سلمى حسين
ليست قدَرًا
إن الخطاب الحكومي في معظم دول المنطقة لا يعترف بوجود مشكلة كبيرة وهي اللامساواة. عندما نتحدث عن الفقر، وهو ليس المؤشر الوحيد عن اللامساواة، فإن معظم البيانات في دولنا ليست محيّنة، وتحديدًا الفرق في الدخل والثروة بين أعلى الطبقات وأدناها. وهذا لا يؤثر فقط على الإنسان، إنّما أيضًا على الاقتصاد والتنمية بمعناها الواسع.
إ نّ البيانات المتاحة عن المنطقة، والتي يجمعها «مختبر اللامساواة العالمي» الذي يقوده توماس بيكيتي وفريقُه من الباحثين، تشير إلى أنّ اللامساواة ليست قدرًا بل هي نتاج سياسات الحكومات، بل سياسات الحكومات هي التي تخلق أساسًا اللامساواة. تشير البيانات إلى أنّ المنطقة العربية من أسوأ المناطق لناحية توزيع الدخل مقارنةً بأوروبا التي تُعتبر أرقامها بعيدة عن “منطقتنا حيث يقارب الـ60% في مقابل الـ 50% الأفقر في منطقتنا يحوزون على أقل من 10% من الدخل المحقَّق كلّ عام. حتى أن الطبقة الوسطى تحوز أقل بكثير من منطقة أوروبا، أي أقلّ من ثلث الدخل المحقق خلال العام. (الرجاء توضيح الفكرة السابقة. “حيث يقارب” ما هو؟ الدخل؟ في منطقتنا… “الذين” يحوزون؟)
ف ي البيانات المتعلقة بالثروة نجد أنّ نصيب الفقراء في منطقتنا العربية لا يتجاوز الـ2% في حين أنّ الـ10% الأغنى يحوزون على حوالي 80% من الثروة، الوضعية التي نعتبرها قريبة جدًّا من اللامساواة. والصورة تزداد سوءًا بالنظر إلى الـ10% الأكثر ثراءً، فالثروة تحوز عليها فقط 1% من الطبقة الأثرى، وبالتالي يحوز هؤلاء على نصف الثروة المملوكة في المنطقة كلها. ولو أننا نقارن نصيب الـ50% الأفقر، وهو الذي يعبر عن اللامساواة نجد أنّ المنطقة نفسها من أبطال اللامساواة حيث أن نصيب الـ 10% الأغنى من الثروة يمثل 32 مرّة نصيب الـ 50% الأفقر في منطقتنا.
يؤكد التقرير كذلك أن حالة اللامساواة ليست قدَرًا، إنما هي نتيجة سياسات، ذلك أنّ معظم دول العالم عبر الزمن تحسّن مقدارَ ما تحصل عليه النساء إذ أن الفارق مع الذكور لا يتجاوز الـ 5% وهو الحدّ الأعلى، في المقابل لم يتحسن الوضع في المنطقة العربية إطلاقًا، فما زالت النساء يحزْنَ على 10% من الأجر الذي يحوز عليه الذكور ليبقى المعدل بعيدًا من الحد الأدنى ويستقرّ على 15%. لذلك، ومن أجل ردم هذه الفجوة، لا مناصَ من المساواة في الأجر بين النساء والرجال، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تبرير اللامساواة من خلال العوامل الثقافية، فالعاملين في القطاع الحكومي مثلا يجب أن يكونوا أقرب إلى الـgender parity.
مقاربتان لتفسير اللامساواة
لتفسير ذلك، هناك مقاربتان، الأولى للاقتصادي الأميركي جورج ستيجلر يعتبر فيها أنّ اللامساواة خيارٌ سياسي وأنّ عوامل الجدارة والكفاءة والإنتاجية تعود إلى النموذج النيوليبرالي (أي أنّ الأغنى يصبح كذلك لأنّ جدارته أكبر وكفاءته أفضل) وبحسب ستيجلر هذه الفكرة غير صحيحة حيث أنه، مثلاً، من وُلد غنيًّا يملك فرصة أكبر لتحقيق دخل أعلى في مساره الوظيفي وبالتالي ف إنه بدوره سيوفر فرصةً أكبر لأولاده. وعليه، فإن الجدارة ليست العامل المحفّز وإنّما الثراء. أمّا خطاب الإنتاجية فيبقى خطابًا قاصرًا، وهو يعتمد على ما تقوله النيوليبرالية، أي أنه يسند الأجر على قدر الإنتاجية. وكلّ تجارب الدول النامية تتحدث عن نموّ الإنتاجية عن الأجور، والصين أكبرُ مثالٍ على ذلك. والأسوأ في خطاب الإنتاجية أنّ ضعف القدرات التعليمية والصحية يؤدّي إلى ضعف الإنتاجية.
