية أخرى، نلاحظ أن هناك نوعا من الاستبعاد للشباب والنساء وبعض الفئات الأخرى التي شاركت بقوة في ثورة 25 يناير من تولي أي مناصب تنفيذية أو حتى من الترشح على القوائم الحزبية. فعلى سبيل المثال، خلال القيام بحركة تغيير في المحافظين، أوضح وزير التنمية المحلية آنذاك، المستشار محمد عطية، أن طبيعة المرحلة الانتقالية الحرجة التي تمر بها البلاد وراء استبعاد العناصر الشبابية والنسائية من حركة المحافظين، لأن “الحكومة لا ترغب في إلقاء هذا الحمل الثقيل على عاتق الشباب أو النساء، لإشفاقها عليهم”([1]). أيضا كان ملحوظا أن عدد الشباب في البرلمان السابق كان أقل كثيرا من التوقعات، عقب قيام ثورة عرفت إعلاميا بأنها “ثورة شباب”، وكذلك كان التمثيل النسائي في البرلمان ضعيفا للغاية، حيث بلغ عدد النساء المنتخبات في مجلس الشعب 2011 نسبة لا تزيد عن 1.8%.

وبسبب غياب الانفصال شبه الكامل بين مطالب الحركات الشبابية الثورية، وبين ما تطرحه النخب السياسية عموما، كان هناك شعور متنامي لدى قطاعات واسعة من الناشطين الشباب بفقدان الثقة في المؤسسات القائمة، والقنوات الرسمية للتعبير عن الرأي، وبالتالي كانت موجات الاحتجاج الواسعة التي شهدتها مصر طوال العام والنصف الماضيين، سواء لمطالب سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو احتجاجا على تقصير أجهزة الدولة ومؤسساتها في تأدية وظائفها في معظم الأحوال. وعلى الرغم من أن البرلمان المصري المنتخب ديمقراطيا من الشعب كان في أغلب الأحوال يحاول تلبية احتياجات المواطنين الأساسية، إلا أنه كان يقوم بذلك بشكل شبه فردي، وبمبادرة شبه شخصية من النواب وليس من خلال آليات مؤسسية واضحة المعالم. ونتيجة لذلك، ترك البرلمان انطباعا عاما لدى قطاعات واسعة من المواطنين بأن البرلمان المنتخب لم يحقق لهم شيئا، وبأنه لم يكن يركز اهتمامه على القضايا الملحة المرتبطة بحياة المواطنين، في الوقت ذاته الذي كانت النقاشات داخله أيضا لا تعبر عن تطلعات قطاعات واسعة من الناشطين، بل وتجاهلت –في أكثر من مرة ـــ الاعتداءات البالغة التي وقعت عليهم أثناء تظاهراتهم من جانب الأجهزة الأمنية للدولة.

إستراتجية أساسية للتعامل مع هذا التحدي:

من الواضح أن الشكل التقليدي للديمقراطية التمثيلية (أي الاكتفاء بانتخاب نواب أو ممثلين عن الشعب دوريا في مواعيد الانتخابات المقررة، ومن ثم اعتزال الشعب عن المشاركة السياسية بعدها)، يواجه الكثير والكثير من التحديات في مصر، لدرجة قد لا تجعله صالحا للتطبيق بكفاءة إذا ما لم يتم تطعيمه بآليات مكملة تستوعب هذا الزخم الكبير من الحراك الشبابي والشعبي المطالب بأن يكون له دور أكبر في المجال العام، خاصة بالمشاركة في عملية صنع القرار، والرقابة على ممثليه المنتخبين ومسئولي الأجهزة التنفيذية. ومما يدعم هذا الاتجاه، ظهور العديد من الحركات الشبابية التي تترجم هذه الرغبة، مثل ظهور حملة “راقب برلمانك”، و”المؤسسة المصرية للمسئولية الوطنية”، وغيرها من الحركات الراغبة في مراقبة الأداء البرلماني. إضافة إلى المتابعة شبه اليومية لقطاعات واسعة من المواطنين لأداء البرلمان من خلال مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر وغيرها). والحركات الأخرى المطالبة بالمساهمة في كتابة الدستور مثل “تعالوا نكتب دستورنا”، أو “العمال والفلاحون يكتبون الدستور”.. وقبل كل ذلك، اللجان الشعبية التي تشكلت في الأحياء المصرية المختلفة لحفظ الأمن وقت انسحاب الشرطة، إلى جانب بعض الحركات التي كانت تستهدف تحسين أداء المحليات، والمساهمة في تعديل قانون المحليات، والتي ظهرت في مرحلة لاحقة، وأبرزها حركة “محليات” مثلا.

