أهمية الفصل بين السلطات في مواجهة الأزمات

أزمة الكورونا نموذجًا

محمد الحاموش



Loader Loading...
EAD Logo Taking too long?
Reload Reload document
| Open Open in new tab

Download [357.10 KB]

 

الفصل بين السلطات هو مفهوم أساسي في نظرية الدولة الحديثة، ويعتبر أحد الأسس الرئيسية لتحقيق التوازن والاستقلال بين أجهزة الحكم. يهدف الفصل بين السلطات إلى تقسيم السلطة الحاكمة في الدولة إلى ثلاثة فروع رئيسية: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية. أسَّس هذا المفهوم المفكر الفرنسي مونتسكيو في كتابه “روح القوانين” في القرن الثامن عشر1.

على الرغم من أهمية الفصل بين السلطات في منع تركز السلطة في يد فرد أو جهاز واحد، وضمان عدم تجاوز الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين وتفادي سوء استخدام السلطة وتعديها على حقوق الآخرين، وضمان استقلالية وفعالية السلطات الثلاث، فقد تظهر بعض التحديات في تطبيقه الفعلي. من جملة هذه التحدّيات التباطؤ في اتّخاذ القرارات لا سيّما في الحالات الاستثنائية الّتي تتطلّب إجراءات تنفيذيّة سريعة. لذلك سمحت دساتير الدّول والقوانين الدّوليّة بتجاوز مبدأ فصل السلطات عبر اعتماد سياسات خاصّة في الحالات الاستثنائية، أي الحالات الّتي تتطلّب سرعةً في الاستجابة لتحدّيات معيّنة، فتعطى السّلطة التنفيذيّة حق تجاوز السّلطة التّشريعيّة في إجراء تشريعات تتعلّق بالحالة الّتي تواجه البلاد. وتتمثّل هذه الحالات فيما يشكّل خطرًا قوميًّا، من الحروب والتوتّرات الأمنيّة والسياسيّة إلى الكوارث البيئيّة والصّحيّة.

وفي ظل الخشية من انفراد طرف ما بالسّلطة ما يشكل تهديدًا للديمقراطيّة في ظل الحالات الاستثنائية، عملت بعض الدّول على تطوير قوانينها بما يضمن عدم الانجراف نحو الديكتاتورية والاستبداد، في حين لا تزال عديد من الدّول في موقع متأخّر عن إنجاز هذا الضّمان، وقد كان تحدّي جائحة كورونا المعقّد ومتعدّد الأبعاد كاشفًا للثّغرات الّتي تعتري النّظم القانونيّة في هذه البلاد لا سيّما أنّ تحدّيًا كجائحة كورونا يتطلّب أشهرًا من المعالجة واعتماد سياسات استثنائية لم تكن في حسبان أيٍّ من دول العالم عند صياغة دساتيرها، فشكّلت الجائحة تهديدًا مباشرًا للديمقراطيّة ومبرّرًا للعديد من الممارسات الديكتاتورية لا سيّما في دولنا العربيّة الّتي يمرّ مسار التّحوّل الديمقراطي فيها بمراحل حساسة لا سيّما مع الموجة الثّانية من موجات الرّبيع العربي في عام 2019.

إذا نظرنا إلى الدستور الفرنسي، فسنجد أنّه يميّز بين حالة الحصار (État de siege) (المادة 36 من الدستور) وحالة الطوارئ (État d’urgence) (القانون رقم 55-358، 3 إبريل 1955)، ففي حين تعطي حالة الحصار للسلطات العسكرية سلطات استثنائية على باقي الأجهزة الأمنية وسلطة الحد من الحريات الفردية في حالة الحرب، تعطي حالة الطوارئ السلطات التنفيذيّة إمكانية التّصرّف في الحالات الطارئة الأخرى من دون الحاجة إلى فرض حالة الحصار وتمكين السلطة العسكريّة. بينما تعطى الحكومة الحق في إقرار كلتا الحالتين، حيث يحدد الدستور المدّة الزّمنيّة لكلتا الحالتين بـ12 يومًا يتوجّب تمديدها العودة إلى السلطة التّشريعيّة. وفي الاستجابة لجائحة كورونا، أقرّ البرلمان الفرنسي، بعد اجتماعه حضوريًّا مع اعتماد نظام التّصويت بالوكالة، قانونًا للطوارئ الصحيّة يعطي الحكومة صلاحيات استثنائية لإقرار تشريعات لمواجهة الجائحة لمدّة شهرين قابلة للتجديد2.