أما المقاربة الثانية فهي للـ«الإسكوا» التي تبنّت خطابًا مختلفًا إذ وضعت شكلاً متعدد الجوانب من حيث السياسات العامة وكيفية صياغتها تصل إلى قدر أقل من اللامساواة يشملها أمر متعلق جدًّا بمنطقتنا وهو بناء السلام وتعزيز الاستقرار كشرطين أساسيّين لا يمكن الاستغناء عنهما، وفي الوقت نفسه تحدثت المنظمة نفسها عن الرأسمال البشري، السياسات العامة، تصدير عالي القيمة المضافة، توسيع الطبقة الوسطى، القضاء على الفقر وتوسيع القاعدة الضريبية من أجل زيادة الانفاق.
مسارات لتقليص اللامساواة
شخصيًّا، فضلتُ الاعتماد على تحليلٍ مخالفٍ عند الحديث عن تقليص اللامساواة وذلك عبر تبنّي ثلاثة مسارات ضروريّة جديًّا في المنطقة. النقطة الأولى الغائبة عن الحوار حول القضاء على الفقر أو تقليص اللامساواة، تتمثّل في تصنيف الاقتصاد في سياسات توزيع الأموال، أي كيف يمكن زيادة النمو وكيف تحصل الزيادة في نسبة الأجور، أي كيفية ضمان الزيادة في الأجر من دون إنفاق أكبر من الدولة، فبشكل عادي نجد تناقصًا في الأجور حسب الدخل القومي، وإحدى أهم الآليات هي الحدّ الأدنى للأجر وكيفية تصميمه، ليكون أعلى من خطّ الفقر، والذي يكون، أي الحد الأدنى، عادةً عن طريق التفاوض الجماعي، وهي الطريقة المثلى. ثانيًا، لا يكفي وجود الحد الأدنى للأجر، فكثيرٌ من العاملين غير الرسميين يحظون بأجور أعلى من الحد الأدنى لكنها مداخيل غير مستقرة باعتبار وجود إمكانية لعدم الانتظام في العمل على غرار الإجازات المرضية أو العجز، وبذلك يجدون أنفسهم، وبسهولة، ضمن دائرة الفقر. إلى جانب ذلك، هناك العديد من المؤثرات الأخرى مثل عدم الاستقرار السياسي وانخفاض قيمة العمل، فمثلاً أدى ارتفاعُ أسعار الطاقة في مصر إلى إضافة 1.6 مليون شخص إلى الملايين الخمسة المتواجدين في دائرة الفقر المدقع (الشخص غير القادر على توفير السعرات الحرارية الضرورية في اليوم). بالتالي، يطرح هذا الأمر العديد من الأسئلة الهامّة مثل كيفية تعزيز صمود مختلف الفئات الاجتماعية في وجه ذلك.
في السياق نفسه، تمّ تمجيد كلمة مفتاحية في منطقتنا العربية وهي انتشار العمل غير الرسمي، وبالتالي تكمن الإشكالية في كيفية هيكلة العمل غير المهيكل من خلال آليات المساعدة على استقرار الدخل. الملاحظ في ما ذُكر هنا وسبق ذكره أعلاه، أنّ هيكلة غير المهيكلين لن تُضيف إنفاقًا أكثرَ من قِبل الحكومات وإنما سيقع على عاتق القطاع الخاصّ المهيكل وغير المهيكل والذي تنحصر أسئلته الأساسية في كيفية التعاقد والاتفاق على الأجور وطرق العمل.
ا لمسار الثاني الهامّ تمّ اكتشافه أساسًا بعد جائحة كوفيد-19 والحرب الأوكرانية، ويتمثّل في كيف تولّد سياساتنا الزراعية الفقر والانكشاف الغذائي، بالإضافة إلى كونها مكلفة للحكومات التي اضطرت إلى الخفض في عملاتها (خفض قيمة عملاتها؟) والارتكاز على وارداتها الغذائية ذات الكلفة المرتفعة، الأمر الذي لا يرجع إلى الغلاء في الأسواق العالمية، إنّما إلى انخفاض قيمة العملات المحلية.