وهذه المبادرات الشعبية قد تكون نواة جيدة لطرح رؤى مختلفة وجادة على المؤسسات الرسمية للدولة، وأداة جيدة لترجمة مطالب قطاعات أوسع من المواطنين وتوصيلها بصورة أكثر تركيزا ودقة إلى صانع القرار. في الوقت نفسه الذي تساهم فيه هذه المبادرات الشعبية ـــ في حالة تم التوصل إلى صيغة فعالة لاستيعابها في النظام الديمقراطي الجديد للبلاد ــ إلى التقليل من لجوء شرائح واسعة من المواطنين الغاضبين أو المحتجين على عدم تنفيذ مطالبهم إلى النزول للشارع للاحتجاج. فبدلا من أن تبقى هذه الشرائح محتجة في الشارع من أجل مطالب مشروعة، تكون آليات الديمقراطية التشاركية وسيلة لاستيعابهم مرة أخرى داخل النظام السياسي.

وهذا النموذج تم تطبيقه في التجربة البرازيلية مثلا التي تواجه ظروفا شبيهة بالحالة المصرية، حيث خرجت مؤخرا من تحت سطوة حكم عسكري، وهناك معدلات فقر ومشكلات اقتصادية واجتماعية عديدة تقارب الحالة المصرية. ولكن نجحت الحركات الاجتماعية هناك في إعادة صياغة العلاقة بين مؤسسات الدولة والمجتمع من خلال عدد من المبادرات التي فرضت آليات جديدة لتطبيق الديمقراطية تسمح بمساحات أوسع من المشاركة الشعبية، وبالتالي تشعر القطاعات الأعرض من المواطنين أنها جزء من صنع السياسة العامة، وأنها قادرة على الرقابة على عمل ممثليها المنتخبين بشكل أكفأ. ومن ضمن هذه الآليات مثلا تجربة “الموازنة التشاركية” للإدارة المحلية التي تم تطبيقها في مدينة “بورتو أليجري” بالبرازيل، وبعض المدن الأخرى هناك. وهي تجمع جمهور منطقة أو حي معين في اجتماعات عامة يركزون فيها على تحديد أولويات الإنفاق العام على المرافق والخدمات العامة في هذه الدولة، والتفاوض حولها مع النواب المنتخبين في المجلس المحلي للمدينة وعمدتها، وتراقب أدائهم. وهذه المبادرة خرج من رحمها عدد أكبر من المبادرات المبتكرة في المجالات المختلفة التي تهدف إلى توسيع مشاركة المواطنين في صنع القرار والرقابة على الأداء الحكومي، وتقييم السياسات العامة، ليس فقط على المستوى المحلي وإنما أيضا على المستوى الوطني([2]).

والجدير بالذكر على سبيل المثال، أن صناع القرار في دول شمال أوروبا، ومنها الدنمارك مثلا، يحرصون بصورة كبيرة على التشاور بشكل مكثف مع كل الأطراف المجتمعية المختلفة المعنية بالقرار، لضمان جودة السياسة العامة المقررة، وتحقيق قبول شعبي أو رضا عام عنها من كل المعنيين بها. وعلى الرغم من أن هذا الأمر تم اكتسابه من طول الممارسة الديمقراطية، والعمل المؤسسي؛ إلا أن هذه الدول تسعى أيضا إلى تطوير آليات المشاركة الشعبية في عملية صنع القرار بشكل دائم.

