مصر
مقدمة
مفهوم العدالة الانتقالية هو حلقة الوصل بين مفهومين عموميين وهم الانتقال أو التحول (Transition)، والعدالة (justice). بالنسبة لتعريفات الأمم المتحدة، العدالة: “هي من المثل العليا للمساءلة والإنصاف في حماية الحقوق وإحقاقها ومنع التجاوزات والمعاقبة عليها”([1]). أما معنى الانتقال أو التحول في مفهوم العدالة الانتقالية: فهو مفهوم منحصر في فترة من التغيرات السياسية تتميز باتخاذ تدابير قانونية وحقوقية لمواجهة وتصحيح جرائم ارتكبت عن طريق نظام قمعي سابق([2]). وهو ما يعني أن التحول أو الانتقال مرتبط في مفهوم العدالة الانتقالية بالانتقال من مجتمع أقل تحررًا إلي مجتمع أكثر ديمقراطية وتحررًا.
رغم أن مفهوم العدالة الانتقالية متداول في معظم بلدان العالم منذ أكثر من ثلاثة عقود إلا أن هناك خلاف فقهي دائم وجدل قانوني حول تعريفه([3]). ورغم ذلك عرفته الأمم المتحدة على أنه: “.. كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة”([4]).
إذًا فمفهوم العدالة الانتقالية هو مفهوم واسع جدًا، ويندرج من خلفه مجموعة من الآليات المتنوعة القضائية وغير القضائية ومحاكمات الأفراد، والتعويضات، وتقصي الحقائق، والإصلاح التشريعي والدستوري، وفحص السجلات الشخصية للموظفين العموميين وأفراد الأمن للكشف عن تجاوزاتهم والفصل فيها.
ولكن السؤال المحوري هو كيفية تحقيق العدالة الانتقالية في ظل مجتمع تم إقصاء أو إضعاف مؤسساته على مدى سنوات من القهر السياسي، وفي إطار أمن منقوص وتيارات سياسية واجتماعية منقسمة ومتشرذمة، وموارد مستنزفة والأهم من ذلك كيفية أن يتم ذلك في إطار انعدام الاستقلال المؤسسي داخل قطاع العدالة وانعدام وتشرذم القدرة الفنية والمحلية وحالة الصدمة والتخوين بالإضافة إلى انعدام ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة وافتقار الاحترام الحكومي لقيم حقوق الإنسان وسيادة القانون، والأهم من ذلك حداثة القوى السياسية المهيمنة على مقاليد الحكم بالعمل السياسي وبالخبرة السياسية والقانونية اللازمة لتحقيق تلك المفاهيم. فسيادة القانون وتحقيق العدالة المجتمعية مرتبطة في الأساس بالسياق السياسي، وليس فقط بالإطار التقني.
ستركز تلك الورقة علي موضوع المحاكمات وما يتعلق بالإصلاح القضائي أكثر من المفهوم العمومي للعدالة الانتقالية. حيث أن صيغ المحاكمات تختلف من نظام إلى آخر ومن دولة إلى أخرى، ولكن وسائل التعويضات كانت وما زلت متماثلة في جميع الدول التي طمحت ونجحت في التحول إلى الديمقراطية. وفي هذا الإطار تُحيل الورقة ملف وسائل التعويضات إلى المبادئ الأساسية والمبادئ التوجيهية بشأن الحق في الإنصاف والجبر لضحايا الانتهاكات الجسيمة التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة لكونها تضم خلاصة ما وصلت إليه التجربة الإنسانية في هذا الشأن.