أمّا في الولايات المتّحدة، وبحكم النظام الفدرالي فيمكن التمييز بين عدّة مستويات لحالات الطوارئ، حيث يمكن للرّئيس إعلان حالة الطوارئ على المستوى الفدرالي، كما يمكن لمحافظي الولايات أو البلديات إعلان حالات الطوارئ على مستوى الولاية الواحدة أو البلديّة. وعلى الرغم من أن حالة الطّوارئ تعطي الحكومة المركزية القدرة على تجاوز السلطة التنفيذيّة والقضائيّة بهدف ضمان استجابة أفضل للأزمة، فإن السلطات الإضافية الّتي تتلقاها الحكومة لا تتجاوز إقرار ما يلزم لمواجهة الأزمة من إجراءات لضبط الموارد والأسعار وتوفير التمويل للجهات المختصّة في مواجهة الأزمة فيما يعرف بقانون خدمة الصحة العامة3، أمّا في حالات الطوارئ الفدراليّة فعلى الرّئيس أن يحدّد أيًّا من قوانين الطوارئ المتوفّرة يجب تفعيله ولا تتلقّى الحكومة المركزية أي سلطات تلقائية من مجرّد إعلان حالة الطوارئ4. وتحتفظ السلطة التشريعيّة والسلطة القضائية بحقها في مراقبة عمل الحكومة وقراراتها خلال فترة الطوارئ كما تتمتع السلطة التشريعية بحق وقف تفعيل قانون الطوارئ.

أما في دولنا العربيّة فلا يوجد تمييز واضح بين مختلف دواعي الحالة الاستثنائية، حيث تقبع العديد من الدّول العربيّة في ظل حالة الطوارئ منذ فترات طويلة وتحت مختلف الذرائع. ففي تونس استمرّت حالة الطوارئ الّتي أعلنها الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي قبل مغادرته البلاد لمدّة ثلاث سنوات، ثمّ عادت في عام 2015 نتيجة الهجمات الإرهابية الّتي عانت منها تونس، لتشهد العديد من التجديدات تحت مختلف الذرائع، لم يكن آخرها نتيجةً للاستجابة لخطر جائحة كورونا في عام 2020.

وفي مصر تم فرض وتمديد حالة الطوارئ عدّة مرّات منذ عام 2013، حيث أقرّت الحكومة عديدًا من القوانين الّتي استعانت بها لمواجهة المعارضة والحد من الحريات السياسية، كان أبرزها قانون مكافحة الإرهاب في ظل غياب البرلمان الّذي تمّ حلّه بقرار من المحكمة5 والّذي استخدم لسَجن واعتقال العديد من المعارضين. وفي 2021، تم رفع حالة الطّوارئ المستمرة منذ 2017 بالتزامن مع إقرار قانون مواجهة الأوبئة الصّحيّة الّذي تمّ بناؤه من التجربة العمليّة في مواجهة الجائحة الّتي نتج منها العديد من القوانين الّتي زادت من صلاحيّات رئيس الجمهوريّة في حالات الخطر الصّحي6.

في الأردن رفعت حالة الطوارئ في 7 أيّار من العام 2023 بعد أن استمرّ العمل بها لـ3 سنوات استجابةً للجائحة، حيث منح في هذه المدّة رئيس الوزراء سلطات واسعة للحكم وتقييد الحقوق الأساسية بموجب قانون الدفاع. وعلى الرّغم من تعهّد الحكومة الأردنيّة بتنفيذ القانون في “أضيق الحدود” بحسب هيومان رايتس ووتش فإنّها استغلّت حالة الطوارئ لتقييد الحقوق الأساسية تعسفيًّا بما فيها الحق في التّعبير7. وتجدر الإشارة إلى أنّه وعلى الرّغم من تبنّي الدستور الأردني لمبدأ الفصل بين السلطات، تخضع السلطات الثلاث لإرادة الملك الّذي يملك صلاحية تعيين الوزراء والأعيان واقالتهم، كما يشرف على عمليّة تعيين القضاة وعزلهم،8 كما يملك صلاحية إعلان حالة الطوارئ منفردًا9.

أمّا في لبنان فقد استجاب مجلس الدفاع الأعلى لجائحة كورونا بإعلان حالة التعبئة العامّة والطوارئ الصّحيّة ولم يتم فرض حالة الطّوارئ العامّة -الّتي تعطي الأجهزة العسكريّة سلطات واسعة على حساب السلطة المدنية فيما يتعلّق بالحفاظ على الأمن والحق في تقييد الحقوق والحريّات- إلّا استجابةً لانفجار مرفأ بيروت في أغسطس/ آب من العام 2020 وسط جدل قانوني حول آليّة إقرارها10. وعلى الرّغم من ذلك، ومن وجود قوانين توزّع المسؤوليّات في حالة الأمراض المعدية11، فقد تمّ استغلال هذه الحالة لفض الاعتصام القائم في وسط بيروت وطرابلس منذ تشرين 2019، كما شهدت فترة الجائحة استدعاء العديد من النّاشطين للتّحقيق معهم12.