آليات أساسية للتعامل مع هذا التحدي:
  • كما سلف الذكر، هناك أنوية جيدة من المبادرات الشبابية والشعبية التي يمكن البناء عليها محليا وعلى المستوى الوطني أيضا لخلق ركيزة للمشاركة المجتمعية في صنع القرار، ويمكن لهذه المبادرات الشعبية (بداية من اللجان الشعبية على سبيل المثال) أن تطور عملها وتوسع نطاق المشاركة فيها بحيث تقوم بصياغة مطالب مرتبطة بمناطقها، ترفعها إلى الهيئات المنتخبة الممثلة لها (سواء النواب بالمجلس المحلي أو نواب مجلس الشعب). ومن ناحية أخرى تطوير آليات قانونية تمكنها أيضا من الرقابة على عمل هؤلاء النواب المنتخبين.
  • يتطلب ذلك النص في الدستور القادم على الاعتراف بشكل صريح بمفهوم السيادة الشعبية، والإقرار بدور المجتمع في عملية التشريع، والاعتراف بدور المجتمع المدني في الرقابة على مؤسسات الدولة المنتخبة. ومنح المزيد من الصلاحيات ـــ بموجب الدستور وليس فقط القوانين ــ للمجالس المحلية المنتخبة، بحيث يساهم في التقليل من المركزية الشديدة التي كانت موجودة في ظل النظام السابق.
  • يتطلب ذلك أيضا إجراء تعديلات جذرية في بنية القوانين المنظمة لعمل المحليات، والمجتمع المدني، بحيث يمنحها حريات أوسع وقدرة أكبر على الحركة والمشاركة في صنع السياسات والرقابة على المؤسسات.
  • من المهم أيضا منح، من خلال تعديلات تشريعية، مساحة من الحرية للنقابات العمالية والمهنية للمشاركة في صنع السياسات المرتبطة بمصالح الأعضاء فيها.
ثانيا: تحدي حماية حقوق الأقليات:

على الرغم من أن التعريف الكلاسيكي للديمقراطية هو “حكم الأكثرية”، إلا أن جزء آخر شديد الأهمية من التعريف هو “حماية حقوق الأقلية”. والأقلية هنا لا تعني فقط من صوتوا ضد حزب الأغلبية الفائز في الانتخابات، ولكن أيضا “الأقليات” بمعنى الفئات المجتمعية المختلفة عرقا أو دينا أو مذهبا أو ثقافة عن أكثرية المواطنين. ومن المؤكد أنه لا مجتمع يطمح لأن يسمي نفسه ديمقراطيا يمكنه أن يمارس تمييزا ضد أقلياته.

وفي الحالة المصرية يمثل احترام حقوق الأقلية، سواء السياسية أو المجتمعية، تحديا كبيرا يواجه بناء الديمقراطية في الوقت الراهن، وهو ما يؤثر بالضرورة على مفهوم “العدالة الاجتماعية” أو دولة الرفاهة. فإحدى الركائز الأساسية التي تقوم عليها دولة الرفاهة، بل وأي نظام ديمقراطي، هي قيمة المواطنة.

ومن المهم الإشارة إلى أن هذا الموضوع يكتسب أهمية متزايدة في هذه اللحظة بالذات، نظرا لطبيعة المرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر الآن. ولضمان عدم إعادة إنتاج نظام استبدادي. ليس فقط لأن هذه القضية تمثل أحد القضايا الملحة في تركة نظام مبارك الثقيلة، ولكن أيضا لأن التجارب تثبت أن البلاد التي تمر بتحولات اجتماعية وسياسية مهمة، كالمرور بمرحلة تحول ديمقراطي، أو إنهاء حالة حرب أهلية أو غيرها، تمثل حماية حقوق الأقليات تحديا كبيرا، خاصة في الحالات التي تكون بها علاقة جدلية بين دين وثقافة الأغلبية، وبين مؤسسات الدولة. فعادة في هذه الحالات، يؤدي ضعف مؤسسات الدولة، وضغط السياسات الانتخابية، إلى تصدر ثقافة ودين الأغلبية لمؤسسات الدولة. ويفرز ذلك في العادة ممارسات تمييزية ضد المواطنين المنتمين للأقليات.