تتناول الورقة ما يتعلق بالجزء القضائي من العدالة الانتقالية ويتضمن ذلك كل من المحاكمات والعزل السياسي. فالعزل الهدف منه ليس فقط تطهير المؤسسات من بقايا البنية البيروقراطية التي كان يستند عليها النظام السابق في أفعاله وتجريد العناصر التابعة للنظام السابق من الشرعية وضمان استبعادها من العملية السياسية الوطنية. ولكن يجب النظر إلى العزل السياسي في سياق أوسع وأشمل فالعزل السياسي يعد ـــ أيضًا ـــ وسيلة لعقاب الأفراد على الخلل السياسي الذي تسببوا فيه، فهو وسيلة يعبر فيها المجتمع عن الرفض العام لهذا السلوك الإجرامي في إدارة الدولة وتوجيه تحذير قاسي ـــ عن طريق الردع ـــ لمن يتقلد تلك المناصب في المستقبل أن الحساب آتٍ لا محالة. بالإضافة إلي أن العزل السياسي يكفل توفير قدر من العدالة للضحايا ويُمكِّن الضحايا من استعادة كرامتهم. كما يساهم أيضًا في تعزيز ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة وقدرتها على إنفاذ القانون.
الحالة المصرية فيما يتعلق بالشق القضائي للعدالة الانتقالية:
لا يمكن فصل عملية العزل السياسي وهي عملية قضائية بحتة، عن باقي إجراءات العدالة الانتقالية فهي حلقة متكاملة تصب في بوتقة المرور بمصر من المرحلة الانتقالية وفي الحالة المصرية توجد حالة من التشرذم القضائي والقانوني عن عمد أو عن جهل المشرع المصري في الفترة بين 11 فبراير 2011 و23 يناير 2012 من عدم تكوين لجان تقصي الحقائق أو حتى في حالة تكوينها “عدم فاعليتها” والتهاون في محاسبة رموز النظام السابق وعدم حصول البعض من أهالي الشهداء على الحد الأدنى من مستحقاتهم المالية والبعض الآخر ـــ في ذات الوقت ـــ الذي يقوم فيه المجلس القومي لرعاية مصابي وأسر شهداء الثورة بتعويض أسر الشهداء فقط عن طريق معاش شهري، تُقر محكمة القضاء الإداري في أحد أحكامها أن للمصابين نفس الحق وتقر محكمة للجنايات أن من قتلوا ليسوا بشهداء للثورة بل مجموعة من البلطجية وتقوم بتبرئة الجناة من الضباط المتهمين، وتقوم دائرة أخرى لمحكمة الجنايات بمحاكمة المسئولين السياسيين عن الضباط الذين تمت تبرئتهم، وفي الوقت الذي تقوم هيئة قضائية برئاسة رئيس محكمة الاستئناف ـــ الذي عين القضاة في المحاكمتين السابق ذكرهما ـــ بالموافقة على تقديم عناصر النظام السابق لأوراق ترشُحهم لانتخابات البرلمان، يُصدر المجلس العسكري قرارًا بقانون يبيح العزل السياسي لأعضاء النظام السابق، ويعين أحد رموز النظام السابق بعد إقرار القانون بأسابيع كرئيس للوزراء. وفي الوقت عينه الذي يُحاكَم فيه الثوار وتصدر في حقهم أحكام عسكرية بتهمة البلطجة وقلب نظام الحكم، تؤكد لجان تقصي الحقائق التابعة للمجلس القومي لحقوق الإنسان ارتكاب النظام السابق للجرائم التي يُحاكَم عليها وعدم مسئولية الثوار عن تهم البلطجة.
هذا فضلا عن أن النيابة العامة ترتكز في مرافعاتها على أدلة ثبوت مقدمة من أجهزة أمنية واستخباراتية كانت وما زالت تابعة لعناصر النظام السابق وأغلب الظن هي الأخرى متهمة في ذات الجرائم المطلوب منها إقامة الدليل علي حدوثها. والأنكى من ذلك أن النيابة العامة ما زالت هي الأخرى بنفس التشكيل السابق والمعروف عنه أنه كان خط الدفاع والركيزة القانونية للنظام السابق حيث قام على مدار السنوات السابقة بإساءة استخدام سلطاته غير المنطقية ـــ كجهة تحقيق وإحالة ـــ لحجب وإغلاق الدعاوى والشكاوى لانتهاكات النظام السابق، وخاض الحروب القضائية والقانونية ضد معارضي هذا النظام.
