العلاقات المدنية-العسكرية في مصر
رباب المهدي

مصر

ورقة قدمت لندوة العلاقة بين المدني والعسكري  وفرص التحول الديمقراطي في مصر (11 ديسمبر 2011)
ضمن سلسلة ندوات: توصـيات للمـرحلة الانتقالية في مصـر
Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

تحميل [1.06 MB]

تعد المراقبة المدنية على القوات المسلحة هي أحد المقومات الأساسية للنظم الديمقراطية. ومع هذا لا تعتبر هذه الرقابة أمر يسير ولا تحدث بشكل تلقائي حتى في أثناء المراحل الانتقالية. وفي حالات محددة، تمنح المعوقات التأسيسية التي فرضتها الموروثات السلطوية ومسار العملية الانتقالية القوات المسلحة تأثيرا مستديما على الحكومات الديمقراطية الناشئة. وفي حالات كثيرة تعزز المؤشرات الرأي القائل أن “الاستمرارية أكثر من الانقطاع” هي الصفة المميزة للعلاقات بين ما قبل وما بعد مراحل الاستبداد. ويصبح تسليم السلطة من الجيش إلى المدنيين أمر سطحي وليس حقيقي في حالة مغادرة الجيش لكرسي الرئاسة دون التخلي عن مراكز القوة التي يمتلكها، ويصبح الرحيل الرسمي للجيش من رأس السلطة ليس نهاية لتدخله في العملية السياسية بل استمرار لها في شكل مختلف. وفي أفضل هذه الأحوال يكون الحكم الديمقراطي محدود للغاية ومعرض لإشراف أو وساطة أو تحكيم القوات المسلحة.

وطبقا للتعريفات الكلاسيكية، يمكن القول أن هناك “مراقبة مدنية على الجيش” في حالة حفاظ القوات المسلحة على استقلالها المهني مع “خضوعها بالتبعية السياسية للسلطة المدنية” وهي عكس “البرتوتورينيزم” أو تدخل الجيش في السياسة. في الحالة الأولى يكون من المتوقع أن يحافظ الجيش على استقلاليته المهنية ولكن لا يحافظ على السلطة. بحيث تكون القوات المسلحة قادرة على بسط سيطرتها على قراراتها الداخلية ولا تتحكم في القرارات السياسية، ويكون الجيش محايد ويعمل تحت توجيهات مؤسسات الدولة المدنية.

وفي هذا الصدد، من الضروري أن نفرق بين “الاستقلالية المؤسسية” و”الاستقلالية السياسية”. حيث تشير الأولى إلى الاستقلال المهني القصري للجيش بسبب طبيعة عمله المحترفة. وفي سبيل التطور المهني للجيش، يؤكد الجيش استقلاليته المهنية من خلال الحفاظ على “وحدته العضوية ووعيه” والتي تضعه كجزء من وضع المؤسسات. أما الاستقلالية السياسية للجيش فتشير إلى نفور الجيش من المراقبة المدنية أو حتى مقاومتها ليصبح سلطة موازية أو فوق المؤسسات السياسية. وبينما يمثل الجيش جزء من الدولة إلا أنه يتصرف وكأنه فوق السلطة الدستورية للحكومة. ودرجة الاستقلالية السياسية هي مقياس لتحديد قدرة الجيش على تجريد المدنين من امتيازاتهم السياسية والاحتفاظ بتلك الامتيازات لنفسه. وكلما تراكمت السلطات في يد القوات المسلحة، تصبح أكثر شراسةً في الحفاظ علي مكاسبها. وكلما رسخت مصالحهم وزادت قيمتها، كلما قاوموا بقوة نقل السلطة إلى مسئولين منتخبين بشكل ديمقراطي ومؤسسات الدولة.

وبما أن التحول إلى نظام سياسي ديمقراطي هو أحد مسارات الثورة المصرية، أصبحت قضية المراقبة المدنية على المؤسسة العسكرية أمر حاسم. وتأتي أهمية هذا بالأخص منذ الثورة التي طالبت بكيان سياسي ديمقراطي -إضافة إلى أشياء أخرى- ولكن أسفرت عن وصول الجيش لرأس السلطة السياسية؛ حيث تُعد هذه سابقة في التاريخ الحديث بعكس تجارب التحول الديمقراطي الأخرى في أمريكا اللاتينية وجنوب أوروبا حيث تم توجيه الثورات الشعبية ضد الحكم العسكري الذي اعتلى السلطة.