على الرّغم من استمرار عمل المجالس التشريعيّة في هذه الدّول بعد توقّفها مع بداية الجائحة، فإنّ السّلطة الّتي تمتّعت فيها الحكومات في ظلّ قوانين الطّوارئ حالت دون قدرة هذه المجالس على القيام بعملها الرّقابي في ظل الأزمة. يأتي هذا نتيجةً لاختلاف الرؤية حول حالة الطّوارئ بين الدّول الأكثر ديمقراطيّة ودولنا العربيّة، ففي حين ينظر البرلمان البريطاني إلى الصلاحيات الّتي يمنحها قانون الطّوارئ للحكومة كعارية يجب استرجاعها في أسرع وقت، فإنه يرى أيضًا ضرورة العمل على متابعة التشريعات الّتي قد تتخذها الحكومات في هذه المناسبات بهدف تحسين جودتها الّتي تتراجع في ظل انفراد جهة واحدة في صياغتها وإقرارها13. على عكس ما نراه في حالة مصر حيث تمّ ترسيخ القوانين والإجراءات الّتي اتخذتها الحكومة في ظلّ الجائحة من خلال قانون مواجهة الأوبئة الصحيّة، أو في تونس، حيث قام الرّئيس التونسي بإجراءات استثنائيّة في 25 يوليو من عام 2021، حيث حلّ الحكومة وعلّق عمل البرلمان في ظل حالة الطوارئ، ما أدّى إلى تفرّده بالسّلطة، مع تسجيل العديد من المخالفات والانتهاكات تجاه المعارضين14.

إنّ الأهميّة الّتي يلعبها مبدأ فصل السلطات في ضمان التوازن بين السلطات وعدم تفرّد أحد فروع السلطة بالحكم تكون حتّى في الحالات الاستثنائية، فإذا كان من حاجة إلى إعطاء أحد أفرع السلطة صلاحيات استثنائية إلى غاية معيّنة فلا بدّ ألا يسمح هذا الإجراء بالتجاوز الكامل لباقي السلطات، إنّما اعتماد إجراءات تراعي الطرق الديمقراطيّة وآليات عمل باقي الأفرع. فإذا كانت الحاجة إلى سن تشريعات من قبل السلطة التنفيذية تساعد في الحد من تفشي الوباء كما رأينا في جائحة كورونا لا بدّ أن يتم قصر التجاوز على هذه المهمّة وأن يتمّ الحفاظ على دور السّلطة التشريعيّة في مراقبة ومساءلة الحكومة، والحفاظ على الحريات لضمان مصلحة المواطنين ومصداقيّة المعلومات والبيانات الّتي شكّلت أساسًا في مواجهة الأزمة، -كما كان في تفشيها في حالات الأنظمة الديكتاتوريّة، وأن ينظر إلى هذه الإجراءات كوسيلة للحفاظ على الديمقراطيّة ومواجهة ما يهدّدها.

1 Separation of power, Cornell Law School, https://is.gd/aIqzX5

2 French parliament declares health emergency to combat pandemic, France24, 22/03/2020 https://is.gd/i431Ir

3Federal emergency authorities The Medicaid and CHIP Payment and Access Commission https://bit.ly/47NOCyp

4 المصدر نفسه.

5 هيومان رايتس ووتش، 19 آب 2015، مصر ـ قانون مكافحة الإرهاب يقضي على الحقوق الأساسيةhttps://is.gd/RT81ge

6 المفكرة القانونيّة، 6/12/2021، قانون مواجهة الأوبئة الصحّية في مصر كضرورة بعد إلغاء الطوارئ https://is.gd/EPoG5t

7 هيومان رايتس ووتش، الأردن أحداث العام 2020، https://bit.ly/47Pd3eG

8 الديوان الملكي الهاشمي https://is.gd/7DpUJe

9 محمّد سعيد عبدالمقصود، 14 فبراير 2022، حماة الحق للمحاماة، https://is.gd/s16Knr

10 وسام اللّحام، 12 آب 2020، مرسوم إعلان حالة الطوارئ: مشاكل قانونية خطيرة في تاريخ دخوله حيّز الّتنفيذ، المفكّرة القانونيّة https://is.gd/UDRJHm

11 قانون الأمراض المعدية، قانون رقم 0 تاريخ 31/12/1957، الجامعة اللبنانية مركز المعلوماتية القانونية ، https://bit.ly/3ORRjpR

12 جودي الأسمر، 02/11/2021، كيف استُغِلّ كورونا لتضييق الخناق على حرية التعبير في لبنان؟ https://is.gd/71jh4V

13 House of lords, 10/06/2021, https://is.gd/4CcnXs

14 هيومان رايتس ووتش، 9 فبراير 2022، تونس: اعتقالات سرية بذريعة حالة الطوارئ https://www.hrw.org/ar/news/2022/02/09/381117

Start typing and press Enter to search