وهنا من المهم التأكيد على أن النوايا الطيبة فقط لم تعد تكفي لعلاج المشاكل الهيكلية الموجودة في النظام التشريعي وممارسات التمييز الموجودة في المجتمع وجزء منها من جانب جهاز الدولة. فلم تعد مقابلات القيادة السياسية مع ممثلي الكنيسة القبطية ذات الطابع البروتوكولي مفيدة في حل مشكلات التهميش والإقصاء التي يشعر بها الكثير من المواطنين المسيحيين في مصر، خاصة بعد الكثير من الحوادث الطائفية التي مرت بها مصر خلال العام الماضي (مثل حادثة إضرام النار أو هدم الكنائس في إطفيح، وفي إمبابة، وفي إدفو، وأحداث ماسبيرو، وغيرها..). ولم يعد وعد سكان النوبة باحترام حقوقهم المشروعة كافيا لتسويف مطالبهم، وكذلك الحال بالنسبة لبدو سيناء أو غيرهم من الفئات التي عانت من التمييز في ظل النظام السابق، خاصة فيما يتصل بالحق في التمتع بالمرافق والخدمات الأساسية، والحق في التعيين في الوظائف العامة، والحث في الترشح للمناصب القيادية في الدولة، وغيرها.

استراتيجيات أساسية في التعامل مع هذا التحدي:

من ناحية أولى، هناك تحدي لدى الأغلبية الآن في احترام حقوق الأقلية السياسية، فمن الضروري احترام حزمة الحقوق الأساسية للمواطنين، ومنها حرية الرأي والتعبير، وحرية العقيدة، وحرية التنظيم؛ إلى جانب تمثيلهم بشكل عادل في عملية صنع القرار، خاصة فيما يتعلق بالترتيبات لعبور مرحلة التحول الديمقراطي.

من ناحية ثانية، يواجه مصر الآن تحدي حقيقي في إدماج الأقليات المجتمعية ليس فقط في النظام السياسي الجديد، ولكن أيضا تقع على عاتق الأغلبية الآن مسئولية كبيرة في أمرين: أولا، طمأنة هذه الأقليات من أن وصول أغلبية تنتمي إلى تيار الإسلام السياسي ستحترم حقوق المواطنة بشكل كامل. وثانيا، يقع على عاتق هذه الأغلبية أيضا معالجة إرث نظام مبارك السلبي الطويل في ممارسة تهميش ممنهج ضد الأقليات، سواء كانت أقليات دينية (المسيحيين والبهائيين وغيرهم..)، وأيضا الفئات الاجتماعية الأخرى التي تنتمي لثقافة مختلفة وكانت تتعرض لتمييز وإهدار كبير في حقوقها المشروعة (مثل بدو سيناء أو سكان النوبة).