المعضلة المصرية:

تفرض الحالة المصرية معضلة حقيقية ليس فقط بسبب استلام الجيش للسلطة في ضوء انتفاضة شعبية وليس انقلابًا ولكن أيضًا لما لنظام ما قبل 25 يناير من جذور تاريخية في الشرعية العسكرية منذ انقلاب 1952 الشعبي وحرب 1973 فيما بعد. والأهم هو أن المؤسسة العسكرية تحمل ملامح متناقضة تجعل من المراقبة المدنية أكثر تعقيدًا. فمن ناحية هي تُعد مؤسسة أعمال تجارية راسخة في الاقتصاد (تساهم بـ25 إلى40% من الناتج الإجمالي المحلي) ولكن الأكثر خطورة من ذلك هو ترجمة هذه القوة الاقتصادية في قاعدة دعم اجتماعية – بمعنى أن هناك 400 ألف مهني بالجيش وأسرهم والتي يمكن أن تقدر بـ2 مليون مستفيد من الترسيخ الاقتصادي للمؤسسة العسكرية. وكذلك، تبقى المؤسسة العسكرية صندوقًا أسود دون معلومات واضحة عن أفراده أو موازناته أو أنشطته أو أجهزته. وفي النهاية، كواحدة من دول ما بعد الاستعمار التي تتشارك الحدود مع إسرائيل، تقوم المؤسسة العسكرية باستخدام مصطلح “الأمن الوطني” -دون تحديد أو تعريف لماهيته ـــ لشرعنة ممارستها التجارية والقسرية، والإبقاء على امتيازاتها السياسية.

وبالرغم من هذا هناك عوامل يمكن أن تقدم فرصة لمصر لأول مرة للبدء في مسار المراقبة المدنية على الجيش –والتي لا تكتمل من دونها عملية الدمقرطة من الناحية الإجرائية. فأولًا، تجرى عملية التحول الديمقراطي تحت ضغط التعبئة الجماهيرية والتي لم يسبق لها مثيل حتى في الحالات السابقة لأمريكا اللاتينية في الثمانينيات من القرن الماضي. ومن ثم، فنحن بصدد مسارًا مختلفًا عن مسار “الانتقال التفاوضي” الذي سلكته هذه البلاد حينما جلس الجيش على طاولة المفاوضات واستطاع أن يؤمن الامتيازات. وثانيًا، فقبل ثورة 25 يناير هز صعود الصفوة الحاكمة الجديدة –المكونة من رجال الأعمال ومسؤولي الحزب الوطني الديمقراطي وترسيخ جهاز الأمن الداخلي- سلطات المؤسسة العسكرية. وثالثًا منذ صعود الجيش مباشرة للحكم منذ فبراير 2011، أصبح أكثر عرضة للنقد وهزت ممارسته صورة وهيمنة القوات المسلحة “كحامي الوطن” عند البعض و لم يعد من تابوهات السياسة كما كان قبل أقل من عشرة أشهر.

يشكل التفاعل بين تلك العوامل المتناقضة بالإضافة إلى الإستراتجية التي تتبناها القوي السياسية الديمقراطية المحصلة النهائية في عملية الرقابة المدنية على الجيش. ومن المهم في هذا الشأن أن نتذكر أنه في أي حال من الأحوال، تعتمد الرقابة المدنية على الجيش على متغيرات متعددة ولا يجب التركيز فقط على واحد أو اثنين من هذه المتغيرات لفهم الصورة الكلية. وكذلك، يجب أن ندرك التعقد الشديد لديناميكيات العلاقات العسكرية -المدنية بمرور الوقت، حيث تساهم الكثير من العوامل في شرارة التغيير في هذه العلاقات. ومن ثم فيتطلب فهم تطور هذه العلاقات والإمكانات لتغيير موازين القوى جهدًا لتحديد المجموعة الكاملة من العوامل التي أدت إلى هذا الموقف. ويمكن أن تتلخص هذه العوامل في الآتي:

  1. ظروف نشأة نظام الحكم. وصل النظام المصري للحكم منذ أكثر من 60 عامًا من خلال انقلاب عام في 1952؛ ومن ثم استمرت الصلاحيات العسكرية. وبالرغم من ذلك، فرضت ثورة 25 يناير انفصالًا واضحًا عن هذا النظام، مقدمة بذلك فرصًا سانحة لتقليص هذه الصلاحيات. ويمكن أن تقدم التعبئة الشعبية المنظمة أداة واضحة نحو تأسيس السيطرة المدنية على القوات المسلحة.
  2. التحولات في العلاقات بين القوى الخارجية: يُعد كسر استقلالية العلاقة العضوية بين الولايات المتحدة ومؤسسة القوات المسلحة المصرية في هذا الشأن شيئًا أساسيًا، وكذلك يجب أن يتم الإشراف على هذه العلاقات وأن يتم إدارتها من خلال السلطة التشريعية المدنية المنتخبة.
  3. تعديلات في نطاق التخصص الوظيفي بين قيادة النخبة السياسية العليا نتيجة التطورات المحلية على المستوى السياسي والاقتصادي. ويعد تقلص الصفوة السياسية ممن لهم خلفية عسكرية واحدة من التطورات الإيجابية القليلة في المجال السياسي المصري خلال العقود الأخيرة. وبينما كان هذا التنافس من أسباب إذعان المؤسسة العسكرية للثوار خلال الأيام الأولى للانتفاضة وكذلك هي عامل من العوامل الإيجابية التي يمكن أن تسهل الرقابة المدنية.
  4. ظهور صراعات سياسية بين الأحزاب/الطوائف الرئيسية. وتُعد من أكبر التهديدات التي تواجه الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية في مصر، وتظهر في الانقسام بين ما يسمى “الإسلاميين” في مقابل “العلمانيين”؛ حيث استخدمت المؤسسة العسكرية هذه القضية المحورية لتعدل مسار الفترة الانتقالية الديمقراطية. ومن المتوقع أن تستمر في استخدامها للحفاظ على صلاحياتها حتى عندما يتم اتخاذ خطوات رمزية نحو انتقال الحكومة.
  5. مأسسة السياسة. المراقبة المدنية للعسكر لا تحدث من فراغ وإنما هي أساسًا متعلقة بالتغيرات داخل الهياكل الاقتصادية والسياسية. وفي هذا السياق، يُعد تطور المؤسسات السياسية المستقلة أحد العناصر الأساسية التي تؤثر عليها بشكل إيجابي (خلافًا للحكم الشخصي) كأساس للنظام السياسي. لذلك يمثل أي ضغط يتم ممارسته لتشكيل وتقوية المؤسسات مثل القضاء والبرلمان والسلطة التنفيذية أمر أساسي لتقليص سلطة العسكر.
  6. التغيرات في العقيدة العسكرية. لم تشهد مصر تغير في هذا الشأن من ناحية محورية القوات المسلحة في الشأن السياسي نظرًا للوجود المستمر لإسرائيل، ولا نتوقع أن يحدث أي تغيير في العقيدة العسكرية خلال الأعوام التالية. ومن ثم لن يكون عاملًا لتسهيل الرقابة المدنية.
  7. تهديدات النظام الداخلي. أدت التهديدات التي تواجه الاستقرار الداخلي إلى الدور المتزايد للسلك العسكري (الرسمي) في الشئون السياسية سواء رغبوا في ذلك أم لا؛ حيث يعتبر فقدان الأمن، سواء ما كان ذلك إدعاء ام حقيقة، منذ اندلاع الثورة أمرًا يغذي الاهتمام المستمر بسلطة الجيش. ومن ثم، تُعد إعادة هيكلة جهاز الأمن الداخلي وعمله السليم خطوة أساسية لتأسيس الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية.
  8. الهيكل المؤسسي للمجتمع ودرجة تغلغل المؤسسة العسكرية. وكما أشرنا في السابق يمثل هذا أحد أكبر التحديات التي تواجه الرقابة المدنية في مصر، ليس فقط بسبب الهيكل الإقتصادي المترسخ للقوات المسلحة وحجم المستفيدين منه ولكن أيضًا بسبب كون الطبقة الوسطى المصرية الحالية هي بعيدة عن خط المواجهة مع النظام العسكري الذي أسس في عام 1952، حيث يدين قطاع عريض من هذه الطبقة بالولاء لهذه المؤسسة ويقبع هذا القطاع أسيرًا لدعاوى تهديد “المصلحة القومية”.
التوصيات

يتم تحديد حجم هيكل الفرص الذي خلقته فترة التحول الديمقراطي بكم الانقسام الذي حدث فيما بين القوات المسلحة، وكم المواطنين ممن تمت تعبئتهم ضد النظام السابق، والتوافق الذي تم حول الدمقرطة، ومدى امتلاك الفصائل السياسية لخارطة طريق واضحة أم لا لتأسيس هذا النوع من السيطرة على المؤسسة العسكرية.