- إذن، نحن بصدد حالة من ازدواجية المعايير والأحكام المتعمدة المراد منها إما تبرئة عناصر النظام السابق من أية تهم تنسب إليهم عن طريق دفع الهيئات القضائية والمحاكم لإصدار مجموعة أحكام متضاربة ومتعارضة مع بعضها البعض، أو الهدف منها هو إضعاف وتقليل هيبة المؤسسات القضائية بالشكل الفج الذي رأيناه في موجة اقتحامات مقار المحاكم المختلفة وتحطيمها في شهري مارس وأبريل من عام 2011.
- إذن فالحديث عن العزل السياسي في معزل عن مشروع قومي لإقرار العدالة ومحاسبة المتهمين عن جرائم النظام السابق هو كلام لا يستوي مع الواقع السياسي والقانوني للأزمة، تؤدي بالتابعية لتضليل الرأي العام والمجتمع عن الإشكاليات الحقيقية التي تواجهها مؤسسات الدولة وعدم شرعيتها الثورية واستمرارية تبعيتها للنظام السابق.
وبالتالي نرى أن العدالة الانتقالية تبدأ من الإصلاح القضائي الذي يقضي بالعفو أو التعويض أو العزل السياسي أو حتى عقاب قضائي.
ولكي تتم عملية الإصلاح القضائي، فمن المقترح أن:
- يأتي تحقيق الاستقلال التشريعي للسلطة القضائية في إطار تصحيح المسار المتعثر لمحاكمات النظام السابق، ولكنه غير كاف في هذا الإطار. فكم التلفيات الواقعة في النظام القضائي سيحتم الانتظار لسنوات قبل أن يستطيع النهوض بنفسه من جديد ومواكبة مكانته التي حفرها لنفسه.
- على البرلمان الحالي بعد تحصين السلطة القضائية أن يضع مشروع قانون شامل يضمن فيه محاكمة النظام السابق عن طريق إنشاء قانون بمحكمة متخصصة لمعاقبة جرائم النظام السابق على أن يكون القانون متناسب مع المعايير الدولية للمحاكمات العادلة وألا تعد المحكمة المنشأة محكمة خاصة أو استثنائية.
- يقوم البرلمان بإنشاء المحكمة وبتحديد القوانين التي تحتكم إليها وإقرار اللوائح الإدارية اللازمة لضمان حسن سير المحاكمة.
- أما فيما يتعلق بحقوق المتهمين فكل ما يجب أن يتضمنه القانون هو حصولهم على محاكمة عادلة بشأن تحديد الوقائع وتطبيق القانون وفقًا للقواعد المرعية في الدول الديمقراطية.
وكما ذكر سابقا فالوصول إلى العدالة لن يتحقق إلا بتوافر الإرادة السياسية لإحداث قطيعة مع الماضي ومحاسبة من انتهك حقوق المصريين وتعويض الضحايا عن تلك الانتهاكات، وهذا يمكن تحقيقه بإجراءات عديدة وليس من بينها ازدواجية المعايير القانونية.
إن عملية العدالة الانتقالية وما تحتويه من محاكمات ولجان تقصي الحقائق، وتعويضات وإعادة التأهيل هي ـــ بلا شك ـــ عملية مكلفة علي المدى القصير ومع ذلك، فإن الفشل في التعامل مع مثل هذه القضايا على نحو منطقي وديمقراطي وشامل سوف يكون أكثر كلفة على الدولة والمواطنين على المدى الطويل.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1]() سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع، تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، 23 أغسطس 2004، UN doc. S/2004/616 فقرة 7
[2]() N. Roht-Arriaza and J. Mariezcurrena (eds.), Transitional Justice in the Twenty-First Century: Beyond Truth versus Justice (Cambridge: Cambridge University Press, 2006, p.1.
[3]() في تقرير لمنظمة العفو الدولية أوضحت أنه منذ 1974 وحتى 2007 تم أقرار منهج العدالة الانتقالية 33 مره في 28 دولة. للمزيد من المعلومات يرجي الإطلاع علي: Amnesty International: Truth, Justice and Reparation: Establishing an effective truth commission 11 يونيو 2007
[4]() أنظر المرجع الأول فقرة 8.