آليات للتعامل مع هذا التحدي:
  • النص في الدستور، وبشكل صريح لا يقبل اللبس على المواطنة كمبدأ أساسي من مبادئه. فمن المؤكد أن الضمانات الدستورية لحماية الأقليات تكون أكثر فاعلية عندما تكون واضحة وصريحة وصارمة، أي لا تقبل التأويل أو التفسير.([3]) وهنا من الواجب أن نذكر أن نصوص دستور 1971 كانت جيدة في مجملها فيما يتعلق بالمواطنة وحماية الحقوق والحريات، وربما كان من المهم النص على دور الدولة في حماية حرية العقيدة، وفي الحماية من التمييز الديني، وأيضا تهيئة الظروف الملائمة للحفاظ على حقوق الأقليات الدينية([4]).
  • مراعاة مطالب الفئات التي تم استبعادها من الحياة السياسية في الفترة الماضية؛ فليس كافيا أن يكون هناك ممثلين عن هذه الفئات في اللجنة التأسيسية للدستور، ولكن من المهم أيضا إجراء جلسات استماع موسعة مع هذه الفئات لأخذ مطالبهم في الاعتبار أثناء صياغة الدستور الجديد للبلاد.
  • ربما كان من المهم أيضا إجراء حزمة من التعديلات التشريعية في نصوص القوانين، ومنها على سبيل المثال قانون تجريم التمييز، أو قانون دور العبادة الموحد، قانون يجرم استخدام خطاب كراهية أو تحريض ضد المواطنين وغيرها.
  • تثبت التجربة العملية أن النصوص الدستورية والقانونية لا تكفي وحدها لمنع ممارسات التمييز، ولكن هناك ضرورة لإصلاح الجهاز البيروقراطي للدولة بما يحد من الممارسات التمييزية للدولة ضد مواطنيها. وربما هنا من الأفضل تأسيس جهة قضائية تختص بالفصل السريع في دعاوى التمييز التي قد تمارس ضد المواطنين، وتطبيق عقوبات سريعة على مرتكبيه، خاصة لو ثبت أنهم من الموظفين العموميين.
ثالثا: تحدي حماية حقوق النساء:

يشكل الحفاظ على حقوق النساء في النظام السياسي الجديد تحديا حقيقيا لمصر بعد الثورة. فعلى الرغم من أن نظام مبارك لم يكن يحمي حقوق النساء بشكل حقيقي على الإطلاق، إلا أنه نجح في تصدير صورة زائفة عن حمايته لحقوق النساء، وحرصه على وضع النساء في بعض المناصب القيادية المحدودة من أجل تجميل صورة النظام بشكل عام.

على الرغم من نزول النساء بشكل كثيف إلى الشارع للاحتجاج خلال ثورة 25 يناير، ووجودهن في الصفوف الأولي أثناء المواجهات العنيفة مع قوات الأمن، مناديات بمطالب الثورة الأساسية في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، إلا أن هناك تخوفات حقيقية لدى قطاع واسع من النساء من أن وصول قوى الإسلام السياسي إلى الحكم قد تهدد بعض المكتسبات التي حصلن عليها خلال السنوات السابقة، في مجالات عديدة مثل العمل، التمثيل السياسي، وفي مجال الحقوق والأحوال الشخصية أيضا[5]. وكان من الملاحظ على سبيل المثال انخفاض نسبة تمثيل النساء في البرلمان المنتخب ديمقراطيا بعد الثورة، برلمان 2011، والذي بلغت فيه نسبة النساء المنتخبات 1.8% فقط، وهي نسبة ضئيلة للغاية لا تتناسب مع الدور الكبير الذي لعبنه النساء في الثورة المصرية، وهو ما يقل كثيرا عن المتوسط العالمي لمشاركة النساء في البرلمان، وهي النسبة التي تبلغ 15%[6].

من ناحية أخرى، لم تكن النساء المنتخبات الممثلات في البرلمان تعبرن بشكل حقيقي عن مطالب الشرائح العريضة من النساء المصريات بل وثارت شائعات كثيرة في وسائل الإعلام عن مطالبة بعض القوى السياسية بإلغاء بعض القوانين التي تحمي حقوق النساء، باعتبارها من “ميراث النظام السابق”، أو لأنها تخالف الشريعة، أو غير ذلك. وهو ما أثار قلق وتخوف قطاعات واسعة من المواطنين والمواطنات المصريات خارج البرلمان. ومن المؤكد أن هذا التحدي الكبير في مسألة حقوق النساء يرتبط بمسألة العدالة الاجتماعية أيضا لأنه يقع على عاتق الدولة عموما ضمان العدالة لكافة مواطنيها، واستثمار طاقاتهم بأفضل الطرق الممكنة.