ومن ثم، يجب أن يتم تصميم الدستور القادم وإعادة الترتيب مؤسسات الدولة مع وضع أربعة نواح في الاعتبار عندما يتم ذكر القوات المسلحة: 1) الدفاع الخارجي، 2) الأمن الداخلي، 3) السياسة الداخلية، 4) قيادة الدولة. ويجب تذليل العقبات للحد من صلاحيات العسكر في جميع هذه الدوائر باستثناء الأولي فقط. ومن ثم، وبالتحديد يجب على الفاعلين/اللاعبين السياسيين الاهتمام بالتالي:

  1. فهم ديناميكيات المجموعة والتقسيم الداخلي للمؤسسة العسكرية رأسيًا وأفقيًا بما يعنيه ذلك من المصالح الاقتصادية وأنماط التوظيف والمسار الوظيفي والترقيات والتفرقة المهنية؛ ويجب أن تكون أول خطوة للرئيس والبرلمان المنتخبين هي استخلاص وتوفير هذه المعلومات للبناء عليها.
  2. الاحتياج لتفصيل المهام العسكرية ومجالات التأثير، فيبدو أنه كلما كان للقوات المسلحة نجاحًا أكبر في حراسة المهام المهنية “الرئيسية” أكثر من تلك الموجودة على “الهامش”؛ حيث تعلو مستويات الحكم الذاتي العسكري، والتي ينظر إليها على أنها داخلية بوضوح، وتنخفض حيث توجد وظائف إما في منطقة رمادية –أي بين المجالات المهنية والسياسية- أو في المجال السياسي نفسه. وإذا تم ذلك أم لا ففي نهاية المطاف، يعتمد توطيد سلطة المدنيين على الجيش على قدرتهم على تحقيق التوازن الدقيق بين الحد من وصول الجيش للسياسة دون المساس بكفاءته.
  3. أن توضح للجيش أن حرية التصرف في مجموعة أقل من الوظائف يجعل الحدود بين المجالات المهنية وغير المهنية واضحة تمامًا، ويؤخر التدخل المدني في الشئون الداخلية للقوات المسلحة ويحرس مجال الحكم من “تعدي” الجيش عليه. وبالتالي ممكن أن تكون إعادة تشكيل العلاقات المدنية العسكرية ذات مكاسب للطرفيين.
  4. بينما تُعد السيطرة المدنية على الجيش عملية طويلة ومعقدة ولا يمكن أن تكتمل قريبًا، فإنه يمكن إدارتها بشكل ناجح عندما يكون اللاعبين السياسيين واعيين جدًا بالفرص المتاحة لهم؛ فعلى سبيل المثال، في أغلب دول أمريكا اللاتينية كان أحد أول القرارات التي اتخذها أول رئيس منتخب هو تحويل كبار الحرس من الجنرالات القدامى إلى المعاش. والفكرة هنا هي اتخاذ خطوات رئيسية لا تضر باستقرار المؤسسة العسكرية ولكنها تحد من قوتها في الوقت الذي تكون فيه شرعية وقوة الحكم المدني في ذروتها.
  5. وجود خطة للمراقبة المدنية على القوات المسلحة. من المرجح ألا تكون المراقبة المدنية مؤسسية إلا إذا ألزم مسئولين منتخبين أنفسهم بممارستها؛ ومن ثم، من الأساسي أن تتفق القوى السياسية (الإسلاميين والعلمانيين) على الحد من سلطة العسكر وإستراتجية للوصول لذلك.
  6. أثرت الاختيارات الاستراتيجية المؤسسية للفترات الانتقالية بشكل كبير على العلاقات العسكرية المدنية في ظل النظم الحاكمة الجديدة؛ فعلى سبيل المثال، كانت النظم البرلمانية في شرق أوروبا (المجر، وجمهورية التشيك، وسلوفاكيا) أنجح في وضع رقابة مدنية مستقرة ومتوازنة على القوات المسلحة من النظم الرئاسية (في رومانيا، وبولندا). ومن ثم، يجب أن تتذكر القوى السياسية أن الدفاع عن مؤسسة بعينها أو شكل نظام سياسي سيؤثر على هدف تحقيق الرقابة المدنية على القوات المسلحة.
المراجع
  • Pion-Berlin, D. Military Autonomy and Emerging Democracies
  • in South America Comparative Politics 1992 25(1) pp.83-102.
  • Albright, D. Comparative Conceptualization of Civil Military Relations. World Politics 32 (4) 1980), SS. 553-576
  • -Barany, Zoltan. Democratic Consolidation and the Military
  • The East European Experience Comparative Politics 1997 30(1), 21-42.
  • -Huntington, S. 1957. The Soldier and the State: The Theory and Politics of Civil-Military Relations.
  • Trinkunas, H. Crafting Civilian Control in Emerging Democracies: Argentina and Venezuela. Journal of InterAmerican Studies and World Affairs 2000 42 (3).

Start typing and press Enter to search