إن صغار الفلاحين والديون المتراكمة عليهم والقضاء على الغابات والتذبذب الكبير في الأسعار، كلّ هذه الأمر ليست قدرية، إنّما بفعل فاعل هو الشركات الغذائية العملاقة التي تحصل على الدعم الزراعي. فمثلاً في أوروبا، تحصل الشركات الكبرى على 80% من الدعم الزراعي، في حين يحصل صغار الفلاحين على الـ20% المتبقية. ولا يختف الحال كثيرًا في مصر وباقي الدول العربية، حيث نجد أنه تم القضاء على تصنيع البذور المحلية في مقابل استيرادها عبر كرتيلات الشركات الإقليمية؟ على حساب صغار الفلاحين وحقوقهم.
أ ما المسار الثالث الذي يمكن اتّباعه لتخفيض حجم اللامساواة فيكمن أولاً في الضرائب. إنّ المواطنين الذين لا يثقون في الحكومة بأيّ حالٍ من الأحوال لن يفلتوا من دفع الضرائب، أما الأك ثر قربًا من الحكومة فهم الأكثر تهرّبًا من الضرائب. ويُعتبر العبءُ الضريبي في الدول العربية الأقل (أقلّ) من حجم الدخل القومي، إذ يمثّل 15% منه، ما يجعل الدول العربية غير قادرة إلّا على توفير الأمن والدفاع والقضاء على حساب باقي المرافق، وهي بالتالي تحتاج إلى ما يقارب الـ 25 إلى 35% لتوفير ذلك. المهمّ أن شبكات المصالح تحكم السياسات، وهذه سمة عامّة في دول الجنوب فالشركات الكبرى تدفع ضرائب أقل من الفئات المتوسطة والضعيفة لتبلغ مستوى الـ1 أو الـ2% وذلك بسبب قدرة تلك الشركات على استخدام أفضل المحامين والمحاسبين كي يخلّصوها من دفع الضرائب إلى جانب قدرتهم على الوصول إلى المسار التشريعي في الدول، والذي يمكّنهم من الاستفادة من القوانين التي تكون في الأغلب لصالحهم وبالتالي كيف يمكن إيقاف نزيف تهريب الشركات الكبرى لأرباحها إلى ملاذات سرية عبر فواتير الاستيراد والتصدير، والذي لن يكون إلا عن ط ريق التصريح عن الأرباح الحقيقية لكل فرع للشركات والذي يجب أن يكون على المستوى الدولي لمحاربة خطط التلاعب الضريبي.
أما الضريبة على الثروة، فإن تقريرًا لمنظمة “أوكسفام” يشير إلى أنه لو فُرضت ضريبة بنسبة 2% في السنوات العشر الأخيرة، فإن الحصيلة ستكون 38 مليار دولار. كما يمكن الإشارة إلى زيادة البراح المالي، أي اتّساع رقعته من خلال نفاذ الحلول وهامش السياسات في مواجهة العجز. وقد رصدت حملةُ القضاء على التقشف أربع طرق أساسية إضافةً إلى القضاء على طرق العمل الهامشية لزيادة البراح المالي منها أنظمة الاشتراكات أو المساهمات مثل الصناديق الاجتماعية والتأمين الصحي الشامل وإعادة هيكلة الديون من خلال إطالة أمدها، وتخفيض الفوائد أو اسقاط بعض القروض، فخدمةُ الديون في دول مثل مصر أو الأردن أو تونس لها كلفة عالية على حساب المواطن.
ويمكن إضافة مسار رابع وهو هو إعادة هيكلة الإنفاق العام لأنه ليست لنا فقط قلة موارد وإنما سوء توزيع، فمثلاً الإنفاق أكثر على الأمن والدفاع على حساب الصحة والتعليم، وكذلك سوء التوزيع بين المركز والأقاليم البعيدة إلى جانب الاستثمارات الحكومية التي لا تُعتبر ذات أولوية، فمثلاً ميزانية مكتب الوزير تساوي باقي المرافق التعليمية من مدارس ومعاهد.