وفي خبرات دول شمال أوروبا، ومنها على سبيل المثال الدنمارك والسويد، يسعى النظام السياسي إلى ضمان تمثيل متساوي للمرأة في كافة المجالات، سواء تمثيل سياسي أو في المناصب القيادية للدولة أو في الاقتصاد وغير ذلك، وتحافظ هذه الدول على نسبة مرتفعة من دمج النساء في سوق العمل تحديدا، نظرا لأن الدولة صممت نظامها بحيث يكفل حقوق النساء ويسهل عليهن كثيرا ممارسة أعمالهن، والمشاركة أيضا في العمل العام. فالدولة تكفل لمواطنيها مثلا حضانات لرعاية الأطفال، وغير ذلك من التسهيلات من أجل الحفاظ على نسبة مشاركة كبيرة من النساء في سوق العمل، ومن المشاركة في العمل العام أيضا. فعلى سبيل المثال، حرصت السويد منذ فترة طويلة (تقريبا منذ السبعينيات من القرن الماضي) على تطبيق سياسة تدعى Affirmative Action لتشجيع النساء على استكمال دراستهن الجامعية. وتحرص أيضا على أن تكفل تمثيل سياسي مرتفع للنساء في الانتخابات، مثل النرويج، التي تتبع نظام كوتا نسائية على المرشحات في القوائم الانتخابية للأحزاب السياسية، وهذا النظام تتبعه أيضا بعض الأحزاب في السويد. وهنا نجد أن العوامل الثقافية والمناخ الديمقراطي العام يساهم كذلك في الحفاظ على حقوق النساء وعلى زيادة تمثيلهن في المؤسسات المنتخبة. فمثلا، تهتم الأحزاب السياسية المختلفة في السويد ببناء كوادرها السياسية من النساء بناءّ حقيقيا، وليس فقط بتقديمهن إلى الانتخابات أو المناصب القيادية دون إعداد كاف أو بغض النظر عن كفاءتهن، وتشجيع النساء الأكفاء بالمشاركة في المؤسسات المنتخبة بأن تزيد من عدد النساء المرشحات على قوائمها الحزبية، بأن تكون القوائم الانتخابية بالتبادل بين أسماء الرجال وأسماء النساء المرشحات (بمعنى أن يكون المرشح الأول رجلا، والثاني امرأة، والثالث رجل ثم الرابعة امرأة وهكذا)([7]). وعلى الرغم من أن هذا النظام تم إتباعه بشكل طوعي تماما من الأحزاب في السويد بفعل التنافسية الحزبية، التي كانت تسعى للتأكيد على دعمها الكامل وتبنيها لحقوق النساء وإيمانها بتكافؤ الفرص بين الجنسين، للحصول على أصوات الناخبات من النساء في المجتمع السويدي، إلا أن هذه “الطوعية” ربما لا تكون موجودة في مصر لدى الأحزاب السياسية الموجودة حاليا لعدة أسباب مؤسسية واقتصادية وثقافية أيضا.

من ناحية أخرى، تحاول الدول الاسكندنافية ضمان أكبر دمج ممكن للنساء في سوق العمل، خصوصا بعدما استطاعت النساء الوصول إلى مستويات عالية من التعليم، وذلك لضمان أفضل استثمار ممكن للموارد البشرية في المجتمع. وباعتبار أن أغلب المجتمعات تترك عملية رعاية الأطفال للنساء بشكل أساسي، مما قد يعطلهن عن الالتحاق بسوق العمل.، فقد حرصت الدولة على علاج هذه المشكلة. فعلى سبيل المثال، توفر الدنمارك مراكز رعاية يومية للأطفال (دور حضانة تابعة للبلديات أو المحليات، أي تابعة للقطاع العام ولكن ليس للحكومة المركزية) بالمجان لكل الأسر، أما إذا رغبت الأسرة في إلحاق أطفالها بدور حضانة خاصة، فتتكفل الدولة تقريبا بحوالي 70% من التكاليف المقررة لذلك. كما توفر الدولة في الدنمارك أيضا دور رعاية للمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة بالمجان (أغلبها تابعة للبلديات أو المحليات أيضا وليس للحكومة المركزية)، مما يساهم أيضا في رفع الأعباء المفروضة على النساء من العناية بالأسرة. وبالتالي، يمنح ذلك فرصة أكبر للنساء للحصول على وظائف والمشاركة في قوة العمل من ناحية، كما تساهم في خلق فرص عمل أكبر تساهم في القضاء على البطالة من ناحية ثانية.

ومن المهم أيضا الإشارة إلى أن الاهتمام بمشاركة النساء في سوق العمل فقط لم يعد كافيا على الإطلاق، وإنما بدأت العديد من الدول المتقدمة أيضا في رصد وإتباع سياسات من شأنها تشجيع وصول النساء إلى مناصب قيادية في سوق العمل. فبدأت بعض الدول الأوروبية (منها فرنسا وبلجيكا وإيطاليا) مثلا في فرض عقوبات على الشركات التي لا تضع في مجالس إدارتها نسبة معينة من النساء، وهي سياسة بدأتها النرويج في عام 2003. ولكن أيضا حدد القانون في بعض الدول الأوروبية الأخرى كوتة معينة للنساء في مجالس إدارات الشركات الكبرى، ولكن دون أن يربط ذلك بعقوبات صارمة على الشركات التي لا تلتزم بذلك، ومن أمثلة هذه الدول مثلا إسبانيا. أما عن الشركات التابعة للقطاع العام، فتفرض بعض الدول مثل الدنمارك مثلا قواعد صارمة تحدد فيها نسب واضحة من تمثيل النساء في مجالس إدارات هذه الشركات لضمان المزيد من تكافؤ الفرص للنساء([8]).

استراتيجيات وآليات أساسية للتعامل مع هذا التحدي:

هناك حزمة من الحقوق الأساسية للنساء التي يجب حمايتها في الدستور الجديد للبلاد، وأيضا من خلال تمرير حزمة من القوانين الأساسية التي تحمي حقوقهن، وتضع إطارا قانونيا لمواجهة التمييز ضدهن.

  • أولا فيما يخص الدستور الجديد، فمن المهم أن ينص هذا الدستور ــــ بشكل واضح ولا يقبل اللبس ــــ على المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات أمام القانون، ومنع التمييز بين الجنسين على أساس الجنس أو الحالة الاجتماعية أو غير ذلك. وذلك بالاستناد على اتفاقية “منع كافة أشكال التمييز ضد المرأة” (السيداو)، وكذلك النص على حرمة الجسدية والمعنوية للمواطنين رجالا ونساء، والحريات الأساسية مثل حرية الانتقال، وحرية اختيار السكن والملبس وغير ذلك.
  • من المهم أيضا عقد جلسات استماع موسعة من جانب اللجنة التأسيسية للدستور لمناقشة قضايا المرأة ووضعها في الدستور المصري الجديد بصورة أعمق، وأكثر تعبيرا عن مطالب النساء من الشرائح المجتمعية المختلفة.
  • ثانيا، هناك حزمة من التعديلات التشريعية التي تحتاج لها النساء لضمان مشاركتهن الفاعلة ليس فقط في الحياة السياسية ولكن أيضا في الحياة العامة وسوق العمل بشكل عام، منها على سبيل المثال قانون لتجريم التحرش الجنسي، وقانون لتجريم العنف أو التمييز ضدهن. وضمان تفعيله بمعنى أيضا أن تتولى هيئة قضائية متخصصة التحقيق والفصل بشكل حاسم وسريع الفصل في هذه النوعية من القضايا.
  • من المهم أن تضمن الدولة أيضا نوعا من الضمان الاجتماعي للنساء المعيلات من خلال القانون، لتمكينهن من تحسين أوضاعهن الاقتصادية والمعيشية.
  • من أجل ضمان المزيد من الدمج للنساء في سوق العمل، يمكن لمصر الاستفادة من الحيوية الكبيرة الموجودة في المجتمع المدني، بعمل شراكات إستراتيجية بين الدولة وبين المنظمات غير الهادفة للربح للقيام بمهمة توفير رعاية الأطفال أو كبار السن خلال النهار لدفع النساء للاندماج بصورة فاعلة في سوق العمل، مع تلقي دعم حكومي. ولكن لابد مع ذلك أيضا إتباع سياسات جادة تحقق لامركزية حقيقية في مصر، تضمن فاعلية وجودة هذه الخدمات لدى تقديمها للمواطنين، وذلك بنقل تبعية هذه المراكز المختصة برعاية الأطفال أو المسنين إلى المحليات بدلا من الحكومة المركزية كما هو الحال في الدنمارك أو السويد.
  • أيضا من أجل تعزيز مشاركة النساء في المراكز القيادية في سوق العمل، يمكن لمصر على سبيل المثال البدء في الاستفادة من التجارب الأوروبية بأن تفرض نسبة ما من التمثيل للنساء في مجالس إدارات الشركات الكبرى التابعة للقطاع العام أو قطاع الأعمال العام، كتمهيد للمزيد من الإجراءات التي تكفل ضمان تمثيل عادل للنساء في المناصب القيادية في سوق العمل بقطاعاته المختلفة.
  • من أجل ضمان حصول النساء على تمثيل سياسي عادل، من المهم أيضا أن يتم فرض-بموجب قوانين ـــ نوعا من التمييز الإيجابي المؤقت للنساء في الحياة السياسية، لتشجيعهن على خوض غمار الحياة السياسية. وذلك ليس من خلال فرض كوتة للنساء كما حدث في برلمان 2010 على مقاعد منفصلة، وإنما بصورة قريبة من نموذج دول شمال أوروبا من خلال إلزام الأحزاب بتقديم عدد من المرشحات للانتخابات في مراكز متقدمة من قوائمهم الانتخابية في البرلمان أو المجالس المحلية أو غيرها([9]).بعبارة أخرى، من الأفضل ضمان رفع المشاركة النسائية في القوائم الانتخابية للأحزاب من خلال قانون يلزمها على تخصيص مراكز معينة (متقدمة أو بالتبادل) على القوائم الانتخابية للنساء (مثل تخصيص المركز الثالث والخامس والسابع على القوائم الانتخابية للأحزاب للنساء)، وفرض عدد معين من النساء في الهيئات العليا للأحزاب السياسية. ولذلك لضمان التزام الأحزاب أولا بإعطاء فرص عادلة للنساء، ومن ناحية أخرى لأن ذلك يعد ضمانة أعلى للالتزام الأحزاب بتدريب وتأهيل ودعم كوادرها النسائية.

[1]() http://is.gd/QGYKRz

[2]()محمد العجاتي، كلوفيس هنري دي سوزا، “من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية التشاركية: نماذج وتوصيات، منتدى البدائل العربي للدراسات، القاهرة 2012.

[3]() كاتيا باباجياني، “الدساتير والأقليات الدينية: حماية حقوق الأقليات الدينية”، منتدى البدائل العربي للدراسات، القاهرة 2012

[4]() كريم سرحان، “التنوع وإدارته: مكافحة التمييز في الدستور”، منتدى البدائل العربي للدراسات، القاهرة، 2012

[5]() http://is.gd/ptF43Q

[6]() Lenita Freidenvall, Women’s Political Representation and Gender Quotas -the Swedish Case, The Research Program: Gender Quotas – a Key to Equality? Department of Political Science, Stockholm University, http://www.statsvet.su.se/quotas/l_freidenvall_wps_2003_2.pdf HYPERLINK “http://www.statsvet.su.se/quotas/l_freidenvall_wps_2003_2.pdf”

() Lenita Freidenvall, Ibid.

[8]() Women in economic decision-making in the EU: Progress report,  HYPERLINK “http://ec.europa.eu/justice/gender-equality/files/women-on-boards_en.pdf” http://ec.europa.eu/justice/gender-equality/files/women-on-boards_en.pdf

() فاطمة خفاجي وصفاء مراد، “المرأة والدستور في مصر”، منتدى البدائل العربي للدراسات، القاهرة، 2012

Start typing and press Enter to search